الفصل الثاني - نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

إن بين الإنسان وبين أولياء الله حجاب من الغرور والكبر ، فمن خالف هواه وتحدى غروره وحارب كبر نفسه ، يخرق هذا الحجاب ، فيدخل في حزب الله وينتمي إلى أوليائه ويستقر في مقامه عند الله . لذلك أكّد القرآن على الكافرين قولهم :

«

أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ »

( القمر / 24 ) .

وقد جاء في حديث روي عن ابن أبي كثير قال : لما توفي موسى (ع) وقف الناس في أمره فحججت في تلك السنة فإذا أنا بالرضا (ع) فأضمرت في قلبي أمراً فقلت : أبشراً منا واحداً نتبعه فمر كالبرق الخاطف علي ، فقال :

أنا والله البشر الذي يجب عليك أن تتبعني . فقلت : معذرة إلى الله وإليك فقال : مغفور لك [456] .

الشجرة الطيبة :

كان الرضا من الشجرة الطيبة التي أكرمها الله ، وبارك لأمة محمد فيها وقال سبحانه :

«

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »

( آل عمران / 34 ) .

ولقد اختار الله يحيى بن زكريا للنبوة وآتاه الحكم صبيّاً ، بحكمته البالغة وإكراماً لوالده زكريا .

واختار مريم صديقة حينما نذرت امرأة عمران ما في بطنها محرراً لله .

واختار عيسى ابن مريم ( عليهما السلام ) كرامة لوالدته الصديقة فكلم في المهد قائلاً :

«

إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ »

( مريم / 30 )

.

فلماذا نستغرب حينما يختار من أهل بيت محمد (ص) اثنا عشر نقيباً ، أئمة هداة ميامين بحكمته البالغة وكرامة لأقرب الناس إلى الله سيد المرسلين محمد صلّى الله عليه وآله .

الخلق الكريم :

وقد فاضت من هذه النفس الكريمة تلك الأخلاق الحسنة التي تحدثنا بها كتب التاريخ ، أوليس الطيب دليل الزهـرة ، والشعاع دليل الضياء ؟ وهل الإيمان إلاّ الحب ، وهل دليل الحب غير تلك الأخلاق الحسنـة ؟

كان (ع) في قمة التواضع وحسن المعاشرة مع الناس هكذا ينقل إبراهيم بن العباس يقول : ما رأيت أبا الحسن الرضا جفا أحداً بكلامه قط ، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه ، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها ، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قط ، ولا اتكأ بين يدي جليس له قط ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط ، ولا رأيته تفل قط ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط ، بل كان ضحكه التبسم .

وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه حتى البواب والسائس ، وكان (ع) قليل النوم بالليل ، كثير السهر يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح ، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر ، ويقول : ذلك صوم الدهر ، وكان (ع) كثير المعروف والصدقة في السر ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه [457] .

وكان من تواضعه (ع) أنه دخل الحمام فقال له بعض الناس : دلكني فجعل يدلكه ، فإذا بالناس يدعون الرجل يعرّفونه بالإمام ، وإذا الرجل جعل يستعذر منه ولكنه يطيب قلبه ويستمر في تدليكه [458] .

ويروي رجل من أهل بلخ رافق الإمام في سفره إلى خراسان ويقول : دعا يوماً بمائدة له فجمع مواليه من السودان وغيرهم ، فقلت : جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة ، فقال : مه إن الرب تبارك وتعالى واحد والأم واحدة والأب واحد ، والجزاء بالأعمال [459] .

وكان يكره لغلمانه أن يقوموا له احتراماً عندما يكونون على الطعام ويقول : إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون ، فلا تقوموا حتى تفرغوا [460] .

وكان عظيم الحلم والعفو ، ويذكر من حلمه أن قائداً من أتباع بني العباس يسمى بـ ( الجلودي ) أمره هارون الرشيد بأن يذهب إلى المدينة ويسلب نساء آل أبي طالب ، ولا يدع على كل واحدة منهن إلاّ ثوباً واحداً ، ففعل الرجل ، مما أثار سخطاً عظيماً عند الإمام الرضا (ع) ، ولكن بعد أن عهد إلى الإمام الرضا بولاية العهد عارض ذلك الجلودي ونقم من بيعة الإمام فغضب عليه المأمون ، وأخرجه يوماً ليقتله من بعد أن قتل اثنين قبله فلما تمثل أمامه شفع له الإمام الرضا عند المأمون وقال :

يا أمير المؤمنين هب لي هذا الشيخ .

فظـن الجلودي أنه يعين عليه ، فأقسم على المأمون ألا يقبل قوله . فقال المامون والله لا أقبل قوله فيــــك ، وأمر بضرب عنقه [461] .

وكان سخياً كريماً . وكان من آدابه في الصدقات أنه إذا جلس للأكل أتى بصفحة فتوضع قرب مائدته ، فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شيء شيئاً فيوضع في تلك الصفحة ، ثم يأمر بها للمساكين ثم يتلو هذه الآية :

«

فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ »

( البلد /11 ) .

ثم يقول :

علــــم الله عز وجل أن ليــــس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل الجنة ( عبر الإطعام ) [462] .

وفرّق بخراسان ماله كله في يوم عرفة ، فقال له الفضل بن سهل : إن هذا لمغرم ، فقال (ع) :

بل هو المغنم ، ولا تعدن مغرماً ما اتبعت به أجراً وكرماً [463] .

وكان إذا أعطى أحداً سعى ألا يذهب بهاءه ولا يراق ماء وجهه ، والقصة التالية تعلمنا كيف نجعل صدقاتنا خالصة لوجه الله لا منّة فيها ولا استعلاء .

يروي اليسع بن حمزة ويقول : ( كنت أنا في مجلس أبي الحسن الرضا (ع) أحدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام ، إذ دخل عليه رجل طوالٌ أدم ، فقال له : السلام عليك يا ابن رسول الله ، رجل من محبيك ومحبي أبائك وأجدادك (ع) مصدري من الحج ، وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلةً ، فان رأيت أن تنهضني إلى بلدي ولله علي نعمة ، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك ، فلست موضع صدقة فقال له : إجلس رحمك الله ، وأقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا ، وبقي هــو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا ، فقال : تأذنون لي في الدخول ؟ فقال له : يا سليمان قدم الله أمــرك ، فقام فدخل الحجرة وبقي ساعة ثم خرج ورد الباب ، وأخرج يده من أعلى الباب وقال : أين الخراساني ؟ فقال : ها أنا ذا فقال : خذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرك بها ولا تصدق بها عني ، وأخرج فلا أراك ولا تراني .

ثم خرج فقال سليمان : جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت ، فلماذا سترت وجهك عنه ؟ فقال :

مخافــــة أن أرى ذلك السؤال في وجهه لقضائي حاجته ،أما سمعت حديث رسول الله (ص) : المستتر بالحسنة ، تعدل سبعين حجة ، والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له أما سمعت قول الأول :

متـــــــــــــى آتــــــــه يـــومــــــــــــــــــــاً لأطلـــــــــــــب حــاجــــــــــــــة رجعـــــــــت إلـــى أهلـــــي ووجهــــــي بمـــــائـــــه [464].

وقد أعطى أبا نواس ثلاثمائة درهم لم يكن عنده سواها ، وقدّم إليه بغلته التي كان يمتطيها ، وحينما أعطى دعبل الخزاعي ستمائة دينار اعتذر إليه .

وكان كثير الصدقة في السر ، وأكثرها كان في الليالي المظلمة [465] .

وكان (ع) مكتمل الجسم عظيم الهيبة . وكأيِّن من ذي حاجة دخل عليه ليطلبها منه فشغله جلاله وهيبته عنها فبادره الإمام بقضائها ، وسنذكر جانباً من ذلك عن بيان علمه .

هكذا أفاض الإمام علمــه :

أربعة من أئمة الهدى تسنى لهم نشر معارف الإسلام في الآفاق . أولهم الإمام أمير المؤمنين وآخرهم الإمام الرضا والصادقان محمد بن علي وجعفر بن محمد ( عليهم جميعاً صلوات الله ) .

وبالرغم من أن جميع أئمة الهدى نشروا العلم ، إلاّ أن الظروف ساعدت هؤلاء الأربعة على ذلك أكثر من الآخرين .

ولقد سبق الحديث - ببعض التفصيل - عن علم الأئمة ومصادره المتنوعة فيما سردته من حياة الإمام الباقر (ع) فنكتفي بذلك ، وإنما نشير إلى آفاق العلم التي تناولتها أحاديث الإمام الرضا (ع) ونقل عن اليقطيني أنه قال : لما اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا جمعت من مسائله مما سئل عنه وأجاب عنه خمس عشرة ألف مسألة [466] .

ولقد قال الإمام مرة :

كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون ، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إلي بأجمعهم وبعثوا إلي بالمسائل فأجيب عنها [467] .

وقد بدأ بالفتيا في مسجد الرسول ، وعمره الشريف نيف وعشرون عاماً .

ولنعرف دور الإمام الرضا في هذا الحقل لابد أن نعود قليلاً إلى الوراء ، لنعرف أن الحزب العباسي الذي تسلط على رقاب المسلمين بعد الفراغ السياسي الذي أحدثه غياب السلطة الأموية قد وجد نفسه أمام تيارات سياسية معارضة ، تعتمد على الفكر ، وتتسلح بالنظريات الثقافية ، وفي طليعتها التيار العلوي الذي كان يقود المعارضة السياسية إلى جنب قيادة الساحة الفكرية ، والحزب العباسي الذي كان يعيش خواءً نظرياً قاتلاً لم يجد حيلةً إلاّ البحث عن مصادر خارجية للثقافة ، فشجع حركة الترجمة وتوجه إلى الكتب الفلسفية قبل الكتب العلمية ، وبنشاط هذه الحركة حدث في الأمة اضطراب فكري وتوتر ثقافي مما أضحى يهدد وحدة الأمة .

وكانت عوامل شتى تساهم في هذا الخطر :

اولاً :

انشغال المفكرين بالقضايا السياسية .

ثانياً :

ازدياد الإضراب السياسي ، والحروب الداخلية التي تجر بطبيعتها الأمة إلى المزيد من التوتر الفكري .

ثالثاً :

وجود تيارات غريبة عن الأمة كان هدفها إفساد ثقافة المجتمع ومحاربة الإسلام باسم الإسلام ، والتي كانت تغذيها حركات سياسية متصلة بالكفار .

وفي عهد المأمون العباسي بلغ الإضطراب الفكري قمته مما دفع الإمام الرضا (ع) بالتصدي لها .

وقد ساعده في ذلك انتقاله إلى حاضرة البلاد الإسلامية ، وقبوله لولاية العهد مما جعله في قلب الصراعات الفكرية .

وهكذا كثرت حواراته مع سائر الملل والمذاهب ، مما حدى بعلمائنا الكرام إفراد كتب حول ما روي عنه (ع) ، مثل ما فعل الصدوق ( رحمه الله ) في كتابه عيون أخبار الرضا .

وحينما نتدبر في كلمات الإمام الرضا وحججه التي ألقاها على خصوم الإسلام أو مخالفي المذهب نراها تتسم بمنهجية علمية عميقة . مما يدل على مستوى الثقافة في عصره لأن الأئمة - كالأنبياء ( عليهم جميعاً صلوات الله ) - إنما يكلمون الناس على قدر عقولهم ، وبمستوى أفكارهم .

كذلك نستوحي من التأمل في كلماته أنها كانت تصد تشكيكات يبثها الأعداء حول الإسلام وبالذات حول عقلانية أحكامه ، من هنا كثرحديثه عن علل الشرائع ، والحكم التي وراء أحكام الدين . كما أن طائفة من كلماته المضيئة تعالج الشؤون الحياتية مثل رسالته الطبية المعروفة بطب الرضا (ع) .

ومما يميز حياة الإمام الرضا (ع) العلمية أن كلماته كانت تلقى قبولاً في كافة الأوساط الإسلامية ، ولعل ورود مدينة نيسابور التي كانت من الحواضر العلمية في العالم الإسلامي أظهرت مدى اهتمام علماء الإسلام بأحاديث الإمام ، دعنا نستمع إلى هذه القصة الطريفة :

( لما دخل إلى نيسابور في السفرة التي فاض فيها بفضيلة الشهادة ، كان في مهد على بغلة شهباء عليها مركب من فضة خالصة ، فعرض له في السوق الإمامان الحافظان للأحاديث النبوية أبو زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي رحمهما الله فقالا : أيها السيد ابن السادة ، أيها الإمام وابن الأئمة أيها السلالة الطاهرة الرضية ، أيها الخلاصة الزاكية النبوية بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين إلاّ أريتنا وجهك المبارك الميمون ، ورويت لنا حديثاً عن آبائك عن جدك ، نَذْكُرك به .

فاستوقف البغلة ، ورفع المظلة ، وأقر عيون المسلمين بطلعته المباركة الميمونة ، فكانت ذؤابتاه كذوابتي رسول الله (ص) فقال (ع) :

حدثني أبي موسى بن جعفر الكاظم ، قال : حدثني أبي جعفر بن محمد الصادق قال : حدثني أبي محمد بن علي الباقر ، قال : حدثني أبي علي بن الحسين زين العابدين ، قال : حدثني أبي الحسين بن علي شهيد أرض كربلاء ، قال : حدثني أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شهيد أرض الكوفة ، قال : حدثني أخي وابن عمي محمد رسول الله (ص) قال : حدثني جبرائيل (ع) قال : سمعت رب العزة سبحانه وتعالى يقول :

( كلمة لا إله إلاّ الله حصني فمن قالها دخل حصني ، ومن دخل حصني أمن من عذابي ) .

صدق الله سبحانه وصدق جبرائيل (ع) وصدق رسول الله والأئمة عليهم السلام [468] .

الفصل الثاني

الإمــام وعصــره

عاش الإمام الرضا (ع) عصرين مختلفين وكان عهد هارون الرشيد من أقسى العهود على آل البيت ، حيث قرأنا عما في سيرة الإمام الكاظم (ع) كيف ضيّق العباسيون على شيعة أهل البيت ، وكيف آذوا الإمام وهجّروه عن دار أمنه عند قبر جده إلى البصرة ، ثم الى بغداد حيث وضعوه إما تحت الإقامة الجبرية ، وإما في قعر السجون المظلمة حتى دسوا إليه السم ، فمات شهيداً مظلوماً .

وخلال السنين الأربع الأولى من عهد إمامته تجرع الإمام كوالده غصص الألم . وهناك قصتان تعكسان طبيعة هذه الغصص :

1 - يروي أبو الصلت الهروي : كان الرضا ذات يوم جالساً في منزله إذ دخل عليه رسول هارون الرشيد فقال : أجب أمير المؤمنين فقام ، فقال لي :

يا أبا الصلت إنه لا يدعوني في هذا الوقت إلاّ لداهيةٍ ، فوالله لا يمكنه أن يعمل بي شيئاً أكرهه لكلمات وقعت إليّ من جدي رسول الله .

قال فخرجت معه حتى دخلنا على هارون الرشيد فلما نظر إليه الرضا قرأ هذا الحرز ( وذكره ) فلما وقف بين يديه نظر إليه هارون الرشيد وقال : يا أبا الحسن قد أمرنا لك بمائة ألف درهم ، واكتب حوائـــــج أهلـــك ، فلما ولي عنه علي بن موســى وهارون ينظر إليه في قفاه قال : ( أردت وأراد الله وما أراد الله خيــــر ) [469] .

وقد أشار يحيى البرمكي على هارون بقتل الإمام الرضا كما أشار غيره بذلك فاستعظم الأمر ، وقال : ما ترى تريد أن أقتلهم كلهم .

2 - والقصة الثانية تلك التي رويناها سابقاً عن دخول الجلودي على الإمام وسلبه أهله . حتى هلك هارون ، وشب الخلاف بين ورثته بدأ الإمام نشاطه بقدر من الحرية النسبية .

لقد وصّى هارون لثلاثة من أبنائه بولاية العهد وهم الأمين والمأمون والمؤتمن بالترتيب ، ولمعرفته بميول العباسيين إلى الأمين الذي كانت والدته زبيدة ترعاه ، خشي على المأمون الذي كان يرى فيه كفاءة أكثر لادارة البلاد فمنحه بعض المناصب في الدولة ..

وكـان الفرس الذين كانوا لا يزالون متنفذين في الدولة العباسية بالرغـم من نكبة البرامكة يميلون نحو المأمون لأن أمه منهم ولأنه تربى في أحضانهم .

من هنا كانت سحُب الفتنة تتجمع في سماء الأمة ، وكان هلاك هارون الرشيد في خراسان في وقت مبكر وقبل أن يرتب أوضاع البلاد ، فعجَّل ذلك في اشتعال نار الفتنة ، كما أن مرافقة المأمون لوالده التي جاءت - حسب بعض الروايات - بإشارة من فضل بن سهل ساهمت فيها .

لقد سارع الأمين وربما بإشارة من بعض قواده العباسيين في خلع أخيه ونصب ابنه ولياً للعهد ، وكان من الطبيعي أن يرفض المأمون ذلك مما حدى بالأمين إلى بعث بعض قواده ليأتون به مغلولاً .

وقد شجع المأمون بعض قادة جيشه ولا سيما من هم من الفرس على التمرد ، ففعل وانتهى إلى الحرب بين الأخوين التي انتهت بخلع الأمين واستتب الأمر لأخيه .

وكانت هذه الحرب أول حرب بين العباسيين ، ومن أسوأ الحروب الداخلية بين المسلمين . مما زعزع الثقة بالنظام السياسي عند الجماهير وشجع المعارضة على الثورة ، فإذا بأطراف البلاد تنتفض وتخلع الحاكم وتبايع واحداً من العلويين .

وكانت أخطر وأعظم هذه الثورات حركة أبي السرايا في الكوفة التي قادها السري بن منصور ، وعقدت لواء الزعامة لواحد من أبناء الإمام الحسن المجتبى (ع) واسمه محمد بن إبراهيم بن إسماعيل .

وانتشرت هذه حتى شملت الكوفة والواسط والبصرة والحجاز واليمن . ووقعت بينها وبين جيوش بني العباس معارك طاحنة لم يظفر العباسيون بها إلاّ بالحيلة والمكر [470] .

وفي مكة المكرمة ثار محمد ابن الإمام جعفر الصادق (ع) وبويع بالخلافة ولقب بـ ( أمير المؤمنين ) .

وكانت هناك ثورات أخرى في بلاد الشام والمغرب وكلها تدل على اضطراب الوضع السياسي ، حتى أن الناس لم يبايعوا المأمون إلاّ بعد أن استتب الأمر له وعاد إلى بغداد ، وبعد حروب أكلت مئات الألوف من المسلمين .

وكان عصر المأمون يتميز - كما أشرنا سابقاً - بتنامي التيارات الفكرية الغريبة التي كان من شأنها زعزعـــة النظام الثقافي للأمة ، وكانت نتيجة طبيعية لحركة الترجمة التي شجّعها العباسيون من دون رؤيــة .

كما أن الثقة عند قيادات الجيش الذي يمثل العماد الأصلي للنظام كادت تنهار ، حتى قال هرثمة بن حازم ( أحد قيادات العسكر ) للمأمون :

يـــا أميــر المؤمنين لن ينصحك من كذبك ، ولن يغشك من صدقك ، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك ، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك [471] .

ولعلنا نضيف إلى كل ذلك حالة المجون والترف التي اشتهرت بين رجال الدولة وبطانتهم ، والتي كان يشجعها النظام لإلهائهم عن الحقائق المرة التي يعيشها المسلمون . وإذا كان آل ( برمك ) بالأمس أبطال هذا الميدان ، فإن آل ( سهل ) خلفوهم فيه ، وما يذكره بعض المؤرخين عن زواج الخليفة (ببوران) وما رافقه من مظاهر البذخ والترف شاهد على ذلك .

الإمام الرضا يتحدى الفساد :

حينما نتدبر في سورة هود أو سائر السور القرآنية التي تقص علينا رسالة الأنبياء السابقين (ع) نجد أنهم يتحدون الفساد بكل ألوانه . وبالذات الفساد الذي كان مستشرياً في قومهم ، ويعتبرون كل فساد سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو فكري ينتهي إلى الضلالة أو الشرك أو الكفر وكانوا (ع) يذكِّرون الناس بالله ويحذِّرونهم عذابه في الدنيا وعقابه في الآخرة ، لأن هذا هو السبيل لإصلاح الإنسان وردعه عن الفساد بكل ألوانه .

وسار الأئمة (ع) على طريق الأنبياء ، حاربوا كل ألوان الفساد ، بذات الوسيلة ، والإمام الرضا (ع) كأجداده قاد المخلصين من أبناء الأمة في هذا السبيل وتحمل الأذى في سبيل الله .

لقد رفض الاعتراف بالسلطة الجاهلية التي بناها العباسيون باسم الإسلام واعتبرها سلطة غاصبة ظالمة فاسدة جملةً وتفصيلاً .

وناهض التيارات الفكرية المخالفة لأصول الشريعة ، وقاوم الفساد الخلقي في الأمة وذلك بنشر تعاليم الدين الحنيف .

ولم يكن الإمام وحده في مواجهة ذلك الفساد العريض ، بل كانت صفوة الأمة وخيرة العلماء والحكماء والقادة المخلصين وهم شيعة أهل البيت (ع) يتبعونه في ذلك .

وقد قرأنا معاً كيف وبأي أسلوب كان الأئمة يقودون الأمة ، ولكن هنا ينبغي أن نتحدث قليلاً عما أثار التساؤل عند المؤرخين ، وهي نقطةٌ مضيئةٌ - في رأينا - تلمع في حياة الإمام الرضا ، ومنعطف أساسي في حركة الشيعة وهي قبول الإمام بولاية عهد المأمون .

وقبل كل شيء نتساءل عن الأسباب التي دفعت الخليفة العباسي للإقدام على هذه الخطوة الجريئة .

المأمون يتقرب للإمام :

والمأمون الذي ولد من أم فارسية ، وتربى في حجر المؤيدين للبيت العلوي ، وعرف الكثير من تاريخ الإسلام وتبحَّر في علم الكلام ، هل كان شيعياً فعلاً ، وهل كان عهده إلى الإمام الرضا بدافع سليم ، ثم انقلب عن ذلك ودس السم إلى الإمام لأن الملك - كما قال والده هارون له يوماً - عقيم وأنه لو نازعه فيه لأخذ الذي فيه عيناه ؟

أم كانت خطة دبرها الفضل بن سهل وغيره من بطانته ووقع فيها من دون التفات ، ثم عاد عنها وقتل الفضل غيلة في الحمام وقضى على الإمام بالسم ؟

أم أنها كانت خطته اشترك فيها هو وغيره من القادة ، وكانت مجرد لعبة سياسية ؟

كل ذلك ممكن ! ولم أجد فيما اطلعت عليه من التاريخ ما يدل على واحد من الإحتمالات بالتأكيد ، على أني أميل إلى الإعتراف بكل العوامل التاريخية ، وآخذها بعين الإعتبار عند تفسير ظاهرة معينة ، لأن مثل هذه العوامل تتفاعل مع بعضها في حياتنا وتصنع من حيث المجموع حياتنا الحاضرة ، فلماذا لا نعتقد أن الماضي كالحاضر تصنعه كل العوامل المؤثرة في حياة البشر ؟

من هنا أميل إلى الرأي التالي .. أن كلا من خلفية المأمون الثقافية ، والظروف السياسية ، ورأي بطانته ، أقرت في الإقدام على هذه الخطوة الجريئة ، ولولا واحدة منها لم يقدم ..

وهذا يعني أن انقلاب المأمون على الإمام الرضا (ع) جاء بعد تحول الظروف السياسية - وأن الرجل لم يكن شيعياً بالمعنى الحقيقي للكلمة ، وهو إتِّـباع أهل البيت ، والتعبد لله في طاعته ، إنما كان متأثراً ببعض الأفكار الشيعية كتفضيل أمير المؤمنين (ع) على غيره من الخلفاء ، والإعتقاد بخيانة معاوية ، وبأن القرآن كتاب محدث وما أشبه .

إلاّ أن ذلك لا يجعل الفرد شيعياً في نظر الأئمة (ع) وهو بالتالي كان صاحب سلطة يبحث عنها أكثر مما يبحث عن المبادئ والقيم .

ولعل والده هارون كان يشير إلى ابنه وإلى خواصّ أهل بيته كما يشير الطغاة عادة إلى بطانتهم من الإعتراف بحق معارضيهم ، وذلك عندما تستيقظ ضمائرهم ولو لفترة محدودة . وهكذا يروي المأمون أنه إنما تشيّع على يد والده .

وقد أسرّ المأمون إلى بعض خواصه بالسبب الذي دعاه إلى هذا الأمر ، فعن الريّان بن الصلت قال : أكثر الناس في بيعة الرضا (ع) من القواد والعامة ، ومن لا يحب ذلك ، وقالوا : إن هذا من تدبير الفضل بن سهل ذي الرئاستين ، فبلغ المأمون ذلك ، فبعث إليَّ في جوف الليل فصرت إليه ، فقال : يا ريّان بلغني أن الناس يقولون : أن بيعة الرضا (ع) كانت من تدبير الفضل بن سهل ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين يقولون هذا . قال : ويحك يا ريّان أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة قد استقامت له الرعية والقـواد ، واستوت له الخلافة فيقول له إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك ، أيجوز هذا في العقل ؟ قلــــت لــــه : لا والله يا أمير المؤمنين ما يجسر على هذا أحد ، قال : لا والله ما كان كما يقولون ولكن سأخبرك بسبب ذلك .

إنه لما كتب إليّ محمد أخي يامرني بالقدوم عليه فأبيت عليه ، عقد لعلي بن عيسى بن ماهان وأمره أن يقـيِّدني بقيد ويجعل الجامعة في عنقي ، فورد علي بذلك الخبر ، وبعثتُ هرثمة بن أعين الى سجستان وكرمان وما والاهما فأفسد علي أمري ، وانهزم هرثمة وخرج صاحب السرير ، وغلب على كور خراسان ، من ناحيته ، فورد عليَّ هذا كله في أسبوع .

فلمــــا ورد ذلك عليَّ لم يكن لي قوة بذلك ولا كان لي مال أتقوى به ، ورأيت من قـوادي ورجالــــي الفشــــل

والجبن ، أردت أن ألحق بملك كابل ، فقلت في نفسي : ملك كابل رجل كافر ويبذل محمد له الأموال فيدفعني إلى يده ، فلم أجد وجهاً أفضل من أن أتوب إلى الله عزّ وجلّ من ذنوبي وأستعين به على هذه الأمور وأستجير بالله عزّ وجلّ ، فأمرت بهذا البيت وأشار إلى بيت تكنس ، وصببت عليَّ الماء ، ولبست ثوبين أبيضين وصليت أربع ركعات ، قرأت فيها من القرآن ما حضرني ودعوت الله عزّ وجلّ واستجرت به، وعاهدته عهداً وثيقاً بنية صادقة إن أفضى الله بهذا الأمر إليَّ وكفاني عاديته ، وهذه الأمور الغليظة ، أن أضع هذا الأمر في موضعه الذي وضعه الله عزّ وجلّ فيه .

ثم قوي فيه قلبي فبعثت طاهراً إلى علي بن عيس بن هامان فكان من أمره ما كان ، ورددت هرثمة إلى رافع ( بن أعين ) فظفر به وقتله ، وبعثت إلى صاحب السرير فهادنته وبذلت له شيئاً حتى رجع ، فلم يزل أمري يقوى حتى كان من أمر محمد ما كان ، وأفضى الله إلي بهذا الأمر ، واستوى لي .

فلما وافى الله عزّ وجلّ لي بما عاهدته عليه ، أحببت أن أفي الله تعالى بما عاهدته ، فلم أر أحداً أحــق بهذا الأمر من أبي الحسن الرضا (ع) ، فوضعتها فيه فلم يقبلها إلا إن عليَّ ما قد عملت ، فهذا كان سببهــا ) [472] .

ولعل هذا السبب كان أيضاً من الدواعي المساعدة إلاّ أن أبرز العوامل التي دفعته إلى ذلك كانت الظروف السياسية التي أشرنا إليها حيث كانت علاقته بالعباسيين سيئة لقتله أخاه أميناً ، كما أن القيادات العربية لم تكن راضية عنه بسبب تفضيله الصارخ للقيادات الفارسية ، أما أنصار البيت العلوي فقد رأوا ووجدوا الفرصة مؤاتية للإنتقام من السلطة العباسية الغاشمة ، وانتفضوا في كل مصر . فماذا بقي له من فرص الإستمرار في السلطة ؟

ولكن محصلة خطط المأمون ، والأقدار التي أجرت الرياح في اتجاهه كانت التالية .

1 - اكتساب ود أنصار البيت العلوي باستقدام الإمام الرضا لولاية عهده .

2 - تصفية لكثير من الثورات بالأعمال العسكرية وبقدر من السماحة والعطاء .

3 - الإلتفاف على العباسيين واكتساب ودّهم والعودة إلى خطهم ، بعد تصفية الفضل بن سهل ، وشهادة الإمام الرضا (ع) .

وهكذا تسنى للمأمون أن يستمر في الحكم وأن يحافظ على العرش العباسي من بعده .

الإمام يستجيب للتحدّي :

لماذا قبل الإمام الرضا (ع) ولاية عهد المأمون ، وإذا كان مضطراً إلى ذلك فكيف استجاب لتحديه ؟

قبل أن نجيب عن هذا السؤال لابد أن نلقي نظرة إلى واقع الحركة الرسالية عندما تولى الرضا مركز الإمامة من بعد والده الإمام الكاظم ( عليهما السلام ) .

في حديث شريف : كان من المقدر أن يكون الإمام موسى بن جعفر هو قائم آل محمد (ص) إلاّ أن الشيعة أذاعوا الأمر فبدا لله فتأخر إلى أجل غير مسمى .

وهذا يعني أن الحركة الرسالية كادت تبلغ يومئذ إلى مستوى التصدي لشؤون الأمة . وبالرغم من أن الإمام الكاظم (ع) قضى نحبه في سجن هارون مسموماً ، إلاّ أن الحركة لم تصب بأذى كثير كما نستفيد ذلك من حديث شريف .

وهكذا كانت إمامة الإمام الرضا (ع) واحدة من فرصتين :

الأولى :

القيام بحركة مسلحة قد تنتهي إلى دمار الحركة .

الثانية :

الإستجابة لتحدي المأمون بقبول ولاية العهد للعمل من خلال السلطة دون إعطاء شرعية لها، كما فعل النبي يوسف حينما طلب من عزيز مصر بأن يجعله على خزائن الأرض . ثم قام بما استطاع إليه سبيلا ، من الإصلاح من داخل النظام ..

وكما فعل الإمام أمير المؤمنين (ع) مع الخلفاء الذين سبقوه عندما قبل بالدخول في الشورى كواحد من ستة أعضاء .

وأقل ما في هذه الفرصة الثانية أنها تشكل حماية للحركة الرسالية من التصفية ، والقبول بها كحركة معارضة رسمية .

وهكذا نعرف أن الإمام لم يترك قيادته للحركة الرسالية - بل استفاد من مركزه الجديد ، كما استفاد الشيعة لدعم مسيرة حركتهم الرسالية التي فرضت نفسها على النظام فرضاً .

ولتحقيق هذه الغايات اتبع الإمام النهج التالي :

أولاً :

امتنع عن قبول الخلافة التي عرضها عليه المأمون أولاً ، ولعل السبب في رفض الخلافة كان أمرين :

ألف :

إن تلك الخلافة كانت ثوباً خاصاً بأمثال المأمون وإنها لا تليق بحجة الله البالغة ، لأن بنائها كان قائماً على أساس فاسد ، جيشها ونظامها وقوانينها وكل شيء فيها ، ولو قبل الإمام بها كان عليه أن يهدمها ويبنيها من جديد ولم يكن ذلك أمراً ممكناً في تلك الظروف .

بـاء :

إن المأمون لم يكن صادقاً في عرضه ، فهو كان يدبر حيلة مع حزبه الماكر للإيقاع بالإمام إن قبــــل ، بعد أخذ الشرعية منه ، كما فعل بالنسبة إلى ولاية العهد .

ثانياً :

اشترط في قبوله لولاية العهد ألاّ يتدخل في شؤون الدولة من قريب أو بعيد ، مما أفقدهم القدرة على تمشية الأمور باسم الإمام وكسب الشرعية له وأبان للعالمين ذلك اليوم وللتاريخ إلى الأبد أنه لا يعترف بشرعية النظام بأي وجه . وقد حاول المأمون مراراً أن يستدرج الإمام للتدخل في الشؤون فلم يقبل والحديث التالي يدل على ذلك :

إن المأمـــون لمّا أراد أن يأخذ البيعة لنفسه بإمرة المؤمنين ، وللرضا (ع) بولاية العهــد ، وللفضــــل بــــن

سهل بالوزارة ، أمر بثلاثة كراسي فنصبت لهم ، فلما قعدوا عليها أذن للناس ، فدخلوا يبايعون فكانوا يصفقون بأيمانهم على أيمان الثلاثة من أعلى الإبهام إلى الخنصر ويخرجون حتى بايع في آخر الناس فتى من الأنصار فصفق بيمينه من الخنصر إلى الإبهام ، فتبسم أبو الحسن الرضا (ع) ثم قال :

كل من بايعنا بايع بفسخ البيعة غير هذا الفتى فإنه بايعنا بعقدها .

فقال المأمون : وما فسخ البيعة من عقدها ؟ قال أبو الحسن (ع) :

عقد البيعة هو من أعلى ا لخنصر إلى أعلى الإبهام وفسخها من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر .

قال : فماج الناس في ذلك وأمر المأمون بإعادة الناس إلى البيعة على ما وصفه أبو الحسن (ع) وقال الناس : كيف يستحق الإمامة من لا يعرف عقد البيعة ، إن من علم لأولى بها ممن لا يعلم ، قال : فحمله ذلك على ما فعله من سمه [473] .

ثالثاً :

منذ الأيام الأولى لولايته للعهد انتهز الإمام كل فرصة ممكنة لنشر بصائر الوحي ، وأظهر أنه أحق بالخلافة من غيره ، فمثلاً نقرأ في وثيقة ولايته للعهد ما يدل على أن المأمون إنما عمل بواجبه في الأحتفاء بأهل بيت الرسالة ، دعنا نقرأ ونتدبر معاً الوثيقة التالية :

بسم ا لله الرحمن الرحيم الحمد لله الفعّال لما يشاء لا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وصلى الله على نبيّه محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين .

أقول وأنا علي بن موسى بن جعفـر أن أمير المؤمنين عضّده الله بالسداد ووفقَّه للرشاد ، عرف من حقنا ما جهله غيره ، فوصل أرحاماً قطعــت ، وآمن نفوساً فزعت ، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها إذ افتقرت ، مبتغياً رضى رب العالمين ، لا يريد جزاء من غيره ، وسيجزي الله الشاكرين ولا يضيع أجر المحسنين .

وإنه جعل إلي عهده ، والأمرة الكبرى إن بقيت بعده ، فمن حل عقدة أمر الله بشدها ، وقصم عروة أحب الله إيثاقها ، فقد أباح حريمه ، وأحل محرمة ، إذ كان بذلك زارياً على الإمام ، منتهكاً حرمة الإسلام ، بذلك جرى السالف ، فصبر منه على الفلتات ، ولم يعترض بعدها على العزمات خوفاً على شتات الديـــن ، واضطراب حبل المسلمين ، ولقرب أمر الجاهلية ، ورصد فرصة تنتهز ، وبائقة تبتدر .

وقد جعل لله على نفسي أن استرعاني أمر المسلمين ، وقلَّدني خلافته ، والعمل فيهم عامة وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته وطاعة رسوله (ص) وأن لا أسفك دماً حراماً ولا أبيح فرجاً ، ولا مالاً إلاّ ما سفكته حدوده ، وأباحته فرائضه ، وأن اتخير الكفاة جهدي وطاقتي ، وجعلت بذلك على نفسي عهداً مؤكداً يسألني الله عنه ، فإنه عزّ وجلّ يقول :

« وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً »

( الاسراء / 34 ) .

وإن أحدثت أو غيّرت أو بدَّلت كنت للغير مستحقاً ، وللنكال متعرضاً ، وأعوذ بالله من سخطه ، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته ، والحول بيني وبين معصيته في عافية لي وللمسلمين .

والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك ، وما أدري ما يفعل بي ، ولا بكم إن الحكم إلاّ لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين .

لكني امتثلت أمر أمير المؤمنين ، وآثرت رضاه ، والله يعصمني وإياه ، وأشهدت الله على نفسي بذلك ، وكفى بالله شهيداً [474] .

وهناك بصائر نستوحيها من كلمات الرضا المضيئة :

أولاّ :

قوله (ع) : عرف من حقنا ما جهله غيره إلخ .

حيث عرّض بهارون والد المأمون ، وبالنظام العباسي كله ، الذين لم يرعوا حرمة رسول الله (ص) .

ثانياً :

إنه قال : فمن حل عقدة أمر الله بشدها إلخ ، إشارة إلى خبث السرائر ، وحبك المؤامرات ضد الولاية .

ثالثاً :

قوله : بذلك جرى السالف إلى آخره ، لعله إشارة إلى سكوت الإمام أمير المؤمنين عن جهة أو صبر الأئمة على الأذى خوفاً على شتات الدين واضطراب حبل المسلمين .

رابعاً :

ثم بيان برنامجه للحكم الذي يخالف ما كان عليه عامة بني العباس ، وبضمنهم المأمون ذاته .

خامساً :

وقال أخيراً : والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك ، حيث بيّن بذلك أنهم أصحاب علم رسول الله وأنهم أحق بالأمر منهم .

وعندما تهيء الناس للبيعة لفت الإمام نظره إلى أن طريقتهم للبيعة خاطئة مما أثار زوبعة في الناس ، دعنا نستمع إلى الحديث التالي الذي جرى بين المأمون والإمام (ع) :

يا أبا الحسن أنظر بعض من تثق به توليه هذه البلدان ، التي قد فسدت علينا ، فقلت له : تفي لي وأفي لك ، فإني إنما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه ولا أنهى ، ولا أعزل ولا أولي ولا أسير حتى يقدمني الله قبلك ، فوالله إن الخلافة لشيء ما حدثت به نفسي ، ولقد كنت بالمدينة أتردد في طرقها على دابتي ، وإن أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فاقضيها لهم ، فيصيرون كالأعمام لي ، وإن كتبي لنافذة في الأمصار ، وما زدتني في نعمة هي علي من ربي فقال : أفي لك [475] .

وكانت من أعظم ما بيّن فضل الإمام ، مجالس المحاجّة التي كان يعقدها بين فترة وأخرى ، ولنستعرض معاً واحداً من هذه المجالس لنرى ماذا يدور فيها :

( قال الحسن بن محمد النوفلي : فبيّـنا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا (ع) إذ دخل علينا ياسر ، وكان يتولى أمر أبي الحسن (ع) فقال : يا سيدي إن أميري يقرؤك السلام ويقول : فداك أخوك إنه اجتمع إليَّ أصحاب المقالات ، وأهل الأديان ، والمتكلمون من جميع الملل ، فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم ، وإن كرهت ذلك فلا تتجشم ، وإن أحببت أن نصير اليك خف ذلك علينا ، فقال أبو الحسن (ع) .

أبلغه السلام وقل له : قد علمت ما أردت ، وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله تعالى [476] .

ثم بيَّن الإمام ما يدل على أن هدف المأمون من تشكيل مثل هذه المجالس ، النيل من قدر الإمام حيث يظن أنه قد يتوقف عن محاجة خصومه ولكن الإمام قال للنوفلي ( الراوي ) :

يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون ؟ قلت : نعم ، قال : إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم ، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميتهم ، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم ، فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته ، وترك مقالته ورجع إلى قولي ، علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له ، فعند ذلك تكون الندامة منه ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم [477] .

ثم بيّن الحديث - بعد هذا الكلام - وضع الجلسة وقال :

( فلما دخل الرضا (ع) قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجميع بني هاشم ، فما زالوا وقوفاً والرضا (ع) جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدثه ساعة ثم التفت إلى الجاثليق فقال : ياجاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر ، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا وابن علي بن أبي طالب (ع) فأحب أن تكلمه وتحاجه وتنصفه ، فقال الجاثليق : يا أمير المؤمنين كيف أحاجّ رجلاً يحتجّ علي بكتاب أنا منكره ، ونبي لا أؤمن به فقال الرضا (ع) : يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقرّ به ؟

فقال الجاثليق : وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل ، نعم والله اقرّ به على رغم أنفي . ثم قرأ الرضا (ع) عليه الإنجيل ، وأثبت عليه أن نبينا (ص) مذكور فيه ثم أخبره بعدد حواري عيسى (ع) وأحوالهم ، واحتج بحجج كثيرة أقرّ بها ثم قرأ عليه كتاب شعيا وغيره إلى أن قال الجاثليق : ليسألك غيري فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك . فالتفت الرضا (ع) الى رأس الجالوت واحتجَّ عليه بالتوراة والزبور وكتاب شعيا وحيقوق حتى أقحم ولم يُحِر جواباً .

ثم دعا (ع) بالهربذ الأكبر واحتجَّ عليه حتّى انقطع هربذ مكانه .

فقال الرضا (ع) : يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم فقام إليه عمــــران الصابيّ وكان واحداً من المتكلمين فقال : يا عالم النّاس لولا أنّك دعوت إلى مسألتك لم أُقـدم عليك بالمسائل ، فلقــــد دخلت الكوفة والبصرة ، والشام والجزيرة ، ولقيت المتكلّمين فلم أقع على أحـــد يثبت لي واحـــداً ليس غيره قائماً بوحدانيّته أفتأذن أن أسالك ؟ قال الرضا (ع) : إن كان في الجماعة عمران الصابيُّ فأنت هو ، قال : أنا هو ، قال : سل يا عمران ، وعليك بالنصفة وإيّاك والخطل والجور ، فقال : والله يـا سيّدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلّق به ، فلا أجوزه ، قال : سل عمّا بدا لـك .

فازدحم الناس وانضمَّ بعضهم إلى بعض ، فاحتج الرضا (ع) عليه وطال الكلام بينهما إلى الزّوال فالتفت الرضا (ع) الى المأمون ، فقال : الصلاة قد حضرت فقال عمران : يا سيدي لاتقطع عليَّ مسألتي فقد رقَّ قلبي قال الرضا (ع) : نصلّي ونعود ، فنهض ونهض المأمون ، فصلّى الرضا (ع) داخلاً وصلّى الناس خارجاً خلف محمد بن جعفر ، ثمّ خرجا فعاد الرضا (ع) إلى مجلسه ودعا بعمران ، فقال : سل يا عمران ، فسأله عن الصانع تعالى وصفاته وأُجيب إلى أن قال : أفهمت يا عمران ؟ قال : نعم يا سيّدي قد فهمت ، وأشهد أن الله على ما وصفت ، ووحّدت وأنّ محمداً عبده المبعوث بالهدى ودين الحقِّ ، ثمَّ خرَّ ساجداً نحو القبلة وأسلم .

قال الحسن بن محمد النوفليُّ : فلما نظر المتكلّمون الى كلام عمران الصابي وكان جدلاً لم يقطعه عن حجته أحد قطّ لم يدن من الرضا (ع) أحد منهم ، ولم يسألوه عن شيء ، وأمسينا ، فنهض المأمون والرضا (ع) فدخلا ، وانصرف الناس وكنت مع جماعة من أصحابنا إذ بعث إليَّ محمد بن جعفر فأتيته فقال لي : يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك ، لا والله ما ظننت أن علي بن موسى خاض في شيء من هذا قط ولا عرفناه به ، إنه كان يتكلم بالمدينة أو يجتمع إليه أصحاب الكلام ؟ قلت : قد كان الحجاج يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم ، وربما كلم من يأتيه بحاجة .

فقال محمد بن جعفر : يا أبا محمد إني أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمه أو يفعل به بلية ، فأشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء ، قلت : إذاً لا يقبل مني ، وما أراد الرجل إلاّ امتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه (ع) فقال لي : قل له : إن عمك قد كره هذا الباب ، وأحب أن تمسك عن هذه الأشياء لخصال شتى .

فلما انقلبت إلى منزل الرضا (ع) أخبرته بما كان من عمه محمد بن جعفر فتبسم (ع) ثم قال :

حفظ الله عمي ما أعرفني به لم كره ذلك ، يا غلام صر إلى عمران الصابي فائتني به فقلت :

جعلت فداك أنا أعرف موضعه وهو عند بعض إخواننا من الشيعة ، قال : فلا بأس فقرَّبوا إليه دابة ، فصرت إلى عمران فأتيته به ، فرحب به ودعا بكسوة فخلعها عليه ، وحمله ودعا بعشرة آلاف درهم ، فوصله بها .

فقلت : جعلت فداك حكيت فعل جدك أمير المؤمنين (ع) قال : هكذا يجب ، ثم دعا (ع) بالعشاء فأجلسني عن يمينه وأجلس عمران عن يساره ، حتى إذا فرغنا قال لعمران : انصرف مصاحباً وبكّر علينا نطعمك طعام المدينة ، فكان عمران بعد ذلك يجتمع إليه المتكلمون من أصحاب المقالات ، فيبطل أمرهــم حتى اجتنبوه ووصلــه المأمون بعشرة آلاف درهـــم ، وأعطاه الفضل مــالاً ، وحمله وولاه الرضـــــــا (ع)

صدقات بلخ فأصاب الرغائب ) [478] .

وقصة استعداد الإمام لصلاة العيد التي أرهبت النظام دليل آخر على أن الإمام لم يترك فرصة إلاّ واستفاد منها لإعلان دعوته ، وبيان أنه الأحق بالخلافة من البيت العباسي .

( لما حضر العيد بعث المأمون إلى الرضا (ع) يسأله أن يركب ويحضر العيد ويخطب لتطمئن قلوب الناس ، ويعرفوا فضله ، وتقرّ قلوبهم على هذه الدولة المباركة ، فبعث إليه الرضا (ع) وقال : علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي في هذا الأمر ، فقال المأمون : إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة والجند والشاكرية هذا الأمر ، فتطمئن قلوبهم ويقرُّوا بما فضّلك الله تعالى به ، فلم يزل يرادّه الكلام في ذلك . فلما ألح عليه قال :

يا أمير المؤمنين إن أعفيتني من ذلك فهو أحب إلي ، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله (ص) وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) .

قال المامون : اخرج كما تحب . وأمر المأمون القوّاد والناس أن يبكروا إلى باب أبي الحسن (ع) فقعد الناس لأبي الحسن (ع) في الطرقات والسطوح من الرجال والنساء والصبيان واجتمع القوّاد على باب الرضا (ع) .

فلما طلعت الشمس قام الرضا (ع) فاغتسل وتعمم بعمامة بيضاء من قطن وألقى طرفاً منها على صدره ، وطرفاً بين كتفيه وتشمّر ثم قال لجميع مواليه : افعلوا مثل ما فعلت ، ثم أخذ بيده عكازة وخرج ونحن بين يديه ، وهو حاف قد شمّر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمَّرة .

فلما قام ومشينا بين يديه رفع رأسه إلى السماء وكبر أربع تكبيرات ، فخيل إلينا أن الهواء والحيطان تجاوبه ، والقوّاد والناس على الباب قد تزينوا ولبسوا السلاح وتهيأوا بأحسن هيئة ، فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة حفاة قد تشمّرنا ، وطلع الرضا وقف وقفة على الباب وقال :

الله أكبر الله أكبر الله أكبر على ما هدانا ، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام ، والحمد لله على ما أبلانا ورفع بذلك صوته ورفعنا أصواتنا .

فتزعزعت مرو من البكاء والصياح فقالها : ثلاث مرات فسقط القوّاد عن دوابهم ، ورموا بخفافهم ، لما نظروا إلى أبي الحسن (ع) وصارت مرو ضجة واحدة ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة .

/ 35