فکر الإسلامی مواجهة حضاریة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

فکر الإسلامی مواجهة حضاریة - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید






جاء في القرآن.. [الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار، انك من تدخل النار فقد اخزيته وما للظالمين من أنصار[30]] (آل عمران /192). هكذا يكون الإيمان نبعا لا ينضب لفعل الخيرات!! التحلي بالفضائل


ما هي الرذيلة؟ ما هي صفة الكبر، والغرور، والبخل؟ لدى التحليل تبين انه إذا التهب حب الذات في زاوية من الزوايا سبب صفة نفسية رذيلة؛ فمثلا: إذا التهب حب الذات في زاوية الدفاع عن الذات حدثت صفة الكبر التي لا تعدو ان تكون مغالاة في تقييم الإنسان لنفسه، والحرص لا يعدو ان يكون زيادة في حفظ الذات، والبخل إفراط في الإحساس بالخوف من الحوادث وهكذا.. ومن هنا فالذي يتغلب على هوى نفسه بقوة عقله، فإنه سوف يقضي على الرذيلة قضاء باتا. والنفس المؤمنة تميت الهوى وتجعله تابعا لإرادتها فتقضي على الرذيلة، أضف إلى ذلك ان النفس التي تشعر بعظمة الله لا يمكن ان تتكبر وان النفس التي تعلم ان لا حول له ولا قوة الا بالله لا يمكن ان تغتر، والنفس التي تعلم ان الله يملك الخير والشر كله، لا يمكن ان تحسد الآخرين وتحقد عليهم. ومن جهة أخرى النفس المؤمنة بالله الجميل الجليل، لا تملك الا: ان تكن حبا عميقا لله وحبا لمن خلقه الله. فالنفس المؤمنة نفس محبة للناس أجمعين ولا يمكن لهذه النفس ان تحقد أو تحسد أو تبغض أو تغضب (الا للحق) ولا يمكن ان يقوم صاحبها بما ينغص الناس عيشهم كالنميمة والغيبة والسب والإهانة، وكل أذى.


والخلاصة: النفس المؤمنة يغمرها الحب ولهذا فهي مبعث الخير والجمال.


في القرآن يصف المؤمنين: [وعباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما* والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما... والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مرورا كراما] (الفرقان 63/72).


وجملة أخيرة ان الإيمان بالله هو الذي ينفذ شرائع الدين وتعاليمه ولا يمكن ان يستغني عنه بأي شيء آخر.


1- فالتربية مهما تكن صالحة، فإن النفس قد تهوى الرذيلة بسبب اتباع مصلحتها الذاتية، هذا مع ان الحصول على التربية الصالحة قد تتعذر للناس جميعا.


2- وقوانين العقوبات مضافا إلى انها تختص بما إذا كانت هناك حكومة صالحة فإنها لا تستطيع ان تمنع الجريمة، كما تدل على ذلك زيادة الجريمة في الدول المتقدمة..


3- والضغط الاجتماعي لا يؤثر الا في مجال محدود.


وفي الإيمان بعد ذلك قوة لا توجد في أي شيء آخر ذلك لأنه يقوم بتوجيه رشيد من داخل الذات ويجعل فيه ما يراقبه ويوجه خلجات النفس وانحرافاتها الداخلية. وأخيرا المؤمن يعيش مع الله الخالق القدير الذي يقول: [عبدي أطعني تكن مثلي.. أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون].. فما أعظمه مقاما. والآن دعنا نسأل: أليس من الأفضل ان نكون مؤمنين حقا وان نغرس في قلب الآخرين بذرة الإيمان؟ ماذا يضرنا لو آمنا بربنا الذي يدعونا إليه ويهب لنا فلاح الدنيا والآخرة، ويوفقنا للخيرات ويعصمنا من السيئات ويستجيب لنا الدعوات؟ فلنؤمن بالله ولنزداد إيمانا.


القسم الثاني عن العقيدة والإيمان البحث الثاني عن:



الرسالة

الرسالة والرسول



محمد (ص) رسول الله
الرسالة والرسول

الحديث حول الرسالة يتناول المواضيع التالية: ما هي الرسالة ومن هو الرسول؟ ما هي شبهات المنكرين للرسالة؟ - لماذا يجب ان نصغي إلى مدعي الرسالة؟ - ماهي وجوه الحاجة إلى الرسالة؟ - كيف نعرف المبعوث بالرسالة؟


لابد لنا من تحديد هذين اللفظين قبل كل شيء- ليتبين بعض الأخطاء التي وقعت في تفسيرهما.


الرسالة:


تعني توجيه الله غيبيا لشؤون الإنسان الفكرية والعملية.


الرسول:


هو الوسيط بين الله والناس في نقل هذا التوجيه. فالرسالة من الله، والرسول من البشر. الرسالة وحي يوحى، والرسول صاحب هذا الوحي. الرسالة أمر مخالف لسنن الحياة، انها أمر جديد في مسيرة الكون، والرسول خليفة الله ليس بطبيعته ولا بمؤهلاته وانما لأن الله قد شاء ذلك، فجعل الرسول خليفة من لدنه جعلا. ان هذه عملية (جعل) بالغيب وليست عملية نمو طبيعية كما ينمو الطفل فيصبح يافعا واليافع شابا أو كما يصبح المفكر مصلحا والعالم مكتشفا.. ان الرسول رجل مختار من قبل الله ومبعوث عنه كما تبعث الدولة سفيرا إلى دولة أخرى وتعتمده عندها.. فالعملية بحاجة إلى اعتماد ونصب وليس بعملية ذاتية. هكذا يحدد الله سبحانه واقع الرسالة وواقع الرسول ويقول: (الا بلاغا من الله ورسلاته) و(اني اصطفيتك على الناس برسالاتي وكلامي) و(يا داود انا جعلناك للناس خليفة). ففي هذه الآيات كما في مئات الآيات الأخرى، تقرير لحقيقتين:


1- ان لله رسالة تنسب إليه وتضاف بإسمه، انها رسالة الله وكلامه. ورغم ان كل شيء هو من الله فإن للرسالة اضافة خاصة إليه نابعة من ان الرسالة انما هي خرق لسنة الله سبحانه في خلق الأشياء عن طريق أسبابها فهي موهوبة للإنسان بطريق مباشر بينما أوجد الله سبحانه سائر الأشياء بطريق الأسباب الظاهرة. إذا فالرسالة آتية بطريق غيبي لا بطريق عادي.


2- ان الله حينما ينزل رسالة- يحملها رجلا مصطفى من عباده عن علم واختيار. فالرجل الموحى إليه ليس بشيء لولا الوحي. ومن هنا يأتي الاختلاف بينه وبين العباقرة والنوابغ الذين ترتفع بهم العظمة الشخصية إلى قمم الحياة دون ان يكون للغيب أي تأثير في عظمتهم.


هكذا يحدد الله واقع الرسالة وهكذا يدعي الرسل أنفسهم. ولكن الماديين الذين يبغون الحقائق عوجا، يخترعون لكلمة الرسول والرسالة معنى جديدا ويقولون انما الرسول إنسان عبقري يتمتع بمواهب وافرة ترفعه مكانا محمودا عند الناس، شأنه شأن الألوف من العباقرة في التاريخ ولا فرق إذا بينه وبين أي عظيم آخر. فالعظماء كلهم من فصيلة واحدة ويجب ان ينظر اليهم بالإجلال دون أي اعتبار لإتجاهاتهم الفكرية أهي مستقيمة ام منحرفة، ولا ملاحظة لأعمالهم أهي صالحة ام مضرة، ولا تقييم لمنجزاتهم أهي مفيدة للإنسانية ام لا ذلك لأن كلا منهم يملك موهبة تميزه عن سائر الناس وتجعلنا نقدره بها تقديرا. محمد بن عبد الله (ص) لا يختلف شيئا عن أبي سفيان. كما ان عليا (ع) خليفة محمد (ص) لا يفترق عن معاوية ابنه. اما ابراهيم وموسى وعيسى والنبيين (ع) فليسوا الا نظراء أديسن وروسو وماركس.. لأولئك مواهب ولهؤلاء مواهب، فهم جميعا رسول الله إلى البشرية وليست الرسالة سوى انجاز تلك المواهب سواء كانت في طريق مشروع ام غير مشروع، يحبها الله ام يبغضها.


وخلاصة القول: كل كاتب وشاعر ومفكر فهو رسول من عند الله أبى الله ام رضي- ولكل منهم رسالة أحب الله ذلك ام كره[31]-.


والواقع ان الذي يعتقد بالرسول عبقريا ـ فقط ـ وبالرسالة موهبة فحسب ليس بمعتقد بالرسالة أبدا. ذلك لأن الرسول (ص) يصرح انه مبعوث من قبل الله سبحانه وانه عبد كسائر العباد، وانه يتخذ كل اعتباره وقيمته من الوحي ويقول (قل انما أنا بشر مثلكم يوحى الي).. واما القرآن فيقول في صفة الرسول [وما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله] (النساء/ 64).. [يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق] (ص/ 26).. في الآية الأولى يؤكد الله سبحانه ان الرسول يطاع بأذن الله لا بما فيه من موهبة ونبوغ. وفي الآية الثانية يصرح القرآن ان الله قد جعل داود خليفة من الأرض جعلا.


وعلى هذه الحقيقة يبني الدين كل بناءه، فالرسول مبعوث حكمه حكم ربه [وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحي] (النجم/ 3-4).. وليس الرسول حالا في الله سبحانه انما هو رجل يوحى إليه من ربه، ولا الله تعالى قد ولده ولا هو منطو على جزء من الالوهية ـ كما زعمته الفلسفات الجاهلية والأديان المتأثرة بها ـ ذلك لأن اعتباره لم يكن نابعا من ذاته حتى يكون دليلا على الوهيته ـ كما زعموا ـ بل لو تجرد عن الوحي عاد بشرا مثل سائر البشر. ولهذا ينسف الإسلام كل مزاعم اليهود والنصارى بما ظنوا في أنبيائهم من مراتب الالوهية زعما منهم ان ما في الأنبياء من علم وحكمة وان ما تجري على أيديهم من معاجز وخوارق للعادة انما هي ناشئة من ذواتهم التي فيها نوع من النبوغ يميزهم عن سائر البشر بدرجة.


فعيسى الذي كان يحيي الموتى كان نبيا وكان إلها ـ بزعمهم ـ وعزير الذي مات ثم أحياه الله كان نبيا وكان إلها في الوقت ذاته، ذلك لأنهم لم يعرفوا واقع الرسالة فزعموا ان عيسى وعزير حين شذا عن الآخرين وعملوا أعمالا خارقة فإنما كان بسبب ما كان فيهما من الالوهية. ومثلهم في ذلك مثل الذين زعموا ان النبوة موهبة ذاتية ونبوغ شخصي للرسول فكلاهما لم يفهم واقع النبوة فتخبطا في الظلمات خبطا. وانما الفرق بينهما في الفلسفة القديمة كانت تعترف بأن كل من فاق البشر كان إلها دون أنصار الفلسفة الحديثة.


شبهة المنكرين:


شبهة واحدة تشبث بها المنكرون كلما بعث إليهم رسول أو دعوا إلى اتباع رسول. شبهة واحدة لا تختلف منذ عهد نوح وإبراهيم (ع) وإلى هذا اليوم الا في المظاهر والأشكال، فما هي تلك الشبهة؟.. قالوا كيف يمكن ان يتدخل الله سبحانه_ في أوضاع الأرض. أهو قادر على ذلك؟ كلا؛ إذ انه حين خلق الكون وقدر ما فيه من النظم غلت يداه ـ سبحانه ـ فلم يعد يؤثر فيه أي تأثير.


تلك هي شبهة واحدة ولكن تصاغ في قوالب شتى:


1- فمرة يقولون: (يد الله مغلولة) ـ كما قالت اليهود ـ.


2- وأخرى يقولون: أبعث الله بشرا رسولا؟ كما قال الناس لرسلهم ع-.


3- وتارة يقولون: أيعتني الله الكبير، خالق هذه السماوات العظيمة، بهذا البشر الحقير ـ كما قال بروفيسور ألماني ـ.


4- وأخرى يقولون: ان الله رب كبير لا شأن له بالتشريع ولهذا فالدين لله والقانون للبشر ـ كما يقول كاتب عربي ملحد ـ.


ومرد هذه الشبهة إلى ان الله قد صدر منه الخلق صدورا ـ كما يصدر الماء من النبع دون ان يكون له إرادة ومشيئة في ذلك- ولهذا فهو ليس بقادر على ان يغير شيئا مما أوجده. فالشبهة إذا ناشئة من عدم معرفة الله سبحانه كما ينبغي ان يعرف.. اما جوابها فيتلخص في كلمة: هي ان الله القادر الذي رأينا في الكون آثار قدرته البالغة لا يمكن ان يعجز عن الخلق ذلك ان الخلق أضعف من الخالق بصورة ذاتية والأقوى يستطيع ان يؤثر في الأضعف، وإذا ثبتت قدرة الله غير المحدودة، فإن أي اعتراض آخر حول إمكانية الوحي يغتدي تافها جدا. وقد سبق الحديث حول ذلك لدى التكلم حول الفلسفة الميكانيكية.


- ويقص القرآن الحكيم نبأ هذه الشبهة التي كانت تثار حول الأنبياء ثم يجيب عنها جوابا متينا فيقول: (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى؟! قالوا ان انتم الا بشر مثلنا تريدون ان تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين.. قالت لهم رسلهم ان نحن الا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا ان نأتيكم بسلطان الا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون)[32].


لماذا يجب ان نستمع لمدعي الرسالة؟


هناك سبب بسيط لوجوب الاستماع إلى مدعي الرسالة هو ان الرسالة ممكنة عقلا ـ كما سبق آنفا ـ وهي ضرورية عقلا ـ كما سيأتي قريبا إن شاء الله ـ فإذا ادعاها أحد وكان من الممكن ان يكون صادقا وجب على الناس الاستماع إليه والبحث عن صدقه أو كذبه لكي يشغل هذا الفراغ. ولكن إذا ثبت بصورة جازمة انتهاء الرسالات فليس لأحد ان يستمع إلى مدعي الرسالة لأنه إذا كاذب لا ريب في كذبه. وبما ان القرآن هي الرسالة الخالدة التي انطوت على كل حاجات الإنسان، وبما ان النبي محمد (ص) خاتم النبيين حسب ما ثبت بصورة جازمة فليس لأحد ان يصغي إلى من يدعي الرسالة بل يجيب عليه ان يعتقد كذبه سلفا.


ما هي وجوه الحاجة إلى الرسالة؟


هل البشر يستطيع ان يستغني عن الرسالة؟ فيما يلي الإجابة الموضوعية على ذلك:


قبل أي شيء لابد ان نعلم حقيقتين: ان شواهد كبيرة في الكون تدل على ان الإنسان خلق ليعيش سعيدا.


فهذه آثار رحمة الله وعطفه وحنانه قد غمرت الحياة وما هيئت للإنسان من وسائل العيش، وأسباب الرفاه، وما فطر عليه الخلق من ابتغاء السعادة بصورة دائمة. كل ذلك بعض الشواهد التي تهدي إلى هذه الحقيقة ان الهدف من خلق الإنسان هو ان يعيش سعيدا، ولكن هل السعادة تفرض على الإنسان؟ كلا.


2- ان هناك حقيقة كبيرة لابد ان نعترف بها، هي: ان الإنسان خلق حرا مريدا، وان الله ضمن للإنسان استمرار حريته في الحياة الدنيا.


ذلك ان الحرية تسوى عند الإنسان السعادة، وتزيد قيمة عليها.


ومن هنا نعلم ان الإنسان خلق حرا سعيدا، وأي تفضيل لسعادته على حريته، أو لحريته على سعادته انتكاس وتجريد له عن إنسانيته.


ان منطلقنا في الحديث عن ضرورة الرسالة، ينبغي ان يكون من هاتين الحقيقتين.


ولكن كيف؟


حاجة العقل إلى مذكر:


1- اننا نجد في انفسنا طاقتين تتصارعان، هذه تدعونا إلى الحق والخير والسلام، وتلك تدعوننا إلى الباطل والشر، ونسمي أحديهما بالعقل والثانية بالجهل.. والجهل هاوية والعقل قمة.. والناس أهون عليهم النزول من الصعود. ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى ابتعاث أناس منزهين ومؤيدين من قبل الله ليدعوا الناس إلى اتباع عقولهم ونبذ أهوائهم ثم يتحملوا مسؤولية هذه الدعوة الكبيرة إذ لولا هذه الطائفة لما كان للعقل الداعي إلى الحق والخير فائدة أبدا وكان صنع الله لغوا ـ تعالى الله عن اللغو ـ لأننا نجد كل موجود يؤدي عملا مفيدا وقد خلق لهدف وان الله قد فتح له المجال لتحقيق ذلك الهدف الذي خلقه من أجله فلا يمكن ان يكون العقل قد خلق دون أية غاية؟!.. فمن الضروري ان يبعث الله الأنبياء (ع) لكي لا يكون خلق الله لغوا..


وبكلمة موجزة؛ للناس عقول هي التي تهديهم إلى الرشاد ولكن هذه العقول لا تفيدهم الا إذا ذكرهم بها مذكر ولا بد لهذا المذكر ان يكون مسددا بالغيب، ليكون هو بنفسه متذكرا مهتديا، وهذا لا يكون الا ببعث الرسل.


وقد سبق القول عند البحث حول العقل بأن من يغفل عن عقله لابد ان يوجه من خارج ذاته إلى عقله.


جاء في السنة: (فبعث الله أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويثيروا لهم دفائن العقول).


فإثارة كنوز العقول ضرورة بشرية يقوم بها الأنبياء ع-.


ضرورة المذكر:


2- لا يعرف الناس ربهم الا بمذكر يذكرهم به وداع يدوهم إليه ذلك لان طبيعة البشر الجهل والنسيان[33] فكان على الله ان يختار لهم من يدعوهم إليه حتى يعرفوه فينالوا به السعادة والفلاح[34].


حاجة الإنسان إلى موجه:


3- كلما كررنا النظر إلى ما في أنفسنا وما في الكون المحيط بنا من تكوين ونظام أيقنا أكثر فأكثر بأننا عباد خلقنا ولم نكن شيئا مذكورا، ثم أودعت نطفنا أرحاما لم نكن قد عرفناها أو هيأناها من قبل وفي ظلماتها رزقنا وأنشأنا ثم أخرجنا إلى الدنيا في وقت لم نحدده وبكيفية لم نعينها وعشنا في ظروف لم نعرفها ولم ننشئها وأوتينا الرشد بقدر غير مقدر من قبلنا والآن نأكل من رزق لا نملكه ونمشي على أرض لم نعمرها.


هذا بالنسبة إلى ما يحيط بنا أما بالنسبة إلى العالم الذي نحيط به أي عالم الإنسان فإن آلاف النظم وملايين الأجزاء وبلايين الخلايا تحيط بها أجسامنا قد أنشئت ونمت على غير إرادة منا ولا حتى معرفة لنا بها. العقل والعلم والعاطفة والخيال والحافظة وعشرات أمثالها مما أودعت أرواحنا كانت هي الأخرى ولا تزال مقدرة ومسيرة من لدن غيرنا لم نكن نستطيع تغييرها ابدا.. كل ذلك يلهمنا واقع أنفسنا انها مخلوقة واننا عباد مخلوقون مربوبون. وما دمنا كذلك فعلينا ان نتبع رضوان الرب العظيم الذي وهب لنا كل ذلك وألا نقوم بأي عمل لا نعلم انه راض عنه.


جاء في القرآن. [قل ان ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له] (سبأ/39) (وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون).


وجاء في السنة: اننا ولله مخلوقون مربوبون نأتمر فيما أمرنا وننزجر عما زجرنا ونعبد من حيث يأمرنا، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعد إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن لنا لا ندري لعله أراد منا الأول فهو يكره الثاني وقد نهانا ان نتقدم بين يديه..


إذا فلابد ان نبتغي رضوان الله. ولكن كيف؟


من الواضح انه لا يمكن ان نتصل جميعا بالله سبحانه مباشرة لأنه أجل من ان يلامس ويواجه من قبل كل أحد فوجب ان يجعل بينه وبين الخلق رجالا يوحي إليهم.. جاء في الحديث (انا لما اثبتنا ان لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز ان يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه. ثبت ان له سفراء من خلقه يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقائهم وفي تركه فنائهم فبث الآمرون والناهون عن الحكم العليم، والمعبرون عنه جل وعز وهم الأنبياء وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين في الحكم مبعوثين بها غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب في شيء من أحوالهم مؤيدين من عند الله الحكيم العليم بالحكمة).


حاجة البشر إلى المنهاج:


4- لا ريب ان في العالم أشياء نافعة وأخرى ضارة وفيه عمل ينبغي القيام به وآخر يجب تركه. ودون ان نعرف الذي ينفع لا نتمكن من تحقيق السعادة ذلك لأنه قد نعمل ما يضر فنشقى وقد نترك ما ينفع فنشقى أيضا ـ ولاريب في هذا أيضا- ومها أوتي البشر من علم وحكمة لا يكفي لمعرفة كل ما نحتاج إليه من خير وشر وصالح وفاسد. ان معرفة هذا الأمر تحتاج إلى معرفة ما في الكون وما في النفس من نظم متماسكة، والآن حيث بلغ العالم ما بلغ لا نزال يصرح بعض من هو أعرف الناس بالثقافة بعجز الإنسان عن الإحاطة بعشر معشار ما في النفس وما في الآفاق من أسرار مدهشة. يقول نيوتن ـ وهو من أكبر المكتشفين ـ (ان نسبية معرفتنا إلى الواقع ليست الا كنسبة القطرة إلى البحر).. ويقول ابن سيناء ـ وهو من أكبر الفلاسفة الأقدمين بعد ان سئل ماذا عرفت ؟ (عرفت اني لم أعرف شيئا،..) ولا يأمل أحد من العلماء اليوم ان يبلغ العلم يوما إلى الإحاطة بما في الكون كله.. وحسب تعبير بعض الفلاسفة المعاصرين (أيعلو مركبة في فضاء لا تحد؟). ويقول الكسيس كاريل ـ وهو من أكبر العلماء الذين يتمتع بمختلف جوانب الثقافة الحديثة، وأحرز جائزة نوبل ـ قال وهو يستعرض بعض جوانب الجهل بحياة الإنسان: (لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه ولكن بالرغم من اننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحيين في جميع الأزمان فإننا استطعنا ان نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا اننا لا نفهم الإنسان ككل..


وواقع الأمر ان جهلنا مطبق فأغلب الأسئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية ما زالت غير معروفة.. ثم يقول: فالعقل يتصف بعجز طبيعي عن فهم الحياة).


ان هذه الشهادة ذات قيمة علمية بالغة إذا لوحظت انها تأتي متزامنة مع شعور متزايد باكتفاء الإنسان عن الوحي.


ويقول الأستاذ (ج.و.ن. سولفيان): (ان الكون الذي كشفه العلم الحديث هو أكثر غموضا وإبهاما من التاريخ الفكري بأكمله. ولا شك في ان علمنا عن الطبيعة أكثر غزارة من أي عصر مضى ولكن هذه المعلومات كلها غير مقنعة فنحن نواجه اليوم الإبهام والمتناقضات في كل ناحية).


فلابد للبشر إذا- من هاد عالم حكيم محيط بالكون كله وليس ذلك الا الله سبحانه وكان على الله ان يرسل من لدنه أنبياء ينقلون اليهم أوامره وإرشاداته والا لم يفلح الإنسان في الحياة ولم تتم ما خلق له وهي السعادة ولزم اللغو في صنع الله المتعالي عن اللغو.


في القرآن: [هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين[35]]. (الجمعة /2).


في الحديث: (فإن قال قائل فلم وجب عليهم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة قلنا لأنه لما لم يكن في خلقهم وقواهم ما يملكون به مصالحهم وكان الصانع متعاليا عن أن يرى وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهرا لم يكن بد من رسول بينه وبينهم معصوم يؤدي اليهم أمره ونهيه وأدبه، ويوقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع مضارهم فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته لم يكن لهم في مجيء الرسول منفعة وسد حاجة ولكان اتيانه عبثا لغير منفعة ولا صلاح. وليس هذا من صفة الله الحكيم الذي اتقن كل شيء).


5- الاختلاف ظاهرة طبيعية للبشر في كل الشؤون وفي كل العصور وبين كل الناس ورغم ما كتب الفلاسفة ـ قديما وحديثا ـ من كتب في المنطق لإزالة الاختلاف الذي يقلق الإنسان[36] فإنه لا يزال هذا الاختلاف قائما وسبب كثير من المشاكل بل وكثير من الويلات، فالحروب التي تشتعل بين فترة وأخرى وتفني الحرث والنسل ليست الا بعض نتائج هذا الاختلاف فكان لزاما ان يقضي الله سبحانه على هذا الاختلاف ويريح البشر من هذا العامل الخبيث من عوامل الشقاء من أجل ذلك كان عليه ان يبعث انبياء لكي يقضوا على الخلافات البشرية بما يوحي اليهم من حكم وعلم من قبل الله الذي لا يرقى إلى حكه الريب ولا يحتمل منه الجهل أو الخطأ.


في القرآن: [وما أنزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون] (النحل/ 64).


ضرورة النظام للإنسان:


6- الإنسان يأنس إلى الإنسان بصورة طبيعية ويجتمع إليه ويتعاون معه ولكل تعاون نظام فلولاه يغتدي الاجتماع ليس فقط تافها غير مفيد بل ويكون باعثا على الشقاء أيضا فمن يضع هذا النظام العادل؟..الذي يضمن سعادة الجميع. ليس ذلك في استطاعة الإنسان إذ لابد ان تتوفر شروط ثلاثة لمن يضع النظام.


أ- ان يحيط علما بكل ما في الحياة من خير وشر وبمعرفة مدى تأثير أعمال الفرد في إسعاده أو إشقائه ليس في الدنيا فقط بل وفي الآخرة أيضا ولم يأت إلى الحياة فرد أو طائفة ادعوا هذا العلم بله ان يصدقوا في ادعائهم.


ب- ان يتجرد عن كل هوى حتى لا يفضل مصلحته أو مصلحة طبقته على المصالح العامة وهذا لا يمكن ان يتحقق لأي بشر إذ ان أفضلهم لا يخلو من التأثر بميوله وشهواته كما نشاهد ذلك في بني الإنسان جميعا ويجده كل منا في نفسه فما ان تعرض قضية ترتبط بمصلحة البشر حتى تختلف الأفكار فيها بسبب اختلاف المصالح.


ج- ان تكون له إرادة قوية تعطيه الاستقامة التامة في سبيل تطبيق الحق الذي يحمله إلى الناس ذلك لأنهم لا يفقهون ان في مصلحتهم تطبيق الحق فيثورون ضد الحق وضد كل من يدعو إليه فلابد ان يكون للمبشر بالنظام الحق من الاستقامة ما يقابل هذه المقاومة ويزيد. ومن الواضح ان هذه الاستقامة لا توجد الا عند من يؤيد من لدن الله ذلك لأن الفرد مهما كان نافذ العزيمة قوي الإيمان فإنه ينهار عند ختلاف النكبات عليه، لهذه الأسباب الثلاثة لم تتمكن البشرية من وضع نظام صالح كامل عبر آلاف السنين أي منذ ان سن حمورابي نظمه وحتى القانون الأمريكي والسوفياتي الأخيرين رغم كل المحاولات المبذولة في هذا السبيل. وبما ان البشر عاجز عن وضع هذا النظام وهذا النظام ضرورة لسعادة الإنسان وقد خلق الله البشر ليسعدوا، كان الله سبحانه ان يضع لهم نظام الحياة ويبعث ذلك على يد من يتحمل مسؤولية ذلك. ومن الواضح ان الله سبحانه لا يتاثر بالمصلحة ولا بالجهل ولا يبعث من يعجز عن تحمل مسؤولية الرسالة بل لا يكون المبعوث الا معصوما[37].


في القرآن.. [انا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله] (النساء/ 105).


وفي حوار جرى بين الإمام (ع) ورجل مادي قال (ع): (أربك انظر[38] لخلقه ام خلقه لأنفسهم؟ فقال: بل ربي أنظر لخلقه. فقال: ففعل بنظره ماذا؟ قال: أقام لهم حجة ودليلا لكيلا يختلفوا ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربهم).


وقال الإمام الرضا(ع): (فإن قال قائل لم أمر الخلق بالإقرار بالله وحججه وبما جاء به من عند الله عز وجل قيل لعلل كثيرة منها ان من لم يقر بالله عز وجل لم يجتنب معاصيه ولم ينته عن إرتكاب الكبائر ولم يراقب أحدا فيما يشتهي ويستلذ من الفساد والظلم واذا فعل الناس هذه الأشياء وارتكب كل إنسان ما يشتهي ويهواه من غير مراقبة لأحد كان في ذلك فساد الخلق اجمعين ووثوب بعضهم على بعض فغصبوا الفروج والأموال وأباحوا الدماء والنساء وقتل بعضهم بعضا من غير حق ولا جرم فيكون في ذلك خراب الدنيا وهلاك الخلق وفساد الحرث والنسل. ومنها: ان الله عز وجل حكيم ولا يكون الحكيم (ولا يوصف بالحكمة) الذي يحظر الفساد ويأمر بالصلاح ويزجر عن الظلم وينهي عن الفواحش ولا يكون حظر الفساد والأمر بالصلاح والنهي عن الفواحش الا بعد الاقرار بالله عز وجل ومعرفة الآمر والناهي ولو ترك الناس بغير إقرار بالله ولا معرفته لم يثبت لهم أمر بإصلاح ولا نهي عن فساد إذ لا آمر ولا ناهي ومنها: انا وجدنا الخلق قد يفسدون بالأمور باطنة مستورة عن الخلق فلولا الإقرار بالله وخشيته بالغيب لم يكن أحد إذا خلا بشهوته وإرادته- يراقب أحدا في ترك معصيته وانتهاك حرمته وارتكاب كبيرة إذا كان فعله مستورا عن الخلق غير مراقب لأحد فكان هلاك الخلق أجمعين فلم يكن قوام الخلق وصلاحهم الا بالإقرار منهم بعليم خبير يعلم السر وأخفى أمر بالصلاح ونهى عن الفساد ولا يخفى عليه خافية ليكون في ذلك إنزجار لهم عما يخلون به من أنواع الفساد[39].


ضرورة التزكية:


7- كل فرد يجد في نفسه الكفاءة التامة للرقي إلى أسمى مراتب التزكية النفسية وأرفع مستويات الثقافة الإلهية وما تتبعها من معرفة النفس والخلق أصله ومصيره- وواقع الكون وأجزائه- والعلاقة التي ترتبط بعضها بالبعض الآخر. ورغم بحث الإنسان عن هذه الحقائق منذ نشوئه وحتى اليوم بحثا مستمرا فإنه عجز عن تحقيق أي تقدم في هذا المجال حتى كانت النظريات الحديثة. ونحن نعيش في عصر الذرة والفضاء لتتشابه مع نظريات الفلاسفة الاغريق الذين سبقونا بألفي عام فأكثر[40]. واذا ثبت عجز البشر عن بلوغ هذا المستوى الرفيع من التزكية والمعرفة فلابد ان يبعث الله من يعلم البشر ويزكيهم وهم الأنبياء(ع)[41].


جاء في القرآن: [هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين](5) (الجمعة/ 2).


وجاء في السنة: (انما بعثت لأتم مكارم الأخلاق) (أيها الناس ان الله تبارك وتعالى لما خلق الخلق لم يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة فعلم انهم لن يكونوا كذلك الا بأن يعرفهم ما لهم وما عليهم والتعريف لا يكون الا بالأمر والنهي[42])


اعادة توازن الحياة


8- تدل حوادث التاريخ انه بين فترة وأخرى كانت الفوضى تعم حياة الإنسان على الكوكب فكان الله سبحانه يبعث اليهم رسلا يعيدون الإنسان إلى وعيه وإلى صراط مستقيم. وتاريخ الرسالات شاهد واضح على هذه الحقيقة. فإنا نرى ان ابتعاث الرسول كان متزامنا لطغيان البشر في كل ناحية من نواحي حياته حيث كان قد شاع فيهم الظلم وانتشر الفساد واختلت الموازين وافتقدت القيم ولم يبق من منهج السماء في الأرض الا شيئا قليلا وكانت القوى البشرية عاجزة تماما عن اصلاح الوضع ومع ان كل الناس كانوا ينشدون الخلاص فإنه لم يكن يستطيعه أي شخص وأية فئة وأية فكرة وهنا كان الغيب يتدخل لينقذ حياة البشر، ويخلصه من تيهه وضلاله وكان ضروريا ان يتدخل الغيب. ذلك لأن الله سبحانه لم يخلق الإنسان الا يسعد في الدنيا ويفلح في الآخرة ولم يكن ممكنا في ظل تلك الظروف التمتع بالسعادة لأي فرد..


9- ان الله قد جعل الدنيا دار بلاء واختبار وجعل الآخرة دار جزاء وثواب[43] وكان من تمام النعمة عليهم ان يبعث من يبشرهم بالجنة التي أعدت للمتقين، وينذرهم بالنار التي أعدت للكفارين والفاسقين- ويبين لهم ما يتقون عنه من السيئات لولا ذلك لكان للناس عليه الحجة البالغة وكانوا يقولون ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك فإن كنت قد بعثته إلينا لكنا من المهتدين.. ثم ان سعادة الإنسان في اللآخرة تفوق أهمية سعادته في الدنيا ذلك لأن الآخرة تدوم والدنيا تزول وقليل يدوم أفضل من كثير يزول. ألم يكن إذا من حكمة الله ورحمته الواسعة ان يبعث من يهدي الناس السبل إلى الجنة؟ جاء في القرآن: (وما نرسل المرسلين الا مبشرين ومنذرين).. هذه طائفة من الحكم التي أرسل الله من أجلها الأنبياء وفيها الشهادة الكافية على الحاجة إلى الرسول أيضا لأنه لابد للبشر من إنسان يقودهم إلى الحق حتى يستجيبوا له، اما إذا نزلت الرسالة على شكل ألواح بين الناس فمن المؤكد الا يفيد شيئا كيف وقد جاء الرسل بالرسالة فلم يؤمن الناس بهم الا قليل.


بماذا يعرف الرسول


هناك عدة وسائل يعرف الناس بها الرسول ونحن إذ نشير اليها لا يمكننا ان ندعي انها كل الطرق الممكنة إلى معرفة الرسول بل لعله توجد وسيلة أخرى إلى هذه المعرفة.


1- الرسالة:


لقد سبق آنفا ان هناك عدة أسباب تدعو إلى الرسالة والتي لا يفلح البشر بدونها، وعرفنا بها ان الرسالة واجبة، كما عرفنا انها هي الغاية من بعث الرسول. ومن هنا نعرف انه لابد لكل رسالة وفائها بها، إذ ان أي رسالة لا تفي بهذه الحاجات لا يمكن ان تكون من عند الله. إذ ان الله ليس بعاجز عن توفير كل ما يحتاج إليه الإنسان، ورحمته لا تضيق عن ذلك، فعدم توفرها في رسالة دليل على عدم صحتها كما ان توفرها من حيث المجموع دليل على ان الرسالة من عند الله سبحانه لأنه لم يأت من البشر أحد أدعى انه جاء اليهم بكل هذه الحقائق التي يحتاج الإنسان إليها[44] ولأنه لا يمكن لبشر عادي ان يأتي من عند نفسه بكل ذلك.


2- الرسول:


ان شخصية الرسول وما لها من صفات حميدة حجة أخرى على صدق رسالته فإذا عرف بالطهارة من كل دنس والتعالي عن كل رذيلة لا يستهويه عن الحق منصب ولا يستدرجه إلى الباطل مأثم رأيناه يدعي انه رسول من عند الله عالما بأن ادعائه هذه المرتبة لو لم يكن مالكها ظلم عظيم لنفسه وللناس أجمعين. إذا عرف الرسول كذلك عرف انه رسول الله حقا.. قال الله تعالى (أم لم يعرفوا رسولهم الذي أرسل إليهم).


[قال يا قوم أرأيتم ان كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد ان أخالفكم إلى ما انهاكم عنه ان أريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت وإليه أنيب[45]] [هود/ 88].


وجاء في القرآن: [وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلك خير لكم ان كنتم مؤمنين. ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين. وان كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين][46] (الأعراف/ 84-87).


وجاء في الحديث (اعرفوا الرسول بالرسالة).


3- الآيات:


ويعرف الرسول بالآيات البينات التي يحكم العقل السليم بأنها ليست من صنع البشر، وذلك مثل ناقة صالح (ع) وتحول النار بردا وسلاما على إبراهيم (ع) وعصى موسى التي إلتقفت حبال السحرة ثم ردها الله إلى سيرتها الأولى وما كان يشع من يده من نور وانفلاق البحر له اثني عشر قسما وتكلم عيسى في المهد صبيا واحياءه الموتى وابراءه الاكمة والابرص ـ بإذن الله ـ وما أشبه ذلك من الآيات.


الفطرة:


جاء في الحديث: (ان في كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا). والواقع لا يحتاج الفرد إلى ذكاء خارق حتى يتعرف مدى صدق دعوة اصلاحية معينة. ان ذات كل دعوة من هذا القبيل شاهدة على صدقها فإن مقاومة الظلم والجريمة ومحاربة السلبية والميوعة ونصرة المعدمين والضفعاء، وهي صيغة تجهلها فطرة كل إنسان، ولا تشك في إنها صادقة.


فالفطرة تثبت بصدق الرسول في دعوته لأنها تنسجم مع معطيات الفطرة ذاتها.


وتزداد هنا المعرفة وضوحا وعمقا كلما ازداد الفرد تفاعلا معها وممارسة عملية لها إذ يبدأ آنذاك، بملامسة الواقع بصورة مباشرة.


شهادة أمته:


وتأتي شهادة أمته أكبر حقيقة يشعر بها المؤمنون المخلصون برسالة الرسول.. ولا تنحصر شهادة أمته في بعث الآيات التي تدعم رسالة النبي (ع) ولا تنحصر أيضا في صدق نبؤات الرسول واستجابة دعواته، وانتصاره الخارق على أعدائه، بل تعم أكثر من ذلك حتى تشمل نوعا من الإلهام الشخصي الذي يمن به الله سبحانه على كل فرد حسب أهليته وبطريقة مناسبة له والتي لا ريب ان منها بلوغ كل تعرض لماضيه عن طريق التوسل الغيبي بالرسول.


محمد رسول الله..


الرسالة ـ الرسول ـ المعاجز الخارقة ـ القرآن يتحدى العالم ـ اين معجزة القرآن ـ تبشير الكتب المنزلة ـ شهادة الله.


كيف يمكن ان نثبت رسالة رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم؟


ان طريقة إثبات رسالة الرسول متشابهة مع طرق إثبات سائر الرسالات التي سبقت الإشارة إليها ولكن بالإضافة إلى دليل آخر هو ما بشر به الأنبياء السابقون أممهم[47].


1- الرسالة:


فرسالة الرسول محمد (ص) نفسها شاهدة على انها من عند الله، ذلك لأن الرسالة المحمدية لا تفي بكل الحاجات البشرية فقط، بل انها أيضا أكمل الرسالات وفاء بها[48]. أليس الإسلام يذكر بنور العقل[49]؟ أو لم يكن النبي (ص) يهدي الناس إلى ربهم ويذكرهم بما له من نعماء ثم يبين لهم ما يرضيه وما يسخطه من عقيدة وعمل وخلق؟


أو لم يكن يبين لهم الحكمة ويبين لهم ما يصلحهم وما يضرهم، ويزكي الناس ويربيهم على مكارم الأخلاق[50]؟


هذه رسالة محمد بن عبد الله التي نزلت عليه من ربه. أليست تكفي البشر من كل النواحي التي يعجز الإنسان نفسه من تأمينها، ويرشد العقل إلى وجوب إبتعاث النبي بها؟ وقد جاء الرسول بها كاملة من عند الله ونحن نعلم انه لا يملك ان يأتي أحد برسالة من نفسه تكفي الناس من كل الوجوه السابقة مهما كان عظيم الفكر واسع المعرفة.


فحيث جاء الرسول بها وقال أنها من عند الله تعالى، عرفنا صدقه فيها، وهكذا نجد في القرآن الكريم استدلالا على صدق الرسول بحقيقة رسالته.


يقول الله سبحانه: [كتاب أنزلنا اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد] (إبراهيم/ 1). [هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا انما هو اله واحد وليذكر أولو الألباب] (إبراهيم/ 52). [ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين[51]] (النحل/ 89).


فهذه هي الخطوط العامة لكل رسالة وهي بالتالي الحاجات الضرورية للبشر وقد اعترف المستشرق (ليتن) برسالة النبي محمد (ص) عن طريق شهادة محتوياتها فقال (انني لأجرؤ بكل أدب ان أقول: ان الله الذي هو مصدر الخير والبركات كلها لو كان يوحي إلى عباده، فدين محمد (ص) هو دين الوحي. ولو كانت آيات الإيثار والأمانة والاعتقاد الراسخ القوي ووسائل التمييز بين الخير والشر ودفع الباطل هي الشاهدة على الإلهام فرسالة محمد (ص) هي هذا الإلهام) (الإسلام يتحدى، ص 176).


2- الرسول:


من خلال سيرة الرسول (ص) منذ ان كان يافعا يعزف عن اللهو أو كان فتى يرعى تجارة خديجة فيلتزم بالصدق والأمانة أو كان رجلا يتميز بين أترابه بأنه يقبل الغريب ويرحم الضعيف ويأوي المسكين وإلى ان بعث نبيا يحمل بين كفيه النور والهدى إلى العالم كله وحتى أصبح سيد العرب جميعا من خلال سيرته في سني عمره وأطوار حياته لم يعهد منه معاصروه الكذب والخيانة فسموه (الصادق الأمين) فلم يستطيعوا نعته بالكذب حتى بعد أن بعث بالرسالة وسفه أحلام قريش وقاد الحروب ضدها. رأوا فيه إنسانا يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة ويتجنب الرذائل ويتحلى بالفضائل. هذا محمد بن عبد الله الذي أعجب به من عاصره العدو والصديق- وأعجب به من جاء بعده ـ من عدو وصديق ـ. هذا الإنسان ادعى النبوة وكان يعرف أبعاد دعواه وهي ان من يدعو إلى النبوة فهو يدعو إلى الله ويدعي الاتصال به والبعثة من لدنه إلى الناس جميعا في كل العصور[52].


كما كان يعرف بكل دقة ان الذي يدعي النبوة كذبا فإنما هو أخبث الناس وأظلمهم لنفسه وللناس جميعا لأنه يغر الناس ويخدعهم ويبعدهم عن الصراط المستقيم[53]، ذلك لأنه ينسب الكذب إلى الله رب العالمين ويتسلم قيادة الناس جميعا وفي كل العصور فإن كان غير كفؤ لها جرهم إلى الردى ليس في عصره فقط بل على مر العصور حيث ان اتباع هذا الرسول لا يقتصر على زمان حياته بل قد يدوم إلى الأبد، كما هي الحال في رسالة النبي محمد (ص). فمعنى كذب هذه الرسالة اضلال الملايين عن السعادة ان هذا الظلم ما أعظمه وما أكبره.. ولا يقدم على هذا الظلم الا أخبث الناس الذي انسلخ عن كل قيمة إنسانية، فكيف يدعيه محمد بن عبد الله ـ ص ـ الذي عرفناه بالصدق والأمانة؟ ان دعوى الرسول هذا الصادق الأمين- لا تحتاج الىحجة تدعم صحتها بل انها شاهدة بذاتها على انها الحق الواضح. ذلك ان محمدا صادق وأمين، والصادق يصدق في كل أمر كما ان الأمين أمين مع كل أحد. وليس بصادق من يصدق مرة ويكذب مرة وليس بأمين من وفى مرة وخان أخرى، وحيث نعت الرسول بالأمانة والصدق فلابد ان المجتمع كان قد رأى فيه الناحية النفسية من الصفات الحسنة فكيف يكون كاذبا في هذا الأمر الذي هو أهم الأمور جميعا؟ ولقد كان أهل مكة يأتمنون النبي محمدا على أموالهم حتى بعدما كفروا برسالته.. فبعد ان اضطروه إلى الهجرة إلى المدينة كانت لديه أمانات أمر وصيه الامام عليا عليه السلام بردها لأصحابها.


ولقد كانت قريش أعدى أعدائه وكانت تعترف له بصفة الأمانة. فهذا النضر بن الحارث وقد كان من سادة قريش وأكبر المعارضين للنبي ـ ص ـ وكان يعد من المحنكين في مكة، ألقى يوما خطابا في جمع من الكفار وقال:


(يا معشر قريش انه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم خلقا وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاء بما جاءكم به قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفتهم وعقدهم. وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه وزجره. وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش فأنظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم[54]).


ولم يدع أحد من قريش على النبي محمد ـ ص ـ الكذب والخيانة الا وهو متردد بالرغم من انهم قالوا فيه أعظم من ذلك وأكبر، وكان السبب لتحرزهم عن إتهامه بالكذب أو الخيانة انها كانت تهمة لا تنسجم أبدا مع المشهور من حياة النبي قبل الرسالة. فلنسمع إلى حوار جرى بين هرقل ملك الروم وبعض كفار قريش ـ بعدما تسلم هرقل رسالة من النبي (ص) يدعوه فيها إلى الإسلام ـ فسئل عمن يعرفه من أهل وطنه فجيء إليه ببعض التجار فسألهم هرقل عمن هو أقربهم نسبا بالرسول.


فقال هرقل: (هل انتم كنتم تتهمونه بالكذب قبل ان يقول ما قال؟).


أبو سفيان: لا.


هرقل: هل يغدر؟


أبو سفيان: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.


هرقل: قد أعرف انه لم يكن يذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وأبو سفيان هذا كان من أبرز المعارضين للرسول الذي قاد حروبا ضارية ضده وألب عليه العرب جميعا ولكنه يقول فيه انه لم يكن كاذبا ويبرر قولته بعدئذ بأنه (والله لولا الحياء من ان يأثروا علي كذبا لكذبت عليه). ان هذا المبرر شاهد على السمعة الطيبة التي أحاطت بالنبي ـ ص ـ وجعلت أعدائه يعترفون ـ رغما منهم ـ بصدقه وأمانته.


وبهذا الدليل يكتشف البروفيسور بورسورت سميت شخصية النبي ـ ص ـ البالغة البهاء والروعة فيقول:


(عندما ألقي نظرة إجمالية استعرض فيها صفاته وبطولاته ما كان منها في بدء نبوته وما حدث منها فيما بعد وعندما أرى أصحابه الذين نفخ فيهم روح الحياة وكم من البطولات المعجزة أحدثوا، أجده أقدس الناس وأعلاهم مرتبة حتى ان الإنسانية لم تعرف له مثيلا).


ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قادرا على إحراز أكبر قدر من السيادة والثروة والرفاهية لأنه كان يتمتع بمركز اجتماعي فريد في قومه بسبب انه من قريش ومن بني هاشم ساداتها التقليديين. وقريش كانت سيدة العرب بسبب حكمها على مكة عاصمة الجزيرة العربية ضمن سيادته، وأما الثروة فقد كان يتصرف في أموال زوجه البرة خديجة (ع) التي كانت من أغنى الناس في مكة. وأما من ناحية الرفاهية فقد كان يملك الوداعة والأمن والعيش المناسب لعصره، وفجأة دعى الناس إلى الرسالة الجديدة بعد الأربعين من عمره بالضبط حين يذهب عن النفس البشرية طيشها وغرروها ويبدأ المرء يتعقل وحين كانت التقاليد تقضي لصاحب الأربعين بالتفوق والكمال.. في هذا الحين بالضبط عرض نفسه لأكبر الأخطار وأعظمها مبتدئ من افتقاده سمعته كسيد قريش في المستقبل إلى ساحر ومجنون و.. و..؟ والى ضرب الحصار الاقتصادي عليه في شعب أبي طالب وإلى ان ذهب إلى الطائف فعامله سادتها أسوأ معاملة وقال أحدهم في وجهه مستهزءا: (سوف أمزق ثياب كعبة ان كان الله قد أرسلك نبيا علينا). وقال الآخر: (أما وجد الله أحدا يرسله غيرك). وقال الثالث: (والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من ان أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي ان أكلمك) ثم أغروا به سفهائهم فرموه بالحجارة حتى سقط على صخرة مثخنا بجروح بليغة فلم يدعوه يستريح حتى تابعوه بالحجارة والسب فتابع رحلته إلى خارج الطائف وناجى ربه قائلا: (لك العتبى لك العتبى حتى ترضى) دون ان يبالي بكل ذلك. أقول لم يكن للرسول أية دواع شخصية ولا دوافع اجتماعية أو اقتصادية ان يعرض نفسه ومركزه للخطر مبتدءا بافتقاده مركزه الاجتماعي ومرورا بمصائبه الكبيرة في مكة وإنتهاءا بالحروب التي شنت ضده في المدينة. ولم يكن كل ذلك من مثل محمد (ص) الا شاهدا كبيرا على صدقه في دعوته وشدة يقينه برسالته. وهكذا نقول بكل تأكيد ان الرسول ذاته دليل رسالته.


ثم ما الذي يدعوه إلى الكذب والخيانة؟ أهو المال؟ وهو الذي رفض العرض المغري الذي قدمه إليه سادة قريش والذي احتوى على أكثر أموال العرب مقابل تنازل الرسول عن دعوته الرسالية. أم هو الجاه؟ وقد عرض عليه ان يسود على العرب جميعا بشرط ان يترك رسالته فرفض. أم كان العيش الرغد؟ وهو الذي اكتفى بأزهد نصيب بين المسلمين وحمل نفسه أشق الأعمال ولم تختلف به الحال منذ ان كان يتيما في حضن عمه والى ان أصبح سيد العرب المطاع، بل زاد رغبة عن الدنيا وزهدا.


وكلمة الخلاصة ان تحليل شخصية الرسول ـ ص ـ يهدي إلى واقع رسالته فإن طهارة النفس ونقائها لا تجتمع مع الكذب والخيانة في أمور بسيطة فكيف بالخيانة العظمى المتمثلة في الدعوى كذبا ان هذه الرسالة التي يدعها انما هي من الله إلى البشر جميعا. هذه من ناحية شخصية الرسول تدل على صدق رسالته ولكنها ليس مستنبطة من ذات شخصيته وهي:


1- رجل واحد يتحدى التاريخ كله والبشر كلهم ويبعث الإنسان بعثا جديدا في تصوره وسلوكه وأخلاقه ويكون شخصيات نموذجية لا مثيل لها[55]. ان هذا لم يقع ولن يقع لغير الرسول الصادق المؤيد بالغيب حيث لم يشهد التاريخ إنسانا استطاع توحيد القبائل المتناحرة في وحدة تجعلهم كأنهم بنيان مرصوص، ثم قام ببعثهم إلى العالم حاملين رسالة العدل والحق والسلام إلى كل إنسان في الأرض.


2- إنسان أمي لم يتعلم عند أي فرد ولم يدرس الكتب ولا خط بيديه شيئا. هذا الإنسان ينقلب ـ بعد البعثة مباشرة ـ إلى بحر زاخر من المعارف التي عجزت البشرية من سبر غورها حتى يوم الناس هذا. هل يكون ذلك الا رسولا صادقا؟


3- ودليل آخر نلمسه في إنقطاعه المديد إلى الله ـ سبحانه ـ وعبادته التي لم يكن لها مثيل وإلتزامه قبل كل أحد بشريعته التي انزلت عليه بل إيجابه على نفسه من فروضها أكثر من أمته ـ كصلاة الليل والتهجد بها ـ وان في ذلك دليلا قويا على صدق دعوته، ولم يكن ليقول ما يقول الا باعتقاد جازم وقناعة شخصية تامة ذلك مهما استطاع المرء ان يخدع الناس فإنه لا يتمكن من ان يخدع نفسه خداعا يحملها على الأعمال الصعبة دون عقيدة راسخة واخلاص تام.


وجاء في القرآن: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون)، (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون[56]).


3- المعاجز الخارقة:


ما هي المعجزة، وهل يمكن عقلا حدوثها؟


في الكون سنن فطرية تجري وفقها كل الأحداث، فالنار تبعث الحرارة والحرارة تولد الامتداد والامتداد يتسبب في التبخر و.. و.. طائفة من هذه السنن معروفة للإنسان ويستخدمها في صالحه، بيد ان طائفة أخرى منها غير معروفة وهي كبرى الطائفتين، ولا يمكن لذلك استخدامها كما لا يمكن رفضها سلفا.. والمعجزة قد تعني خرق السنن المعروفة بسنن أخرى غير معروفة للبشرية بعد، بأية صورة ويكمن اعجاز المعجزة آنئذ في ان رجلا ساذجا (وأميا في بعض الأحيان) كيف استطاع ان يعرف السنن التي لا يعرف أحد من العلماء شيئا منها. وهذا النوع واقع في حياة الأنبياء عليهم السلام وأبرز الأمثلة عليها بساط سليمان فإن ركوب الريح سنة فطرية بالرغم من أنها لم تكن معروفة في عهد سليمان عليه السلام. والمثل الآخر معراج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي يعتقد البعض انه كان نوعا من المركبات الفضائية التي لم تعرف حتى اليوم خصائصها في مثل هذين النموذجين من المعاجز. ان الله سبحانه لا يغير سنن الكون انما يهدي نبيه اليها بشكل معجز ومن دون مسائل مادية.. وقد تعني المعجزة اختراق كافة السنن الفطرية وذلك مثل القرآن الذي لم يوح به بمقتضى سنة فطرية بل خرقا لكافة السنن.. والسؤال هنا هل يمكن حدوث المعجزة؟


لدينا شهادتان على إمكان حدوث المعجزة:


الشهادة الأولى: شهادة الوقوع؛ ذلك اننا لم نعرف إمكانية وقوع أية حادثة الا بعد ان وقعت تلك الحادثة فعلا. فمثلا: إمكانية وقوع أبسط الحقائق وأوضحها وهي نمو البذرة بعد دفنها في التراب، لم نعرفها الا بعد ان عرفنا وقوعها فعلا. فالقول بعدم إمكانيتها غير وأرد أصلا. ذلك لأن المعارضة الوحيدة لهذه الإمكانية تأتي من قبل العادة التي تعودنا عليها بالنسبة إلى سائر الحالات ولكن تلك العادة لم تكتشف واقعيتها الا بتكرار وقوعها فليكن تعودنا على المعجزة سببا من أسباب العادة أيضا.. بل ان تحليل معارفنا يشهد بأن الإنسان لا يزال يعرف قدرا ضئيلا من السنن الكونية ولعله لدى تطوير العقلية البشرية من واقعها الضحل إلى مستوى أرفع يتبين أن سنن أخرى تحكم الحياة جنبا إلى جنب مع السنن المعروفة. فمثلا: نحن ننكر إمكانية المعراج لأنه ينافي معارفنا حول الجاذبية، ولا ننكر إمكانية الصعود إلى القمر لأننا عرفنا ان استخدام الصواريخ والوقاية الكافية و.. و.. يجعل المركبة الفضائية تتحكم على الجاذبية فلا يجري آنئذ قانون الجاذبية في هذه الحالة المعينة ولعلها لو تقدم العلم اكتشفنا طريقة أبسط وأسهل للتحكم على الجاذبية التي تجعلنا نطير حول الفضاء دون الإستعانة بالمركبة الموجودة.


وهنالك نعرف ان نسبة معارفنا اليوم إلى معارفنا ذلك اليوم كنسبة معارف القرون الوسطى إلى معارف القرن العشرين وعندئذ يمكننا التصديق بالمعراج حتى بدون مركبة فضائية.


فالمعجزة ظاهرة تعيش إلى جانب الظاهرات الواقعة يوميا. وكما لا يسعنا إزاء الظاهرات الا البحث عن سنتها بموضوعية دون ردها سلفا، فكذلك لا يسعنا أمام المعجزة الا البحث عن واقعها دون إنكارها اعتمادا على سائر الظواهر المعروفة.


الشهادة الثانية: والشهادة الثانية تأتي من الإيمان بالقدرة اللامتناهية لخالق الكون سبحانه، الذي لم يعجز عن خلقه بأية صورة ما شاء بل جعل الاختلاف في مظاهر القدرة دليلا بارزا على احاطة قدرته لكافة المحتملات. وقد سبق الحديث منا حول ان قدرة الله غير متناهية وان من مظاهر قدرته: اجراء السنن وانه لولا هذا الاجراء لما كان هناك أية تسلسل بين خط الأسباب وخط المسببات.


فهاتان شهادتان دلتانا على إمكانية حدوث المعجزة. بعد هذا نقول: من الشواهد الواضحة على نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الآيات التي أظهرها الله على يديه. وقد ثبت لنا بالنقل المتواتر الذي لا يحتمل الكذب[57] حيث ان المسلمين باختلاف فرقهم وتشتت مذاهبهم أنبأوا عن الرسول (ص) انه جاء بمئات من المعاجز التي تدل بصفة قاطعة على وجود طائفة منها قطعا.


هذا بالإضافة إلى بعض القرائن الأخرى التي تؤكد ظهور المعجزة على يد الرسول (ص) وهي الأمور التالية:


1- ان الرسول (ص) كان يقص على المسلمين معاجز الأنبياء السابقين وكان يقول ان على النبي (ص) ان يأتي بآية بينة لقومه حتى يصدقوه فلو لم يكن يأتي هو لهم بمعاجز كان مكذبا لنفسه إذ كان لقومه ان يقولوا له إذا كنت قد نبأت فعلا وتزعم ان النبي يأتي قومه بالمعاجز فلماذا لم تأتنا بها[58]؟


2- ان القرآن نقل للناس طائفة من معاجز الرسول (ص)؛ مثل محاربة الملائكة معه يوم بدر، وإخباره بالغيب كفتح مكة، والتغلب على ملك الفرس والروم وما أشبه.. ولو كان كاذبا في نقله إذا لكذبه الكفار فورا[59].


3- المعهود من أقوال الكفار المعاصرين للرسول (ص) انهم كانوا ينسبونه إلى السحر وقد قص لنا القرآن ذلك نقلا عنهم فقال: [ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا ان هذا الا سحر مبين] (الأنعام/7) ولابد انهم شاهدوا منه ما يتشابه والسحر في اعينهم فنسبوه إليه جهلا منهم بواقع السحر والفرق بينه وبين المعجزة.. في حين ان الفارق بين السحر والمعجزة كبير ويكمن في ثلاثة أمور:


الأول: ان السحر يحتاج إلى تعلم والمعجزة تأتي موهبة من عند الله ولذلك فإن الساحر لا يكون ساحرا الا بعد سنين من الدراسة المرهقة، أما الرسول فإنه تصدر منه المعجزة بغير تعلم. والساحر لا يعرف الا نوعا خاصا من السحر بعد ان يتقن معرفته في حين يتمكن النبي (ص) من القيام بعدة معاجز مختلفة نوعا في وقت واحد؛ فمن شق القمر إلى تسبيح الحصى إلى انقلاب الجذع نخلة باسقة


الثاني: ان السحر يأتي باختيار الساحر وإرادته بينما لا يأتي الاعجاز الا بإرادة الله سبحانه، ولذلك فإن السحر قد يأتي مؤيدا للحق وقد يأتي مخالفا له أما المعجز فلا يقع موافقا للحق، وللحكمة التي ترشد إليها الرؤية الصائبة وفي سبيل الاصلاح. وبكلمة: ان السحر يستخدم في المطامع والاهواء بعكس المعجزة، التي لا يمكن استخدامها الا في سبيل الخير ولا يؤتي بها الا بإرادة الله ومن هنا كان الكفار يطالبون الأنبياء (ع) بالمعجزة في بعض الأحيان ولا يستجيب لهم الأنبياء (ع) قائلين: ان ليس لهم من الأمر شيء بل ان يشاء الله ينزل عليهم آياته في حين كان هوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم موافقا مع إبداء الآية ـ بحسب الظاهر ـ ولكن حيث ان الحكمة لم تكن مع ابدائها لم يكن الله تعالى يبعثها. وأوضح شاهد على ذلك قصة موسى (ع) مع السحرة إذ لم ياذن الله لموسى بالقاء عصاه الا بعد ان امتلأ رعبا وخاف ان لا يؤمن الكفار وكان في ذلك دليل على ان موسى عليه السلام لم يكن بذاته قادرا على إحداث الخارقة بل بإذن الله، حيث ان السحر يؤثر في إطار محدود بينما المعجزة لا تتحدد بإطار. فالساحر ـ مثلا ـ لا يتمكن من احياء الميت وإبراء الأكمة والأبرص أو قلب العصى الصغيرة إلى ثعبان مبين يلقف الحبال ثم يرجع إلى اصله وكأن شيئا لم يكن أو خلق طوفان يملأ الأرض ماء، لا يفعل السحر هذه وقد فعلها الأنبياء عليهم السلام.


الثالث: بل لعل السحر لا يتمكن من البناء بل على الهدم فقط بينما يستطيع النبي ان يبني كما يستطيع ان يهدم بالمعجزة فالساحر قد يتمكن من ان يجعل شجرة باسقة أعوادا يابسة ولكنه لا يجعل العود اليابس شجرة باسقة واما المعجزة فإنها التي تجعل من الجذعة الذابلة نخلة تساقط رطبا جنيا. الساحر يمكن ان يجعل الناس فرقا شيعا ولكن لا يستطيع ان يؤلف قلوبهم كانهم بنيان مرصوص ويبعثهم أمة وسطا. السحر قد يجعل الأمة القوية شعبا مستضعفين ولكنه لا يتمكن من ان يفعل خلاف ذلك كما تفعل المعجزة- فتبدل الشعب المستضعف امة قوية. السحر قد يجعل من النظام فوضى ولكن لا يخلق من الفوضى نظاما يبهر العقول.


إذا فهناك فروق أساسية بين السحر والمعجزة نابعة من مصدر السحر الذي لا يعدو ان يكون استخدام بعض السنن الخفية بعد دراستها واتقانها لم يكون استخدام الساحر الذي يتأثر بالضعف البشري فيستخدم في الغالب فيما يضر الناس دون ما ينفعهم. وعلى ذلك نعرف ان انكار الكفار المعاصرين للرسول (ص) معجزاته واتهامه بالسحر لم يكن الا خلطا ساذجا بين معطيات السحر والمعجزة، لجهلهم أو استكبارهم عن الحق.. فإذا عرفنا نحن ان ما أتى به الرسول (ص) لم يكن من السحر علمنا انه كان معجزة فكان كلام الكفار دليلا على صدق نبوة الرسول (ص) وثبوت المعجزة له.


الكتاب المعجزة:


القرآن هي المعجزة التي تبقى دليلا واضحا على رسالة النبي (ص) مدى الدهر.. رجل أمي عرفه معاصروه انه لا يقرأ ولا يكتب ـ يأتي بكتاب مفصل فيه علم كل شيء، بلغ في الفصاحة والبلاغة الذروة، وضرب في الأسلوب والمحتوى أرقى رقم يقاس، ثم يتحدى به العالم كله ويقول لهم بأعلى صوت- [وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وأدعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين] (البقرة / 23).. ثم يقول: [.. لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا] (الأسراء/ 88).


القرآن يتحدى العالم..


ان مجرد تحدي من رجل أمي في الجزيرة العربية لشهادة كبيرة على ان صاحبه ليس برجل عادي لاسيما وأن هذا التحدي لازم الرسول (ص) حتى نهاية حياته حيث باشر حضارات البشرية عن كثب وعرف أبعاد ما فيها، وقد عجزت البشرية رغم تكاثر الأعداء الألداء، عجزت حتى عن محاولة التحدي المضاد.


وفي بداية البعثة، زعم بعض العرب المغرورين بفصاحتهم؛ انهم قادرون على التحدي المضاد، الا انهم سرعان ما اكتشفوا ضلالهم البعيد.


فالشاعر العربي (بشير) الشهير ببلاغته قال أبياتا زعم أنها أفصح من القرآن فعلقها على الكعبة، ولم يكن يعلق عليها الا شعر أفصح العرب، ولما رأى المسلمون اعجاب (بشير) بأشعاره كتبوا بعض آيات القرآن وعلقوها إلى جنب أشعار بشير، فلما مر بها بشير أبهرته قوة البلاغة في القرآن وهتف قائلا: والله ما هذا بقول بشر وأنا من المسلمين.


وبعد قرن من بزوع الإسلام زعم بعض المنافقين ان الوقت حان للإجابة على تحدي القرآن فاتصل بالأديب العربي الشهير (بن المقفع) الذي غرته ثقافته الفارسية الفلسفية الواسعة فقبل الدعوة إلى التحدي المضاد ولكنه اشترط على صاحبه المقترح ان يتكفل له بما يحتاج إليه خلال سنة، وهي المدة التي زعم انه قادر على انجاز مهمته فيها، ولما مضى نصف عام عاد إليه صاحبه ليعرف مراحل العمل في مواجهة تحدي القرآن فوجده جالسا والقلم يرتعش بين أصابعه وقصاصات الورق تتناثر من حوله، فاعترف بأنه قد أصيب بفشل ذريع في محاولته هذه رغم ما بذله من جهود جبارة إذ انه لم يستطيع ان يأتي بآية واحدة من طراز القرآن..


ولسنا بحاجة إلى ذكر المزيد من القصص التاريخية بعد ان اعترف بعظمة القرآن كل من تدبر فيه. ولم يظهر حتى الآن من نجح في صياغة آية واحدة ـ ولو بصورة تقليدية ـ كآيات القرآن الحكيمة، وان أغمضنا النظر عن تحدي القرآن فإن ذاته يدل على صدق هذا الكتاب الذي ظاهره أنيق وباطنه عميق، ظاهره حكم وباطنه علم، قيم لا عوج فيه، حق لا باطل معه، لا تختلف أحكامه ولا تتناقض مبادئه ولا تتعارض أصوله وفروعه ومفاهيمه وأحكامه.


هذا الكتاب الذي بهر البلغاء فرفعت اعلام الاستسلام واستهوى العالم كله، فظل يستلهم منه طيلة أربعة عشر قرنا فلم تبل عجائبه ولم تخلق نضاراته بل جاء كل جيل فاقتبس من نوره واهتداى بهداه وذهب ليستخلفه الجيل الثاني في ذلك دون ان يؤثر تطور الحياة وتقدم العلوم واختلاف الزمن شيئا في عظمته وأهميته. هذا الكتاب يأتيه رجل أمي محض، أليس في هذا معجزة دونها معاجز الأنبياء عليهم السلام.


أين معجزة القرآن:


القرآن معجزة لاشك في ذلك إذ لو لم يكن معجزة إذا لاستطاع البشر ان يأتوا بمثله وقد تحداهم جميعا من أول يوم وإذا كان يشبه كتب البشر في شيء بينما يخلف عنها في كل شيء فلا يكون الا معجزة ولكن أين من القرآن المعجزة؟ في أية ميزة منه اختبئت المعجزة؟؟ في الجواب نقول:


أ- قد احتوت آياته على علوم لم يعهدها البشر ذلك اليوم واكتشفها عصر النور.. فبالرغم من ان رموز القرآن لم تحل بصورة دقيقة نظرا لضحالة معارف الإنسان فإن آيات قرآنية كثيرة اشارت إلى حقائق علمية لم تعرف الا منذ زمن قريب. وان مقارنة القرآن في هذا الحقل بأي كتاب تاريخي يظهر لنا بوضوح مدى الفرق بين كتاب البشر وكتاب الخالق الأبدي الذي لا يمكن ان يتجاوزه الزمن، أنى سارع في مسيرته. بل انه يبقى أبدا أمام الاكتشافات، فيعود الإنسان إليه كلما عرف سرا ليجد به إشارة بارزة إليه حتى انه يعتقد بيقين ان القرآن يحتوي على العلم كله.. ونحن إذ نذكر بضعة أمثلة فإنها ليست سوى طليعة الشواهد العلمية التي تتلاحق لتكشف عن إعجاز القرآن.


1- لقد اكتشف العلم ان المادة كانت جامدة وساكنة وحدث فيها انفجار هائل قبل (5) ملايين مليون سنة فبدأت المادة تتمدد حتى ان دائرة المادة كانت ألف مليون سنة ضوئية وأصبحت الآن عشرة أمثال ذلك. وهكذا تتوسع المادة الا انها كلما توسعت كلما كثر بداخلها الفضاء الخالي حتى انه لو طوينا الكون بحيث لم يبق فيه فضاء خال تضاءل الكون حتى أصبح كحجم الشمس بضعة عشرة مرة. أليست هذه هي الكشوف العلمية تدل على بضع رموز الآيتين الكريمتين:


أ- [أو لم ير الذين كفروا ان السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما] (الأنبياء/ 30).


هل هناك تعبير أفصح من تعبير الرتق والفتق تكشف عن هذه الحائق؟


ب- [يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب] (الأنبياء/ 104).


أليس الطي أصدق تعبير لاخلاء المادة عن الفضاء


2- من المفهوم لدى العلماء اليوم ان المادة الخفيفة وزنا ارتفعت على سطح الأرض وكانت الجبال، وبقيت المادة الثقيلة مكانها فكانت البحار، واستطاع ارتفاع مكان وانخفاض آخر ان يحافظ على توازن الأرض والا لمادت بأهلها. هذه الحقيقة، الا ترى دلت عليها الآية التالية بأبلغ تعبير: [وألقي في الأرض رواسي ان تميد بكم] (لقمان/ 10).


3- وتتفق نظريات علماء الجغرافيا والنبات وغيرهم على ان الأرض كانت متمركزة في البدء ثم انتشرت. وهذه تتفق تماما مع كلمة (دحو) التي استعملتها آية قرآنية عند بيان بداية الأرض ذلك لأن (الدحو) تعني التسوية في الانتشار من مكان تتجمع فيه المادة.


قال الله تعالى: [والأرض بعد ذلك دحاها* أخرج منها ماءها ومرعاها] (النازعات /30/31).


أ- وكفى بهذه الأدلة دليلا على مدى الانسجام بين آيات الكتاب وكشوفات العلم الحديث وهي مقتبسة من موضوع تكون المادة فقط.. وفي سائر المواضيع شواهد أكبر وأكثر.


ب- والقرآن ليس فيه اختلاف بين المبدء والشريعة والأخلاق الذي نجده في المبادئ الأخرى. فالقرآن مثلا يقر مبدأ التوحيد ثم لا يشذ عنه في صغير أو كبير بل يصدر عنه كل شيء بعكس المبدأ الماركسي مثلا فإنه يتبنى مبدأ في الفلسفة يناقضه في التشريع أو في الأخلاق.


ج- وهو أفصح ما عهده العرب وأبلغ ما عهده الإنسان من ألفاظ وتراكيب، ولذلك أنزلت العرب معلقاتها العشرة الفصيحة عندما نزلت بعض الآيات، قائلين انها سوف تفضحنا لأنها من قبيل وضع الحصى في عرض الأحجار الكريمة.


د- وأعتقد ان أهم ما في القرآن هي معارفه التي حلت للناس كل مشاكلهم الفكرية والتي عجزت عن حلها البشرية جميعا. والقرآن نفسه يذكر ان سر عظمته بالدرجة الأولى هي معارفه فيقول: [يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين] (يونس/ 75).. يظهر في هذه الآية ان شفاء ما في الصدور والهدى هي السمه الكبرى الموجودة في القرآن وهي مرتبطة بظاهر كشف الحقائق في القرآن. ومن هنا فقد تحدى القرآن بتلك المعارف البشر جميعا لا العرب وحدهم-.

تبشير الكتب المنزلة



وحجة أخرى على صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بشارة الكتب السماوية به. يمكننا معرفة هذه البشارة بطرق ثلاثة:




/ 15