الزاهد العابد : - نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

كان الإمام الحسين (ع) يوم الطف ينزل إلى المعركة في كل مناسبة فيكشف أسراف الخيل ، لتفصح عن جثمان صحابي أو هاشمي يريد بلوغ مصرعه .

ولربما احتدم النزاع عنيداً شديداً بينه وبينهم وهو يحاول بلوغ مصرع من يريده . فكانت تعد كل محاولة له من هذا النوع هجمة فريدة ، ومع ذلك كان يكرر ذلك كل ساعة حتى قُتل أصحابه ، وأبناؤه ، وإخوانه جميعاً .

والمصيبة ذاتها كانت مما يُنيل من قوة الإنسان ، كما تفُلّ من عزيمته ، والعطش والجوع يضعفان المرء ، ويذهبان بكل طاقاته ، والحر سبب آخر يأخذ جهداً من المرء كثيراً .

ويجتمع كل ذلك في شخص الحسين (ع) يوم عاشوراء ، ومع ذلك فإنه يلبس درعاً منصفاً ، ذو واجهة أمامية فقط ، ويهجم على الجيش الضاري ، فإذا به كالصاعقة تنقض فيتساقط على جانبيه الأبطال كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف .

فيقول بعض من حضر المشهد : إنه ما رأيت أشجع منه ، إذ يكر على الجيش ، فيفر أمامه فرار المعزى عن الأسد ، وذلك في حين أنه لم يكن آنذاك أفصح منه إنساناً .

وحينما نرجع بالتاريخ إلى الوراء نجد من الإمام الحسين (ع) بطولات نادرة في الفتوحات الإسلامية . ثم في حروب الإمام ( علي عليه السلام ) . إلاّ أنها مهما بلغت من القوة والاصالة فإنها لاتبلغ شجاعته يوم عاشوراء ، تلك التي كانت آية رائعة في تاريخ الإنسانية بلا شك .

يقول العقاد : وليس في بني الإنسان من هو أشجع قلباً ممن أقدم على ما أقدم عليه الحسين في يوم عاشوراء [246] .

الزاهد العابد :

كان الحسين (ع) يحج كل سنة ، إلاّ إذا حالت دون ذلك الظروف . وكان يمشي على قدميه إذا حج ، وتقاد بجانبيه عشرات الإبل بغير راكب ، فيتفقد كل مسكين فقير ، صفرت يداه عن تهيئة راحلة للحج ، فيسوق إليه الراحلة من الإبل التي معه .

وكان يصلي كل ليلة ألف ركعة ، حتى سئل نجله الإمام زين العابدين (ع) : ما بال أبيك قليل الأولاد؟. فأجاب : إنه كان يصلي في كل ليلة ألف ركعة ، فمتى يحرث .

الصابر الحكيم :

1- الصبر هــــو استطاعة الـفــرد على ضبط أعصابه في أحــــرج موقــــف . ولا ريب أن الإمـام الحسيــــن (ع)

كان يوم عاشوراء في أحرج موقف وقفه إنسان أمام أعنف قوة ، وأقسى حالة .

ومع ذلك فقد صبر صبراً تعجَّبت ملائكة السماء من طول استقامته ، وقوة إرادته ، ومضاء عزيمته ..

2- جنــــى عليه غلام جنايـــة توجب العقاب ، فأمر به أن يُضرب ، فقال : يا مــــولاي !

« وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ »

(آل عمران/134)

قال : خَلُّوا عنه فقال : يا مولاي !

« وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ »

(آل عمران/134) قال : قد عفوت عنك قال : يا مولاي

« وَاللـه يُحِبُّ الْمُـحْسِنِينَ »

(آل عمران/134) قال : أنت حر لوجه اللـه ، ولك ضعف ما كنت أعطيك [247] .

الفصيح البديه :

لقد زخرت الكتب التاريخية بنوادره الرائعة من كلمات فصيحة يحسدها الدر في ألمع نضارته ، وآلق روعته . وقد جُمع ذلك في كتب برأسها ، إلاّ أني ذاكر لك الآن شيئاً قليلاً منها .

1- أبعد عثمانُ الصحابيَّ الكبيرَ أبا ذر ( رض ) ، فشيَّعه عليٌّ وابناه (ع) ، فقال الإمام الحسين بالمناسية :

يا عمَّاه ، إن اللـه قادر أن يغير ما قد ترى . واللـه كل يوم في شأن . وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك ، وما أغناك عمّا منعوك ، وأحوجهم إلى ما منعتهم . فاسأل اللـه الصبر والنصر ، واستعن به من الجشع والجزع ، فإن الصبر من الدِّين والكرم ، وإن الجشع لايقدم رزقاً ، والجزع لايؤخر أجلاً [248] .

2- جاء إليه أعرابي فقال : إني جئتك من الهرقل والجعلل والأنيم والمهمم . فتبسم الحسين (ع) وقال : يا أعرابي لقد تكلمت بكلام ما يعقله إلاّ العالمون .

فقال الأعرابي : وأقول أكثر من هذا ، فهل أنت مجيـبي على قدر كلامي ؟ فأذِن له الحسين (ع) في ذلك فأنشد يقول :

هفـــــــــــــــــــا قــــــــــــلــبــــــــــــــــي إلــــــــــــــــى اللــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــــو و قـــــــــــــــــــــــــــــد ودع شــــــــــــــــــــــــــــرخــــــــــــــــيـــــــــــــــــــــهِ

إلى تسعة أبيات على هذا الوزن .

فأجابه الحسين (ع) مثلها متشابهات منها :

فـــــــمــــــــــــــا رســــــــــــــــــم شيطـــــــــــــانـــــــــــــــــي قــــــــــــــــــــد تحــــــــــــــــــــــــــــت آيـــــــــــــــــــــــــــــــــات رســـــــــــــمـــــــــــَـــيـــــــــــهِ

سفــــــــــــــــــــــور درّجـــــــــــــــــــــــــــــــــت ذيـــــــــــــــــلــــــــــيــــــــــــــــن فــــــــــــــــــــــــــــــي بـــــــــــــــــوغــــــــــــــــــــــــــــــــــاء فـــــــــــــــــــــاعـــيــــــهِ

هتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوف حـــــــــــــــــــــرجفٌ تــــتـــــــــــــــــــــــرى عـــــــــــــلــــــــــــــــــــى تـــــــــــــلـــــــــــبــــــــــــيد تــــــــــــــــــــوـبـــــــــــــيـــــــــــــهِ

ثم أخذ يفسر ما غمض من كلامه فقال :

امــــــا هرقــــل : فهو ملك الروم ، والجعلل : فهو قصار النخـــل ، والأنيم : بعــــوض النبــــــات ، والمهمــــــم :

القليب الغزير الماء .

وهذه كانت أوصاف الأرض التي جاء منها .

فقال الأعرابي : ما رأيت كاليوم أحسن من هذا الغلام كلاماً ، وأذرب لساناً ، ولا أفصح منه منطقاً [249] .

ومن روائعه المأثور قوله : شر خصال الملوك الجبن عن الأعداء ، والقسوة على الضعفاء ، والبخل عن الإعطاء [250] .

ومن حكمه البديعة : لا تَتكلف مالا تطيق ، ولا تَتعرض لما لا تُدرك ، ولا تعتدَّ بما لا تقدر عليه ، ولا تنفق إلا بقدر ما تستفيد ، ولا تطلب من الجزاء إلا بقدر ما صنعت ، ولا تفرح إلاّ بما نلت من طاعة اللـه ، ولا تتناول إلاّ ما رأيت نفسك له أهلاً [251] .

ومـــــن بديع كلامه لما سئل : ما الفضل ؟ قال : ملك اللسان ، وبذل الإحسان . قيل : فما النقــــص ؟ قال : التكلف لما لايعنيك .

الفصل الرابع : نهضتـــه

علــى الطريــق :

أولاً :

لم تكن الخلافة في المفهوم الإسلامي حقّاً يورث . ولكنَّ السلطة التي استبدت بالحكم في عصر عثمان أرادت أن تجعلها كذلك . ففي المحفل الحاشد الذي ضم كثيراً من المسلمين بينهم عثمان والإمام علي (ع) ، جاء أبو سفيان شيخ بني أمية والوجيه لديهم ، وهم الحزب الحاكم على الأوساط السياسية في البلاد الإسلامية - ذلك اليوم - جاء يتفقد طريقه بِعَصاً يحملها وقد كُف بصره .

وكان آنذاك قد شعر بانتهاء دوره في الحياة واقتراب منيَّته ، فسأل أحد الجالسين هل في الحفل مَن يُخشى منه من غير بني أمية .

قال له رجل : ليس ههنا رجل غريب .

فقال : تَلَقَّفوها - أي السلطة - تَلَقُّفَ الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان لا جنَّة ولا نار !.

فأصاخ إليه كل سمع كان في بني أمية ، ووعى نصيحته بكل التفات ، ولم يعترض عليه يومئذ سوى أمير المؤمنين علي (ع) ، إذ وبَّخه على إعلانه الكفر ، وأنَّبه فاعتذر قائلاً : لقد كنت مغروراً بهذا الرجل الذي نفى وجودَ أيِّ غريب في المجلس ، وإلاّ لم يكن من الحزم أن أصارح مثلك بهذا .

وانتهى الحفل ، وتفرق الجمع ، إلاّ أنه كان ذا تأثير كبير في تسيير الأوضاع السياسية لمستقبل المسلمين .

أجل قد أفصح قول أبي سفيان عن خطة له مدروسة ساعده على تنفيذها الحزب الأموي :

أولاً :

ومَن ابتغــــى السلطة ، بل ومن ابتغى تقويض الأسس الإسلامية لأضغان قديمة ، وأحقاد متراكمــة .

ثانياً :

تلك هي رغبة السيطرة على الحكم ، ثم يَسهل عليهم كلّ ما يشاؤون .

وأبو سفيان - وهم معه - كانوا يستسهلون كل صعب ، ويستحسنون كل قبيح في سبيل ذلك ، ماداموا لايعتقدون بجنة أو نار ، ولا يؤمنون بنبي أو وصي ، ولا يبالون لأي مقدَّس يُدحض ، وأي شرف يُدنس ، وأية سمعة تُساء ، فإن أمامهم غاية يبررون في سبيل الوصول إليها كل واسطة ، بل يعتبرون كل واسطة تؤدي إليها أمراً مقدَّساً ومحرماً . تماماً كالفكرة الجاهلية التي تمكنت من أدمغتهم البالية .

وحينما نجري مع الأحداث التي مرت بالعالم الإسلامي من أواخر عهد عثمان حتى قيام الدولة العباسية نجد أوفق التفاسير لها هذا الذي قدمناه لك الآن من كلام أبي سفيان ، واعتقاده ومن تابعه .

فالحروب التي رافقت عصر الإمام علي (ع) ، والحرمات التي هُتكت في عصر معاوية ، والغارات التي شُنت في عهد يزيد ، والمعارك التي شبت وأضرمت في عهد سائر الخلفاء الأمويين ... كانت جميعاً جارية على هذا المبدأ ، ومنفِّذة لهذه الخطة المدروسة .

فالحزب الأموي لم يفكر إلاّ في ابتزاز الأموال ، وتشكيل السلطان ، واستعباد الخلق بكل وسيلة . ومن أراد تفكيك الأحداث السياسية في هذه الحقبة الطويلة عن هذه الحقيقة الصريحة فقد أراد تفكيك المعلول عن علته ، والمسبب عن سببه .

الحق الموروث :

وهكذا فإن الحزب الأموي شاء أن يجعل الخلافة حقّاً شخصيّاً وموروثاً منذ استبد بالحكم في عهد عثمان . إلاّ أن المسلمين أدركوا ذلك بوعيهم . وبتنبُّه كبار صحابة رسول اللـه (ص) ، أمثال أبي ذر الغفاري ، وعمرو بن الحمق الخزاعي فأشعلوها ثورة أطاحت بآمال بني أمية ، ونسفت أحلامهم وما بنوا عليها من صروح خيالية .

بيد أنهم دبروا الأمر بشكل آخر كما يعرفه الجميع ، حيث طالبوا بدم عثمان . وهذه أول آية تدل على أنهم اعتبروا أنفسهم وارثين الخلافة بعد عثمان . وإلاّ فما كان يمكنهم أن يطالبوا بذلك بعد أن يضموا صوتهم إلى سائر أصوات المسلمين ، ويبايعوا عليّاً (ع) ، لا بل إنهم يريدونها كسروية وقيصرية يرثها الحفيد ، وتُبرم باسم الوليد وهو رضيع .

فما أغنى معاوية عن هذا الذي لج فيه وتهالك عليه .

لقـد رفع في الشام قميص عثمان حيث حشد تحته خمسين ألف مقاتل خاضبي لحاهم بدموع أعينهم ، ورافعيه على أطراف الرماح ، قد عاهدوا اللـه ألا يُغمدوا سيوفهم حتى يقتلوا قتلة عثمان ، أو تلحق أرواحهم بالله .

هل كان نهج معاوية هو النهج الصحيح الأمثل لإنزال القصاص بأولئك القتلة ؟

أكــان طريق القصاص أن يمتنع من البيعة للخليفة الجديد الذي اختاره المهاجرون والأنصار في المدينة ، ثم دخل المسلمون في بيعته أفواجاً من كل الأمصار والأقطار .

أكان طريق الثأر لعثمان ان يمتنع معاوية عن البيعة ويتمرد على الدولة في تلك الظروف المزلزلة التي لا تتطلب شيئاً كما تتطلب رأب الصدع وجمع الكلمة .

أكــانت آية ولائه وحبه لعثمان أن يجعــل من قميصـــه المضمــخ بدمـــه رايــةً يبعث تحتهـــــــــــا كل غرائــــــــــز

الجاهلية ، ويدير تحتها أتعس حرب أهلية تزلزل الإسلام وتفني المسلمين [252] .

لم يكن الهدف الثأر لعثمان . وإلاّ فما حداه إلى أن يكتب إلى كلٍّ من طلحة والزبير يدعو كلاًّ منهما بإمرة المؤمنين ، ويدَّعي انهما أحق بها من علي (ع) وأنه من ورائهما ظهير ، قد اتخذ لهما البيعة من أهل الشام سلفاً .

وإنما كان هدفه أن يثير استفزازاً في العالم الإسلامي المتوتر ، ويخرج من وراء ذلك بما يريد من الظفر بالسلطة المأمولة ، والحزب الأموي من وراء القصد .

ولنترك هذا المشهد إلى مشهد آخر . فحينما نجحت مؤامرة معاوية وساعدته الأقدار على ابتزاز السلطة من يد أهلها ، وهيأت له كل أهدافه وحققت له جميع شهواته ، فما الذي حداه إذاً إلى استخلاف يزيد هذا السكِّير المقامر من بعده .

لا نستطيع تفسيراً لذلك إلاّ ما قد سبق من أن القضية كانت أعمق مما نخاله . فإنها ليست قضية استخلاف والد ولده فقط، بل هي تحويل الخلافة إلى مُلك أموي عضوض . صرح به مروان بن الحكم في عهد عثمان إذ قال للناس المحتشدين حول البلاط يطالبون بحقوقهم الشرعية : ما تريدون من مُلكنـا .

إذاً هو مُلك لكم تريدون الإبقاء عليه بما أُوتيتم من قوة وسلطان .. وراحت الأحداث تباعاً كلها تؤكد هذا التفسير حتى جاء أحد الموالين لبني أمية فصعد المنبر في حشد يضم زعماء المسلمين ذلك اليوم ، ومعاوية متصدر وإلى جنبه يزيد .

فنظر إلى معاوية ، ثم إلى يزيد ثم هز سيفه قائلاً :

أمير المؤمنين هذا ( معاوية ) .

فإن مات فهذا ( يزيد ) .

وإلاّ .. فهذا .. وهز السيف !!! فتقبل الناس خوفاً من آخر الثلاثة .

ومات معاوية ، وكتب يزيد إلى الولاة بأخذ البيعة له . وجاء كتابه إلى المدينة . وطلب حاكم المدينة من الحسين (ع) البيعة ليزيد ، فأبى . وكان من الطبيعي أن يأبى .

ثم حشد الحسين (ع) أهله ، وأصحابه ، وسار إلى مكة لإعلان ثورته ، لا على يزيد فقط بل على الحزب الأموي ، وعلى التوتر الذي يسود العالم الإسلامي أيضاً . ولا شك أنه سوف يربح القضية .

وبقي (ع) في مكة المكرمة أياماً ، يعرف الناس مكانته السامية من الرسول (ص) وسابقته الناصعة للرسالة ، وقدمه الأصيل في قضايا المسلمين .

وارسل يزيد إلى اغتياله مئة مسلح .. فعرف الحسين (ع) ذلك ، فتنكَّب الطريق ، وقصد الخروج إلى الكوفة .

لماذا ؟ لأسباب نوجزها فيما يلي :

1- لأنه إما أن يعلن الحرب على بني أمية وأنصارهم في مكة ، وهو لا يريد ذلك لأنه يخالف قداسة البيت وحرمته أولاً ، ولأنه إن ربحها لم يفد شيئاً ، لأن من ورائه دولة مسلحة منتشرة قواها في كل مكان، في حين أن مكة تكفيها سرية تتجه من المدينة ، حيث لاتزال حكومة الأمويين متمكنة هناك . فتطحنها طحناً ، بينما الكوفة هي الآن أعظم قوة إسلامية على الإطلاق .

أضف إلى ذلك أن هناك من أُجراء بني أمية كثيرون يلفقون عليه من الروايات ماهو بريء منها ، كما فعلوا بالنسبة إلى أمير المؤمنين علي (ع) .

والحسين (ع) لا يهمه شيء كما يهمه معرفة الناس أنه على حق ، وأن مناوئيه على باطل ، حتى يُتبع نهج الحق الذي يمثله ، ويترك نهج الباطل الذي يمثلونه .

ولو أعلنها حرباً عليهم لكانت النتيجة أن يقتل بسيف هؤلاء الوافدين من قبل السلطة وتحت ألبستهم أسلحة الإجرام .

2- وفي مكة ابن الزبير وهو يزعم بأنه أحق بالأمر من الحسين (ع) ولا يهمه أن يتحد مع يزيد الذي يدعي الآن أنه من مناوئيه في سبيل القضاء على الحسين ، كما صنع ذلك أبوه في معركة البصرة ، حيث اصطف بجانب مناوئي علي (ع) ليحظى بالخلافة دون الإمام .

3- والإمام الحسين (ع) لم يكن يريد أن يشتغل به ، وهناك القضية الكبرى حيث تحولت الخلافة في الشام إلى مُلك عضوض . وهذا انحراف يُجري الخلافة من حقٍّ إلى باطل ، والأولى أشد وأمر من الثانية قطعاً .

4- إن مجرد سفره إلى العراق في حين يتقاطر الناس إلى مكة من كل حدب وصوب - يوم الثامن من ذي الحجة الحرام - إعلان كافٍ لهم عن هدفه ، بل هو وحده كافٍ لتنبيه أهل الأمصار والأقطار النائية بما يحدث في العاصمة من حقيقة أمر الخلافة .

ثم سار بموكبه الحافل يقصد الكوفة ، وقد أعلنت متابعة الإمام (ع) وأعطت البيعة له ، وتواعدت على الحرب معه ، كما كانت تحارب مع أبيه أهل الشام .

ومسلم بن عقيل ابن عمه والٍ عليهم ، نافذ الكلمة ، مطاعٌ أمين .

ثم اختلفت الرياح السود على الأوساط ، وكما يبين الإمام (ع) نفسُه ، خذلته شيعته وأنصاره ، ونقضوا بيعته ، وتلاشت قواه تحت ترهيب قوة الشام وترغيبها .

وهناك سبب آخر غيّر مجرى التاريخ ، وهو التزام أنصار الحسين بالحق حتى في أشد الظروف وأعتاها. فهذا في جانب ، وفي جانب آخر عدم ارتداع أهل الشام عن أي جريمة ، وأي اغتيال وخدعة .

وهنا أنقل لكم قصتين فقط : ثم آتي بنظرتين لهما ، حتى نعرف بالمجموع اختلاف السير والإتجاه بين الحسين (ع) وبين يزيد وأنصارهما .

كان مسلم بن عقيل الحاكم على الكوفة مطلق اليد . وكان عبيد اللـه بن زياد قد جاء إليها ليرجعها لبني أميـة ، ويرضي رجل من زعماء الشيعة يدعى هاني بن عروة . فعاده ابن زياد عله يستطيـع أن يربحـــه .

وكان مسلم حاضراً فأمره هاني أن يختفي في مخدع ، فإذا جاء ابن زياد ، والي يزيد وزعيم المعارضة الأموية في الكوفة ، ضرب عنقه وتخلص من شره وشر يزيد من بعده .

وجاء ابن زياد ، وانتظر هاني خروج مسلم ساعة بعد ساعة تستطيل دقائقها ان لا يفوته الوقت .

ومع ذلك فلم يوافِهِ مسلم على الوعد ، فأخذ ينشد أشعاراً يحرضه بتلميح على قتل ابن زياد ، فأحس ابن زياد بالسر وخرج هارباً .

فلما جاء مسلم ، وبَّخه هاني على استمهاله فقال :

قال رسول اللـه (ص) : المسلم لايغدر .

فقول رسول اللـه هو الميزان ، وهو المقياس الأول والأخير للحركة في منطق أنصار الحسين (ع) ، لأنهم لايهدفون إلى غاية سوى بلوغ مرضاة اللـه تعالى ، ولن تُبلغ مرضاته بمعصيته ، ولا يطاع اللـه من حيث يعصى .

وانقلبت الأمور .. وقتل مسلم .. وجيء بخبر شهادته إلى الحسين (ع) وهو في طريقه إلى الكوفة ، في منزل يدعى بـ زبالة .

وهو إذ ذاك أحوج ما يكون إلى أنصار يؤيِّدونه وينصرونه ، لأن أمامه الكوفة المخلوعة المغلوبة على أمرها ، ووراءه مكة المحتشدة فيها قوى مناوئيه من أنصار بني أمية وغيرهم .

ومعه الآن زهاء ألف من الأنصار ، أشد ما يكون احتياجاً إلى الإبقاء عليهم بكل وسيلة .

لكنه أبى إلاّ أن يصارحهم بالموضوع ، ويبين لهم سقوط حكومته في الكوفة ، وحرج موقفه ، ويجيز لهم التخلي عنه إن شاؤوا .

استمعوا إلى خطبته حينما سمع بسقوط الكوفة في أيدي بني أمية :

أيهــــا الناس : إنما جمعتكم على أن العراق لي ، وقد أتاني خبر فظيع عن ابن عمي مسلم يدل على أن شيعتنــا قد خذلتنا . فمن منكم يصبر على حر السيوف ، وطعن الأسنة فليأت معنا ، وإلاّ فلينصرف عنّا [253] .

إنه لا يبتغي من وراء نهضته سوى اللـه . وإذاً فليعمل كما يريد اللـه صريحاً واضحاً فلا يخدع ولا يمكر .

وهنا ندع التاريخ يقص علينا عن أنصار يزيد قصتين أيضاً :

1- طلب ابنُ زياد الزعيمَ الشيعيَّ الآنف الذكر - هاني بن عروة - ليتفاوض معه في بعض الشؤون . واغتر الرجل وذهب إلى قصر الإمارة ، فلما دخله أخذوه وعذبوه ثم قتلوه ، في حين أنهم أعطوه الأيمان والمواثيق قبل قدومه القصر بأنه لا يمسُّه سوء منهم .

2- وحشدت شيعة علي (ع) أمرها وجاءت تحاصر قصر الإمارة تريد إنقاذ هانيءٍ الذي خدعوه ومكروا به ، ولم يكن - إذ ذاك - على قيد الحياة .

فإذا بأنصار بني أمية من فوق القصر ، يطمئنون الناس ويهدئونهم بحياة هانيء ، وأنه سوف يخرج إليهم بعد إجراء بعض المفاوضات .

ثم راحوا يهددونهم بجيش الشام ، وأنه قد اقترب من حدود الكوفة مالهم به قبل أبداً ، ورغَّبوهم بالأموال الطائلة التي سوف تهطل عليهم من الخزينة .. فإذا بالناس يتفرقون قليلاً قليلاً حتى سقطت الكوفة في ايدي هؤلاء .. وأول ما صنعوه قتل مسلم بعد ما قتلوا هانيء بن عروة غدراً ومكراً .

إن المستفاد من تاريخ النهضة الحسينية أن سبب سقوطها إنما كان هذه القصة بالذات ، التي استقامت على وعود فارغة ، وتهديد ماكر .

ثم حشد ابن زياد بعد استيلائه التام على الكوفة جيشاً باسم محاربة الترك والديلم ، فلما اقتربت قافلة الإمام (ع) من الكوفة وجَّهه إليه ليقيِّده إليه أو إلى الموت . وأول سرية لقيت الحسين (ع) من الجيش ، كانت مكونة من ألف مقاتل ، وعلى رأسها الحر بن يزيد الرياحي . الذي طلب من الإمام (ع) اما البيعة وإما قدوم الكوفة أسيراً .. فأبى الإمام (ع) وأخذ طريقاً وسطاً بين طريق الكوفة والمدينة . وأرسل الحر كتابـاً إلى ابن زياد . فأجابه بلزوم محاربته ، وحشد إلى الإمام جيوشاً بلغ عددها أكثر من ثلاثين ألف رجل ، فالتقوا على صعيد كربلاء التي تبعد عن بغداد اليوم مئةً وخمسة كيلو مترات وعن الكوفة خمسة وسبعين كيلو متراً .

وكان ذلك اليوم عصر التاسع من شهر محرم الحرام ، حيث جاءت رسالة ابن زياد إلى عمر بن سعد قائد جيش بني أمية يأمره بالحرب بعد منع الماء عن حرم الرسول (ص) .

واستمهلهــم الإمام الحسين (ع) سواد الليل ، حتى إذا أفصحت ليلة العاشر من المحرم عن صبح كئيب ، زحف الجيش على مخيم أبي عبد اللـه (ع) وقاوم أنصاره - وهم اثنان وسبعون بطلاً من أشجع أبطال العالم الإسلامي - وصُرعوا واحداً بعد الآخر بعد ما أبلوا بلاءً حسناً .

وقُتل أيضاً إخوة الإمام (ع) وعلى رأسهم بطل العلقمي أبو الفضل العباس (ع) واستشهد أبناؤه ، حتى الرضيع في حضن والده ، ولم يبق إلاّ الإمام (ع) فزحف إلى القوم وجاهد جهاداً عظيماً ، وقتل من أهل الكوفة عدداً هائلاً ، ولم تمض إلاّ ساعات حتى أصابه القدر سهمه الغدّار على يد حرملة الكاهلي لعنه اللـه ، وأصابه الكفر برمحه على يد سنان بن أنس لعنه اللـه وبسيفه على يد شمر بن ذي الجوشن لعنه اللـه وأعـــد له جحيمـــاً وعذاباً أليماً ، فصــرع شهيداً رشيداً ظامئاً مظلومــاً ، فعليه وعلــى أنصاره ألـــف تحيــــة

وسلام .

ولما وقعت الواقعة الرهيبة ، وانتهت بمصرع السبط وأصحابه الأطهار على أرض كربلاء بأبشع إجرام عرفه التاريخ ، دوّى صداها في العالم الإسلامي ، وزلزل عرش بني أمية زلزالاً .

ولم تمض مدة طويلة حتى اندلعت ثورات في كل مكان واستمرت حلقات متصلة ، حتى انتهت بسقوط الدولة الأموية .

وإن كان الأمر لم ينته بسقوط بني أمية تماماً ، حيث انحرفت القيادة الإسلامية أيضاً عن مجراها الصحيح ، إلاّ أن ثورة أبي عبد اللـه (ع) ونهضته الجبارة كوَّنت جبهة قوية متماسكة تقف دون أي انحراف يريده المجرمون للحق ومفاهيمه .

والواقع أننا إذا تابعنا أحداث التاريخ بدقة ، نرى أن كل دعوة صادعة ثارت على الطغيان في قرون متطاولة ، إنما كانت نابعة عن حركة الإمام الحسين (ع) .

وهكذا نستطيع أن نقول : إن نهضة الحسين (ع) ظلت قاعدة أصيلة للحركات الإصلاحية في التاريخ الإسلامي على طول الخط ، وستظل هكذا إلى الأبد .

الامــام السجــاد ( عليه السلام )

قدوة وأسوة

تمهيــد

وأنا أقرأ حياة الإمام السجاد (ع) ، حاولت أن أرسم في ذهني صورة متكاملة عن شخصيته وما كدت أنتهي من ذلك حتى تذكرت آيات الذِّكر التي ترسم صورة عباد اللـه الصالحين .

عندما نتدبر في تلك الآيات ، يوسوس الشيطان في أنفسنا . هل إنها تحدِّثنا عن بشر أمثالنا أم عن ملائكة خُلقوا من نور قدرة اللـه ؟. أم أنها روائع أدبية ؟. حاشا لله تعالى أن تكون في كلمات اللـه ذرة من المبالغة . أوليست المبالغة كذباً ؟. والكذب من الباطل الذي لا يأتي كتاب اللـه الكريم . ونحن نعرف الحقيقة تماماً حينما نتلو قصص الأنبياء والأئمة وندرك أن تمثيل تلك الصورة المشرقة التي تعكسها الآيات عن حياة عباد اللـه الأبرار أنه حقيقة واقعة ، ونَفهم أننا مدعوُّون لاتِّباعهم فيها ..

وبهذا بالذات تكمن حكمة الولاية حيث أمرنا اللـه أن نبتغي الوسيلة إليه سبحانه عبر ولاية أوليائه . وأن نطلب منه الهدى كما هدى الذين أنعم عليهم ، وأن نركع مع الراكعين . ونكون مع الصادقين ، ونرجو الإلتحاق بركب الصالحين .

إن ولاية أولياء اللـه تجعلنا نتلمس سيرة حياتهم النيِّرة ، وحين نتعرف عن كثب عليهم نتحصن ضد وساوس الشيطان الذي يوحي إلى أوليائه أن تمثيل صفات القرآن هذه مستحيل ، أو أنها إنما ذُكرت تشجيعاً ، أو هي روائع أدبية بليغة .

إن هذا الوسواس أعظم مكائد الشيطان في إغواء البشر عن معارج الكمال الإلهي .. ولا يقضي عليه شيء مثل دراسة حياة الأنبياء والأئمة والصدِّيقين باعتبارهم بشراً أمثالنا أنعم اللـه تعالى عليهم ورفعهم إليه مقاماً محموداً .

ومنذ ثلاث وعشرين عاماً أنعم اللـه عليّ بالتأليف عن حياة الأئمة الهداة ، عبر مناسبات نادرة . لذلك لم أُوفق لإكمال سلسلة قدوة وأسوة .. حول النبي وأهل بيته الكرام صلوات اللـه عليهم أجمعين .

واليوم حيث وفقني اللـه سبحانه لكتابة تدبُّراتي في القرآن ، والتي سميتها ( من هدى القرآن ) أعود إلى هذه السلسلة عسى اللـه تعالى أن يوفقني هذه المرة لإتمامها . ولكن كنت أتساءل : ماذا أسمِّي هذه السلسلة التي بقي منها أربعة أجزاء من أصل أربعة عشــــر جــــــزءاً . وأخيراً وقعت على اسم مناسب وهــــو : ( النبي وأهل بيته قدوة واسوة ) . وحيث إن القرآن هدى للمتقين ، وحياة الأئمة تمثيل للقرآن فقد جاء الاسم مناسباً لذلك ، كما أنه تناغم مع اسم كتابي ( من هدى القرآن ) ولكن ازدادت حيرتي عندما وقفت على شاطئ بحر زخار ماذا اغترف منه وأقدمه للأخوة القرَّاء ، وقد كتبت من المذكرات حول حياة الإمام (ع) ما تكفي لكتابة مجلد كبير . بيد أني حكمت على نفسي بالكتابة المختصرة ، وهنا يكمن سبب حيرتي ماذا أختار من حياته التي لا يتسع قلم مثلي لاستيعابها .

وهكذا أستميحكم عذراً لو وجدتم قصوراً أو تقصيراً واسعَين في الحديث عن حياته الكريمة ، واعتبروا هذه الدفاتر مدخلاً إلى الكتب المفصلة عن حياته .

وأسأل اللـه تعالى أن يوفقني لذلك ، وأن يحفظ عملي من شوائب الرياء والسمعة والأشر والبطر ، ويتقبله ويحصنه من الإحباط بالعُجب والذنب ، إنه ولي التوفيق .

الفصل الأول

تتملَّكنا الدهشة عندما نستمع إلى الوحي يأمرنا بالولاية ، ونتساءل : ما هذا التأكيد المتواصل ، وما هذه التعابير البالغة أمراً وتحريضاً وترغيباً ؟.

يقول اللـه سبحانه :

«

أَطِيعُوا اللـه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ »

(النساء/59)

.

وتتكرر أوامر القرآن بالطاعة لأولي الأمر الشرعيين والتسليم لأمرهم ، والنهي عن طاعة الطغاة والجبابرة وضرورة الكفر بهم أكثر من مئة مرة ، بصيغ مختلفة ، وضمن سياقات شتى ، كلها تهدف إلى ترويض النفس البشرية على الطاعة والانضباط ..

ويقول سبحانه وتعالى :

« فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً »

(النساء/65)

وتتواصل آيات الذكر لتؤكد على الرجوع إلى اللـه ورسوله عشرات المرات وبتعابير شتى :

« أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ اُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً »

(النساء/60) .

وهكذا العديد من الآيات تنهى وبشدة بالغة من التحاكم إلى الطاغوت وتأمر باجتنابه .

ويقول ربُّنا سبحانه وهو ينهي مئات المرات عن الشرك ويعتبره ظلماً عظيماً لايغفره اللـه تعالى أبداً ، يقول :

« وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ »

(الزمر/65) .

فما هو الشرك ؟ أليس هو عبادة الأصنام ؟ أليس أتخاذ الأرباب من دون اللـه شركاً ، كما اتخذ اليهود والنصارى الأحبار والرهبان أرباباً ؟..

وهكذا نجد أن الولاية الإلهية محور آيات الذكر وروح توحيد اللـه تعالى ، والسبيل إلى رضوانه ، والطريق إلى جنَّاته .

فلماذا كل ذلك ؟. إن شرح حكمة ذلك يقتضي كتباً مفصلة . ولكننا نختصرها في كلمات نرجو أن يسعفنا فيها تدبُّر القارئ الكريم ، وآفاق ثقافته الإسلامية .

أولاً :

أمام الإنسان سبيلان : سبيل اللـه الذي يهديه إلى الجنة والرضوان ، وسبيل الشيطان الذي يحمله إلى سواء الجحيم . ويتَّجه كل سبيل إلى جهة ، ولكل جهة إمام ، ولكل إمام صفات وأسماء ، ولكل أمة تابعة صبغةٌ وشرعةٌ ومنهاجٌ !

والصراع الأبدي الذي لا هدنة فيه ولا مداهنة ولا حلول وسط ، أنه الصراع بين سبيل اللـه وسُبُل الشيطان .

وقد قال سبحانه :

« يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُم مِنَ اللـه نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللـه مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ »

(المائدة/15-16) .

وولاية اللـه سبحانه ، وتولي أوليائه ، واتِّباع الإمام المختار من عنده ، والإنخراط في حزب الصالحين ، كلُّها بلا ريب الولاية الإلهية . فكيف لا تتواصى بها رسالات اللـه ورُسله وأوصياؤهم .

ثانياً :

حكمة وجود الإنسان فوق هذا الكوكب ابتلاؤه ليَعلم هل يَصدق أم هو من الكاذبين ؟. هل يُخلص أم يكون من المنافقين ؟. ولا يُبتلى البشر بشيء كما يبتلى باتِّباع القيادة الإلهية ورفض جبابرة المال وطغاة السلطة ، أو تدري لماذا ؟

إن في ضمير الإنسان كبراً لابد أن يتغلب عليه حتى يصبح من أهل الجنة . وإن لم يتخلص منه باجتهاده وجهاده في الدنيا ، فإنه سوف يخلص منه بنار الجحيم في الآخرة ، لأنه لايدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر . ومحتوى الكبر النزعة السخيفة نحو ادِّعاء الربوبية . ولو تسنى لأي إنسان ما تسنى لفرعون لما امتنع عما قاله :

« أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى »

(النازعات/24)

.

وإنما يتطهر القلب عن الكبر إذا أُمر بطاعة مَن ليس بأكثر منه مالاً وولداً . إطاعته بسبب أمر اللـه . وهكذا كانت الفتنة الكبرى للناس عند ابتعاث الرسل ، إذ كيف يطيعون بشراً من أمثالهم ؟. وقد حكى اللـه تعالى عنهم بقوله :

« أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ »

(القمر/24) .

ويتساءل البسطاء : لماذا امتحن اللـه تعالى خلقه بطاعة الأنبياء وطاعة أوصيائهم ، وقد اختارهم من أوساط الناس ؟. ويمضي المتسائل قائلاً : أولم يكن من الأفضل أن يزوِّدهم اللـه سبحانه بقوى خارقة وبأموال وبنين حتى تسهل طاعة الناس لهم ؟

كلا .. لأنه عندئذ كانت تبطل حكمة الإبتلاء ، ولم تكن تصبح طاعتهم تطهيراً للنفوس من الكبر ، وبالتالي لم يكن المطيعون لهم يزكَّون بذلك إعداداً لدخول الجنة التي هي مأوى عباد اللـه الخالصين من دنس الشِّرك والكبر .

وهكذا يبين هذه الحكمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) إذ يقول : ولو أراد اللـه أنْ يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه ، ويبهر العقول رداؤه ، وطيبٍ يأخذ الأنفاس عَرفُه لَفعل . ولو فعل لَظلت له الأعناق خاضعة ، ولخفَّت البلوى فيه على الملائكة ، ولكن اللـه سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله ، تمييزاً بالاختبار لهم ، ونفياً للإستكبار عنهم ، وإبعاداً للخيلاء منهم [254] .

ويضيف الإمام (ع) في ذات السياق قائلاً :

ولو أراد اللـه سبحانه لأنبيائه - حيث بعثهم - أن يفتح لهم كنوز الذُّهبان ومعادن الْعُقيان ، ومغارس الجنان ، وأنْ يحشر معهم طيور السماء ، ووحوش الارض لَفعل . ولو فعل لَسقط البلاء ، وبطل الجزاء ، واضمحلت الأنباء ، ولَما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء معانيها . ولكن اللـه سبحانه جعل رُسله أولي قوة في عزائمهم ، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنىً ، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً [255] .

وبعد بيان مفصل حول حكمة الاختبار في فصل زخارف الدنيا عن أولياء اللـه يقول سلام اللـه عليه :

ولكن اللـه يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبَّدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجاً للتكبر من قلوبهم ، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم .

فاللـه اللـه في عاجل البغي ، وآجل وخامة الظلم ، وسوء عاقبة الكبر ، فإنها مصيبة إبليس العظمى ، ومكيدته الكبرى ، التي شاور وقلوب الرجال مشاورة السموم القاتلة [256] .

وهكذا حرَّض الوحي على التسليم للأنبياء وأولي الأمر من خاصتهم ، وجعل فيه ثواباً عظيماً . وجاء في حديث مأثور عن النبيِّ (ص) ، أنه قال :

إنّ أوثق عُرى الإيمان : الحب في اللـه ، والبغض في اللـه ، وتولّي أولياء اللـه ، وتعادي عدوَّ اللـه [257].

وروي عن الإمام زين العابدين (ع) قوله :

مَن أَحبنا لا لِدُنيا يصيبها منّا ، وعادى عدوَّنا لا لشحناء كانت بينه وبينه ، أتى اللـه يوم القيامة مع محمد وإبراهيم وعليّ [258] .

وكما يتحدى الإنسان بالولاية نزعة الكبر وادِّعاء الربوبية في ذاته ، يتحدى بها نزعة الطمع وشهوات الدنيا ، لأن من يطيع أولياء اللـه يحاربه طغاة الأرض والمترفون في الدنيا بشتى وسائل الحرب ، بالدعاية المضادة وبالتضييق الإقتصادي ، وبالأذى الجسدي ، وحتى بالتشريد والقتل .

ولأن الولاية كانت امتحاناً عظيماً للإنسان ، جُعلت شرطاً بقبول الأعمال ، حيث إن هدف سائر الطاعات تذليل النفس البشرية المتفرعنة والمتجبرة . وتذليلها لطاعة ربها ، وتطهيرها من عبودية اللـه عن دنس الكبر والشرك والشك . وهذا الهدف يبلغ قمته بالولاية ، حيث يخضع البشر لبشر مثله لا يتميز عنه بجـــــاهٍ عريض ، ولا بثروة واسعة وإنما يأمره اللـه تعالى بذلك ، وهـذا ما تأباه النفس أشد الإبـــــاء . وقــــد

سأل بعضُهم أن يَنزل عذابُ اللـه الواقع لكي لا يؤمن بالولاية .

وها نحن نقرأ معاً أحاديث في فضل الولاية ، لنعرف مدى فضلها وكيف أنها قطب الرحى في تعاليم الوحي .

جاء في حديثٍ مفصلٍ عن أمير المؤمنين (ع) في إجابته لأسئلة زنديق :

إن الإيمان قد يكون على وجهين : إيمان بالقلب ، وإيمان باللسان كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول اللـه (ص) لمَّا قهرهم السيف وشملهم الخوف ، فإنهم آمنوا بألسنتهم ، ولم تؤمن قلوبهم ، فالايمان بالقلب هو التسليم للرب ، ومن سلَّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره - كما استكبر إبليس عن السجود لآدم ، واستكبر أكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم ، فلم ينفعهم التوحيد ، كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل ، فإنه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام ، لم يرد بها غير زخرف الدنيا ، والتمكين من النظرة ، فلذلك لا تنفع الصلاة والصدقة إلاّ مع الاهتداء إلى سبيل النجاة وطريق الحق [259] .

ولذلك لم يقبل اللـه سبحانه طاعة عبد لم يقبل الولاية مهما اجتهد في العبادة والطاعة . هكذا جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (ع) عن آبائه (ع) ، إذ قال :

مرّ موسى بن عمران برجل رافع يده إلى السماء يدعو فانطلق موســـى في حاجته فغاب عنه سبعة أيام ، ثم رجع إليه وهو رافع يَديه يدعو ويتضرع ويسأل حاجته ، فأوحى اللـه عزَّ وجلَّ إليه : يا موسى لَو دعاني حتى يسقط لسانه ما استجبتُ له حتى يأتيني من الباب الذي أمرته به [260] .

فولاية الإنسان صبغة أعماله ، إنْ خيراً فخيرٌ وإن شرّاً فشرّ . لذلك جاء في الحديث المأثور عن رسول اللـه (ص) ، فيما رواه أبو سعيد الخدري :

لو أنّ عبداً عبد اللـه ألف عام ما بين الركن والمقام ، ثم ذُبح كما يذبح الكبش مظلوماً ، لَبعثه اللـه مع النفر الذين يقتدي بهم ، ويهتدي بهداهم ، ويسير بسيرتهم إن جنة فجنة ، وإن ناراً فنار [261] .

وهكذا الولاية تكون وجهة المجتمع ، وعليها يكون الحساب والجزاء . فقد روي عن الإمام علي (ع) عن النبي (ص) عن جبرئيل (ع) عن اللـه عزّ وجلّ ، قال :

وعزتي وجلالي لأُعذبنَّ كل رعية في الإسلام دانت بولاية إمام جائر ليس من اللـه عزَّ وجلَّ ، وإن كانت الرعية في أعمالها برَّة تقية ، وَلأَعفونَّ عن كل رعية دانت بولاية إمام عادل من اللـه تعالى وإن كانت الرعية في أعمالها طالحة مسيئة [262] .

فَضمنَ إطار الولاية الإلهية لابد أن نعرف شخصية الإمام السجاد (ع) وأبعاد حياته . إنه لم يكن كسائر الأنبياء والأئمة . ولا يكون خلفاؤهم من الصدِّيقيين والعلماء الربانيين طُلاب حكم وسيطرة ، أو قادة حركات سياسية كالتي نفهمها . لا ، ولكنهم سعوا جاهدين من أجل تطهير قلوب الناس من الجبت ، ومجتمعاتهم من الطاغوت . ولكن ذلك لم يكن حكمة حياتهم الأولى حتى نقول : إنهم قد فشلوا في تحقيق ذلك ، وإنما كانت الحكمة الأولى ابتلاء الناس ، حيث قاموا بتلاوة وحي اللـه وبتعليم الناس وتزكيتهم . وقد قال ربُّنا سبحانه :

/ 35