الفصل الرابع: الصديقـة فاطمـة تتحـدى نكســة الأمــة - نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید


وتقول عائشة في الحديث الذي ذكره الحاكم في المستدرك عن جميع بن عمير ، تقول بعدما سألت عن علي : تسألينني عن رجل واللـه ما أعلم رجلاً أحب إلى رسول اللـه (ص) من عليّ ، ولا في الأرض امرأة كانت أحب إلى رسول اللـه (ص) من امرأته .


وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النبي (ص) قوله : ( فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ) .



الفصل الرابع: الصديقـة فاطمـة تتحـدى نكســة الأمــة


وقبض النبي (ص) في يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة ، بعد أن اكتملت الرسالة الإلهية ، وبتحقيق آخر هدف من أهدافها الرئيسية ، وهو نصب القائد والمنفِّذ الصالح ، وإرساء قواعد القيادة الصالحة للمسلمين إلى الأبد .


وكان ذلك القائد الذي نصَّبه اللـه للمسلمين بعد النبي (ص) الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، الذي كان صورةً حية وماثلة للتعاليم والْمُثل الإسلامية جميعاً .


وكانت تلك القيادة التي أمر بها اللـه تعالى ، قيادة الفرد الذي أدرك الشريعة الإسلامية إدراكاً كاملاً ، حتى صار فقيهاً في أحكامها ، بصيراً بأهدافها ، ثم طبّقها على نفسه ، وامتزج فيها وتجاوبت أطرافه لها ، ثم عرف الناس ذلك منه واطمأنوا على زعامته ، فجعلوه حجة بينهم وبين ربهم .


ولما اكتملت أهداف الرسالة ، اكتملت مسؤوليات الرسول وأعلن اللـه ذلك بقوله :



« الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً »


(المائدة/3)


ومرض النبيّ (ص) واشتدّ مرضه . وأخذ السم الذي دس إليه يؤثر فيه ، يوماً بعد يوم .. وكل يوم كان يقضيه الرسول ، كان خطوة إلى الموت .


وفاطمة (ع) تعرف أباها كأفضل ما تكون المعرفة . تعرف فضله ، ومجده وتعرف خدماته في سبيل اللـه والإنسانية .. وهي تحبه ، لأنه والدها ، وكان أحب الناس إلى اللـه جميعاً ، واللـه أحب إلى فاطمة من كل شيء .


فهي تحب أباها ، لأنه أقرب إليها ، ولأنه رسول اللـه الذي يجب أن تكنّ له الحب والإحترام .


وأما الآن فهي ترى والدها يجود بنفسه ، فلم تستطع أن تصبر على هذا المنظر الكئيب .. فخرجت .. وأُخرج كل من كان في الغرفة ، إلاّ عليّاً (ع) ، الذي كان يراقب أحوال الرسول (ص) . ذهبت فاطمة إلى بيتها ، وقبل أن يستقر بها المجلس ، إذا بها تسمع الصياح قد ارتفع من حجرة الرسول . وكانت قريبة إلى بيت فاطمة عليها الصلاة والسلام ، فأسرعت إليها مدهوشة ، وإذا بها تنبأ بوفاة والدها .


كان لموت الرسول (ص) أثر عميق وبليغ في فؤاد فاطمة (ع) حتى أنها ما رؤيت مبتسمةً بعده قط ، إلاّ حين نَعَى إليها نفسَها ، حيث علمت باقتراب أجلها وحلول ميعاد الالتحاق بأبيها .


فمازالت فاطمة بعد أبيها معصبة الرأس ، ناحلــة الجسم ، منهَّدة الركن ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة .


وبلغ بها البكاء على أبيها أنَّ أهل المدينة شكوا إلى أمير المؤمنين أمرها واقترحوا عليها أن تبكي إما ليلاً أو نهاراً . بيد أنها لما سمعت بذلك اشتد بكاؤها وأبت إلاّ أن تبكي على والدها أبداً ، حتى تلتحق به ، وأضافت بأنه ما أقل مكثي بين أظهرهم .


وقد كان لبكاء فاطمة أثر ديني ، كما كان لمنع أهل المدينة مغزى سياسي .. كانت فاطمة تبكي فتلفت أنظــار العالم إلى أنها هي المخصوصة بالنبي (ص) . وهــي بقيَّته في الأرض ، ومنها نسكه الطاهر المطهَّر ، وأولادها أولاده إلى أبد الآبدين . وكان لمنع أهل المدينة لها من البكاء تحدٍّ لهذا البيت - بيت أمير المؤمنين (ع) - الذي يحمل أعباء حفظ الرسالة بعد النبيِّ ، وتحدٍّ للنبيِّ ولكل ما جاء به عن ربَّه ، بدأوا يظهرونه مرةً بعد مرة إلى أن انتهى بأخذ فدك ، ونهبها وغصبها .


النصوص تتحدث عن فضائل الزهراء عليها السلام


ألف - العابدة الزاهدة :


1- روى ابن شهر اشوب عن الحسن البصري أنه قال : ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة ، كانت تقوم حتى تورَّمت قدماها .


2- وروي عن الإمام الحسن عليه السلام أنه قال : رأيت أمي فاطمة ليلة الجمعة وقد وقفت للعبادة .. ومازالت بين راكعة وساجدة وقائمة وقاعدة ، حتى أسفر الصبح . وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات ، تسميهم بأسمائهــــم .. قـال الإمام (ع) فقلت يا أماه : لماذا لم تدعي لنفسك ، وإنما دعوتِ لسائر المؤمنين ؟ قالت : يا بُنَيَّ الجار ثم الدار .


3- وروي عن الصادق (ع) انه حدّث : بانه دخل رسول اللـه (ص) على فاطمة يوماً ، فرآها قد لبست ثوباً من صوف الإبل . وهي تطحن بيديها ، وترضع ابنها ، فلما رأى الرسول ذلك بكى وقال : بنيّة ، ذوقي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة . فقالت فاطمة : أحمد اللـه على نعمائه وأشكره على آلائه .. فنزلت هذه الآية :



« وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى »


(الضحى/5)


4- وروى أحمــد بن حنبل في مسنده : أن رسول الله (ص) كان إذا سافر ، آخر عهده بإنسان، فاطمة.


وأوّل من يدخل عليه إذا قدم فاطمة . فقدم من غزاة ، فأتاها فإذا بمسع [14] على بابها ، ورأى على الحسن والحسين ، قلبين [15] من فضة فرجع ولم يدخل عليها . فظنت أنه من أجل ما رأى ، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيَّين ، فقطعتهما . فبكى الصبيان فقسمته بينهما فانطلقا إلى رسول اللـه وهما يبكيان فأخذه منهما ، وقال : ( يا ثوبان - هو مولى الرسول الراوي لهذا الحديث - اذهب بهذا إلى بني فلان واشتر لفاطمة قلادة من عصب - وهو سن دابة بحرية - وسوارين من غاح ، فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ) .


وفــي رواية أخرى أن النبي (ص) حين وصلت إليه هذه الأمتعة وأمرته فاطمــــة بإنفاقها في سبيل اللـه قال : ( فعلت فداها أبوها ، فعلت فداها أبوها ، فعلت فداها أبوها ، ومثل هذا الحديث ما روي عن الرضا (ع) عن آبائه ، عن علي بن الحسين (ع) أنه قال : حدّثتني اسماء بنت عميس قالت : كنت عند فاطمة (ع) إذ دخل عليها رسول اللـه (ص) وفي عنقها قلادة من ذهب كان اشتراها لها علي بن أبي طالب (ع) من فيء ، فقال لها رسول اللـه (ص) : يا فاطمة لا يقول الناس إن فاطمة بنت محمد تلبس لباس الجبابرة ، فقطعتها وباعتها واشترت بها رقبة - أي أَمَةً - فأعتقتها ، فسرَّ رسول اللـه (ص) ) .


5- وروى الصدوق ( ره ) عن عليّ (ع) أنه قال :


( إنَّ فاطمة (ع) أستقت بالقربة حتى أثّرت في صدرها ، وطحنت بالرحى حتى نحلت [16] يداها ، وكسحت [17] البيت حتى أغبرت ثيابها وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت [18] ثيابها ) الحديث .


6- وكانت فاطمة عليها السلام تتحمل مع علي مشاكل الحياة في ظروف الجهاد الصعبة فقد جاء في الحديث عن أبي جعفر (ع) قال :


( إن فاطمة (ع) ضمنت لعلي (ع) عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت وضمن لها علي (ع) ما كان خلف الباب : نقل الحطب وأن يجيء بالطعام ، فقال لها يوماً : يا فاطمة هل عندك شيء ؟ قالت : والذي عظّم حقّك ما كان عندنا منذ ثلاثة أيام شيء نقريك به . قال : أفلا أخبرتني ؟ قالت : كان رسول اللـه نهاني أن أسألك شيئاً . فقال : لا تسألين ابن عمّك شيئاً إن جاءك بشيء ، وإلاّ فلا تسأليه .


قال فخرج عليه السلام فلقي رجلاً فاستقرض منه ديناراً ثمَّ أقبل به وقد أمسى فَلقي المقداد ابن الأسود فقال للمقداد : ما أخرجك في هذه الساعة ؟ قال : الجوع والذي عظّم حقك يا أمير المؤمنين ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : ورسول اللـه (ص) حيٌّ ، قال : ورسول اللـه (ص) حيٌّ ؟ قال : فهو أخرجني وقد استقرضت ديناراً وسأؤثرك به فدفعه إليه فأقبل فوجد رسول اللـه (ص) جالساً وفاطمة تصلي وبينهما شـيء مغطّى . فلمّا فرغت أجترّت ذلك الشيء فإذا جفنة من خبز ولحم قال : يا فاطمة أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند اللـه إن اللـه يرزق من يشاء بغير حساب ، فقال له رسول اللـه (ص) : ألا أحدِّثك بمثلك ومثلها ؟ قال : بلى ، قال : مثلك مثل زكريا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقاً قال : يا مريم أنّى لك هذا ؟ قالت : هو من عند اللـه إنّ اللـه يرزق من يشاء بغير حساب . فأكلوا منها شهراً وهي الجفنة التي يأكل منها القائم (ع) وهي عندنا ) .


وفي حديث آخر مأثور في المراسيل أن الحسن والحسين كان عليهما ثياب خَلَقة وقد قرب العيد ، فقالا لأمهما فاطمة (ع) :


( إنّ بني فلان خِيطت لهم الثياب الفاخرة ، أفلا تخيطين لنا ثياباً للعيد يا أماه ؟ فقالت : يخاط لكما إن شاء اللـه ، فلما أن جاء العيد جاء جبرائيل بقميصين من حلل الجنّة إلى رسول اللـه (ص) ، فقال له رسول اللـه (ص) : ما هذا يا أخي جبرائيل ؟ فأخبره بقول الحسن والحسين لفاطمة وبقول فاطمة يخاط لكما إن شاء ، ثمَّ قال جبرائيل : قال اللـه تعالى لما سمع قولها : لانستحسن أن نكذِّب فاطمة بقولها ، يخاط لكما إن شاء اللـه .


وعن سعيد الحفّاظ الديلمي بإسناده عن أنس قال : قال رسول اللـه (ص) :


( بينما أهل الجنّة في الجنّة يتنعمون ، وأهل النار في النار يعذبون إذا لأهل الجنّة نور ساطع ، فيقول بعضهم لبعض : ما هذا النور لعلَّ ربُّ العزَّة اطَّلع فنظر إلينا . فيقول لهم رضوان : لا ، ولكن عليّاً (ع) مازح فاطمة فتبسمت فأضاء ذلك النور من ثناياها ) .[19]


ولم يكد الإمام علي (ع) يفرغ من دفن رسول اللـه (ص) حتى هبت على الأمة رياح الجاهلية وأوشكت أن تقتلع شجرة الإسلام الطرية .. وكان على بيت الرسالة أن يقف كالجبل الأشم في وجه عواصف الرِّدة . ويحافظ على كيان الإسلام وفاءً بعهده مع رسول اللـه ، وتحقيقاً لدوره المرسوم الذي عبّر عنه صاحب الوحي (ص) حيث قال :


( إني تارك فيكم الثقلَين : كتابَ اللـه ، وعترتي أهلَ بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً ) .


وحين قال : ( مَثًلُ أهل بيتي كسفينة نوح ، مَن ركبها نجا ، ومن تخلَّف عنها هلك ) .


وحين قال : ( فاطمة بضعة مني ، من آذاها فقد آذاني ، ومن أغضبها فقد أغضبني ، ومن أغضبني فقد أغضب اللـه ) .


وكانت فاطمة قطب الرحى في بيت الرسالة .. فماذا فعلت وكيف نهضت بأعباء الحركة التصحيحية ؟


والجــواب : أنه بالرغم من سيطرة الإسلام السياسية على شبه الجزيرة العربية التي ضمنت دخول الناس


أفواجــاً في دين اللـه ، ابتداء من صلح الحديبية ، فإن دعائم الإيمان وشرائع الإسلام لَمَّا تَترسَّخ في النفوس ..


بل كانت النفوس الطامحة للمغانم . والتي مردت على النفاق ، تهدد سلامة المجتمع الإسلامي ، خصوصاً بعد غياب النبي (ص) الذي كان يشكِّل : الرسول ، والقائد ، والأب ، والعمد ، والثقل الأعظم في الدين والدولة والمجتمع .


وبالرغم من أن الرسول لم يترك فرصة إلاّ انتهزها لتوجيه أنظار المسلمين إلى الخط الرسالي الذي يمثل الصراط المستقيم في الأمة ويؤدي دوره ، وينهض بذات المسؤوليات التي كان يقوم بها ، كل ذلك من أجل التعويض عن الفراغ الذي كان سيسببه غيابه (ص) عن الأمة .


وكان أعظم مناسبة أكَّد فيها الرسول دور وصيّه ، الإمام علي (ع) وأهل بيته الصدِّيقين ، هي مناسبة عودته من حجة الوداع وتوقُّفه في منطقة صحراوية سميت باسم غدير خُم فاشتهرت المناسبة بغدير خم حيث رفع النبي يد الإمام علي (ع) أمام أكثر من مائة ألف من مرافقيه وقال :


( من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ) .


أقول بالرغم من ذلك كله ، فإنّ تكريس عهد الوصاية بعد عهد الرسالة لم يتم من دون صعوبات ، بل تضحيات . وكانت فاطمة الزهراء أول مضحية في سبيل اللـه . ومن أجل هذا الهدف .


كانت صرخة محمدية دوت في حياة الأمة قائلة : إن مات محمد فإن خطه لم يمت .. وإن سكت محمد (ص) فإن بضعته الطاهرة تنطق عنه ، وتُخرس أصوات الجاهلية بكل قوة .


كانت فاطمة البدر الزاهر الذي تحدَّى ظلام الأفق بعد غياب شمس الرسالة وهي تقول : إن كان الوحي قد انقطع وغاب ، فإن شعاعه لايزال منيراً ، لأنه صب في ضمير فاطمة بنت محمد (ص) كل رسالاته وشرائعه وخُلقه . فهي انعكاس ذلك الضوء ، ومشكاة ذلك النور .


وكانت فاطمة الشمس الدافئة التي التمس الناس منها الدفء في عهد كاد زمهرير حب الراحة والركون إلى الدعة تقضي على حرارة الإيمان وعنفوان الجهاد والتضحية .


لم تقف فاطمة الزهراء ، ضد السلطة السياسية ، بقدر ما وقفت ضد عوامل الضعف والتواني التي كادت تتغلب على المجتمع ، وبالذات على الطليعة ، من المهاجرين والأنصار ..


وقد اتبعت فاطمة (ع) خُططاً حكيمة ، لتحقيق الهدف ، ومن أبرزها :



أولاً :


تحريض النساء على رجالهن .



ثانياً :


إحياء ذكرَى الرسول في الأمة ، بالوله إليه والبكاء عليه .


ونحن نتحدث إليكم ببعض التفصيل عن هاتين الخطتين :


فاطمة الزهراء تحرض نساء المدينة :


لـــم تعش فاطمة الزهراء (ع) بعد أبيها إلاّ تسعين يوماً حسب بعض التواريخ . وأما حسب البعض الآخــر


فانها عاشت أقل من ذلك بكثير وخلال الفترة كانت حزينة كئيبة منهَّدة الركن ، بل كانت مريضة طريحة الفراش ، فزارتها نسوة من المهاجرين والأنصار يَعُدْنَها في علتها ، فقلن : السلام عليكِ يا بنت رسول اللـه (ص) ، كيف أصبحتِ ؟


فقالت : أصبحت واللـه عائفة لدنياكنَّ ، قالية لرجالكن لفظتهم بعد إذ عجمتهم [20] وسئمتهم بعد أن سبرتهم فَقُبحاً لأفون الرَّأي ، وخطل القول ، وخَوَر القناة [21] ، ولبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط اللـه عليهم وفي العذاب هم خالدون ، لاجرم واللـه لقد قلّدتُهم ربقتها ، وشننتُ عليهم غارها ، فجدعاً ورغماً للقوم الظالمين . [22]


ويحهم أَنَّى زحزحوها عن أبي الحسن ، ما نقموا واللـه منه إلاّ نكير سيفه [23] ونكال وقعه ، وتنمّره في ذات اللـه [24] ، وتاللـه لو تكافّوا عليه من زمام نبذه إليه رسول اللـه (ص) لاعتلقه ، ثمَّ لسار بهم سيرة سحجاً [25] ، بجحاً ، فإنه قواعد الرسالة ، ورواسي النبوَّة ، ومهبط الرُّوح الأمين ، والطَّبين [26] بأمر الدين والدُّنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين .


واللـه لايكتلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولا وردهم منهلاً رويّاً فضفاضاً [27] تطفح ضفَّته ، ولا صدرهم بطاناً قد خثر بهم الرّيُّ غير متحل بطائل إلاّ تغمر الناهل وردع سورة سغب [28] ، ولفتحت عليهم . بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم اللـه بما كانوا يكسبون .


فهلمَّ فاسمع ، فما عشت أراك الدَّهر عجباً ، وإن تعجب بعد الحادث فما بالهم ؟ بأيِّ سند استندوا ، أم بأية عروة تمسَّكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، وبئس للظالمين بدلا .


استبدلوا الذنابي بالقوادم ، والحرون بالقاحم ، والعجز بالكاهل [29]، فتعساً لقوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لايشعرون ، أفمن يهدي إلى الحقِّ أحق أن يُتبع أمَّن لا يَهِدي إلا أن يُهدى ، فمالكم كيف تحكمون ؟..


لقحت فنظرت ريثما تنتج ، ثمَّ احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً ، وذعافاً ممضّاً [30] هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غبَّ ما أسكن الأولون ، ثمَّ طيبوا بعد ذلك عن أنفسكم لفتنها ، ثمَّ اطمئنوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسيف صارم ، وهرج دائما شامل ، واستبداد من الظالين ، فزرع فيئكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً ، فيا حسرة لهم ، وقد عميت عليهم الأنباء ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون .




فاطمة الزهراء تندب أباها :


لــم تكن علاقة فاطمة بأبيها كأيَّة بنت بوالدها ، بل إنها أضحت امتداداً لجميع أبعاد شخصية رسول اللــه ، أولم يقل عنها النبي (ص) وهو آخذ بيدها :


( من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد ، وهي بضعة مني ، وهي قلبي الذي بين جنبيّ فمن آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللـه ) [31].


أولم يحدثنا علي عليه السلام عن فاطمة عليها السلام انها قالت :


( قال لي رسول اللـه : يا فاطمة من صلَّى عليك غفر اللـه له وألحقه بي حيث كنت من الجنة ) [32].


وحب فاطمة لأبيها كان أسمى من حب النسب . بل كان حبّاً إلهيّاً نابعاً من معرفتها بمقام الرسول من اللـه ، وعظمته عند ربه .


وحين افتقدت فاطمة رسول اللـه أحست بخطورة الموقف كما لم يشعر بذلك أحد ، وشعرت وكأنَّ جبال الأرض تداكَّت على رأسها الشريف .


وبالرغم من أن الحزن قد دب إلى كل قلب مؤمن بفقد الرسول ، وإلى قلب الأمة ، وضمير الحياة ، إلاّ أن شلال الحزن صب في فؤاد ابنته ووريثته الوحيدة ، وقلبه المنفصل !!


ولقد أذهل المصاب الجلل الكثير عن التفكر الجدِّي في إملاء الفراغ الكبير بإحياء ذكرى الرسول .


وكان على فاطمة أن تملأ هذا الفراغ بذكر رسول اللـه ، وبيان عظمته ، والصلاة عليه ، وإعلان شديد الحزن عليه . و . و.


إن فاطمة كانت تتعبدلله بالكباء على فقد رسول اللـه ( صلى اللـه عليه وآله ) . لأن ذلك كان يحيي ذكر الرسول .


وقد بلغ بكاء الزهراء على والدها حداً عُدّت من البكائين الخمسة إلى جنب آدم ويعقوب ويوسف عليهم السلام ، ثم علي بن الحسين (ع) [33].


وجاء في حديث مروي عن فضة التي لازمت خدمة فاطمة الزهراء ، قصة حزن فاطمة ، الحديث يقول :


ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب ، والأقرباء والأحباب ، أشدَّ حزناً وأعظم بكاءً وانتحاباً ( على رسول اللـه ) من مولاتي فاطمة الزهراء (ع) ، وكان حزنها يتجدَّد ويزيد ، وبكاؤها يشتدُّ .


فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها أنين ، ولا يسكن منها الحنين ، كلُّ يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأوَّل ، فلما كان في اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن ، فلم تطق صباراً إذ خرجت وصرخت ، فكأنها من فم رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله تنطق ، فتبادرت النسوان ، وخرجت الولائد والولدان ، وضجَّ الناس بالبكاء والنحيب وجاء الناس من كلِّ مكان ، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبيّن صفحات النساء وخُيِّل إلى النسوان أنّ رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله قد قام من قبه ، وصارت الناس في دهشة وحيرة لما قد رهقهم ، وهي (ع) تنادي وتندب أباها : وا أبتاه ، وا صفيّاه ، وا محمّداه ! وا أبا القاسماه ، وا ربيع الارامل واليتامى ، من للقبلة والمصلَّى ، ومن لابنتك الوالهة الثكلى .


ثم أقبلت تعثر في أذيالها ، وهي لا تبصر شيئاً من عبرتها ، ومن تواتر دمعتها حتى دنت من قبر أبيها محمد صلى الله عليه وآله ، فلما نظرت إلى الحجرة وقع طرفها على المأذنة فقصرت خطاها ، ودام نحيبها وبكاها ، إلى أن أغمي عليها ، فتبادرت النسوان إليها فنضحن الماء عليها وعلى صدرها وجبينها حتى أفاقت ، فلما أفاقت من غشيتها قامت وهي تقول :


( رفعت قوتي ، وخانني جلدي ، وشمت بي عدوّي ، والكمد قاتلي ، يا أبتاه بقيت والهة وحيدة ، وحيرانه فريدة ، فقد انْخَمَد صوتي ، وانْقَطَع ظهري ، وتنغص عيشي ، وتكدَّر دهري ، فما أجد يا ابتاه بعدك أنيساً لوحشتي ، ولا راداً لدمعتي ، ولا معيناً لضعفي ، فقد فني بعدك محكم التنزيل ، ومهبط جبرائيل ، ومحلُّ ميكائيل . انقلبت بعـــدك يــا أبتـــاه الأسباب ، وتغلّقت دوني الأبواب ، فأنا للدُّنيا بعدك قاليـة ، وعليك ما تردَّدت أنفاسي باكية ، لا ينفد شوقي إليك ، ولا حزني عليك ) .


ثم نادت : يا أبتاه والبّاه ، ثم قالت :


ثم نادت : يا أبتاه ، انقطعت بك الدنيـــــا بأنوارها ، وزوت زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة ، فقد اسودَّ نهارهـا ، فصار يحكي حنادسها ويابسها ، يا أبتاه لازلت آسفة عليك إلى التلاق ، يا ابتاه زال غمضي منذ حقَّ الفراق ، يا أبتاه من للأرامل والمساكين ، ومن للأمة إلى يوم الدين ، يا أبتاه أمسينا بعدك من المستضعفيـن ، يا ابتاه أصبحت الناس عنّا معرضين ، ولقد كنا بك معظّمين في الناس غير مستضعفين ، فأيُّ دمعةٍ لفراقك لا تنهمل ، وأيُّ حزن بعدك عليك لا يتَّصل ، وأيُّ جفن بعدك بالنوم يكتحل ، وأنت ربيع الدِّين ، ونور النبيين ، فكيف للجبال لا تمور ، وللبحار بعدك لاتغور ، والأرض كيف لم تتزلزل .


رُميتُ يا أبتاه بالخطب الجليل ، ولم تكن الرّزية بالقليل ، وطرفت يا أبتاه بالمصاب العظيم ، وبالفادح المهول .


بكتك يا أبتاه الأملاك ، ووقفت الأفلاك ، فمنبرك بعدك مستوحش ، ومحرابك خال من مناجاتك ، وقبرك فرح بمواراتك ، والجنّة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك .


يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك ، فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلاً عليك ، واُثكْلَ أبي الحسن المؤتمن أبي ولديك ، الحسن والحسين ، وأخيك ووليّك وحبيبك ومن ربّيته صغيراً ، وواخيته كبيراً ، وأحلى أحبابك وأصحابك إليك من كان منهم سابقاً ومهاجراً وناصراً ، والثكل شاملنا ، والبكاء قاتلنا ، والأسى لازمنا .


ثم زفرت زفرة وأنّت أنّه كادت روحها أن تخرج ثمَّ قالت :


قالت : ثمَّ رجعـــت إلى منزلها وأخذت بالبكاء والعويل ليلها ونهارها ، وهي لاترقأ دمعتها ، ولا تهدأ زفرتهــا .


واجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين علي (ع) فقالوا له : يا أبا الحسن إنَّ فاطمة (ع) تبكي الليل والنهار ، فلا أحد منّا يتهنأ بالنوم في الليل على فُرشنا ، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا . وإنّا نخبرك أن تسألها إمّا أن تبكي ليلاً او نهاراً ، فقال (ع) : حُبّاً وكرامةً .


فأقبل أمير المؤمنين (ع) حتى دخل على فاطمة (ع) وهي لاتفيق من البكاء ، ولا ينفع فيها العزاء . فلما رأته سكنت هنيئة له ، فقال لها : يا بنت رسول اللـه (ص) ، إنَّ شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك إما أن تبكين أباك ليلاً وإمّا نهاراً .


فقالت : يا أبا الحسن ما أقلَّ مكثي بينهم ، وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم ، فواللـه لا أسكت ليلاً ولا نهاراً أو ألحق بأبي رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله . فقال لها علي عليه السلام : افعلي يا بنت رسول اللـه ما بدا لك .


ثمَّ إنه بنى لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة يسمى بيت الأحزان ، وكانت إذا أصبحت قدَّمت الحسن والحسين (ع) أمامها ، وخرجت إلى البقيع باكية . [34]


وكانت فاطمة الزهراء تستغل بعض المناسبات لتعريف الناس برسول اللـه ، وتجديد ذكراه العطرة . فلقد روي [ أنّه ] لما قبض النبي (ص) امتنع بلال من الأذان ، قال : لا أؤذن لأحد بعد رسول اللـه (ص) ، وإن فاطمة (ع) قالت ذات يوم : إني أشتهي أن أسمع صوت مؤذِّن أبي (ص) بالأذان ، فبلغ ذلك بلالاً ، فأخذ في الأذان ، فلمّا قال : اللـه أكبر اللـه أكبر ، ذكرت أباها وأيامه ، فلم تتمالك من البكاء ، فلما بلغ إلى قوله : اشهد أن محمداً رسول اللـه شهقت فاطمة (ع) وسقطت لوجهها وغشي عليها ، فقال الناس لبلال : أمسك يا بلال فقد فارقت أبنة رسول اللـه (ص) الدُّنيا ، وظنوا أنها قد ماتت ، فقطع أذانه ولم يتمه فأفاقت فاطمة (ع) وسألته أن يتمَّ الأذان ، فلم يفعل ، وقال لها : يا سيدة النسوان إنّي أخشى عليك ممّا تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان ، فأعفته عن ذلك .


الصدِّيقة عليها السلام تلتحق بوالدها (ص) :


كان النبي (ص) يتقلب على فراش المنيّة ، وكانت فاطمة تجلس بجانبه فيسارُّها النبي فتبكي ، ثم يسارُّها ثانية فيتهلل وجهها الكريم . وحين تُسأل عن السر الأول تقول : إنه أسر إليها بأن جبرائيل كان يعرض عليه القرآن كل عام مرة واحدة . فعرض عليه هذا العام مرتين ، وما ذلك إلاّ لاقتراب أجله ..


أما السر الثاني فإنها ستكون أول من تلتحق به ..


وهكذا ، ظلت فاطمة تعزي نفسها رغم شدة الظروف المحيطة بها ، بأنها ستكون أول من يلتحق برسول اللـه (ص).


أمـا الظروف التي عاشتها فاطمة (ع) بعد وفاة الرسول ، فكانت صعبة جدّاً ، لأنها وقفت وحدها تتحدى


العواصف العاتية . وحتى الإمام علي بطل الإسلام الأول لم يكن من الحكمة أن يشاطرها الجهاد ، فكان عليها أن تتصدَّى لذلك وحدها ، وهي امرأة لما تبلغ العشرين ربيعاً .. ولكل تلك الظروف يكفينا أن نستمع إليها وهي مفجوعة تشكو إلى علي (ع) حالها بكلمات تتقطر ألماً وتحدياً :


لما انصرفت فاطمة من عند أبي بكر أقبلت على أمير المؤمنين (ع) فقالت له :


( يابن أبي طالب شملت شيمة الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، فنقضت قادمة الأجدل ، فخانك ريش الأعزل . أضرعت خدَّك يوم وضعت جدك ، افترست الذئاب وافترشت التراب ، ما كففت قائلا ، ولا أغنيت باطلاً هذا ابن أبي قحافة يبتزُّني نحيلة أبي ، وبليغة ابنيّ ، واللـه لقد أجهر في خصامي ، وألفيته ألدَّ في كلامــــي ، حتى منعتني القيلة نصرها والمهاجرة وصلها ، وغضّت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خرجت كاظمة ، وعدت راغمة ، ولا خيار لي ، ليتني متُّ قبل هينتي ، ودون زلّتي ، عذيري اللـه منك عادياً ، ومنك حاميا ، ويلاي في كلِّ شارق ، ويلاي مات العمد ووهنت العضد ، وشكواي إلى أبي ، وعدواي إلى ربي . اللـهمَّ أنت أشدُّ قوَّة ، فأجابها أمير المؤمنين : لا ويل لك ، الويل لشانئك ، نهنهي عن وجدك يــا بُنية الصفوة ، وبقية النبوَّة ، فما ونيت عن ديني ، ولا أخطأت مقدوري ، فإن كنت تريدين البلغة ، فرزقك مضمون ، وكفيلك مأمون ، وما أعدَّ لك خير ممّا قطع فاحتسبي اللـه . فقالت حسبى اللـه ونعم الوكيل ) [35].


وحان ميعاد اللقاء ، واستعدت الصديقة للقاء اللـه والالتحاق برسول اللـه ، وكان لذلك قصة تروى فلقد مرضت فاطمة (ع) مرضاً شديداً ومكثت أربعين ليلة في مرضها ، إلى أن توفيت صلوات اللـه عليها . فلما نعيت إليها نفسها دعت أمَّ أيمن واسماء بنت عميس ووجّهت خلف عليّ وأحضرته ، فقالت : ابن عمِّ إنّه قد نعيت إليَّ نفسي وإنني لا ارى ما بي إلا أنني لاحقةٌ بأبي ساعة بعد ساعة وأنا أوصيك بأشياء في قلبي .


( قال لها علي (ع) : أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللـه ! فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت ثمَّ قالت : يابن عمِّ ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ، ولا خالفتك منذ عاشرتني . فقال (ع) : معاذ اللـه أنتِ أعلم باللـه ، وأبرُّ وأتقى وأكرم وأشدُّ خوفاً من اللـه [ من ] أن أوبّخك بمخالفتي قد عزَّ عليَّ مفارقتك وتفقدك ، إلاّ أنه امر لابدَّ منه ، واللـه جدّدت عليَّ مصيبة رسول اللـه (ص) ، وقد عظمت وفاتك وفقدك ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها . هذه واللـه مصيبة لا عزاء لها ، ورزيّة لا خلف لها .


ثم بكيا جميعاً ساعة ، وأخذ عليٌّ رأسها وضمّه إلى صدره ثمَّ قال :


أوصيني بما شئت ، فإنّك تجدينني فيها أمضي كما أمرتني به ، وأختار أمرك على أمري .


ثمَّ قالـــت : جزاك اللـه عنّي خير الجزاء يابن عمِّ رسول اللـه ، أوصيك أوَّلاً أن تتزوّج بعدي بأبنة [ أختــــي ]


أمامة ، فإنها تكون لولدي مثلي ، فإنَّ الرِّجال لابدَّ لهم من النساء .


ثمَّ قالت : أوصيك يابن عمِّ أن تتخذ لي نعشاً ، فقد رأيت الملائكة صوّروا صورته ، فقال لها : صفيه لي فوصفته فاتّخذه لها . فأوَّل نعش عُمل على وجه الأرض ذاك .


ثمَّ قالت : أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقّي فإنّهم عدوَّي وعدوُّ رسول اللـه (ص) ، ولا تترك أن يصلّي عليَّ أحد منهم ، ولا من أتباعهم ، وادفنّي في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار ، ثمَّ توفّيت صلوات اللـه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها .


فصاح أهل المدينة صيحة واحدة واجتمعت نساء بني هاشم في دارها ، فصرخوا صرخة واحدة كادت المدينة أن تتزعزع من صراخهنَّ وهنَّ يقلن : يا سيدتاه !. يا بنت رسول اللـه !. وأقبل الناس مثل عُرف الفرس إلى عليٍّ (ع) ، وهو جالس والحسن والحسين (ع) بين يديه يبكيان ، فبكى الناس لبكائهما .


وخرجت أمُ كلثوم وعليها برقعة وتجرُّ ذيلها متجلّلة برداء عليها وقد علا نشيجها وهي تقول : يا أبتاه ، يا رسول اللـه ، الآن حقّاً فقدناك ، فقداً لا لقاء بعده أبداً .


واجتمع الناس فجلسوا وهم يضجون ، وينتظرون أن تخرج الجنازة فيصلون عليها ، وخرج أبو ذرّ وقال : انصرفوا فإنَّ ابنة رسول اللـه (ص) قد أخّر إخراجها في هذه العشية فقام الناس وانصرفوا .


فلمّا أن هدأت العيون ومضى شطر من الليل أخرجها عليٌّ والحسن والحسين (ع) ، وعمّار والمقداد وعقيـــل والزبير وأبو ذرّ وسلمان وبريدة ونفر من بني هاشم وخواصهم ، صلّوا عليها ودفنوها في جوف الليــــل ، وسوَّى عليٌّ (ع) حواليها قبوراً مزوَّرة مقدار سبعة حتى لايعرف قبرها . وقال بعضهم من الخواصِّ : قبرها سُوِّي مع الأرض مستوياً فَمُسِحَ مسحاً سواء مع الأرض حتى لايُعرف موضعه [36] .


ثم إن عليّاً (ع) حوّل وجهه إلى قبر رسول اللـه ثم قال :


( السلام عليك يا رسول اللـه عنّي ! . والسلام عليك عن أبنتك ، وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك ، والمختار اللـه لها سرعة اللّحاق بك . قَلَّ يا رسول اللـه عن صفيّتك صبري ، وعفا عن سيدة نساء العالميــــن تجلّدي ، إلاّ أنَّ فـي التأسّي لي بسنّتك في فرقتك ، موضع تعزٍّ ، فلقد وسّدتك في ملحــــودة قبرك ، وفاضت نفسك بين نحري وصدري .


بلى !. وفي كتاب اللـه لي أنعم القبول ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون . قد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرّهينة ، أخْلست الزَّهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول اللـه !.


أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد ، وهمٌّ لايبرح من قلبي ، أو يختار اللـه لي دارك التي أنت فيها مقيم ، كمد مقيِّح ، وهمٌّ مهيَّج ، سرعان ما فُرِّق بيننا . وإلى اللـه أشكو .


وستنبئــــك ابنتُك بتضافر أُمَّتك على هضمها ، فأَحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلـــج


بصدرها ، لم تجد إلى بثّه سبيلاً ، وستقول ويحكم اللـه وهو خير الحاكمين ) [37] .


وظلت فاطمة الزهراء شعلة الحب التي لاتخبو في صدور المؤمنين ، وراية الكفاح التي لاتسقط عن يد الرساليين ، وقبسة الخلق الرفيع ، وظُلامة الحق التي تصبغ صفحات الشفق بلون الدم الموتور ، والحق المغدور ، فتتحول نبضة ثورية في عروق فتيان المروة ، يتزودون بها عبر مسيرتهم الجهادية ضد المتسلطين والانتهازيين والقشريين ..


وما أحوج أمتنا اليوم إلى تجديد ذكرى فاطمة ، ليقتدي بها النساء ، بل الرجال أولاً ..


ولنصلي عليها . وعلى أبيها ، وعلى بعلها وبنيها ، كما صلّى اللـه عليها ، وملائكته . والمؤمنون ..


ولقد بلغ من التزامها بتطبيق الإسلام على نفسها تطبيقاً حرفيّاً ، ما روي من أنّـه لما نزلت الآية المباركة :



« لاَ تَجْعَلُوا دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً »


(النُّور/63)




صار اللازم على المسلمين أن يغيروا خطابهم مع الرسول ، من قولهم : يا محمد !! إلى قولهم يا رســـول اللـه . الكلمــة التي شاعت بعد نـــزول هذه الآيـــة باعتبار ذكـــر الرســـول في الآيـــة ، تعبيراً عن النبــي - محمد - .


وكان هذا الدستور مختصاً بالذين كانوا يستخفون باسم النبي ويدعونه باسمه المدعى به ، دون أي احترام .


ولكنَّ فاطمة ، لما سمعت نزول هذه الآية ، غيّرت أيضاً طريقة خطابها مع النبي (ص) فبينما كانت تقول لوالدها : يا أبتاه !! أضحت تناديه بقولها : يا رسول اللـه . فلما سمع النبي منها ذلك . تساءل عن وجه ذلك . فقالت : إطاعة لحكم اللـه . فقال النبي : إني أحبّ من فمك كلمة يا أبتاه .


ب - أصدق الناس لهجــةً :


كانت عائشة ترباً لفاطمة في العمر تقريباً . وكانت الزوجة الأولى للرسول (ص) بعد خديجة .. وكانت تغار من خديجة كثيراً ، وكان يزيد غيرتها شدة انَّ النبي (ص) كان يحب فاطمة كثيراً ويشيد بها ويقبل يدها ويذكر أنها سيدة نساء العالمين وما إلى ذلك ، مع أنه لايذكر شيئا من ذلك لعائشة .


و مع ذلك فانها اعترفت ذات مرة بهذا الإعتراف العجيب فقالت : ما رأيت أحداً أصدق لهجةً من فاطمة ، إلاّ أن يكون الذي ولدها ( أي رسول اللـه صلَّى اللـه عليه وآله ) .


ج - بطلـــة الإيثــار :


كانت فاطمة (ع) حينذاك ربَّة البيت .. وكانت الظروف الإقتصادية متأزمة جّداً . وكانت فاطمة ، وسائر أفراد أسرتها يريدون الصوم وفاء بالنذر ، وأي نذر ؟. لقد كان الحسنان (ع) قد أصابهما مرض منذ وقت سابق ، وكان الإمام علي (ع) قد نذرلله أن يصوم لو شوفيا . وكانت فاطمة والحسنان وفضة ( الخادمة ) قد تبعوا عليّاً في هذا النذر ، فالآن قد عوفيا . فجاء دور الوفاء بالنذر .


المرسوم في بلادنا ، اليوم ، انَّ الأسرة المسلمة إذا شاءت أن تصوم صوماً واجباً أو مندوباً ، هيأت مقداراً من الطعام ، أطيب وأكثر من سائر الأيام التي لا تريد صومها .


أمّا أسرة عليٍّ (ع) ، فقد كانت فقيرة في تلك الأيام ، حتى عن المقدار اللازم للطعام .


نعم لم يكن في بيت العلم والشرف والتقوى ، عين من المال لا قليلاً ولا كثيراً ، ليفطروا . فذهب أمير المؤمنين وأخذ مقداراً من الصوف وأعطاه لفاطمة عليها السلام لكي تغزله . وأخذ مكانه ثلاثة أَصْوُعٍ من الشعير أجراً على ذلك . لكي يفطروا عليها .


و جاء بالشعير إلى البيت ، وصامت الاسرة ، وصنعت الزهراء منه خمسة أقراص من الخبز .. وانتهى النهار ، وجلسوا ليأكلوا .. وتماماً في الوقت الذي أرادوا الأكل سمعوا صوتاً من وراء الباب يقول :


السلام عليكم يا أهل بيت النبوَّة . إني مسكين من مساكين المدينة وجائع .. فأعطوني .. بارك اللـه فيكم .


فأخذ الإمام أمير المؤمنين رغيفه وتبعته فاطمة ثم الحسن والحسين (ع) وحتى فضة ، أخذوا أرغفتهم الخمسة وأعطوها للمسكين .. ثم أفطروا بالماء القراح وشكروا اللـه .


وفي اليوم الثاني ، كان الوقت عند الإفطار ، وكانت فاطمة قد صنعت خمسة أرغفة أيضاً .. وكانوا قد أرادوا الإفطار فجاء يتيم وطلب منهم طعاماً ؛ فقدم كل منهم رغيفه وأفطروا بالماء وحمدوا اللـه .


وجاءت الليلة الثالثة .. وجاء دور الأسير .. ففي نفس الوقت - أي عند الإفطار - طلب منهم الأسير ، وأعطوه الأرغفة وباتوا جياعاً لثلاثة أيام وليال كاملة .


والمفروض أنَّ ثروة هذه الأسرة ، كانت لا تتجاوز ثلاثة أَصْوُعٍ من الشعير . وها هي قد تمت .. وقد صاموا ثلاثة أيام بلياليها ، غير شربة من ماء أفطروا عليها فقط .


ولما جاء الرسول لزيارتهم ، وشاهد الحسنين يرتجفان جوعاً ، وفاطمة عليها السلام قد اشتد بها الضعف ، والإمام وفضة . كلاًّ منهما قد أثر فيه الجوع أثراً بليغاً ، قال الرسول حينذاك :


واغوثاه باللـه أهل بيت محمد (ص) يموتون من الجوع .. وها هنا نزلت عليه سورة


« هَلْ أَتَى »


(الإِنسَان/1 ) في حق أهل البيت .


وجاءت فيها الآيات التالية :





« يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللـه لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللـه شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً »


(الإِنسَان/7-11)


.



وهكــــذا ضربت فاطمة الزهراء عليها السلام وبعلها وابناها وحتى خادمتها ، مثلاً رائعــــاً للايثـار ، وأخــــذت


أسرتها مدالاً عظيماً من ربهم على ذلك .


وفي حديث شريف رواه علماء المسلمين عن ابن عباس . نقرأ فصولاً من فضائل الزهراء ، التي تجعلها سيدة نساء العالمين ، وقدوة الصديقات ، وأسوة المؤمنات الفاضلات ..


وإلى القارئ هذا الحديث الذي نختم به هذا الفصل :


عن ابن عباس قال :


خرج أعرابيٌّ من بني سليم يتبدَّى في البريّة ، فإذا هو بضبّ قد نفر من بين يديه ، فسعى وراءه حتى اصطاده ، ثمَّ جعله في كمّة وأقبل يزدلف نحو النبي (ص) . فلما أن وقف بازائه ناداه : يا محمد يا محمد ، وكان من أخلاق رسول اللـه (ص) إذا قيل له : يا محمد ، قال : يا محمد ، وإذا قيل له : يا أحمــد ، قال : يا أحمد ، وإذا قيل له : يا أبا القاسم ، قال : يا ابا القاسم ، وإذا قيل [ له ] : يا رسول اللـه ، قال : لبيك وسعديك وتهلّل وجهه .


فلمّا أن ناداه الأعرابي : يا محمد يا محمد قال له النبيُّ : يا محمد يا محمد ، قال له : أنت الساحر الكذَّاب الذي ما أظلّت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة هو أكذب منك ، أنت الذي تزعم أن لك في هذه الخضراء إلهاً بعث بك إلى الأسود والأبيض ؟ واللاّت والعزّى ، لولا أني أخاف أنَّ قومي يسمونني العجول لضربتك بسيفي هذا ضربة أقتلك بها ، فَأَسُودُ بك الأوَّلين والآخرين .


فوثب إليه عمر بن الخطاب ليبطش به فقال النبيُّ (ص) : اجلس يا ابا حفص فقد كاد الحليم أن يكون نبيَّاً .


ثمَّ التفت النبيُّ (ص) إلى الأعرابيِّ فقال له :


( يا أخا بني سليم ، هكذا تفعل العرب ؟ يتهجمون علينا في مجالسنا يجابهوننا بالكلام الغليظ ؟. يا أعرابيُّ والذي بعثني بالحقِّ نبيّاً إنَّ ضرّبين في دار الدنيا هو غداً في النار يتلظى ، يا أعرابيُّ والذي بعثني بالحق نبيّاً إن أهل السماء السابعة يسمونني أحمد الصادق ، يا أعرابيُّ أسلم تسلم من النار يكون لك مالنا وعليك ما علينا وتكون أخانا في الإسلام ) .


قال : فغضب الأعرابيُّ وقال : واللاّت والعزّى لا أؤمن بك يا محمد أو يؤمن هذا الضبُّ ثمَّ رمى بالضبِّ من كمَّه ، فلمّا أن وقع الضبُّ على الأرض ولَّى هارباً ، فناداه النبيُّ (ص) أيُّها الضب أقْبِلْ إليَّ ؛ فأقبل الضبُّ ينظر إلى النبيِّ (ص) ، قال : فقال له النبي (ص) :


( أيُّها الضبُّ من أنا ؟ . فإذا هو ينطق بلسان فصيح ذرب غير مقطَّع فقال : أنت محمد بن عبد اللـه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف . فقال له النبيُّ (ص) : من تعبد ؟ قال : أعبد اللـه عزَّ وجلَّ الذي فلق الحبّة وبرأ النسمة واتخذ إبراهيم خليلاً واصطفاك يا محمد حبيباً ثمَّ أنشأ يقول :


قال : ثمَّ أطبق على فم الضبِّ فلم يحر جواباً . فلمّا أن نظر الأعرابي إلى ذلك قال : واعجباً ، ضبُّ اصطدته من البرية ثمَّ أتيت به في كمّي لا يفقه ولا ينقه ولا يعقل ، يكّلم محمداً (ص) بهذا الكلام ويشهد له بهذه الشهادة ، وأنا لا أطلب أثراً بعد عين ، مدّ يمينك فأنا أشهد أن لا إله إلا اللـه وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، فأسلم الأعرابيُّ وحسن إسلامه .


ثمَّ التفت النبيُّ (ص) إلى أصحابه فقال لهم : علّموا الأعرابيَّ سوراً من القرآن ، قال : فلما علّم الأعرابيُّ سوراً من القرآن قال له النبي (ص) : هل لك شيء من المال ؟ قال : والذي بعثك بالحقِّ نبيّاً ، إنّا أربعة آلاف رجل من بني سليم ما فيهم أفقر منّي ولا أقلُّ مالاً .


ثمَّ التفت النبيُّ (ص) إلى أصحابه فقال لهم : من يحمل الأعرابيَّ على ناقة أضمن له على اللـه ناقة من نوق الجنّة ؟ قال : فوثب إليه سعد بن عبادة فقال : فداك أبي وأمّي عندي ناقة حمراء عشراء وهي للأعرابيِّ .


فقال له النبيُّ (ص) : يا سعد تفخر علينا بناقتك ؟ . ألا أصف لك الناقة التي نعطيكها بدلاً من ناقة الأعرابيِّ ؟ فقال : بلى فداك أبي وأمّي .


/ 35