فيقول النبي (ص) : وما اسم ابن هارون ؟
فيجيب : شُبَير .
فيقول النبي (ص) : لساني عربي ؟!
فيجيب جبرائيل : سَمِّه الحسين . فيسميه الحسين[234] .
ويتقدّم فطرس .
ومن هو هذا الملك المهيضة جناحاه يحمله رفاقه ؟. إنه مطرود من باب اللـه ، لم يزل في السجن يعذب ، حتى واتته أفواج من الملائكة ، فقال لهم : مالي أراكم تعرجون وتهبطون ، أقامت الساعة ؟. فقال جبرائيل : كلا ، وإنما ولد للنبي الخاتم وليد ، فنحن ذاهبون إلى تهنئته الساعة . فقال : أفلا يمكن أن تحملوني إليه عله يشفع لي فيُشفّع ؟. فجاء به جبرائيل (ع) .
فها هو ذا يتقدم إلى الرسول (ص) يتوسل به إلى اللـه .. فأومأ (ص) إلى مهد الحسين وهو يهتز في وداعة ، فراح الملك يلمس جوانب المهد بجناحيه المكسورتين ، فإذا هو وقد ردَّهما اللـه عليه إكراماً منه لوجه الحسين (ع) عنده .
وتنتهي الحفلة ، ويأخذ النبي (ص) الرضيع الميمون بيديه ، ويحتضنه ويؤذن في إحدى أُذنَيه ، ويُقيم في الأخرى . ثم يجعل لسانه في فم الوليد فيغذيه من رضابه الشريف ما شاء .
ثم يعقُّ عنه بعد اسبوع بكبشين أملحين ، ويتصدَّق بزنة شعر رأسه بعد أن حلقه دراهم ، ثم يعطِّره ويومئ إلى أسماء فيقول : الدم من الجاهلية .
وهكذا ينقلب الجد الحنون إلى أسوة حسنة للمسلمين ، فلا يكتفي بإجراء الآداب الإسلامية ، وهي في روعتها ونضارتها - عملاً - وإنما ينسخ بالقول أيضاً لعنة الجاهلية ، حيث كانوا يضمخون رؤوس ولدانهم بالدم إعلاناً لتوحشهم ، وإيذاناً لطلب تِراتِهم .
ولـــم يزل ذلك الوليد المبـارك يترعرع في أحضان الرسالـــــة ، ويعتني به صاحبها محمــــد (ص) وربيبهـــــا
علي (ع) حتى بلغ من العمر زهاء سنتين ، ولكن لم يتفتح لسانه عن أداء الكلام أبداً .
عجباً . إن ملامح الوليد تدل على ذكاء مفرط ، ومضاء جديد ، ومع ذلك فَلِم لم يتكلم بعد ، أيمكن أن يكون ذلك لثقل في لسانه ؟!
وذات يوم إذ اصطف المسلمون لإقامة صلاة الجماعة ، يَؤمُّهم الرسول الأعظم ، وإلى جانبه حفيده الحبيب الحسين (ع) ولمَّا تهيأ القوم للتحريم ، كان الخشوع مستولياً على القلوب . والهدوء سائداً على الجو ، والكل ينتظرون أن يُكَبِّر الرسول فَيُكَبِّروا معه ، فإذا هم بصوته الخاشع الوديع يكسر سلطان السكوت ويقول : اللـه أكبر ...
وإذا بصوت ناعم خافت يشبه تماماً صوت النبي (ص) بكل نغماته ونبراته وما فيه من خشوع ووداعة يقول : اللـه أكبر ...
إنه صوت الحسين (ع) .
فكرر الرسول : اللـه أكبر ... فأرجع الحسين اللـه أكبر ، والمسلمون يستمعون ويكبِّرون ، ويتعجبون !! فردد الرسول (ص) ذلك سبعاً ، ورجَّعه الحسين (ع) سبعاً ، ثم استمر النبي (ص) في صلاته والحسين (ع) يسترجع منه .
فقد كانت أول كلمة لفظها فم الحسين (ع) كلمة التوحيد : اللـه أكبر .
وفيما نخطوا مع التاريخ بعض الخطوات الفاصلة ننظر إلى هذا الوليد بالذات - ذلك الذي لم يفتح فمه إلاّ على كلمة اللـه أكبر - ننظر إليه بعد خمس وخمسين سنة وهو يمارس آخر خطوات الجهاد المقدس ، ويعالج آخر لحظات الألم وقد طرح على الرمضاء ، تلفحه حرارة الشمس ، ويمزق كبده الشريف حر العطش ، ويلفه حر السلاح المصلصل .
فنستمع إليه وهو يحرّك شفَتَين طالمــــا لمستهما شَفَتا رسول اللـه (ص) يتضرع إلى بارئـــــه ، يقــــول : إلهي ... رضاً برضاك ، لا معبود سواك .
ولايزال يتمتع حتى يُعرج بروحه الطاهرة المقدَّسة إلى السماء ، عليه أفضل الصلاة والسلام .
وإذا ثبت بالتجارب الحديثة أن للوراثة آثارها البالغة ، وأن للتربية حظها الكبير في إنماء خُلق الطفل وتكييف صفاته ، فلا نشك في أن أبوي الحسين ( عليه وعليهما السلام ) كانا من أرفع الآباء خُلقاً ، وأكرمهم نسباً . وإن تربيتهما كانت أحسن تربية وأشرفها وأقدرها على إنماء الأخلاق الفاضلة ، والسجايا الحميدة في نفس الإنسان .
وهل نشك في ربيب الرسول ذاته ، وربيب مَن ربّاهما الرسول فاطمة وعلي عليهم جميعاً صلوات اللـه وتحياته ؟.
أفلا نرضى من اللـه العزيز كلمته العظيمة في القرآن حيث يقول :
«
مَـــرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَــــانُ »
(الرَّحْمَنِ/19-22)
فالبحران هما بحر النبوة ومنبعه فاطمة (ع) عن الرسول (ص) ، وبحر الوصاية من قِبَلِ عليٍّ (ع) . فلابد لهذين البحرين - إذا التقيا - أن يخرج منهما اللؤلؤ الحسن ، والمرجان الحسين (ع) .
هذه هي الوراثة .. إنها أقدس وأرفع مما يُتصور .. ولا تسأل عن التربية ، فلقد كانت أنصع وأروع من كل تربية ، كان شخص الرسول (ص) يهتم بالحسين (ع) وتربيته بصورة مباشرة .
وبين يديك حديثان تعرف منهما مدى رعاية الرسول (ص) لشأن الحسين (ع) ، مما يؤكد لك أن الحسين لم يكن ربيب علي وفاطمة (ع) فقط ، بل تربى على يد جدِّه النبيِّ (ص) ذاته .
عن يعلى العامري أنه خرج من عند رسول اللـه (ص) إلى طعام دعي له . فإذا هو بالحسين (ع) يلعب مع الصبيان فاستقبل النبي (ص) أمام القوم ...
ثم بسط يديه فطفر الصبيُّ ههنا مرّة وههنا مرّة ، وجعل رسول اللـه يضاحكه حتى أخذه فجعل احدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت قفاه ، ووضع فاه إلى فيه وقبله [235] .
واستسقى الحسن (ع) فقام رسول اللـه (ص) فجدع له في غمر كان لهم [236] ثم أتاه به .
فقام الحسين (ع) فقال : اسقنيه يا أبه فأعطاه الحسن ثم جرَّع للحسين (ع) فسقاه .
فقالت فاطمة (ع) : كأن الحسن أَحبَّهما إليك ؟.
قال : إنه استسقى قبله ، وإني وإياك وهما وهذا الراقد - وأومأ إلى علي أمير المؤمنين (ع) - في مكان من الجنة [237] .
وظل الوليد النبيه يشبّ في كنف الرسول ، وظلَّ الوالدين الطاهرين ، والرسول يوليه من العناية والرعاية ما يبهر ألباب الصحابة ويحيِّزهم . ولطالما بعث الرسول بكلماته النيِّرة على سمع المئات المحتشدة من المسلمين يقول : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة . و الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ويقول : حسين مني وأنا من حسين .
ويرفعه بين الناس - وهم ينظرون - فينادي : أيها الناس هذا الحسين بن علي فاعرفوه .
ثم يردف قائلاً : والذي نفسي بيده إنه في الجنة ومعه أحبَّاؤه .
و قد يتبوأ له مقعداً في حضنه المبارك ويشير إليه فيقول : اللـهم إني أُحبه فأَحبه .
ولطالمـــا يحمله هو وأخاه على كاهله الكريم وينقلهما من هنا إلى هناك ، والملأ من المسلمين يشهـدون .
وهكذا ترعرع الوليد الحبيب في ظل الرسالة وفي كنف الرسول ، وأخذ منهما حظاً وافراً من المجد والسناء .
وبعد الرسول - حيث ازدحمت الحوادث واختلفت النعرات - نراه يقف جنباً إلى جنب مع والده العظيم في قضية الحق ويعلنها في أوضح برهان .
والمسلمون هناك ، يهتدون على من يهتدون .
ومرة أخرى نلتقي بالحسين (ع) وهو شاب يمثل شمائل أبيه المهيبة ، ويقود الجيوش المزمجرة ضد طاغية الشام معاوية بن أبي سفيان .
وتتم على مضاء عزمه ، ومضاء سيفه ، وسداد فكره ، وسداد خططه انتصارات باهرة ضد الطغيان الأموي الذي أراد أن يرجع بالأمة الإسلامية إلى جاهليتها الأولى ، وقد فعل .
.. ثم تُدَبَّرُ مؤامرة لئيمة لاغتيال الإمام علي (ع) وينتهي الأمر بمصرعه الفاجع ، وتلقي الأمة بأبهض مسؤولياتها وأخطرها على كاهل الإمام الحسن (ع) فيمارس الإمام الحسين جهاده المقدس في أداء أمانة الحق ، ومسؤولية الأمة ، ويحرض الشعب الإسلامي ضدَّ الباطل المحتشدة كل قواه في عرصات الشام، ويحذره من كل ما يُرتقب من مآسي وويلات على يد الطاغية إن تمَّ له الأمر .
وينتهي دور الإمام الحسن فيُقتل بسمٍّ يدسه إليه طاغية الشام .
فتقع دفة الخلافة الإلهية بيد الحسين (ع) ويتابعه المسلمون الواقعيون الذين لم يشاهدوا في بني أمية إلاّ مُلكاً عضوضاً كلُّ همّه القضاء على مقدسات الأمة ومشاعرها في آن واحد .
نعم ، انتقلت الإمامة إلى رحاب الحسين (ع) في أوائل السنة الخمسين من الهجرة النبوية، ولنلقي نظرة خاطفة على الوضع السائد في البلاد الإسلامية آنذاك .
في السنة الواحد والخمسين : حج معاوية إلى بيت اللـه الحرام ليرى من قريب الوضع السياسي في مركز الحركة المناوئة لخلافته ، حيث إن الحرمين كانا مقرا الصحابة والمهاجرين ، وهم أبغض خلق اللـه لمعاوية لأنهم أشدهم خلافاً عليه .
فلما طاف بالبلاد المقدسة عرف أن الأنصار - بصورة خاصة - يبغضونه ويكرهون خلافته على أشد ما تكون الكراهية والبغض .
وذات يوم سأل الملأ حوله : ما بال الأنصار لم يستقبلوني ؟
فأجابه طائفة من زبانيته : إنهم لايملكون من الإبل ما يستطيعون استقبالك عليها .
وكان معاوية يعرف الحقيقة من برودة تلقي الأنصار مجيئه ، فحينما سمع هذا الجواب الروتيني لمز وغمز وقال : ما فعلت النواضح - أراد الاستهزاء بساحة الأنصار ، بأنهم كانوا ذات يوم من عمال اليهود في المدينة ، أصحاب إبل تنضح الماء لبساتين اليهود ، وكان في الحاضرين بعض زعماء الأنصار فأجابه - وهو قيس بن سعد بن عبادة - قائلاً :
أفنوها يوم بدر وأُحد وما بعدهما من مشاهد رسول اللـه حيث ضربوك وأباك على الإسلام حتى ظهر أمر اللـه وأنتم كارهون . اما إن رسول اللـه عهد إلينا أنّا سنلقي بعده أثرة .
ثم جاش صدر قيس فاندلعت منه شرارة فيها ذكريات الماضي الزاهر ، وعواصف هذا اليوم الأسود ، فقال وأمعن في إيضاح سوابق بني أمية ولواحقهم ، وشرح ما كان من وقوفهم ضد الدعوة النبوية - أول يوم - وما كان من إنكارهم حق عليٍّ (ع) بعد ذلك ، وما كان من أمر معاوية - بالذات - مع إمام زمانه، وما جاء عن لسان النبي (ص) من الأحاديث بشأن علي ، الذي افترضه معاوية مناوئه الوحيد على كرسي الحكم .
ولم يدر قيس ذلك اليوم ما الذي كان يحمله معاوية من بغض وكره - سوف يحدوان به إلى مالا تحمد عواقبه - .
ورجع معاوية يفكر في إجراء التدابير اللازمة ضد مناوآت الأنصار والمهاجرين . وأول خطة اتخذها هي التي سوف يُتلى عليك تفصيلها .
وعرف معاوية أن في البلاد الإسلامية كثرة واعية من المفكرين الذين محضوا عن تجارب الماضي القريب ، ولمسوا حقيقة أمر الحزب الأموي الحاكم ، كما آمنوا بقداسة الحق ، وبوجوب متابعته ، والدفاع عن نواميسه السامية مهما كلفهم الأمر .
وعرف كذلك أنه يستقر في مركز حركة هؤلاء الذين ناوأوه ، عليّاً أولاً والحسن ثانياً ، وهذا الإمام ثالثاً . ثم عرف أيضاً ما لهذا البيت العلوي من دعائم وطيدة ، ومؤهلات كافية تنذر عرش الأمويين بالفناء العاجل .
فمن هنا بدأت خطته اللئيمة ، ففكر في أن من يحب عليّاً وآل عليٍّ لا شك في أنه يستاء من مُلك بني أمية . إذاً فلنقلع حب الإمام أولاً من صدور الشعب المسلم ، ولنستأصل مقاييس المسلمين التي يميزون بها الحق عن الباطل - الا وهي تمثل الإسلام الحق في بيت الرسالة - .
فأخذ يكتب إلى كل والٍ له في أطراف البلاد برسالة إليك نصها بالحرف :
أما بعد ، انظروا إلى من قامت عليه البينة أنه يحب عليّاً وأهل بيته فأمحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه . ولا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة .
وهذه أول محنة واجهها أنصار عليٍّ الذين كانوا يشكلون الجبهة المناوئة للحزب الأموي الحاكم . وقد كانت جبهةً شديدةً عنيفةً جدّاً .
ثم راح معاوية في ظلمه يخطو خطوة أخرى - أقسى من الأولى وأعنف كثيراً - فكتب إلى ولاته يقول : أما بعد ، خذوهم على الظنة ، واقتلوهم على التهمة .
ففكِّروا في هذه الكلمة : ( اقتلوهم على التهمة ) فهل تعرفون أقسى منها في قاموس المجرمين وأعنف حكماً ؟!
في مثل هذا الجو الرهيب كان يعيش الإمام الحسين (ع) وهو يتقلد منصب الخلافة الإلهية . ولا شك في أنه كان يؤلمه الشوك في طريق أصحاب الحق على الظنة ، وإبادتهم بالتهمة .
ولكنَّ الظروف التي كان يعيشها لم تكن بالتي تجيز له المقاومة المسلحة ضد العدوان الأموي الأرعن؛ لأن معاوية كان يعالج الأمر بالمكر والخدعة ، ويخدّر أعصاب الأمة بالأموال الطائلة من ثروة الدولة التي إن لم تُعط الفائدة فهناك شيء كان يسميه بجنود العسل ، ويقصد به الغدر بحياة الشخصيات عن طريق السم يديفه في مطعمه أو مشربه ، كما فعل ذلك بالإمام الحسن (ع) بواسطة زوجته الغادرة ، وكان يستعمله دائماً ضدّ أولئك العظماء الذين لايخضعون لسلطان المال والمنصب .
إما إذا استعصى عليه الإغراء بالمال أو القضاء بالسم ، فيأتي دور القوَّة التي كان يستعملها بدون رحمة في مناسبة وغير مناسبة .
وبهذه الوسيلة الأخيرة قضى على الصحابي الكبير والزعيم الشيعي القدير : حِجْر بن عدي ، حيث استدعاه هو وأصحابه إلى الشام ، وقبل أن يصلوا إلى العاصمة أرسل سرية من شرطته فقتلت بعضهم ودفنت بعضهم أحياءً بغير جرم إلاّ أنهم كانوا أصحاب عليٍّ (ع) وقواد جيشه .
وكان مقتل حجر هذا منبِّهاً فعّالاً ، للشعب الإسلامي الذي دعا إلى إعلان التمرد ، حتى من بعض أصحاب الأمويين كوالي خراسان ربيع بن زياد الحارثي ، حيث جاء المسجد ونادى بالناس ليجتمعوا ، فلما اكتمل اجتماعهم قام خطيباً وذكر المأساة بالتفصيل وقال : إن كان في المسلمين من حمية شيء لوجب عليهم أن يطالبوا بدم حِجْرٍ الشهيد .
وحتى من مثل عائشة التي كانت بالأمس في الصف المخالف لعلي (ع) فإنها لما سمعت الفاجعة قالت : أما واللـه لقد كان لجمجمة العرب عز ومنعة ، ثم أنشدت :
ذهــب الذيـــــــــــن يعــــــــــــاش فــــــــي أكنــــــــافهـــــــــم و بقيــــــــت فــي خلــــــــــف كجــلــــــــد الأجــــــــــــــرِب
ومشت في الأوساط السياسية رجة تبعتها اضطرابات جعلت معاوية يندم من سوء فعله لأول مرة .
ولكن لم يكن مقتل حِجْر بالوحيد من نوعه ، فقد رافقه مقتل الصحابي الكبير المعترف به لدى سائر المسلمين عمرو بن الحمق ، الذي حُمل رأسه على الرمح لأول مرة في تاريخ الإسلام ، حيث لم يُحمل فيه قبل ذلك اليوم رأس مسلم قط .
وتبع حادثة حِجْر وأصحابه الستة عشر حوادث مرعبة نشرت على دنيا المسلمين التوتر والإضطراب .
ويمكننا أن نكشف عن بعض مظاهر هذا التوتر بما يلي :
لقد سيطر زياد ابن أبيه على الكوفة والبصرة ، ولقد كان متشيعاً قبل أن يُلحقه معاوية بنسبه ، فكان يعرف أسرار الشيعة وخباياهم وزعماءهم وقادتهم . فلما استتب له الأمر راحَ يلاحقهم تحت كل حجر ومدر ويمعن فيهم القتل والتنكيل حتى ليَقول الرجل : أنا كافر لا أؤمن بنبيٍّ خير له من أن يقول : إني شيعي أؤمن بقداسة الحق وأكفر بالجبت والطاغوت .
فلما ضبط العراقيين إرهاب بني أمية رفع زياد كتاباً إلى البلاد الملكي هذا نصه بالحرف :
إني ضبطت العراق بشمالي ، ويميني فارغة . فولني الحجاز أشغل يميني به ..
ولما أذيع نبأ هذه الرسالة في المدينة المنورة اجتمع المسلمون في المسجد النبوي وابتهلوا إلى اللـه ضارعين : اللـهم اكفنا يمين زياد .
ولسنا بصدد بيان أنه كفّ اللـه عنهم يمين زياد فعلاً ، حيث أصابه الطاعون فمات ذليلاً ، إلاّ أننا بصدد أن نعرف مدى الإرهاب المخيم على الأوساط السياسية حتى أن الناس يجتمعون للدعاء ضد والٍ واحد ، رهيب الجانب ، مرعب السلطة .
وإذا سألت عن موقف السبط ، فنحن لا يهمنا من هذا الاستعراض الخاطف للأوضاع السياسية في عهد معاوية إلاّ لنعرف موقف الإمام الحسين (ع) منها .
ونستطيع أن نلمس موقفه بصورة إجمالية ، إذا مضينا نفكر في هذه القضايا الثلاث ،التي سنتلوها تباعاً.
1- كانت الأنباء تتوالى على المدينة بنكبات فجيعة ، نزلت على رؤوس المسلمين بسبب مدحهم للإمام علي (ع) وبسبب تشيُّعهم لأهل البيت (ع) تماماً بعد إعلان معاوية حكمه الصارم :
كل من نقل فضيلة عن علي فَقَدَ الأمان على نفسه وماله !. وكان ذلك في مستهل السنة الواحدة والخمسين بعد الهجرة النبوية . فدبر الإمام خطة جريئة نفذها بنفسه ، فجمع الناس في محفل ضم من بني هاشم رجالاً ونساءً ومن أصحاب رسول اللـه ، ومن شيعته أكثر من سبعمائة رجلٍ ، ومن التابعين أكثر من مائتين ، فقام فيهم خطيباً فحمد اللـه وأثنى عليه ، ثم قال :
أما بعد ، فإن هذا الطاغية ( يعني معاوية بن أبي سفيان ) قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد علمتم وشهدتم ، وإني أريد أن أسألكم عن شيء ، فإن صدَقت فصدِّقوني ، وإن كذَبت فكذِّبوني ، وأسألكم بحق اللـه عليكم وحق رسول اللـه وقرابتي من نبيكم لما سترتم مقامي هذا ، ووصفتم مقالتي ، ودعوتم أجمعين في أمصاركم من قبائلكم مَن أمنتم من الناس .
إسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا فإني أتخوف أن يدرس [238] هذا الأمر ، ويذهب الحق ويُغلب
«
وَاللـه مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ » (
الصَّف/8)
ثم مضى الإمام في الخطبة القوية الهادرة ، يذكِّر الجمع بعليٍّ (ع) ، وفي كل مقطوعة يصبر هنيئة فيستشهد الأصحاب والتابعين على ذلك ، وهم لايزيدون على اعترافهم قائلين : اللـهم نعم .. اللـهم نعم .
حتى ما ترك شيئاً مما أنزل اللـه فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسره ، ولا شيئاً مما قاله الرسول (ص) في أبيــه وأخيــه وأمّه ونفسه وأهل بيته ، إلاّ رواه ، وفي كل ذلك يقول أصحابه : اللـهم نعم . لقد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي : اللـهم قد حدثني به من أصدِّقه وائتمِنه من الصحابة [239] .
أما وقد أشهدوا اللـه على ذلك قال : أنشدكم اللـه إلاّ حدثتم به من تثقون به وبدينه ... .
وكانت هذه خطة مناسبة للحدّ من طغيان معاوية في سب علي (ع) ، بل كانت خطة معاوية لسياسة بني أمية قاطبة الذين ارتأوا محو سطور في التاريخ هي أسطع ما فيه وأروع ما يحتويه ، ألا وهي مآثر أهل بيت الرسالة .
ولم يكتف بنو أمية في محوها بالقوة فقط بل لعبت خزينة الدولة دوراً بعيداً في ذلك أيضاً .
فقد كان الحديث يُشترى ويُباع كأي متاع آخر ، وكان المحدِّثون أوسع الناس ثروة أو أنكاهم نقمة . إن رضوا فلهم كل شيء ، وإن أبوا فعليهم كل شيء .
ربما كان معاوية وهو الداهية المعروف ينتظر من الإمام الحسين ذلك الاستنكار البالغ ، بيد أنه لم يكن يفكّر في أن الأمر سوف يدبّر على هذا الشكل المرعب ، وعلى أي حالٍ فقد كان الأمر مرتقباً .
ولكن حدث بعد هذا التظاهر الصارخ أمر لم يكن معاوية يحلم به أبداً :
2- إن عيراً لوالي اليمن كانت محملة بأنواع الأمتعة إلى البلاط الملكي لتوزع على أصحاب الضمائر المستأجرة .
ومرَّت هذه العير بالمدينة فاستولى عليها الإمام (ع) وامتلكها حقّاً شرعيّاً له ، ليصرفه في مواقعه اللازمة .
وكتب إلى معاوية رسالة أرغمت أنفه وأطارت لبه وهذا نص الرسالة :
من الحسين بن علي ..
إلى معاوية بن أبي سفيان .
أما بعد فإن عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً إليك لتودعها خزائن دمشق ، وتعلّ بها بعد نهل ببني أبيك ، وإني احتجت إليها وأخذتها والسلام .. .
وأول ما لفت نظر معاوية من هذه الرسالة تقديم الإمام الحسين (ع) اسمه واسم أبيه على ذكر معاوية ، ثم دعاؤه له باسمه الشخصي دون أن يشفعه بلقب أمير المؤمنين ويعتبر ذلك - في منطق القرون الأولى - تحدياً بليغاً لسلطة معاوية ، بل يؤكد هذا في أن الكاتب قد خلع عن نفسه الرضوخ لسلطان الدولة الباطلة .
ثم جلب انتباهه موضوع أخذ اليد ، وفيه أبلغ دليل على التمرد على السلطة الحاكمة .
بيد أن معاوية بدهائه عرف أن الظروف لا تقتضي إلاّ الإغماض عن أمثال هذه الأعمال ، ولم يكن الإمام (ع) يريد أن يبتدئ بإعلان التمرد المسلح لأنه كان حريصاً على حفظ دماء المسلمين كحرصه على نشر الحقيقة .
فكتب إليه معاوية : في منطق مستعتب وبيّن أنه عارف بمكانته ، وجليل شأنه ، وانه لايريد أن يمس ساحته بسوء . بيد أن خلفه من بعده سوف يكون له بالمرصاد .
ومضى الحسين (ع) في توطيد دعائم الحقيقة ، ببث الوعي ، وجمع الأنصار ، ولازالت الأنباء تتوارد على البلاط الملكي بشأن الإمام ، وأنه يعد العدة لثورة فاصلة .
بيد أن معاوية كاد يتم الأمر بالخدعة قبل أن يدبر النقمة لعدم مؤاتاة الظروف للساعة المرتقبة ، فكتب رسالة أخرى إلى الإمام يستعتب ويؤنب ، ويذكّر بالصلات الودية بينه وبين الإمام (ع) .
ولكن الإمام الحسين (ع) كان يعلم بالفجائع التي كانت تنقضّ على رؤوس الشيعة من محبي آل الرسول في كل بلد .
3- فكتب إليه برسالة أخرى يسرد فيها أعماله واحداً تلو الآخر .
.. أما بعد فقد بلغني كتاب تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور أنت لي عنها راغب ، وأنا بغيرها عنك جدير ، وان الحسنات لايهدي لها ولا يسدد إليها إلاّ اللـه تعالى .
وأما ما ذكرت أنه رقى إليك عني ، فإنه إنما رقَّاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميمة المفرّقون بين الجمع ، وكذب المعادون ، ما أردت حرباً ولا عليك خلافاً .
وإني لأخشى اللـه في ترك ذلك منك ومن الإعذار فيه إليك ، وإلى أوليائك القاسطين الملحدين - حزب الظلمة - وأولياء الشياطين .
ألست القاتل حِجْر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلِّين العابدين ، كانوا ينكرون ويستفضعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في اللـه لومة لائم ، ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة جرأة على اللـه واستخفافاً بعهده .
أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللـه (ص) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفــر لـونــه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته من العهود ما لو فهمه الموصم لزلت قدمُه من رؤوس الجبال ؟
أولست بمدَّعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك وقد قال رسول اللـه (ص) : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، فتركت سنَّة رسول اللـه (ص) تعمداً ، وتبعت هواك بغير هدىً من اللـه . ثم سلطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسمِّل أعينهم ويصلبهم في جذوع النخل ، كأنك لست من هذه الأمة ، وليسو منك ؟.
أولست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد انه على دين علي صلوات اللـه عليه ، فكتبت إليه : أن اقتلْ كلَّ من كان على دين عليٍّ ، فقتلهم ومثّل بهم ؟.. .
إلى آخر الكتاب الذي كان سوط عذاب يُلهب متن معاوية ومن دار في فلكه من المنحرفين .
وهكذا عاش الإمام (ع) الصوت الوحيد الذي غدا يرعد أمام كل بدعة ، والسوط الفارع الذي بات يسوِّي كل تخلف أو تطرف في المجتمع ، فلطالما حرض ذوي الفكر والجاه ، وأثارهم على حكومة الضالين ، بيد أنهم فضلوا مصالح أنفسهم على مصالح الدين ، ولم يحفظوا ذممهم ، في حين راحت ذمة الإسلام ضحية كل فاجر .
ولطالما خاطر الإمام الحسين (ع) بوقوفه أمام اعتداءات بني أمية على مصلحة الأمة الإسلامية ، وعلى مقدسات الدين ونواميسه .
والواقع أننا لو أردنا أن نتصور الوضع الديني في عصر الإمام خالياً عنه وعن جهاده ، لكنَّا نراه أحلك عصر مرّ به المسلمون ، وأقساه وأعنفه . ولو كنَّا نتصور الإسلام وقد مرّ به ذلك العصر بدون أبي عبد اللـه (ع) لكنَّا نراه أضعف دين وأقربه إلى الإنحراف .
فلم يكن هناك من قوة تستطيع الوقوف أمام المد الأموي الأسود ، إلاّ شخص أبي عبد اللـه (ع) ومن دار في أفقه من الأنصار والمهاجرين ، لأن الحروب التي سبقت عصر الإمام أعلنت عن تجارب سيئة جدّاً ، واختبارات فظيعة لقوى الخير في المسلمين ، وما كان من شتيتها موجوداً لفّته زوابع الترهيب ، وأعاصير الترغيب ، فراحت مع التي راحت أولاً .
وبقي المحامي والنصير الأول والأخير للإسلام ، وهو الإمام الحسين (ع) الذي استطاع بسداد رأيه ، ومضاء عزمه ، وسبق قدمه ، وسمو حسبه ونسبه ، وما كان له من مؤهلات ورثها من جده رسول اللـه وأبيه علي أمير المؤمنين صلوات اللـه عليهما استطاع بكل ذلك أن يشكل جبهة قوية نسبيّاً أمام الطغيان الأموي الوسيع .
وكان ذلك شأنه في عصري معاوية ويزيد .
وها نحن قد استعرضنا جانباً موجزاً من عصر معاوية ، وسوف أستعرض شيئاً قليلاً عن عصر يزيد ، في الفصل الأخير ، وسوف لا نذهب في سرد القضايا تفصيلاً ، بل نجعلها موجزةً لسببين :
أولاً :
اشتهار نهضته العظيمة في عهد يزيد حتى كاد يعيها كل شيعي مؤمن .
وثانيا :
لأن ذلك يحتاج إلى موسوعة علمية كبيرة تحلل القضايا السياسية والدينية التي رافقت نهضة الحسين (ع) ليظفر من ذلك بأروع أمثلة الجهاد وأرفعها .
وهكذا يحق لنا أن ندع البحث أبتراً ، لندخل بحوثاً أخرى ، نتكلم فيها حول السمات الشخصية لسيد الشهداء الحسين (ع) ، تاركين جانب الدين والسياسة لمجال أفسح ، وفي بحث أوسع .
1- جـــاء إلى الإمام الحسين (ع) أعرابي فقال : يابن رسول اللـه قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائها ، فقلت في نفسي : أسأل أكرم الناس . وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول اللـه (ص) .
فقال له الحسين (ع) : يا أخا العرب ، أسألك عن ثلاث مسائل ، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال ، وإن أجبت عن اثنين أعطيتك ثلثي المال ، وإن أجبت عن الكل أعطيتك الكل .
فقال الأعرابي : أمثلك يسأل مثلي ، وأنت من أهل العلم والشرف !؟
فقال الحسين (ع) : بلى ، سمعت جدي رسول اللـه (ص) يقول : المعروف بقدر المعرفة .
فقال الأعرابي : سل عما بدا لك ، فإن أجبت وإلاّ تعلمت منك ، ولا قوة إلاّ باللـه .
فقال الحسين (ع) : أي الأعمال أفضل ؟ .
فقال الأعرابي : الإيمان باللـه .
فقال الحسين (ع) : فما النجاة من الهلكة ؟ .
فقال الأعرابي : الثقة باللـه .
فقال الحسين (ع) : فما يزين الرجل ؟ .
فقال الأعرابي : علم معه حلم .
فقال (ع) : فإن أخطأه ذلك ؟ .
فقال : مالٌ معه مروءة .
قال : فإن أخطأه ذلك ؟ .
فقال : فقرٌ معه صبر .
فقال الحسين (ع) : فإن أخطأه ذلك ؟ .
فقال الأعرابي : فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه فإنه أهل لذلك .
فضحك الحسين (ع) وأعطاه صرّة فيها ألف دينار ، وأعطاه خاتمه ، وفيه فص قيمته مئتا درهم ، وقال : يا أعرابي ! أعط الذهب إلى غرمائك ، واصرف الخاتم في نفقتك .
فأخذ الأعرابي ذلك وقال : اللـه أعلم حيث يجعل رسالته [240] .
2- قال أنس بن مالك :
كنت عند الحسين (ع) ، فدخلْت عليه جارية فحيَّته بطاقة ريحان فقال لها : أنت حرة لوجه اللـه .
فقلت تحييك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها ؟!
قال : كذا أَدَّبنا اللـه ، قال :
« وإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِاَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ »
(النساء/86) وكان أحسن منها عتقها [241] .
3- وجاء إليه أعرابي - فأنشده مقطوعة شعرية بيَّن بها حاجته فقال :
لــــــــــم يَخِـــب الآنَ مَـــــن رَجـــــــــــــــــــاك ومَـــــــــــــــــــــــــن حـــــــــــــــــــرَّك مـــــــــــــــن دون بابــــــــــــــــــك الحلقــــــــــــه
أنـــــــــــــــــت جـــــــــــــــــــوادٌ ، و أنـــــــــــــــت معتـــــــــمــــــــــــــــدٌ أبـــــوك قـــــــد كـــــــــــــــان قاتــــــــــــــل الفسقــــــــــــــــــــــــه
لـــــــــــــــولا الـــــــــذي كـــــــــــان مـــــــــــن أوائــــــــــلكـــــــــــــــم كـــــــــــــانت علينـــــــــــــــــا الجحيــــــــــــــــم منطبقـــــــــــه
وكان الحسين يصلي آنذاك فلما فرغ من صلاته ، لف على طرف رداء له أربعة آلاف دينار ذهب ، وناوله قائلاً :
خــــــــــــذهــــــــــــــــــا فإِنـــــــي إليـــــــــــــك معتــــــــــــــــــــــــــــــــــذرٌ و اعلـــــــــــــــــــــمْ بأنــــــــــــي عليــــــــــــــــك ذو شفقــــــــــــه
لــــــــــو كـــــــــــــــان فــــــــي ســــرِّنــــــــا الغــــداة عصـــــــاً كـــــــانت سمـــــانـــــــا عـــــــــــــليـــــــك مــنــــدفـــــقـــــــــــــه
لكـــــــــــــــــــــنَّ ريــــــــــــــــــب الـــــــزمــــــــــــــان ذو غِيَـــــــــــــــــــرٍ و الكــــــــــــــــــــفُّ منــــــــــــــــــي قليلــــــــــــــةُ النــــفــقـــــــــــه
فأخــــذ الأعرابي يبكي شوقا ، ثم تصعدت من أعماقه آهات حارة ، وقال : كيف تبلى هذه الأيدي الكريمـة ؟.. [242] .
وهذه صفة تأتي كالفرع الذي سبقها من سجية الكرم ، فإن النفس إذا بلغت رفعتها المأمولة حنَّت على الآخرين حنان السحابة على الأرض والشمس على الكواكب .
1- وُجد على كاهله الشريف بعد وقعة الطف أثراً بليغاً كأنه من جرح عدة صوارم متقاربة ، وحيث عرف الشاهدون أنه ليس من أثر جرح عاديّ ، سألوا علي بن الحسين (ع) عن ذلك ؟ فقال : هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين [243] .
2- ويذكر بهذه المناسبة أيضاً أن مالاً وزّعه معاوية بين الزعماء والوجهاء ، فلما فصلت الحمالون تذاكر الجالسون بحضرة معاوية أمر هؤلاء المرسل إليهم الأموال حتى انتهى الحديث إلى الحسين (ع) .
فقال معاوية : وأما الحسين فيبدأ بأيتام مَن قُتل مع أبيه بصفيِّن ، فإن بقي شيء نحر به الجزر وسقى به اللبن [244] .
ومعاوية كان من ألدِّ أعداء الحسين (ع) ولكنه يضطر الآن إلى أن يعترف بكرمه وسخائه ، حيث لايجد دون ذلك مهرباً .
وإلى هذا المدى البعيد يبلغ الحسين (ع) في الكرم ، حتى لَيقف عدوّه الكذاب الذي لم يترك أحدا من الزعماء الأبرياء ، إلاّ وكاد له بتهمةٍ ، ووصمه بها وصمة .. حتى أن عليّاً سيد الصالحين ، والحسن الزكي الأمين ، فإن معاوية هذا يقف على منبرٍ يشيد بهما وبسجاياهما المباركة .
3- وقال (ع) يرغب الناس في الجود :
إذا جــــــــــــــــــــــــــادت الدنيــــــــــا عليـــــــــــــــــك فجُـــدْ بهـــــا علــــــــى الـنـــــــــــــاس طــــرّاً ، قبـــــل أن تتفلــــــــتِ
فــــمـــــــا الــــجــــــــــــــــــــود يــفــنـــــيــه إذا هـــــــــــي أقبلــــــــت و مـا البخــــــــل يبقيهـــــــــــــا إذا هــــــــــــــي ولـــــــــــتِ
وفعلاً كان الحسين (ع) العامل قبل أن يكون القائل ، وسأتلو عليكم هذه القصة .
4- دخــــل (ع) على أسامة بـن زيد وهو على فراش المرض يقول : واغمَّاه ، فقــــال : وما غمَّك يا أخــــي ؟ قال : دَيني وهو ستون ألف درهم . فقال : هو عَلَيّ قال : إني أخشى أن أموت قبل أن يُقضى ، قال : لن تموت حتى أقضيها عنك ، فقضاها قبل موته [245] .
الشجاع والبطل :
نعتقد نحن الشيعة أن الأئمة الأثنى عشر قد بلغوا القمة من كل كمال ، ولم يَدعو مجالاً للسمو إلاّ ولجوه فكانوا السابقين . بيد أن الظروف التي مرّوا بها كانت تختلف في إنجاز مؤهلاتهم بقدرها ، وطبقاً لهذه الفلسفة فإن كل واحد منهم اختص بصفة مميَّزة بين الآخرين . وإن ميزة الإمام الحسين (ع) هي الشجاعة والبطولة بين سائر الأئمة (ع) .
وكلما تصور الإنسان واقعة كربلاء ذات المشاهد الرهيبة ، التي امتزج فيها الدمع بالدم ، ويلتقي بها الصبر بالمروءة ، والمواساة بالفداء ، لاحت بسالة أبرز أبطالها الإمام الحسين (ع) ، في اروع وأبهى ما تكون بطولة في التاريخ . ولولا ما نعرفه في ذات الإمام من كفاءاته البطولية التي ورثها ساعداً عن ساعد، وفؤاداً عن فؤاد ، ولولا الوثائق التاريخية التي لايخالجها الشك ، ولولا ما نعتقده من أن القدوة الروحية لابد أن تكون آية الخلق ومعجزة الإله فلربما شككنا في كثير من الحقائق الثابتة التي يذهل دونها العقــــل ،
والفكر ، والضمير .