شهادته ومــزاره - نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

فكان أبو الحسن (ع) يمشي ويقف في كل عشرة خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات فيتخيل إلينا أن السماء والأرض والحيطان تجاوبه ، وبلغ المأمون ذلك ، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين : يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس فالرأي أن تسأله أن يرجع ، فبعث إليه المأمون فسأله الرجوع فدعا أبو الحسن (ع) بخفه فلبسه ورجع ) [479] .

الفصل الثالث

شهادته ومــزاره

وأخيراً دسّ إليه السم فمضى شهيداً شأن سائر أئمة الهدى الذين جاء عنهم الحديث الشريف : ما منا إلاّ مسموم أو مقتول .

ولكن من الذي فعل ذلك ؟ يرى طائفة كبيرة من العلماء أن المأمون كان وراء ذلك ، بينما يستبعد ذلك البعض ويتساءل عما إذا كان المأمون بهذا المستوى من الدناءة أن يلوث يده بهذه الجريمة النكراء؟

وقد رأيت بعضهم قد ساق عشر أدلة على براءة المأمون عن دم سيدنا الإمام الرضا (ع) ولكنها عند التمحيص تنتهي إلى دليل واحد هو استبعاد وقوع تلك الجريمة من شخص نصب نفسه للدفاع عن أفكار المذهب الشيعي ، وتبني أفضلية الإمام (ع) .

ولكن إذا عرفنا أن المأمون العباسي كان واحداً من الخلفاء العباسيين الذين تميز نظامهم بالغدر بأنصارهم ، أو بالذين يخشون منهم من تابعيهم ، ابتداء من أبو مسلم الخراساني وإلى برمك ، وانتهاءً بفضل بن سهل . وإن المأمون كان متسنماً قمة هرم ذلك النظام الذي قد بنيت مؤسساته على أساس البغي والمكر والغيلة ، فما الذي يمنعه عن اتباع سيرة أسلافه ، وممارسة جرائم اجداده ؟

على أن عقائده في خلق القرآن أو تفضيل الإمام علي على سائر الصحابة أو ما أشبه لم تجعله من شيعة علي وآل علي (ع) ، لأن استمراره في حكم المسلمين بذاته أكبر جريمة ، وأعظم ذنب ، وأُعثى طغيان في منطق علي وشيعة علي . إذ أنه نوع من ادعاء الربوبية ومنازعة الله في الألوهية !

ثم إن سيرته - مع الناس من القتل والتنكيل ونشر الفساد بمختلف ألوانه - ، تتنافى وأبسط مبادئ التشيع لآل البيت (ع) . فماذا الذي يمنعه إذاً من ارتكاب جريمة القتل .. بحق آل بيت الرسالة ؟ .

وإننا لنقرأ في صفحات التاريخ ما يهدينا إلى أن شخص المأمون قد أشرف على عملية اغتيال الإمام عبر جهازه السري ، الذي يشابه في أيامنا مخابرات قصر الإمارة أو الرئاسة في الدولة الأشد ديكتاتوريةً في العالم .

وقد جاءت هذه الخطوة بعد أن قمعت أو هدأت ثورات العلويين في أطراف الأرض ، وانتهت فلسفة استدعاء الإمام إلى خراسان . وبعد أن بدأت تتجمع الغيوم فوق بغداد ، وظهرت ارهاصات ثورة العباسيين ، وأزمع المأمون على العودة إلى بغداد لاسترضاء بني عمه .. والعودة إلى سيرة أجداده من لبس السواد وتوزيع المناصب على ذوي قرباه .

ولعل الحديث التالي يوضح هذه الحالة التي تنبه لها الإمام الرضا (ع) وأشار إليها للمأمون ربما ليعرف هذا الأخير أن الإمام واقف على نواياه ، وأنه إنما يسايره حسب المصلحة العامة .

قال الإمام الرضا للمأمون يوماً في حديث مفصل :

اتق الله يا أمير المؤمنين في أمور المسلمين ، وارجع إلى بيت النبوة ، ومعدن المهاجرين والأنصار ، ثم قال : أرى أن تخرج من هذه البلاد ، وتتحول إلى موضع آبائك وأجدادك ، وتنظر في أمور المسلمين ، ولا تكلهم إلى غيرك ، فإن الله عز وجل سائلك عما ولاّك [480].

ثم إن الفضل بن سهل تنبه إلى ذلك أيضاً فتراه يمتنع عن الرحيل مع المأمون ، ويعتذر في ذلك إليه بالقول : إن ذنبي عظيم عند أهل بيتك وعند العامة ، والناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع ، وبيعة الرضا ولاءً من السعادة والحساد ، وأهل البغي ان يسعوا بي ، فدعني أخلفك بخراسان ) [481] .

ولكن المأمون يصد عليه بذلك وقد دبر له أمراً . إنه لا يريد اغتياله في معقل قوته وبين أنصاره وأعوانه بل في الطريق . و- فعلاً تقول الرواية - فلما كان بعد ذلك ( والحوار بين المأمون والفضل ) - بأيام ونحن في بعض المنازل - دخل الفضل الحمام فدخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه ، واجتمع القواد والجند ومن كان من رجال ذي الرئاستين على باب المأمون ، فقالوا : اغتاله وقتله فلنطلبن بدمه [482] .

وهكذا تخلص المأمون من أبرز مراكز القوى داخل سلطته ، ولم يبق أمامه إلاّ الإمام الرضا (ع) الذي تم اغتياله بعد ذلك بأيام قلائل .. أوَلا يدل قرب وفاته (ع) وقتل الفضل على وجود مؤامرةٍ قذرةٍ ضده .

هكذا يتأكد لنا ما يذهب إليه المشهور من العلماء الشيعة بأن الإمام استشهد بسم المأمون حسبما يقول العلاَّمة المجلسي بقوله : الأشهر بيننا أنه مضى شهيداً بسم المأمون ، ونضيف .. وينسب إلى السيد علي بن طاوس أنه أنكر ذلك [483] .

دعنا نستمع إلى نبأ شهادته من لسان المعاصرين :

ألف :

كان أبو الصلت الهروي من المعاصرين للإمام ومن صانعي الأحداث أو المراقبين لها عن كثب لصلته الوثيقة بالإمام ، فيسأله أحمد بن علي الأنصاري عن سبب اغتيال المأمون للإمام الرضا (ع) فيقول له : ( كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا (ع) مع إكرامه ومحبته له ، وما جعل له من ولاية العهد بعده ؟ فقال : إن المأمون إنما كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله ، وجعل له ولاية العهد من بعده ليري الناس أنه راغب في الدنيا فيسقط محله من نفوسهم ، فلما لم يظهر منه في ذلك للناس إلاّ ما ازداد به فضــــلاً عندهم ومحلاً في نفوسهــــم ، جلب عليه المتكلمين من البلــدان طمعاً في أن يقطعه واحــــد

منهم فيسقط محله عند العلماء ، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة .

فكان لا يكلّمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين له إلاّ قطعه وألزمه الحجة ، وكان الناس يقولون : والله إنه أولى بالخلافة من المأمون فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه فيغتاظ من ذلك ويشتد حسده ، وكان الرضا (ع) لا يحابي المأمون من حق ، وكان يجيبه بما يكره في أكثر أحواله فيغيظه ذلك ، ويحقده عليه، ولا يظهره له ، فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله فقتله بالسم ) [484] .

باء :

وينقل الشيخ المفيد - رضوان الله عليه - مجمل قصة شهادته ، مع بعض التفسير لأسباب غيظ المأمون منه - فيقول :

( دخل الرضا (ع) يوماً عليه فرآه يتوضأ للصلاة يصب الماء على يديه ، فقال : لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربك أحداً .

فصرف المأمون الغلام وتولى تمام وضوء نفسه وزاد ذلك في غيظه ووجده ) .

وكان (ع) يزري على الفضل والحسن ابني سهل عند المأمون ، إذا ذكرهما ويصف له مساوئهما وينهاه عن الإصغاء إلى قولهما ، وعرفا ذلك منه ، فجعلا يخطئان عليه عند المأمون ، ويذكران له عنده ما يبعده منه ، ويخوفانه من حمل الناس عليه فلم يزالا كذلك حتى قلبا رأيه فيه ، وعمل على قتله (ع) .

فاتفق أنه أكل هو والمأمون يوماً طعاماً فاعتل منه الرضا (ع) وأظهر المأمون تمارضاً ، فذكر محمد بن علي بن حمزة ، عن منصور بن بشر ، عن أخيه عبد الله بن بشر ، قال : أمرني المأمون أن أطول أظفاري على العادة ، ولا أظهر ذلك لأحد ففعلت ، ثم استدعاني فأخرج إلي شيئاً يشبه التمر الهندي فقال لي : أعجن هذا بيديك جميعاً ، ففعلت ، ثم قام وتركني ودخل على الرضا (ع) وقال له : ما خبرك ؟

قال : أرجو أن أكون صالحاً .

قال له : أنا اليوم بحمد الله أيضاً صالح ، فهل جاءك أحد من المترفقين في هذا اليوم ؟ قال : لا ، فغضب المأمون وصاح على غلمانه ثم قال : فخذ ماء الرمان الساعة فإنه مما لا يستغنى عنه ، ثم دعاني فقال : أئتنا برمّان فأتيته به ، فقال لي : أعصر بيديك ، ففعلت وسقاه المأمون الرضا (ع) بيده وكان ذلك سبب وفاته ، فلم يلبث إلاّ يومين حتى مات (ع) .

وذكر عن أبي الصلت الهروي أنه قال : دخلت على الرضا (ع) وقد خرج المأمون من عنده .

فقال لي : يا أبا الصلت قد فعلوها ، وجعل يوحد الله ويمجده .

وروي عن محمد بن الجهم أنه قال : كان الرضا (ع) يعجبه العنب ، فأخذ له منه شيئاً فجعل في موضـــــع أقماعه الأبر أياماً ، ثم نزع وجيء به إليه ، فأكل منه وهو في علته التي ذكرنا فقتله ، وذكر أن ذلــك

من لطيف السموم .

ولما توفي الرضا (ع) كتم المأمون موته يوماً وليلة ، ثم أنفذ إلى محمد بن جعفر الصادق (ع) وجماعة آل أبي طالب الذين كانوا عنده ، فلما حضروه نعاه إليهم وبكى ، وأظهر حزناً شديداً وتوجع وأراهم إياه صحيح الجسد ، وقال : يعزّ علي يا أخي أن أراك في هذه الحال . قد كنت أؤمّل أن أقدم قبلك ، فأبى الله إلاّ ما أراد .

ثم أمر بغسله وتكفينه وتحنيطه ، وخرج مع جنازته فحملها حتى أتى إلى الموضع الذي هو مدفون فيه الآن فدفنه ، والموضع دار حميد بن قحطبة في قرية يقال لها سناباد على دعوة من نوقان من أرض طوس ، وفيها قبر هارون الرشيد وقبر أبي الحسن (ع) بين يديه في قبلته ، ومضى الرضا (ع) ولم يترك ولداً نعلمه إلاّ ابنه الإمام بعده أبا جعفر محمد بن علي (ع) وكان سنّه يوم وفاة أبيه سبع سنين .[485]

جيم :

ويصف ياسر الخادم اللحظات الأخيرة من حياة الإمام الرضا (ع) حيث تجلت فيها روحه الربانية وخلقه المحمدي فيقول :

( لما كان بيننا وبين طوس سبعة منازل اعتل أبو الحسن (ع) فدخلنا طوس وقد اشتدت به العلة ، فبقينا بطوس أياماً ، فكان المأمون يأتيه في كل يوم مرتين فلما كان في آخر يومه الذي قبض فيه كان ضعيفاً في ذلك اليوم فقال لي بعدما صلى الظهر : يا ياسر أكل الناس شيئاً ؟

قلت : يا سيدي من يأكل ههنا مع ما أنت فيه .

فانتصب (ع) ثم قال : هاتوا المائدة .

ولم يدع من حشمه أحداً إلاّ أقعده معه على المائدة ، يتفقَّدهم واحداً واحداً ، فلما أكلوا قال : ابعثوا إلى النساء بالطعام .

فحمل الطعام إلى النساء فلما فرغوا من الأكل أغمي عليه وضعف ، فوقعت الصيحة وجاءت جواري المأمون ونساؤه حافيات حاسرات ، ووقعت الوجبة بطوس وجاء المأمون حاسراً يضرب على رأسه ، ويقبض على لحيته ، ويتأسف ويبكي وتسيل الدموع على خديه فوقف على الرضا (ع) وقد أفاق ، فقال : يا سيدي والله ما أدري أي المصيبتين أعظم على فقدي لك وفراقي إياك أو تهمة الناس لي أني اغتلتك وقتلتك ، قال : فرفع طرفه إليه ثم قال :

أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر ، فإن عمرك وعمره هكذا وجمع بين سبابتيه [486] .

كما أنه يصف الحوادث التي وقعت بعد وفاته مباشرةً ، فيقول :

( فلما كان من تلك الليلة ، قضى عليه بعد ما ذهب من الليل بعضه ، فلما أصبح اجتمع الخلق وقالوا: هذا قتله واغتاله يعني المأمون ، وقالوا : قتل ابن رسول الله واكثروا القول والجلبة ، وكان محمد بن جعفر بن محمد (ع) استأمن إلى المأمون وجاء إلى خراسان وكان عم أبي الحسن ، فقال له المأمون : يا أبا جعفر أخرج إلى الناس وأعلمهم أن أبا الحسن لا يخرج اليوم وكره أن يخرجه فتقع الفتنة ، فخرج محمد بن جعفر إلى الناس فقال : أيها الناس تفرّقوا فإن أبا الحسن لا يخرج اليوم ، فتفرق الناس وغسل أبو الحسن في الليل ، ودفن ) [487] .

وبقي ضريح الإمام الرضا (ع) مزاراً يؤمه شيعة أهل البيت (ع) ومحبوهم لما أُثر عن النبي (ص) وأهل بيته من الترغيب في ذلك ، فقد روي عن النبي (ص) أنه قال :

ستدفن بضعة مني بأرض خراسان لا يزورها مؤمن إلاّ أوجب الله عزّ وجلّ له الجنة ، وحرّم جسده على النار [488].

وروي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال :

يخرج ولد من ابني موسى اسمه اسم أمير المؤمنين ( عليه الصلاة والسلام ) إلى أرض طوس ، وهي خراسان يقتل فيها بالسم ، فيدفن فيها غريباً ، من زاره عارفاً بحقه أعطاه الله تعالى أجر من أنفق من قبل الفتح وقاتل [489].

وطفق الشعراء يرثونه بما يفتت كبد الحجر ألماً . كما أخذوا بفضح أولئك الغدرة الذين اغتالوه بالسم ، فقال دعبل ضمن قصيدة :

أَرعتــــــــــــــــم ذئـــــــــابـــــــــــاً مــــــــــــن أميّـــــــــة وانتحــــــت عليهــــــــــــــــم دراكــــــــــــــــــــــــاً أزمــــــــــــة وسنـــــــــــــــون

وعاثــت بنـــــــوا العبّـــــــاس فــي الديـــن عيثـــــــــــــة تحكــــــــــــــــم بـــــــــــــــــــه ظالـــــــــــــــــــــم وظنيـــــــــــــــــــــــــن

وسمـــــــــــــوا رشيـــــــــداً ليـــــــس فيهـــــــــــم لرشـــــده ومـــــــــــا ذاك مــــــــــــــــأمــــــــــون وذاك أميـــــــــــــــــــــــــن

فمــــــــــا قبلــــــــــــــت بالرشـــــــــــــــــد منهــــــــــــم رعايـــــــة ولا لـــــــــــــــولـــــــــــــــــي بالأمـــــــــــانــــــــــــــــة ديـــــــــــــــــــــــن

رئيسهــــــــــــــــــــم غــــــــــــــــــاد وطفــــــــــــــــــــلاً بعـــــــــــــــــــــده لهــــــــــــــذا دنــــــــــــــــا بــــــــــــــــــــاد وذاك مجـــــــــــــــــــون

ألا أيهــــــــــــــــــــا القبـــــــــــــــر الغـــــــــــــــريــــــــــــب محلـــــــــــــه بطــــــــــــوس عليـــــــــــــك الساريـــــــــات هتـــــــــون [490].

وقال أبو فراس الحمداني يرثي الرضا (ع) :

بــــــــــاؤوا بقتــــــــــــــــــل الرضــا مــــن بعـــــد بيعتـــــــــه وأبصـــــروا بعضـــــه مــن رشدهـــــم وعمــــــــوا

عصابـــــــــــة شقيت مــــــــــن بعد مـــــــــــــا سعـــــدت ومعشــر هلكــــــــوا مــــن بعدمـــــــــا سلـمـــــــــــــــوا

لا بيعــــــــــــــة ردعتهــــــــــــــــــم علــــــــــــــى دمـــــائهـــــــــــــــم ولا يــميــــــــــــــــن ولا قــــــــــربـــــــــــــى ولا رحـــــــــــــــــم [491]

كلماته المضيئة :

هل يكفي الإنتماء الاسمي إلى الإمام الرضا (ع) من دون معرفته ، والاستضاءة بنور علمه ومعارفه ؟ وكيف يرجو شفاعة النبي وأهل بيته يوم الجزاء من لم يتبع سننهم ، ويهتدي بنورهم ؟

إن علينا أن نبحث عن وصاياهم التي خلفوها لنا كنوز لا تنفد ، وتلاد نعم لا تضاهى .

والإمام الرضا (ع) خلّف ميراثاً عظيماً من المعارف والعلوم ، خصوصاً في ا لحكمة الإلهية وبيان فلسفة الأحكام والرد على المذاهب الباطلة .

ونحن في خاتمة كتابنا الذي تشرّف باسمه نثبت وصاياه الرشيده وأشعاره الحكيمة ، لعلنا ننتفع بها :

قال علي بن شعيب :

( دخلت على أبي الحسن الرضا (ع) فقال لي : يا علي من أحسن الناس معاشاً ؟ قلت : يا سيدي أنت أعلم مني ، فقال : يا علي من حسن معاش غيره في معاشه ، يا علي من أسوأ الناس معاشـاً ؟ قلـــت : أنت أعلم ، قال : من لم يعش غيره في معاشه ، يا علي أحسنوا جوار النعم فإنها وحشية ما نأت عن قوم فعادت إليهم ، يا علي إن شر الناس من منع رفده وأكل وحده وجلد عبده ، أحسن الظن بالله فإن من حسن ظنه بالله كان الله عند ظنه ، ومن رضي بالقليل من الرزق قبل منه اليسير من العمل ، ومن رضي باليسير من الحلال خفت مؤونته ونعم أهله ، وبصَّره الله داء الدنيا ودواءها وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام . ليس لبخيل راحة ، ولا لحسود لذة ، ولا لملول وفاء ، ولا لكذوب مروءة ) [492] .

وقال (ع) :

( أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن : يوم ولد فيرى الدنيا ويوم يموت فيعاين الأخرة وأهلها ، ويوم يبعث فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا ، وقد سلّم الله على يحيى وعيسى (ع) في هذه الثلاثة المواطن ، فقال في يحيى :

«

وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً »

( مريم / 15 ) ، وفي عيسى :

«

وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ اُبْعَثُ حَيّاً »

( مريم / 33 ) .

لا يتم عقل امرئ مسلم حتى تكون فيه عشر خصال :

( الخير منه مأمول والشر منه مأمون ، يستكثر قليل الخير من غيره ، ويستقل كثير الخير من نفسه ، لا يسأم من طلب الحوائج إليه ، ولا يمل من طلب العلم طول دهره ، الفقر في الله أحب إليه من الغنى ، والذل في الله أحب إليه من العز في عدوه والخمول أشهى إليه من الشهرة ، ثم قال : العاشرة وما العاشرة ، قيل له ما هي ؟ قال : لا يرى أحداً إلاّ قال هو خير مني واتقى ، إنما الناس رجلان رجل خير منه وأتقى ورجل شر منه وأدنى ، فإذا لقي الذي هو شر منه وأدنى قال : لعل خير هذا باطن وهو خير له وخيــــري ظاهر وهــــو شـر لي ، وإذا رأى الذي هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به ، فإذا فعل ذلك فقــــد

علا مجده وطاب خيره وحسن ذكره وساد أهل زمانه ) [493] .

وكان ينشد أشعاراً يقول فيها ( ولعلها من إنشائه ) :

إذا كــــــــان دونــــــــــــــــــي مـــــــــــــن بليــــــــــــت بجهلـــــــه أبيــــت لنفســــــــــــي أن أقــــاـبــــــــــــــل بالجهـــــــــــل

وإن كــــان مثلــــــــي فـــي محلــــــــــي مــــــن النهــــــى أخـــذت بحملــــي كي أجــــــــلّ عــــــــــن المثــــــــــل

وإن كنت أدنى منه في الفضــــــــل والحجـــــــــى عـــــــــــرفـــــــــت لــــه حــــــــق التقــــــــــدم والفضــــــــــل [494]

وقـــــال :

إنــــــــــــــــَّك فــــــــــــــــــــي دنــيــــــــــــــــــــــــــــاً لهـــــــــــــــــــــا مـــــــــــــدة يقبــــــــــــــــــل فيهــــــــــــــــــــــا عمـــــــــــــــــل العامـــــــــــــــــــــــــل

أمــــــــــــــــــــــــا تـــــــــــــــــرى المـــــــــــــــوت محيطـــــــاً بهــــــــــا يصلــــــــــــــــــــــــب فيهــــــــــــــــــــــــــا أمــــــــــــل الآمـــــــــــــــــــــــــل

تعجـــــــــــــــــــــل الـــــــــــــــــذنب بمـــــــــــــــــــــــــــــــــا تنتهــــــــــــــــي وتـــــــــــــــــــأمــــــــــــــــل التـــــــــــوبـــــــــــــــة مــــــــــــن قــــابــــــــــل

والمـــــــــــــــــــــــــــــــــوت يأتــــــــــــــــــــي أهلـــــــــــــــــه بغتـــــــــــــــــــة مــــــــــــــاذاك فعـــــــــــــــــــل الحــــــــــــــــــــازم العـــــــاقــــــــــــل [495]

وإلى هنا نختم حديثنا المختصر عن حياة سيدنا الإمام الرضا (ع) نسأل الله أن ينفعنا به يوم القيامة ويجعل ذلك وسيلةً لاتباعنا له في الدنيا وشفاعته عند الله في الآخرة .

الامــام الجـــواد ( عليه السلام )

قدوة وأسوة

تمهيــد

أحمد ربي الموفُق عباده لطاعته ، المقدّر لهم الخير في عبادته ، وأصلّي على النبَّي محمد سيد المرسلين وعلى آله المعصومين .

وبعد :

يسرني أن أجد فرصة متاحة لأغمـــــر يراعي الصغير في بحر البطولة والعبقرية من حياة الإمــــام الجــــواد - تاسع الأئمة الطاهرين - حيث تمتزج فيه البطولة بالاستقامة والطهارة بالمجد والشرف .

والإمام الجواد الذي أتشرف بسرد موجز من حياته المباركة ، كان أقصر الأئمة عمراً حينما أدركته المنية ، فلقد ولد في سنة ( 195 ) هجرية وتوفي في سنة ( 220 ) ، وكل عمره ( 25) سنة فقط .

ومن هذه الناحية تكون حياة إمامنا ذات أهمية تدعو إلى البحث أكثر ، حيث أن بعض البسطاء من الناس قد يستغربون إمامة فتى لم يبلغ من العمر أكثر من سبع سنوات .

ومن جهة اخرى إن عصر الإمام الجواد (ع) كان من العصور الزاخرة بالأحداث المختلفة والتيارات المتفاوته التي تدعو إلى دراسته بصورة خاصة .

ونحن إذ نقدم حياة الإمام (ع) ، نستعرض أيضاً بعض الأحداث التاريخية التي رافقت حياته بين سنة (195 - و 220) هجرية .

فإليكم الحديث مفصلاً ..

الفصل الأول : الاصل الكريم والميلاد المبارك

1 - والــده :

والده الإمام علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) .

ولقد كان عبقرياً ملأ فضله وعلمه آفاق العالم الإسلامي ، فلهج بمدحه مخالفوه ، كما هلل به شيعته وموالوه سواءً بسواء ، فكان الرضا الذي ارتضى به الخالق إماماً وحجه ، وللخلق سيداً وقدوةً .

2 - أمــّه :

السيدة سبيكة النوبية التي وفدت إلى المدينة مع من وفد من أهل إفريقيا ، فالتحقت بآل الرسول وأنجبت سيدهم الإمام الجواد (ع) ، وتذهب بعض الروايات إلى أنها كانت من قوم مارية القبطية زوجة النبي الأكرم ( صّلى اللـه عليه وآله وسلم ) إلاّ أن ذلك مستبعد .

3 - ميــلاده :

في عقيدتنا : أن الإمام الذي يختاره اللـه لكي يكون قدوة صا7لحة للخير والصلاح يلزم أن يكون كاملاً من جميع الوجوه ، وأيما نقص أو عيب في الفكر أو في الجسم عند الإنسان يبين أنه ليس إماماً . ولقد كان الإمام الرضا (ع) قد بلغ الخامسة والخمسين ولم يرزق ولداً ، فذهبت بعض الإشاعات تنشر من قبل دعاة الواقفية الذين قالوا بغيبة الإمام موسى الكاظم (ع) ، وأنه لم يوص إلى أي إمام من بعده ، قائلين بأن الإمام الرضا عقيم ليس له ولد وهو عيب واضح في القدوة الدينية . فإذاً لا يكون هو الإمام الحق حسب زعمهم ، حتى كتب بعضهم إليه (ع) رسالة قال فيها :

كيف تكون إماماً وليس لك ولد ؟ فأجابه الرضا (ع) : وما علمك أنه لا يكون لي ولد واللـه لا تمضي الأيام والليالي حتى يرزقني اللـه ولداً ذكراً يفرق بين الحق والباطل [496] .

وجاء إليه رجل من أصحابه يقول : من الإمام بعدك ؟ فقال : أبني ، ثم قال : هل يجترئ أحد أن يقول ابني وليس له ولد ؟ ، فيحدث الراوي أنه لم تمض الأيام حتى ولد أبو جعفر الجواد [497] .

ودخل عليه ابن قيام الواسطي وكان من الواقفية الذين لم يكونوا يعترفون بالإمام الرضا (ع) ، فأراد أن يعيب عليه فقال : أيكون إمامان ؟ ، قال : لا ، إلاّ أن يكون أحدهما صامتاً ، فقال الرجل : هو ذا أنت ليس لك صامت ، فقال : بلى واللـه ليجعلن اللـه لي من يثِّبت به الحق وأهله ويمحق به الباطل وأهله ، ولم يكن له في ذلك الوقت ولد ، فولد له أبو جعفر بعد سنة [498] .

الميلاد المبارك :

وكانت سنة ( 195 ) هجرية ، وكان شهر رمضان وكان الشيعة المخلصون يعيشون أشد الانتظار لمقدم ولد الإمام الرضا (ع) ، ذلك الذي زخرت أحاديثهم تنبئ عن مقدمه المبارك ، وهم الراوون عن الرسول (ص) انه قال : يأبي خيرة الإماء النوبية ، وهو يشير إلى الإمام (ع) ، ليدحضوا حجة الواقفية الذين قد أكثروا من الدعايات ضده .

وكانت تلك الليلة توافق ليلة التاسع عشر من شهر اللـه المبارك ، حينما بزغ من أفق الحق بدر أضحى شمساً للهدى ، وسماءً في جلاله ، ألا وهو الإمام الجواد (ع) .

وتناقل الرواة الحديث على لسان والده العظيم يقول : هذا هو المولود الذي لم يولد في الإسلام أعظم بركة منه [499].

أجل ، لقد ولد الإمام في الوقت الذي اختلفت فيه الشيعة أيما اختلاف ، وكانت دعايات بعض المخالفين لهم تشق طريقها إلى أفئدة بعض السذج منهم ، كانت آية صدق الإمام الرضا وإبطال زعم الواقفية تثبت بميلاد ابنه الموعود .

فلما ولد الجواد (ع) ذهبت دعايات الواقفية أدراج الرياح ، وذابت كما يذوب الملح في الموج الهادر ، وأصبح ميلاد الإمام سبباً لانتصار الحق واتحاد الشيعة ، أتباع الحق ، بعد الإختلاف والتفرقة ، أضف إلى ذلك أن الإمام الرضا (ع) كان يقول دائماً أن ابني خليفتي عليكم ، وهم يرون أن لا ابن له ، وحتى إذا بلغ مرحلة الكهولة ، ومضت الشكوك تراود أفئدة البسطاء من الموالين جاء الإمام الجواد (ع) ، فكان ميلاداً مباركاً ميموناً ، فهللت الشيعة وسبحت لله لمّا رأت في أحاديثها الصدق والحق .

عهد الصبـــا :

وترعرع الطفل الشريف في رعاية والده العظيم (ع) كما يترعرع الورد على كف النسيم ، يضفي عليه والده المعارف والأداب ، فتجتمع أصول الحسب بشرف المحتد ، فإذا بالمواهب تتفتح كما يتفتح الفجر عن صبح بهيج .

وإذا بمشيئة اللـه تتعلق على أن يكون الطفل وهو في صباه سيداً وإماماً .

سبــــــــــــــــــق الدهــــــــــــــــــــر كلـــــــــــــــه فـــــــــــي صبـــــــــــاه و مشــــــــــى الــــدهــــر خادمـــــــــــــاً من ورائـــــــــــه

وعندما كان الإمام الجواد (ع) في الخامسة من عمره جاءت رسل المأمون العباسي تحث والده الإمام الرضا (ع) ليهاجر إلى العاصمة الجديدة للبلاد الإسلامية وهي خراسان ، ويكون ولي العهد وذلك بعدما قتل المأمون أخاه الأمين ، وكانت الظروف تُكره الإمام علي بن موسى (ع) على أن يغادر المدينة إلى خراسان عاصمة المسلمين الجديدة ، حيث إن الحرب التي قامت بين الأخوين العباسيين ، الأمين والمأمون ، كانت قد صرفت كثيراً من طاقات المسلمين وجعلتها وقوداً مشتعلاً لها ، بل قامت ثورة خراسان على كتف الشيعة هناك الذين استخدموا في ثورة العباسيين الأولى ضد الحكم الأموي ، ثم سرقت ثورتهم بانحراف القادة وذهبت مساعيهم أدراج الرياح ، وهذه الثورة الثانية قامت كرد فعل قوي لانحراف دفة الحكم عن آل بيت الرسول ، أصحابه الشرعيين ، والمأمون كان ممن تشيع ظاهراً ونادى بمبادئ الشيعة صريحاً في باكورة أمره ، وأكره الإمام الرضا (ع) على الرحيل إلى خراسان ليثبت فكرة تشيعه في قلوب التابعين ثم يصنع ما يشاء .

استعد الإمام الرضا للرحيل ولكنه كان يعلم يقيناً بما سوف يحدث له بعد سفره ، إنها رحلة واضحة المعالم ، ولكنها خطة يجب أن يسير عليها الإمام حسب الظروف وحسب التعاليم الظاهرية للدين الإسلامي ، يجب عليه أن يبلّغ فيعذر ، ويعمل حسب مقدرته على بث الوعي الصحيح للمسلمين وإن كان ذلـــك سوف يؤدي بحياته الكريمة ، ثم ودع أهله وجعل الخليفة عليهم ابنه الجواد ، وهو ابن الخامسة فقط ، لِمَا كان يعرف منه من الكفاءة الموهوبة ، وراح الرضا يخترق السهل والجبل إلى خراسان حيث تستقبله الجماهير المؤمنة ويجعلونه ولياً لعهدهم ، تنتقل إليه الخلافة الإسلامية بعد المأمون ، وكانت الرسائل تربط بين الوالد والولد ، فترد تباعاً بشأن الأمور الخاصة أو العامة .

أما الإمام الرضا (ع) فقد كان معجباً بنجله أيما إعجاب ، فإذا جاءت رسالة عن الجواد (ع) وأراد أن يخبر شيعته بها قال : كتب لي أبو جعفر أو كتبت إلى أبي جعفر ، فلا يقول ابني ولا يرضى باسمه الخاص ، بل يكنيه إجلالاً واحتراماً .

وأما ولده التقي في المدينة فقد كان يختلف إليه الشيعة اختلافهم إلى والده الرضا (ع) ، لأنهم كانوا يعرفون أنه إمامهم في المستقبل ، وعلى حد تعبيرهم ( إمامهم الصامت ) .

وذات يوم والشيعة في حضرة الجواد (ع) وفي مشهده إذ تغير حاله وأخذ يبكي ، وعندما جاء الخادم ، أمره بإقامة المأتم ..

- عزاء من ؟ ومأتم لمن ؟ جعلت فداك .

- مأتم أبي الحسن الرضا (ع) ، فقد استشهد الساعة في خراسان .

- بأبي أنت وأمي ، خراسان قطر يبتعد عن المدينة آلاف الأميال ، وتفصل بينهما سهول وجبال .

- نعم ، دخلني ذل من اللـه عزّ وجلّ لم أكن أعرفه ، فعرفت أن أبي قد توفي [500] .

وكان الإمام الجواد يكنى بأبي جعفر ليكون تذكاراً لجده أبي جعفر بن علي الباقر (ع) ، ولأئه لـــم يكــن لــه

ولد يسمى بجعفر .

وكان يلقب بألقاب شتى ، منها الجواد ، والتقي ، والمرتضى ، والمنتجب ، والقانع ، بيد أن لقباً واحداً اشتهر به أكثر من غيره وهو ابن الرضا ذلك أن أباهه الإمام الرضا (ع) طار صيتُه في الآفاق لما اشتهر به من الفضل والجد فعرف الناس ثلاثة من أبنائه باسم ابن الرضا ولذلك كان كل من الإمام التاسع والعاشر والحادي عشر يعرفون بـ ( ابن الرضا ) لِمَا كان للرضا من الصيت الواسع الحسن بين المسلمين .

الفصل الثاني :حياته وإمامته

إمام وهو ( صبي ) :

الإمامة في عقيدة الشيعة القائلين بها تختلف عنها في منطق الاخرين كثيراً . فإن الكلمة تعني عند الشيعة الخلافة المطلقة لشخص الرسول ولعلومه ومعارفه ومؤهلاته وصلاحياته ومسؤولياته ، وبتعبير آخر صورة كاملة للنبوة ، بفارق واحد فقط هو أن الإمام لا يوحى إليه ، بينما النبي يوحى إليه ، فلا نبي بغير وحي ، ولكن الإمام بدونه .

والنبوة - في منطق الإسلام - صلاحية فريدة في نوعها ومتميزة عن صلاحيات سائر البشر ، يهبها اللـه تعالى إلى فرد يختاره ويجعله وسيطاً يتلقى الوحي منه وينشره بين قومه ، وإذا تمت هذه الفكرة عن النبي تتم عن الإمام بنفس الملاك ونفس الحجة ، وكما أنه إذا صح القول بأنه من الممكن ان يغتدي الصبي نبياً وهو في المهد رضيع ، صح ذلك في الإمام (ع) .

والعمر وإن كان مقياساً للناس في الأغلب ولكنه ليس بمقياس عند اللـه ، فليس الأكبر سناً أعظم عند اللـه دائماً ، وربَّ شيخ يغيض عند ربه ولربَّ شاب أو طفل محبوب عند بارئه . العمل الصالح والنية الطيبة والإمكانيات الموهوبة وما إلى ذلك مما يهب الفرد قيمة وتقديراً هو المقياس الأول عند الإسلام وفي منطق القرآن ، أضف إلى ذلك أن القول بالنبوة والإمامة لا يمكن إلاّ بعد الإيمان الكامل بقدرة اللـه تعالى على أن يجعل من فرد واحد مجمعاً للفضائل ، ومرجعاً للمعارف ، وقدوة للناس وأسوة للخلق ، فالإعتقاد بالنبوة يفرض على الإنسان الإيمان بالمعجزة ( والتي هي ما يتعدى طاقة الإنسان ) وله ميزة على سائر البشر حتى يمكنه أن يقودهم ويقول لهم إنني نذير من اللـه .

وإذا كانت المعجزة تعني شيئاً خارجاً عن الطبيعة الجارية في سائر الخلق ، فلا فرق بين أن يكون الفرد الذي تتجلى فيه المعجزة كبيراً أو صغيراً ، غنياً أو فقيراً .

وطالما زعمت الأمم السالفة : أن النبي يجب أن يكون له مال وثراء عريض ، ويكون سيداً في قومه ورئيساً مهيباً ، فأفهمهم أنبياؤهم (ع) بأن اللـه إذا أراد أن ينزَّل رحمته في فرد لا تتوفر فيه هذه الشروط ويجعله نبياً ، فهل في ذلك من بأس ؟ قال تعالى :

«

أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ »

(الزخرف/32)

ولطالما أعجبت الأمم ودهشت حينما رأت أن اللـه قد بعث إليها صبياً نبياً ، ولكن ربنا أبرز لهم أن فعله ذلك إنما كان تعمداً ليعرفهم معنى النبوة ، وأنها ليست موهبة عادية تبرز في فرد دون فرد ، تبعاً للبيئة والتربية ، وإنما هو نبوءٌ عن عادة الخلق ، وخرق لسنة الكون ، ونداء جديد ليس يشابهه نداء المخلوقات ، بأن اللـه هو القادر وأنه إليه المصير ، يقول علي بن أسباط في حديث له عن الإمامة : رأيت أبا جعفر الجواد (ع) قد خرج إليّ فأحددت النظر إليه ، وإلى رأسه وإلى رجله لأصف قامته لأصحابنا بمصر فخر ساجداً وقال : إن اللـه احتج في الإمامة بمثل ما احتج في النبوة ، قال تعالى :

« وءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً »

(مريم/12)

وقال اللـه سبحانه وتعالى :

«

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ »

(يوسف/22)

وقال :

« وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً »

(الاحقاف/15)

فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي ويجوز أن يؤتى وهو ابن أربعين سنة [501] .

أجل إذا كانت النبوة معجزة اللـه تعالى ، أو كانت آية الابتداع فسواء - إذاً - أن تظهر في كبير أو صغير.

وعن بعض الرواة أنه قال : كنت واقفاً عند أبي الحسن الرضا (ع) بخراسان فقال قائل : يا سيدي .. إن كان كون فإلى من ؟ ( يريد : إذا متَّ فمن الإمام بعدك ؟ ) .

قال : إلى أبي جعفر ابني .. وكأن القائل استصغر سن أبي جعفر .

فقال أبو الحسن (ع) : إن اللـه سبحانه بعث عيسى رسولاً نبياً صاحب شريعة مبتدئة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر (ع) [502] .

نعم : ليس هناك أي استبعاد لما يشاؤه اللـه ويفعله ، فقد يجعل عيسى نبياً في أول صباه .. ويهب محمد بن علي الإمامة صبياً أيضاً .

كان للإمام أبي عبد اللـه الصادق (ع) ولد كان يدعى علي بن جعفر وكان وجيهاً محترماً لدى الشيعة الإمامية ، وكان يفد إليه الناس ، وينهلون من علومه التي تلقاها مباشرةً عن أبيه الصادق (ع) .. وأخيه موسى بن جعفر (ع) .. فيروي بعض المحدثين : أنه كنت عند علي بن جعفر بن محمد (ع) جالساً بالمدينة ، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما سمعه من أخيه يعني موسى بن جعفر (ع) إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي بن موسى (ع) المسجد - مسجد رسول اللـه (ص) فوثب علي بن جعفر بلا رداء ولا حذاء ، فقبَّل يده وعظَّمه ، فقال له أبو جعفر (ع) : يا عم اجلس رحمك اللـه .

قال : يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم .

فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون أنت عم أبيه وأنت تفعل هذا الفعل؟

فقال : اسكتوا ، إذا كان اللـه عزَّ وجلَّ - وقبض على لحيته - لم يؤهل هذه الشيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه ، اُنكر فضله ! نعوذ باللـه مما تقولون بل أنا له عبد [503] .

بعد وفاة والده :

توفـــي الإمام الرضا في خراسان مسموماً ، ودفن في طوس ، واختلفت - بسبب موته - الأمة الإسلاميـة ، وفقدت الأمة ملامحها التي كانت قد تميَّزت بها في عهد الرضا (ع) .. فرجعت الخلافة إلى بغداد .. وقرَّب المأمون العباسي من يريد وغدر بمن كان قد نصره على أخيه الأمين في نزع الملك عنه ، وغيَّر شعاره الذي اتخذه للثورة التي كانت نصف علوية ، ورجع إلى لبس السواد ، فأصبحت الدولة دولة عباسية مرة أخرى .

ومرة كان الإمام يسير في طرقات بغداد العاصمة المزدحمة وقد اصطف الناس لابن الرضا (ع) ، رافعين أعناقهم كي يفوزوا بنظرة منه .. وكان من الواقفين رجل زيدي المذهب ، يحدثنا فيقول :

خرجت إلى بغداد فبينما أنا بها ، إذ رأيت الناس يتدافعون ويتشرفون ويقفون ، فقلت :

ما هذا ؟ .. فقالوا : ابن الرضا (ع) ، فقلت : واللـه لأنظرن إليه ، فطلع على بغل أو بغلة ، فقلت لعن اللـه أصحــــاب الإمامة حيث يقولون أن اللـه افترض طاعة هذا ، فعدل إليَّ وقال : يا قاسم بن عبد الرحمــــن :

«

فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ »

(القمَر/24)

فقلت في نفسي : ساحر واللـه .

فعمد إليَّ فقال :

«

أَءُلْـقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ »

(القمَر/25)

قال : فانصرفت وقلت بالإمامة وشهدت أنه حجة اللـه على خلقه واعتقدت به ()، أجل ... إن الاستغراب الذي غمر قلب هذا الرجل من جهة صغر السن كان جوابه في هاتين الآيتين المباركتين واضحاً مستبيناً.

وكان الإمام الجواد (ع) رابضاً بالمدينة وهو الفتى الحديث في السن ، المقدر عند اللـه والخلق ، قد أعطت الشيعة - وهي يومذاك كثرة لا يستهان بها - أزّمتها بيده فنهض بتدبيرها خير نهوض ، حتى التفت حوله طائفة من أصحاب أبيه وجده .

في المدينة :

وبقي في المدينة المنورة بعد عهد إمامته زهاء ثمانية أعوام ، يحترمه الخاص والعام ويأوي إليه البعيد والقريب ، يسألونه عما أغمض وأشكل عليهم فيحل ذلك لهم في أسرع وقت .

يقول بعض الرواة : لما مات أبو الحسن الرضا (ع) حججنا فدخلنا على أبي جعفر وقد حضر من الشيعة من كل بلد لينظروا إلى أبي جعفر (ع) فدخل عمه عبد اللـه بن موسى وكان شيخاً كبيراً نبيلاً ، عليه ثياب خشنة وبين عينيه سجادة .

فجلس وخرج أبو جعفر (ع) من الحجرة وعليه قميص قصب ورداء قصب ونعل خوص بيضاء ، فقام عبد اللـه - عمه - واستقبله وقبَّل بين عينيه وقامت الشيعة ، وقعد أبو جعفر (ع) على كرسي ونظر الناس بعضهم إلى بعض تحيراً لصغر سنه .

فانتدب رجل من القوم فقال لعمه : أصلحك اللـه ما تقول في رجل أتى بهيمة [504] . فقال تقطع يمينه ويقام عليه الحد .

فغضب أبو جعفر (ع) وقال : يا عم إتق اللـه - إتق اللـه - إنه لعظيم أن أفتيت يوم القيامة بين يدي اللـه عز وجل لما أفنيت الناس بما لا تعلم ، فقال له عمه : يا سيدي أليس قال هذا أبوك (ع) ؟

فقال أبو جعفر (ع) : إنما سُئِل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها ، فقال أبي : تقطع يمينه للنبش ويضرب حد الزنا ، فإن حرمة الميِّتة كحرمة الحية فقال : صدقت يا سيدي أنا أستغفر اللـه ، فتعجب الناس فقالوا له : يا سيدنا أتأذن أن نسألك ؟

فقـال : نعم ، فسألوه في مجلس عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها وله تسع سنين [505] .

وهذه القصة تبين مدى أهمية الإمام في عين الشيعة ثم غزارة علمه وطول باعه وسعة ثقافته التي نبعث عن قلب نفخ فيه اللـه علمه ومعرفته وأكثر فيه تقواه وخشيته .

/ 35