الفصل الثالث :وفــاتــه - نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

فاعتنقه أبي ودعا له وفعلت أنا كفعل أبي ، ثم نهض ونهضت معه وخرجنا إلى بابه ، وإذا بميدان ببابه وفي آخر الميدان أناس قعود عددهم كثير ، قال أبي : من هؤلاء ؟

فقال الحجاب هؤلاء القسيسون والرهبان وهذا عالم لهم يقعد إليهم في كل سنة يوماً واحداً يستفتونه فيفتيهم .

فلف أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه وفعلت أنا مثل فعل أبي ، فأقبل نحوهم حتى قعد نحوهم وقعدت وراء أبي ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام ، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي ، فأقبل وأقبل عداد من المسلمين فأحاطوا بنا ، وأقبل عالم النصارى وقد شد حاجبيه بحريرة صفراء حتى توسطنا ، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلمين عليه ، فجاؤوا به إلى صدر المجلس فقعد فيه ، وأحاط به أصحابه وأبي وأنا بينهم ، فأدار نظره ثم قال لأبي :

أمنّا أم من هذه الأمة المرحومة ؟

فقال ابي : بل من هذه الأمة المرحومة .

فقال : من أيهم أنت من علمائها أم من جهالها ؟

فقال له أبي : لست من جهالها ، فاضطرب اضطراباً شديداً ثم قال له : أسألك ؟ فقال له أبي : سل ، فقال : من أين ادعيتم أن أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يُحدِثون ولا يبولون ؟

وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل ؟

فقال له أبي : دليل ما ندّعي من شاهد لا يجهل ، الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث .

قال : فاضطرب النصراني اضطراباً شديداً ، ثم قال : هلاّ زعمت أنك لست من علمائها ؟

فقال له أبي : ولا من جهالها ، وأصحاب هشام يسمعون ذلك .

فقال لأبي : أسألك عن مسألة أخرى فقال له أبي : سل .

فقال : من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبداً غضة طرية موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة ؟ وما الدليل عليه من شاهد لا يجهل ؟

فقال له أبي : دليل ما ندَّعي أن ترابنا أبداً يكون غضاً طرياً موجوداً غير معدوم عند جميع أهل الدنيا لا ينقطع ، فاضطرب اضطراباً شديداً ، ثم قال : هلاّ زعمت أنك لست من علمائها ؟ فقال له أبي : ولا من جهالها .

فقال له : أسألك عن مسألة ؟ فقال : سل ، فقال : أخبرني عن ساعة لا من ساعات الليل ولا من ساعات النهار ؟

فقــــال له أبي : هـــي الساعــــة التي بين طلوع الفجر إلــــى طلوع الشمــــس يهدأ فيهـــا المبتلي ، ويرقد فيهـــا

الساهر ، ويفيق المغمى عليه ، جعلها اللـه في الدنيا رغبة للراغبين وفي الآخرة للعاملين لها دليلاً واضحاً وحجة بالغة على الجاحدين المتكبرين التَّاركين لها .

قال : فصاح النصراني صيحة ثم قال : بقيت مسألة واحدة واللـه لأسألك عن مسألة لاتهدي إلى الجواب عنها أبداً .

قال له أبي : سل فإنك حانث في يمينك .

فقال : أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما خمسون سنة وعمر الآخر مائة وخمسون سنة في دار الدنيا ؟

فقال له أبي : ذلك عزيز وعزيرة ولدا في يوم واحد ، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاماً ، مرّ عزيز على حماره راكباً على قرية بأنطاكية وهي خاوية على عروشها

« قَالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللـه بَعْدَ مَوْتِهَا »

(البقرة/259) وقد كان اصطفاه وهداه فلما قال ذلك القول غضب اللـه عليه فأماته اللـه مائة عام سخطاً عليه بما قال ، ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه وعاد إلى داره ، وعزيرة أخوه لا يعرفه فاستضافه فأضافه وبعث إليه ولد عزيرة وولد ولده وقد شاخوا وعزير شاب في سن خمس وعشرين سنة ، فلم يزل يذكر أخاه وولده وقد شاخوا وهم يذكرون ما يذكرهم ويقولون : ما أعلمك بأمر قد مضت عيه السنون والشهور ، ويقول له عزيرة وهو شيخ كبير ابن مائة وخمسة وعشرين سنة : ما رأيت شاباً في سن خمسة وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي عزير أيام شبابي منك ! فمن أهل السماء أنت ؟ أم من أهل الأرض ؟ فقال : يا عزيرة أنا عزير سخط اللـه عليّ بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني فأماتني مائة سنة ثم بعثني لتزداد بذلك يقيناً ، إن اللـه على كل شيء قدير ، وها هو هذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده اللـه تعالى كما كان ، فعندها أيقنوا فأعاشه اللـه بينهم خمسة وعشرين سنة ، ثم قبضه اللـه وأخاه في يوم واحد .

فنهض عالم النصارى عند ذلك قائماً وقاموا - النصارى - على أرجلهم فقال لهم عالمهم : جئتموني بأعلم مني واقعدتموه معكم حتى هتكني وفضحني وأعلم المسلمين بأن لهم من أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا ، لا واللـه لا كلمتكم من رأسي كلمة واحدة ، ولا قعدت لكم إن عشت سنة .

فتفرقوا وأبي قاعد مكانه وأنا معه ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام .

فلما تفرق الناس نهض أبي وانصرف إلى المنزل الذي كنا فيه ، فوافانا رسول هشام بالجائزة وأمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا ولا نجلس ، لأن الناس ماجوا وخاضوا فيما دار بين أبي وبين عالم النصارى ، فركبنا دوابنا منصرفين وقد سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مدين على طريقنا إلى المدينة أن ابنَي أبي تراب الساحرين : محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين - بل هو الكذاب لعنه اللـه - فيما يظهران من الإسلام وردّا عليَّ ، ولما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان من كفار النصارى وأظهرا لهما دينهما ومرقا من الإسلام إلى الكفر دين النصارى وتقربا إليهم بالنصرانية ، فكرهت أن أنكل بهما لقرابتهما ، فإذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس : برئت الذمة ممن يشاريهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلم عليهما فإنهما قد ارتدا عن الإسلام ، ورأى أمير المؤمنين أن يقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما شر قتلة ، قال : فورد البريد إلى مدينة مدين .

فلما شارفنا مدينة مدين قدم أبي غلمانه ليرتادوا لنا منزلاً ، ويشروا لدوابنا علفاً ، ولنا طعاماً ، فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا وشتمونا وذكروا علي بن أبي طالب صلوات اللـه عليه فقالوا : لا نزول لكم عندنا ولا شراء ولا بيع يا كفار يا مشركين يا مرتدين يا كذابين يا شر الخلائق أجمعين ، فوقف غلماننا على الباب حتى انتهينا إليهم فكلمهم أبي وليَّن لهم القول وقال لهم :

اتقوا اللـه ولا تغلظوا فلسنا كما بلغكم ولا نحن كما تقولون فاسمعونا ، فقال لهم : فهبنا كما تقولون افتحوا لنا الباب وشارونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى والمجوس ، فقالوا : أنتم شر من اليهود والنصارى والمجوس لأن هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم ما تؤدون ، فقال لهم أبي : فافتحوا لنا الباب وأنزلونا وخذوا منا الجزية كما تأخذون منهم ، فقالوا : لا نفتح ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعاً نياعاً او تموت دوابكم تحتكم ، فوعظهم أبي فازدادوا عتواً ونشوزاً ، قال : فثنى أبي رجله عن سرجه ثم قال لي : مكانك يا جعفر لا تبرح ، ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع ، فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة وجسده ، ثم وضع إصبعيه في أذنيه ثم نادى بأعلى صوته

«

وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللـه مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيـــــْرٍ وإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّـــاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللـه خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ »

(هود/84-86) نحن واللـه بقية اللـه في أرضه ، فأمر اللـه ريحاً سوداء مظلمة فهبت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والصبيان والنساء ، فما بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلاّ صعد السطوح ، وأبي مشرف عليهم ، وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن ، فنظر إلى أبي على الجبل ، فنادى باعلى صوته : اتقوا اللـه يا أهل مدين فإنه قد وقف الذي وقف فيه شعيب (ع) حين دعا على قومه ، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تنزلوه جاءكم من اللـه العذاب . فإني أخاف عليكم وقد أعذر من أنذر ، ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا ، وكُتب بجميع ذلك إلى هشام فارتحلنا في اليوم الثاني ، فكتب هشام إلى عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله رحمة اللـه عليه وصلواته ، وكتب إلى عامل مدينة الرسول أن يحتال في سم أبي في طعام أو شراب ، فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي من ذلك شيء [355] .

الفصل الثالث :وفــاتــه

بعد ثمانية عشر عاماً تصدى خلالها للإمامة الإسلامية ، استجاب لنداء ربه الحق ، فلبَّاه راضياً مرضياً ، وقد قضى من عمره المبارك سبعاً وخمسين ربيعاً .

في غرة رجب من عام 114 للهجرة كان أهل بيته يحفّون به وكان السم الذي دس غليه من خلال سرج امتطاه قد انتشر في جسده فالتفت إلى نجله ووصيه الإمام الصادق (ع) وقال :

سمعت علي بن الحسين ناداني من وراء الجدران يا محمد تعال عجل ، وقال : يا بني هذا الليلة التي وعدتها وقد كان وضوءه قريباً ، قال : أريقوه أريقوه فظن بعضهم أنه يقول : من الخمس فقال يا بني أرقه فأرقناه فإذا فيه فأرة .

وأوصى ابنه الإمام جعفر بن محمد بأن يكفّنه في ثلاثة أثواب ، أحدها رداء له جدة كان يصلي فيه يوم الجمعة ، وثوب آخر وقميص ، وأوصى أن يشق له القبر شقاً ، واضاف فإن قيل لكم أن رسول اللـه لحد له فقد صدقوا .

وأوصى أن يرفع أربع أصابع ، وأن يرش بالماء ، وأن يوقف من أمواله قدراً لكي تندبه النوادب بمنى عشر سنين أيام المنى .

ولما توفي ضجت المدينة المنورة . ويروى عن الإمام الصادق (ع) :

أن رجلاً كان على بعد أميال من المدينة فرأى في منامه أنه قيل له : انطلق فصل على أبي جعفر : فإن الملائكة تغسله ، فجاء الرجل فوجد أبا جعفر قد توفي .

وبعد تجهيزه دفن في البقيع عند قبر والده الإمام زين العابدين وعم أبيه الإمام الحسن المجتبى [356] .

فسلام اللـه عليه يوم ولد ويوم مات مسموماً ويوم يبعث حيّاً .

كلماته المضيئة :

لقد فاضت بكلماته المضيئة كتب المعارف ، أولم يكن باقر العلم في أهل بيت الرسالة ؟ ولكننا نقتبس منها قبسات لعل اللـه ينور بها قلوبنا ويبصرنا حقائق أنفسنا ويهدينا إلى الصراط القويم .

تعال نستمع معاً إلى وصيته الرشيدة التي ألقاها إلى جابر بن يزيد الجعفي :

أوصيك بخمس : إن ظُلمت فلا تظلم ، وإن خانوك فلا تخن ، وإن كذبت فلا تغضب ، وإن مدحت فلا تفرح ، وإن ذممت فلا تجزع ، وفكر فيما قيل فيك فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين اللـه جل وعز عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس ، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك فثواب اكتسبته من غير أن تتعب بدنك ، واعلم أنك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا أنك رجل سوء لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا أنك رجل صالح لم يسرك ذلك ، ولكن أعرض نفسك على كتاب اللـه فإن كنت سالكاً سبيله زاهداً في تزهيده ، راغباً في ترغيبه ، خائفاً من تخويفه ، فاثبت وأبشر فإنه لايضرك ما قيل فيك ، وإن كنت مبايناً للقرآن فما الذي يغرك من نفسك ، إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها ، فمرة يقيم أودها ويخالف هواها في محبة اللـه ، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها ، فينعشه اللـه فينتعش ويقيل اللـه عثرته فيتذكر ، ويفزع إلى التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف وذلك بأن اللـه يقول :

« إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فإِذَا هُم مُبْصِرُونَ »

(الاعراف/201) ، يا جابر استكثر لنفسك من اللـه قليل الرزق تخلّصاً إلى الشكر واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله ازراء على النفس وتعرّضاً للعفو ، وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم ، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل ، وتحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف وتَوقّ مجازفة الهوى بدلالة العقل ، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم ، واستبق خالص الأعمال ليوم الجزاء ، وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة ، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل ، واقطع أسباب الطمع ببرد اليأس ، وسد سبيل العجب بمعرفة النفس ، وتخلص إلى راحة النفس بصحة التفويض ، وتعرض لرقة القب بكثرة الذكر في الخلوات ، واستجلب نور القلب بدوام الحزن ، وتحرز من إبليس بالخوف الصادق ، وإياك والرجاء الكاذب فإنه يوقعك في الخوف الصادق ، وإياك والتسويف فإنه بحر يغرق فيه الهلكى ، وإياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب ، وإياك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ النادمون ، واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم وكثرة الاستغفار ، وتعرض للرحمة وعفو اللـه بخالص الدعاء والمناجاة في الظلم ، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر واطلب بقاء العز بإماتة الطمع ، وارفع ذلك الطمع بعز اليأس ، واستجلب عز اليأس ببعد الهمة ، وتزود من الدنيا بقصر الأمل وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة ، وإياك والثقة بغير المأمون ، واعلم أنه لا علم كطلب السلامة ، ولا عقل كمخالفة الهوى ، ولا فقر كفقر القلب ، ولا غنى كغنى النفس ، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك ، ولا نعمة كالعافية ولا عافية كمساعدة التوفيق ، ولا شرف كبعد الهمة ، ولا زهد كقصر الأمل ، ولا عدل كالإنصاف ، ولا جور كموافقة الهوى ، ولا طاعة كأداء الفرائض ، ولا مصيبة كعدم العقل ، ولا معصية كاستهانتك بالذنب ، ورضاك بالحالة التي أنت عليها ، ولا فضيلة كالجهاد ، ولا جهاد كمجاهدة الهوى ، ولا قوة كرد الغضب ، ولا ذل كذل الطمع ، وإياك والتفريط عند إمكان الفرصة ، فإنه ميدان يجري لأهله بالخسران .

وقال (ع) : خذوا الكلمة الطيبة ممن قالها وإن لم يعمل بها ، فإن اللـه يقول :

«

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللـه »

(الزمر/18) ، ويحك يا مغرور ألا تحمد من تعطيه فانياً ويعطيك باقياً ، درهم يفنى بعشرة تبقى إلى سبعمائة ضعف مضاعفة ، إنما أنت لص من لصوص الذنوب كلما عرضت لك شهوة أو ارتكاب ذنب سارعت إليه وأقدمت بجهلك عليه فارتكبته كأنّك لست بعين اللـه أو كأن اللـه ليس لك بالمرصاد ، يا طالب الجنة ما أطول نومك وأكل مطيتك وأوهى همتك فللّه أنت من طالب ومطلوب ، ويا هارباً من النار ما أحث مطيتك إليها ، وما أكسبك لما يوقعك فيها [357] .

الامــام الصـــادق ( عليه السلام )

قدوة وأسوة

تمهيـــد

توافق هذه الليلة - التي اشرع فيها بسرد قضية تاريخية جليلة عن حياة الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) - الخامس والعشرين من شهر شوال لسنة 1386 هجرية ، حيث يحتفي العالم الجعفري بتجديد ذكرى وفاة سادس أئمته ويفتخر بشرف الانتماء إليه مبدءاً ومذهباً .

وإني إذ أقدم أسجى التعازي إلى المسلمين عامة ، والجعفريين خاصة ، أرجو من اللـه العلي القدير ان يسددهم في اتخاذ مبادئ صاحب هذه الذكرى المفجعة ويهديهم للعمل الجاد بتعاليمه ومناهجه .

وبالتالي فإني أشرِّف قلمي بالكتابة عنه ، مشاطرة مني في تجديد الذكرى مع الأمة الإسلامية ، ولدعم المجتمع الإسلامي بالثقافة الحقة التي شرعها لنا ربّ السماء ورسوله ، ومن ثم تأدية لمسؤوليتي تجاه مبدئي والحق الذي يمثله ، وليس سداً لثغرة في التاريخ ، فهناك عدد من الكتب الحديثة عالجت قضية الإمام الصادق (عليه السلام ) ومذهبه ومذهب تابعيه بشتى الأساليب والصور .

الفصل الاول : الاصــل الكريــم

ميــلاده :

كانت الأمة الإسلامية تحتفل بالذكرى الثمانين[358]من مولد الرسول الأعظم (ص) ، في السابع عشر من شهر ربيع الأول ، وكانت تسير في بيت الرسالة موجة كريمة من السرور والإبتهاج ، ترتقب مجدا يهبط عليها فيزيدها رفعة وشموخاً .

في تلك الليلة ، وفي ذلك الجو الميمون ولد الإمام الصادق (ع) شعلة نور بازغة سخت بها إرادة السماء لتضيء لأهل الأرض ، وتنير سبلها إلى الخير والسلام .

أبــواه :

ولد من أبوين كريمين عظيمين مباركين هما :

1 - الإمام محمد بن علي بن الحسين بن علي ؛ الباقر (ع) ، الذي انحدر من سلالة علي أباً وأماً ، حيث كان حفيد الحسين بن علي ، وكانت أمه حفيدة الحسن (ع) . وهكذا بُني أول بيت فاطمي أصيل ، فكان أشم وأروع قمة إنسانية ارتفعت على بيت الرسالة .

2 - فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر ، التي كانت هي الأخرى أول نقيبة من سلالة أبي بكر أماَ وأباَ . وجدها محمد بن أبي بكر كان له سابقة الجهاد بين يدي الإمام أمير المؤمنين (ع) ، وكان ربيباَ له حيث تزوج الإمام بعد موت أبي بكر زوجته أسماء بنت عميس ، فربى ولدها محمد في حجره ، وغذاه من علومه ، حتى أصبح فدائياَ مخلصاً للإسلام ، وولاه مصراً فقتل فيها بأمر من معاوية .

وهكذا يأتي الإمام عصارة جهاد مقدس ، من أب وأم منحدرين من سلالة مباركة .

نشأتــه :

لقد كانت ولادته في عصر جده الإمام زين العابدين الذي ملأ الآفاق فضله ومجده ، ولم يزل في كنفه الوديع الذي كان يوحي إليه كل معاني السمو والعظمة ، ويغذيه بكل معاني الفضل والكمال ، ولم يزل يرى من جده العبادة والزهادة والرفادة والإجتهاد في طاعة اللـه فتنطبع في نفسه آثارها ، حتى بلغ سن الثانية عشر .

وعندما انتقلت إلى أبيه مقاليد الإمامة العامة ، وقام (ع) بأداء واجباتها ومسؤولياتها خير قيام ، كان الإمام الصادق (ع) يترعرع ليصبح فتاً نموذجيا يرمق إليه الشيعة بأبصارهم ويرون فيه القدوة السادسة لهم .

سفرته إلى الشام :

لقد كان الأمويون في الفترة الأخيرة من تسلطهم - حيث اختلفت على الامة الإسلامية التيارات الفكرية المتناقضة - يمارسون آخر محاولاتهم لتمويه الحقائق وإثبات المتناقضات ، ويعالجون الأحداث السياسية على ضوء سياسة أسلافهم المنحرفين ، والعجيب من أمرهم أنَّهم في تلك الحقبة كانوا يبدِّلون أزياء الخلافة كما تتبدل السنين ، فلا تكاد تقبل سنة جديدة على الناس إلاَّ بخليفة جديد ، لأن الأمة تلفظهم وتأبى الخضوع لسيادتهم الباطلة .

في هذا العصر - بالذّات - قاسى الإمام الباقر (ع) من ظلم الأمويين الشيء الكثير ، لأنه كان مأوى الحق وأهله ومركز المضطهدين ، الذين عارضوا سياسة الأمويين كما يتبين ذلك من سيرته المقدسة .

أما الشيعة فقد إبتلوا بلاءً عظيماً من جراء الظلم الأموي ، كما بين الإمام الباقر (ع) حين قال : ثم جاء الحجاج فقتلهم - يعني الشيعة - شر قتله وأخذهم بكل ظنة وتهمة .

حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعي ينتمي لعلي (ع) .

ولأن الخليفة الأموي أراد إثبات سلطته على الإمام الباقر (ع) واستعراض قوته أمامه - مثلما يصنعه الحاكم السياسي الظالم اليوم بمن يعارضه في الأمر - قام باستدعائه إلى الشام ، فسافر الإمام (ع) إليها مصطحباً ولده العزيز .

الفصل الثاني : عهــد امامتــه

في سنة (117 هـ ) - حيث انتقل الإمام الباقر (ع) إلى جوار ربه ضحية غالية لسياسة بني أمية الجائرة - أوصى إلى ولده الصادق (ع) وهو في سن الرابعة والثلاثين بمدرسته التي اجتمعت عليها المئات من ذوي الفكر والبصيرة ، حتى كانت نواة المدرسة الكبرى التي أسسها الإمام الصادق (ع) من بعد أبيه ، كما أوصى له بالإمامة . وبهذا انتقلت إلى الإمام الصادق (ع) قيادة الأمة الدينية ومسؤولياتها السياسية الكبيرة .

المدرسة الكبرى :

لعلنا لن نجد في التاريخ الإنساني مدرسة فكرية استطاعت أن توجه الأجيال المتطاولة ، وتفرض عليها مبادئها وأفكارها ، ثم تبني أمة حضارية متوحدة لها كيانها وذاتيتها ، مثلما صنعته مدرسة الإمام الصادق (ع) .

إن من الخطأ أن نحدد إنجازات هذه المدرسة في من درس فيها وأخذ منها من معاصريها وإن كانوا كثيرين جدا ، وإنما بما خلّفته من أفكار ، وبما صنعته من رجال غيرّوا وجه التاريخ ووجهوا أمته ، بل وكوَّنوا حضارته التي ظلت قروناً مستطيلة .

لقد أثبت التاريخ أن الذين استقوا من أفكار هذه المدرسة مباشرة كانوا أربعة آلاف طالب [359] . ولكن ذلك لا يهمنا بمقدار ما يهمنا معرفة ما كان لهذه المدرسة من تأثير في تثقيف الأمة الإسلامية التي عاصرتها والتي تلتها إلى اليوم ، وإن الثقافة الإسلامية الأصيلة كانت جارية عنها فقط ، حيث أثبتت البحوث أن غيرها من الثقافات المنتشرة بين المسلمين إنما انحدرت عن الأفكار المسيحية واليهودية بسبب الدَّاخلين منهم ، أو ملونة بصبغة الفلاسفة اليونان والهنود الذين ترجمت كتبهم إلى العربية ، فبنى المسلمون عليها أفكارهم وكوَّنوا بها مبادئهم .

ولم تبق مدرسة فكرية إسلامية حافظت على ذاتيتها ووحدتها وأصالتها في جميع شؤون الحياة كما بقيت مدرسة الإمام الصادق (ع) ، ذلك لثقة التابعين بها وبأفكارها ، مما دفعهم إلى التحفظ بها وبملامحها الخاصـــة عبر قرون طويلة ، حتى أنهم كانوا ينقلون عنها الروايات فماً بفم ، وإذا كتبوا شيئا لا ينشــــــــــــــــروه إلاّ

بعد الإجازة الخاصة ممن رووا الأفكار عنه .

وإذا عرفنا بأن الثقافة الإسلامية - الشيعية منها أو السنّية - كانت ولا زالت تعتمد على الأئمة من معاصري الإمام الصادق (ع) كالأئمة الأربعة ممن توقف المسلمون على مذاهبهم فقط ، وبالتالي عرفنا بان معظم هؤلاء الأئمة أخذوا من هذه المدرسة أفكارهم الدينية ، حتى أن ابن أبي الحديد أثبت أن علم المذاهب الأربعة راجع إلى الإمام الصادق في الفقه . وقد قال المؤرخ الشهير أبو نعيم الأصفهاني : ( روى عن جعفر عدة من التابعين منهم : يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأيوب السختياني ، وأبان بن تغلب ، وأبو عمـرو بن العلاء ، ويزيد بن عبد اللـه بن هاد ، وحدث عنه الأئمة الأعلام : مالك بن أنس ، وشعبة الحجـــــاج ، وسفيان الثوري ، وابن جريح ، وعبد اللـه بن عمر ، وروح بن القاسم ، وسفيان بن عيينه ، وسليمان بن بلال ، وإسماعيل بن جعفر ، وحاتم بن إسماعيل ، وعبد العزيز بن المختار ، ووهب بن خالد ، وإبراهيم بن طهمان ، في آخرين ، وأخرج عنه مسلم بن الحجاج في صحيحه محتجاً بحديثه [360] .

إذا عرفنا ذلك صح لنا القول بأن الثقافة الإسلامية الأصيلة ترجع إلى الإمام الصادق (ع) وإلى مدرسته فقط .

ومن جانب آخر إذا عرفنا بأن تلميذاً واحداً من الملتحقين بهذه المدرسة ألّف زهاء خمسمائة رسالة في الرياضيات كلها من إملاء الإمام الصادق (ع) ، وهو جابر بن حيان المعلم الرياضي الشهير الذي لا يزال العالم يعرف له فضلاً كبيراً على هذه العلوم وأيادي طويلة على أهلها .

وروى عنه محمد بن مسلم ستة عشر ألف حديث في مختلف العلوم ، وآخرون من هؤلاء الأفذاذ ، حتى قال قائلهم رأيت في هذا المسجد - أي مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كل يقول : ( قال : جعفر بن محمد ) . حتى أن أبا حنيفة كان يقول :

( لولا السَّنتان لهلك النُّعمان ) .

وأخيراً عرفنا بانه لم يرو عن أحد من الأئمة الإثني عشر - بل عن المعصومين الأربعة عشر وفيهم رسول اللـه (ص) - بقدر ما روي عن الإمام الصادق (ع) . ولقد جمع المتأخرون من الشيعة ما روي عنهم في مجلدات ضخمة : فكان البحار للمجلسي يحوي مائة وعشرة مجلدات ، وكان جامع الأخبار للنراقي مثيلاً له ، وكان مستدرك البحار نظيراً له ، وقد احتوت غالبية هذه الكتب ونظائرها على أحاديث الإمام الصادق (ع) وأكثرها في الفقه والحكمة والتفسير وما إلى ذلك .

أما في سائر العلوم فلم يصل إلى أيدينا إلاّ الشيء القليل ، حيث ذهب معظمها ضحية الخلاف السياسي الذي أعقب عصر الإمام ، فكم من كتب مخطوطة للشيعة أحرقتها نيران المنحرفين ، وكان نصيب مكاتب الفاطميين بمصر أكثر من ثلاثة ملايين كتاباً مخطوطا ، وكم من كتب لفتها أمواج دجلة والفرات وأحرقتها مطامع العباسيين ببغداد والكوفة ، وكم من محدّث واسع المعرفة جمّ الثقافة ظلت العلوم هائجة في فؤاده لا يستطيع لها نشراً خوفاً من إرهاب العباسيين وإجرامهم ، فهذا ابن أبي عمير ظلَّ في سجون بني العباس مدة طويلة - ومن المؤسف - أن ما كتبها هجرت في هذه المدة حتى عفنت واكلها التراب ، وراحت أحاديث كثيرة منها صحيحة الأعمال . وهذا محمد بن مسلم حفظ ثلاثين ألف حديثاً عن الإمام الصادق ولم يرو منها شيئاً .

إذا عرفنا كل ذلك أمكننا معرفة مدى شمول ثقافة هذه المدرسة العالم الإسلامي ومدى سعة أفقها الرحيب .

والمشهور أن منهاج الإمام الصادق كان يوافق أحدث مناهج التربية والتعليم في العالم ، حيث ضمت حوزته اختصاصيين كهشام بن الحكم الذي تخصص في المباحث النظرية ، وتخصص زرارة ومحمد بن مسلم وأشباههم في المسائل الدينية ، كما تخصص جابر بن حيان في الرياضيات ، وعلى هذا الترتيب .

حتى أنه كان يأتيه الرجل فيسأله عما يريد من نوع الثقافة ، فيقول الفقه فيدله على إخصائيه ، أو التفسير فيومىء إلى صاحبه ، أو الحديث والسيرة ، أو الرياضيات ، أو الطب ، أو الكيمياء ، فيشير إلى تلامذته الاخصائيين ، فيذهب الرجل بملازمة من أراد حتى يخرج رجلاً قديراً بارعاً في ذلك الفن .

ولم يكن الوافدون إليه من أهل قطر خاص ، فلقد كانت طبيعة العالم الإسلامي في عصره تقضي على الأمة بتوسيع الثقافة والعلم والمعرفة في كل بيت .. حيث أن الفتوحات المتلاحقة التي فتحت على المسلمين أبواباً جديدة من طرق العيش وعادات الخلق ، وأفكار الأمم ، كانت تسبب احتكاكاً جديداً للأفكار الإسلامية بالنظريات الأخرى ، ولسبيل الحياة عند المسلمين بعادات الفرس والروم وغيرهما من جارات الدولة الإسلامية ، كما خلقت مجتمعاً حديثاً امتزج فيه المتأثر العميق بالوضع ، والمنحرف الكامل عن الإسلام ، مما سبب حدوث تناقضات في الحياة ، قد ترديه وتحدث لديه انعكاسات سيئة جداً لذلك الامتزاج الطبيعي المفاجىء .

لذلك هرعت الأمـــة يومئذ إلى العلم والثقافة والتصقت بأبي عبد اللـه الصادق (ع) مؤملة الخضب الموفـور ، ووفدت عليه من أطراف العالم الإسلامي طوائف مختلفة ، وساعدهم على المثول عنده مركزه الحساس ، حيث اختار - في الأعم الأغلب - مدينة الرسول (ص) التي كانت تمثل العصب الحساس في العالم الإسلامي ، ففي كل سنة كانت وفود المسلمين تتقاطر على الحرمين لتأدية مناسك الحج المفــروضـــة ولحـــل مسائلهم الفقهية والفكريـــة . فيلتقون بصادق أهـــل البيت (ع) وبمدرستـــه الكبــــــرى حيث

يجدون عنده كل ما يريدون .

ويجدر بنا المقام هنا أن نشير إجمالا إلى موجة الإلحاد التي زحفت على العالم الإسلامي في عهد الإمام الصادق (ع) ، وقد اصطدمت بمدرسته ، فإذا بها الصَّد المتين ، والسَّد الرصين ، الذي حطم قواها وجعلها رذاذاً ، وباعتبار أننا نحاول أن نلخّص حياة إمامنا العظيم ونحدد ملامح مدرسته الكبرى ، يلـــزم أن

نلم موجزاً بهذه الموجة الشاملة .

لقد أشرنا قريباً إلى أن الفتوحات الإسلامية سببت احتكاكاً عنيفاً بين المسلمين وبين الداخلين ، ولأن أغلب المسلمين لم يكونوا قد تفهموا الإسلام تفهماً قويماً ، ولا وعوه وعياً مستوعباً ، فإن نتيجة هذا الاصطدام كانت سيئة ، إذ أدّى إلى تشعب المسلمين إلى فرقتين :

الأولى :

المحافظون المتزمتون الذين اتخذوا ظاهر الديـن ولم يتفهموا جوهره وحقيقته ، فإذا بهم يفقدون عقولهم ويفقدون معها مقاييس الأشياء ، وكانت الخوارج من فرسان هذا الإتجاه ، كما كانت الأشاعرة مع ملاحظة ما بين طوائفهم من اختلاف في الكمية والكيفية .

والثانية :

المتطورون المفرّطون الذين بالغوا في التأثر بالوضع وألغوا المقاييس ، واكتفوا بما أوحت إليهم عقولهم الناقصة ، حسب اختلاف النزعات وتطور الظروف ، وكان في مقدمتهـم الملحدون ثم - مع اختلاف كثير - كانت المعتزلة ومن إليهم من الفرق الأخرى .

وبطبيعة الحال كان الملحدون متسترين بسبب الوضع الاجتماعي القاسي الذي يعتبر فيه المرتد أسوأ حالاً من الكافر الأصيل ، وكانوا أقلاء في نفس الوقت ، بيد أنهم كانوا يستقون أفكارهم من فلسفة اليونان التي كان العرب لا يعرفها حتى ذلك اليوم ، وحيث تمت صلتهم بها عن طريق حركة الترجمة المنتشرة من عهد الإمام فصاعداً .

ولذلك كان القليل من المسلمين الذين تفهموا فلسفة الإسلام النظرية من جميع أبعادها ، وعرفوا الاختلاف بينها وبين سائر النظريات ، واستطاعوا أن يقيموا الحجة البالغة على صحة مبادئ الإسلام الفكرية ودحض ما سواها .

وقد اصطدم هؤلاء بمن اقتصرت معلوماتهم على مجموعة من الأحاديث التي يروونها عن أبي هريـرة أو غيره ، غير مبالين بما فيها من تناقضات جمة ، وكانوا يحسبون أنهم على حق ، وأن لهم مقدرة كافية لإثبات مزاعمهم الباطلة ، فترى أحدهم يشكل حزباً ويدعو إليه الناس سراً .

لذلك تحتم على الإمام الوقوف في وجههم وتبديد مزاعمهم . فرسم ثلاثة خطط حكيمة لذلك :

الأولى :

لقد خصّ فرعاً من مدرسته بالذين يعرفون فلسفة اليونان بصورة خاصة وغيرها بصورة عامة ، ويعرفون وجهة نظر الإسلام إليها والحجج التي تنقضها ، وكان من هؤلاء هشـام بن الحكـم المفّوه الشهـير ، وعمران بن أعين ، ومحمد بن النعمان الأحول ، وهشام بن سالم ، وغيرهم من مشاهير علم الحكمة والكلام ، العارفين بمقاييس الإسلام النظرية أيضا .

الثانية :

وكتب رسائل في ذلك ، مثل رسالته المدعاة بـ ( توحيد المفضل ) ، ورسالته المسمـــاة بـ (الإهليلجة) وما إليها .

الثالثة :

المواجهة الشخصية لزعماء فكرة الإلحاد . وباعتبار أن هذه العملية الأخيرة كانت أبلغ في مقابلة الموجة من اللتين سبقتا ، لذلك يجدر بنا الوقوف عندها قليلاً لقراءة بعض القصص والأحداث المهمة :

1 - كان ابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن الأعمى وابن المقفع مجتمعين بنفر من الزنادقة في الموسم بالمسجد الحرام ، وكان الإمام الصادق (ع) متواجداً آنذاك يفتي الناس ويفسر لهم القرآن ويجيب عن المسائل بالحجج والبينات . فطلب القوم من ابن أبي العوجاء تغليظ الإمام وسؤاله عما يفضحه بين المحيطين به .

فأجابهم بالإيجاب واتجه - بعد ان فرَّق الناس - صوب الإمام ، وقال : يا أبا عبد اللـه إن المجالس أمانــــات [361] ولا بدّ لكل من به سؤال أن يسأل ، أفتأذن لي في السؤال ؟ فقال له أبو عبد اللـه : سل إن شئت .

فقال ابن أبي العوجاء : إلى كم تدوسون هذا البيدر ، وتلوذون بهذا الحجر ، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر ، وتهرولون حوله هرولة البعير ، فهناك من فكّر في هذا وقدّر بأنه فعل غير حكيم ولا ذي نظر . فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه ؟

فقال الصادق (ع) :

إن من أضله اللـه وأعمى قلبه استوهم الحق فلم يستحث به ، وصار الشيطان وليّه وربّه يورده مناهل الهلكة ولا يصدره ، وهذا بيت استعبــــد اللـه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله قبلة للمصلين له ، فهو شعبة لرضوانه ، وطريق يؤدي إلى غفرانه ، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال ، خلقه اللـه قبل دحو الأرض بألفي عام ، فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما زجر ، هو اللـه المنشئ للأرواح والصور .

فقال له ابن أبي العوجاء : فأحلت على غائب .

فقال الصادق (ع) : كيف يكون يا ويلك غائباً من هو مع خلقه شاهد ، وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ويعلم أسرارهم ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان ، تشهد له بذلك آثاره ، وتدل عليه أفعاله ، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمد رسول اللـه (ص) الذي جاءنا بهذه العبادة ، فإن شككت في شيء في أمره فاسأل عنه .

فأبلس ابن أبي العوجاء ولم يدر ما يقول ثم انصرف من بين يديه ، وقال لأصحابه : سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة [362] فألقيتموني على جمرة .

فقالوا له : أسكت فو اللـه لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه . فقال : إليّ تقولون هذا ، إنه ابن من حلق رؤوس من ترون - وأومأ بيده إلى أهل الموسم - .

ومرة أخرى جاء إليه يسأله عن حدوث العالم ؟

فقال (ع) : ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إلاّ إذا ضم إليه صار أكبر ، وفي ذلك انتقال عن الحالة الأولـــى ،

ولو كان قديماً ما زال ولا حال ، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل ، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونــه في الأزل دخول في القدم ، ولن يجتمع صفة الحدوث والقدم في شيء واحد .

فقال ابن أبي العوجاء : هب علمك في جري الحالتين والزمانين على ما ذكرت استدللت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدل على

حدوثها ؟

فقال (ع) : إنا نتكلم عن هذا العالم الموضوع ، فلو رفعناه ووضعنا عالماً آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره ، ولكن أجيبك من حيث قدرت أن تلزمنا فتقول : إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ضم شيء منه شيء إلى منه كان أكبر ، وفي جواز التغّير عليه خروجه من القدم ، إن في تغّيره دخوله في الحدث ، وليس لك وراءه بشيء يا عبد الكريم [363] .

ومرة جاء وقد جمع كيده وحشد أدلته وحدّ اظفاره ، فما أن تباحث مع الإمام حتى أفحم إفحاما ، فقام ولم يرجع حتى هلك [364] ، وطوي بموته على هذه الشاكلة صفحة إلحاد كان لها أنصار وأعوان ، ومضى زعيم إلحاد كان له صولة وجولة وحزب كبير .

2 - يروى عن هشام بن الحكم أنه قال : كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد اللـه علم ، فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها ، وقيل هو بمكة فخرج إلى مكة - ونحن مع أبي عبد اللـه (ع) آنذاك - فانتهى إليه وهو في الطواف ، فدنا منه وسلم .

فقال له أبو عبد اللـه (ع) : ما اسمك ؟

قال : عبد الملك .

قال : فما كنيتك ؟

قال : أبو عبد اللـه .

قال : فمن ذا الملك الذي أنت عبده ، أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء . وأخبرني عن ابنك أعبد إله السماء أم عبد إله الأرض ؟ فسكت . فقال : ابو عبد اللـه قل . فسكت .

فقال له (ع) : إذا فرغت من الطواف فأتنا . فلما فرغ ابو عبد اللـه ( عليه السلا) من الطواف أتاه الزنديق ، فقعد بين يديــــه - ونحن مجتمعون عنده - فقال أبو عبد اللـه (ع) : أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقــــاً ؟

فقال : نعم .

قال : دخلت تحتها ؟

فقال : لا .

قال : فهل تدري ما تحتها ؟

قال : لا أدري إلاّ أني أظن أن ليس تحتها شيء .

فقال : فالظن عجز ما لم تستيقن .

ثم قال له : صعدت إلى السماء ؟

قال : لا .

قال : أفتدري ما فيها ؟

قال : لا .

قال : فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما ؟

قال : لا .

قال : فالعجب لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل تحت الأرض ولم تصعد إلى السماء ولم تجد ما هناك فتعرف ما خلفن وأنت جاحد ما فيهن ، وهل يجحد العاقل مالا يعرف .

فقال الزنديق : ما كلمني بهذا غيرك .

فقال أبو عبد اللـه (ع) : فأنت من ذلك في شك ، فلعل هو ولعل ليس هو .

قال : ولعل ذلك .

فقال ابو عبد اللـه (ع) : أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم ، ولا حجة للجاهل على العالم ، يا أخا أهل مصر تفهم عني ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يستبقان يذهبان ويرجعان ، - قد اضطرّا ، ليس لهما مكان إلاّ مكانهما ، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان ، وإن كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً . واللـه يا أخا أهل مصر ان الذي تذهبون إليه وتظنون من الدهر ، فإن كان هو يذهبهم فلم يردهم ، وإن كان يردهم فلم يذهب بهم ، أما ترى السماء مرفوعة والأرض موضوعة لا تسقطهـا على الأرض ولا تنحـدر الأرض فـوق ما تحتـها ، أمسكها واللـه خالقها ومديرها .

قال : فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللـه (ع) ، فقال لهشام : خذه الليلة وعلمه .

3 - وجاء إليه زنديق آخر وسأله عن أمور نظرية ، فكان بينهما الحوار التالي :

قال كيف يعبد اللـه الخلق ولم يروه ؟

قال ابو عبد اللـه (ع) : رأته القلوب بنور الإيمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على اماراته من عظمته دون رؤيته .

قال : أليس هو قادر على أن يظهر لهم حتى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين ؟

قال (ع) : ليس لمحال جواب [365] .

قال : فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً ؟

قال (ع) : إنما لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا أن يلامسوه ، ولا أن يباشرهم ويباشروه ، ويحتاجهم ويحتاجوه ، ثبت أن له سفراء عباداً يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فنائهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين - هم الأنبياء وصفوته من خلقه - حكماء مؤدبين بالحكمة ، مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم له في الخلق والتدبير ، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص .

قال : من أي شيء خلق الأشياء ؟

قال (ع) : من لا شيء !

فقال : كيف يجيء بشيء من لا شيء ؟

قال (ع) : إن الأشياء لا تخلو ، إما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء ، فإن كانت خلقت من شيء فإنَّ ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثا ولا يتغير ، ولا يخلو ذلك الشيء جوهراً واحداً ولوناً واحداً ، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى ، ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي أنشئت منه الأشياء حيّاً ، أو من أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميتاً ، ولا يجوز أن يكون من حي وميت ، لأن الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيّاً ، ولا يجوز أيضاً ان يكون الميت قديماً ، لم يزل لما هو به من الموت لأن الميت لا قدرة به ولا بقاء .

ثم قال : من أين قالوا أن الأشياء أزلية ؟

قال (ع) : هذه مقالة قوم جحدوا مدبر الأشياء ، فكذبوا الرسل ومقالتهم والأنبياء وما أنبأوا عنه ، وسموا كتبهم أساطير ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم ، وإن الأشياء تدل على حدوثها من دوران الفلك بما فيه .. إلى آخر حديثه الطويل .

وعندما ننهي الحديث عن هذه المحادثات الغزيرة بالنظريات الفلسفية من جانب ، والنظريات الدينية من جانب آخر ، ثم بالتوفيق بينهما ورد الأفكار الباطلة - عند ذلك - يجب أن نعرف أن الفلسفة الإسلامية لم تستطع أن تقوم لها قائمة إلاّ بعد قرن كامل من انقضاء مدرسة الإمام الصادق (ع) ، فهناك استطاع المسلمون أن ينشئوا مدرسة ذات أصالة وملامح خاصة من بين مدارس العالم الفلسفية ، ومع ذلك فإنا نرى أن هذه النظريات التي استفاضت بها أحاديث الإمام الصادق تتمتع بأصالة وذاتية كاملة ، في حين أن غيرها بدى مثل غثاء البحر الذي يجتمع إليه من كل جانب شيء دون أن يكون فيها أي تجاوب أو تناسب - هذا في صورتها - أما في واقعها فإنها فشلت في التوفيق بين المبادئ الدينية والدراسات الفلسفية فشلاً ذريعاً ، حتى التجأت إلى التأويل في النصـوص الإسلاميـة الصريحة ، أو الطرح لها رأساً ، لدرجة لم تعد هي فلسفة الإسلام أبداً .

بينما نرى نظريات الإمام الصادق (ع) في دراساته لا زالت من صميم الفكرة الإسلامية وآيات الذكر وآثار النبي ، ومن قوانين الإسلام ونظمه حتى لكأنه جزء لا يتجزأ من كيان موحد أصيل ، في نفس الوقت الذي نرى توفيقه الشامل لفطرة الإنسان ووحي ضميره سواء في المعنى أو في الدليل .

الفصل الثالث :مواقــف مشرقــة

عـرض موجـز للأحــداث :

بنو أمية عشيرة تنتسب إلى قريش عن طريق أمية بن حرب ، وكانت تناوئ بني هاشم في الجاهلية ، حتى جاء الرسول محمد (ص) وجاءت معه الدعوة الإسلامية فعارضتها هذه العشيرة أشد معارضة حتى فشلت أمام قوتها واستسلمت إلى حين .

ومات النبي (ص) وجرت أحداث التاريخ هائجة طائشة ، ولم يكن عند بني أمية أمل العودة إلى المسرح السياسي حتى حلت الخلافة في بيت عثمان ، فوجدت بصيصاً من الأمل فراحت تتبعه .

وشاء القدر أن يقتل عثمان ، كما شاء التاريخ أن يقوم بنو عمه بطلب ثأره . من هنا بدأ تاريخ بني أمية ظاهراً في الحكومة الإسلامية .

حارب معاوية علياً (ع) الخليفة الشرعي للأمة بحجة طلب الثأر لعثمان ، فلما وجد أنصاراً كثيرين نصب نفسه على الناس ، ثم تطور وقال : إني وبنيِّ الملوك ، والناس عبيد صاغرون لنا .

وانحدرت سلسلة بني أمية تحكم الناس على أنها المالكة لأمرهم وهم المطيعون ، وإلاّ فالسيف وكل أنواع الفتك والتعذيب مآلهم .

وانفجرت من الناس ثورات تعارض الوضع بكل صراحة ومع أنها فشلت آخر الأمر ، لكنها أبقت ضمائرها لتحيا ذات مرة وتقود المسير .

وكانـت الثـورات قـد اتخـذت طابعـاً واحـداً - تقريباً - هو الأخذ بثأر الإمام الحسين (ع) ابن بنت رسول الأمة الذي جاهد الباطل للحق فقتل أفظع ما تكون قتلة في التاريخ .

أما بنو العباس فهي فرقة تنتمي إلى عم الرسول ، كانت لها سوابق لا بأس بها في تاريخ المعارضة السياسيـة لدولة بني أمية ، أكسبتها مزيداً من الكرامة والاعتبار بين الشعب الساخط على سياسة الأموييـن .

وجاءت سنة الثورة وأرسلت الثورات مبعوثها إلى خراسان - آخر نقطة تقريباً من البلاد الإسلامية - حيث يتواجد أنصار الدعوة ، لتعلن الثورة في الوقت المعلوم .

وكان أبو مسلم الخراساني فردا مؤمنا بضرورة قلب الأوضاع مهما يكن من أمر ، ولم يكن يؤمن بغير ذلك أبداً . وهذا الإيمان في الواقع أصمّه وأعماه ، وعدم إيمانه بغيرها هو الذي سبب نجاح بني العباس في ثورتهم دون غيرهم ممن خرجوا على الدولة ، حيث أن الثائرين على الأغلب كانوا يتورعون من ارتكاب المحرمات ولو ضمنت نجاحهم الدائم ، في نفس الوقت الذي لم يكن أنصار بني أمية محجمون عن أي عمل يدعم سلطانهم أو يفني عدوهم ، فإذا حاربهم من كان مثلهم في هذه التبعية تساوى احتمال نجاح الطرفين .

لم يكن أبو مسلم فريداً بين المنتمين إلى الدعوة العباسية الجديدة ، بل إن الأكثرية الغالبة من قادتها كانوا من هذا الطراز ، فلم يروا عائقا يمنعهم عن السيادة والاستئثار بالحكم إلاّ اعتبروا العمل لإزالته ، عملاً حسناً بأي صورة كانت .

لقد استلم أبو مسلم من مركز القيادة - الكوفة - واصدر أوامر كانت هذه بعض فقراتها :

إنك رجل منا - أهل البيت - إحفظ وصيتي ، أنظر هذا الحي من اليمن فالزمهم واسكن من أظهرهم ، واتّـهم ربيعة في أمرهم ، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار واقتل من شككت فيه ، وإن استطعت ألا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل ، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله ولا تخالف هذا الشيخ سليمان بن كيد ولا تعصه ، وإذا أشكل عليك الأمر فاكتف به مني والسلام .

وهو بالذات لا يحتاج إلى مثل هذه الأوامر لأنه - كما سبق - كان رجلاً سفاكاً إلى أبعد الحدود ، فكم غدر بالقادة المعارضين له بعدما استضافهم في بيته ، وكم أعطى الأمان لرجال صالحين ثم نكّل بهم وقتّلهم تقتيلاً ، وكم قتل الأبرياء بغير جريمة ، وكم هتك الحرمات بغير مبرر ، وكم وكم ..

أمــا القادة في الكوفة فلم يكونوا بأقل إجراماً منه ، فقد بايعوا رجلاً من بني هاشم هو محمد بن عبد اللــه [366] ، وحينما وجدوا فرصة سرقوا الثورة واستأثروا بخيراتها وأنزلوا العذاب بمن ناصرهم في الأمس بل بالمؤسس للفكرة وبالذي بايعوه عن قريب فقد أخذوه

/ 35