الفصل الرابع :مكــارم الاخــلاق - نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

وقتلوه غدراً .

وهذا أبو مسلم الذي كان المؤسس للدولة قد غدر به المنصور فقتله شر قتله ، وغدر بعيسى بن موسى وعزله عن ولاية العهد بعدما جعلها له إكراماً لما قدمه إليه من خدمات جليلة .

كمــا غـدر بنو العباس بكل مـن أبي سلمـة الخلال ، ويعقوب بن داود ، وفضل بن سهل ، وجعفر البرمكي ، ويحيى الحسني ، وغيرهم ... ممن أسدوا إليهم خدمات كانت جديرة بأن تشكر وتجزى خير جــزاء .

موقف الإمام :

يعتقد البعض أن عصر الإمام الصادق (ع) كان يمكن أن يكون من أنسب العصور وأخصبها لو كان الإمام يشتغل للثورة الحقة التي ترجع الخلافة إلى المؤهل لها من عند اللـه عزّ وجلّ ومن لدن رسوله (ص) ، لكونه عصر تطور - بالغ الخطورة - في التاريخ الإسلامي ، حيث أزاح الستار عما كان الزمن قد ستره من الحقائق الدينية ، ولكن الواقع ينبئ بغير هذا الزعم وهو أن الإمام الصادق (ع) لم يكن يستطيع النهوض بإظهار الدعوة على المسرح السياسي في يوم من الأيام ، فأما في عصر الأمويين فلما سبق من أنهم لم يكونوا يتورعون من أي جريمة يرتكبونها في سبيل إخماد ثورة ضدهم ، مع أن الإمام (ع) لم يلجأ إلى الباطل في طريق الحق ولم يستعن بالظلم لتطبيق العدل ، وأما بنو العباس فلم يكونوا بأحسن أعمالاً من إخوانهم بني أمية ولا بأورع عن الفتك والمكر في سبيل توطيد ملكهم ، ولذلك استطاعوا أن ينسفوا عرش بني أمية نسفا - وهكذا ضرب الباطل بالباطل وكان بينهما تبديلاً - .

كما استغل العباسيون كل نشاط لدعوة بني هاشم ، واستفادوا من الاستياء العام الذي صنعه الطالبيون - ولا زال الناس يلقون بآمالهم الكبيرة عليهم - لذلك لم يمكن النهوض بعبأ الثورة الشيعية لاسيما تلك التي يتورع فيها عن أي سفك للدماء البريئة وأي هتك للحرمات المقدسة .

ويدلنـــا على عدم وجود مؤهلات النهوض في عصر العباسيين أن طائفة من بني عمومـــــة الإمـــام ثـــاروا - سواء في عصر الإمام (ع) أو بعده - فلم يفلحوا وكان مصيرهم نفس المصير الذي لقيه أباؤهم في عصر الأمويين أبداً .

ومع ذلك كله فإن الإمام (ع) كان يدعم أسس الثورة الفكرية الجامحة التي تؤدي إلى الثورة السياسية أيضاً ، وذلك بنشر الحقائق الدينية والتاريخية بصراحة وبدون غموض ، مما أدى إلى تهيئة جوّ صالح لغرس نواة الانقلاب الفكري السياسي ، حتى أنه قرر أن يكون الإمام موسى بن جعفر الكاظم - نجل الصادق (ع) - قائم آل محمد (ص) الذي كان تعبيراً عن رجوع الدولة المغتصبة والحق المضيع إليهم، حيث أن الشيعة لمسوا فيه رعايات واسعة لها تاثيرها في تحويل الوضع السياسي ، ولكن أتباع الدعوة الشيعية خانوها بإفشاء سر النهج والطريق المرسوم ، وكانت النتيجة أن ألقي القبض على الإمام الكاظم (ع) وسجن سنوات طويلة وأنزل على الشيعة الويل والعذاب بشتى الصور .

ولكن روح الثورة التي خلقها الإمام الصادق (ع) ظلت متوثبة - حتى - بعد موت هارون الرشيد في زمان الإمام الرضا (ع) حفيد الإمام ، وانتهت بإعـلان ولاية العهد الذي كان سبيلاً مباشراً لرجوع الخلافة إلى أبناء علي (ع) ولكن شاء القدر باستشهاد الإمام الرضا (ع) قبل موت المأمون .

وعلى أي حال فإن الإمام الصادق (ع) خلق جوأً صالحاً للثورة في هذه السنوات التي تولى فيها إمامة المسلمين بعد أبيه (ع) .

ومن الطبيعي أن لا تتركه السلطات هادئاً يمشي في طريقه المرسوم وإن كان لا يعارضهم معارضة مباشرة ، لأن مقاطعته للعباسيين كانت لهم نذير سوء ، ومثيرة لسخطهم البالغ عليه وعنفهم الشديد له .

فقد دعاه المنصور ليسير في ركابه كما سار غيره من أئمة الجور . حيث أرسل إليه يقول : ألا تغشانا كما يغشانا الناس ؟

فإجابه الإمام (ع) : ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنيك ولا نراك في نقمة فنعزيك بها . فما نصنع عندك ؟

فكتب إليه المنصور : تصحبنا لتنصحنا .

فأجابه (ع) : من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك .

فقال المنصور واللـه لقد ميز عندي منازل الناس من يريد الدنيا ممن يريد الآخرة .

والآن حيث انتهيت من وضع الخطوط العريضة لسياسة الإمام الصادق (ع) مع السلطات المعاصرة ينبغي لي أن أشير إلى بعض الأحداث التي جرت على الإمام (ع) أو على بعض مواليه من المحن التي لاقوها من السلطة لا لشيء إلاّ لأنهم أرادوا الحق ودعوا إليه ، تاركاً البحث حولها إلى مجال آخر .

أشخص السفاح الإمام الصادق (ع) من المدينة إلى الحيرة ليفتك به ، ولكن كفاه اللـه من ذلك .

وجاء دور المنصور فتعاهد الإمام بالأذى اثنتي عشرة سنة ، وأشخصه سبع مرات في المدينة والربذة والكوفة وبغداد ، وفي كل مرة يستدعيه المنصور ، فإذا جاء إليه أنذر وأعذر وذهب بالذل ، ورجع الإمام بالخير والمعروف .

وإني إذ أنقل إليك أخي القارئ تفصيل هذا الاستحضار في أوائل خلافة المنصور وأواخرها ابتغاءً لبيان حدة الخلاف ونوعيته بين المنصور وبينه (ع) .

1

- روى السيد ابن طاوس نقلاً عن الربيع حاجب المنصور أنه قال : لما حج المنصور - ربما يكون في سنة 140 أو 144 هجرية - وصار بالمدينة سهر ليلة فدعاني فقال : يا ربيع انطلق في وقتك هذا على أخفض جناح وألين مسير ، وإن استطعت أن تكون وحدك فافعل حتى تاتي أبا عبد اللـه جعفر بن محمد (ع) فقل له هذا ابن عمك يقرأ عليك السلام ويقول لك :

إن الدار وإن نأت ، والحال وإن اختلفت ، فإنا نرجع إلى رحم أمس من يمين بشمال ونعل بقبال ، وهـو يسألك المصير إليه في وقتك هذا ، فإن سمح بالمصير معك فأوطئه خدّك ، وإن امتنع بعذر أو غيره فأردد الأمر إليه في ذلك ، وإن أمرك بالمصير إليه في تأن فيسر ولا تعسر ، واقبل العفو ولا تعنف في قول ولا فعل .

قال الربيع : فصرت إلى بابه فوجدته في دار خلوته ، فدخلت عليه من غير استئذان فوجدته معفراً خديه مبتهلاً بظهر كفيه قد أثر التراب في وجهه وخديه .

فأكبرت أن أقول شيئا حتى فرغ من صلاته ودعائه ثم انصرف بوجهه . فقلت : السلام عليك يا أبا عبد اللـه .

فقال : وعليك السلام يا أخي ، ما جاء بك ؟

فقلت : ابن عمك يقرأ عليك السلام .. حتى بلغت آخر الكلام .

فقال : ويحك يا ربيع !

«

أَلَــمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللـه وَمَـــا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُـــــوا

كَالَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ »

(الحديد/16 )

«

أَفَاَمِنَ أَهْلُ الْقُـرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَاَمِنُوا مَكْرَ اللـه فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللـه إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ »

(الاعراف/97-99)

قرأت على أمير المؤمنين السلام ورحمة اللـه وبركاته .

ثـم أقبـل على الصلاة وانصرف إلى توجهه ، فقلت هل بعد السلام من مستعتب أو إجابة ؟

فقال : نعم قل له :

«

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيــــمَ الَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُـرَى »

(النجم/33-40)

وإنا واللـه يا أمير المؤمنين قد خفناك وخافت بخوفنا النسوة اللاّتي أنت أعلم بهن ، لابدّ لنا من الايضاح به ، فإن كففت وإلاّ أجرينا اسمك على اللـه عز وجل في كل يوم خمس مرات ( أي دعونا عليك مع كل صلاة دعاء لا يرد لأنه مع إخلاص ) .

وأنت حدثتنا عن أبيك عن جدك أن رسول اللـه (ص) قال أربع دعوات لا يحجبن عن اللـه تعالى ، دعاء الوالد لولده والأخ لأخيه بظهر الغيب والمخلص .

قال الربيع : فما استتم الكلام حتى أتت رسل المنصور تقفوا اثري وتعلم خبري ، فرجعت فأخبرته بما كان فبكى ، ثم قال : إرجع إليه وقل له الأمر في لقائك إليك والجلوس عنا ، وأما النسوة اللاّتي ذكرتهن فعليهن السلام فقد أمّن اللـه روعتهن وجلا همهن .

قال : فرجعت إليه فأخبرته بما قال المنصور ، فقال : قل له وصلت رحماً وجزيت خيراً ثم اغرورقت عيناه حتى قطر من الدموع في حجره قطرات .

2

- وعن محمد بن عبد اللـه الاسكندري كان من ندماء المنصور وخواصه ، أنه قال : دخلت على المنصور يوماً فرأيته مغتماً وهو يتنفس نفساً بارداً فقلت ما هذه الفكرة يا أمير المؤمنين !

فقال لي : يا محمد لقد هلك من أولاد فاطمة مائة أو يزيدون وقد بقي سيدهم وإمامهم .

فقلت له : من ذلك ؟

قال : جعفر بن محمد الصادق .

فقلت يا أمير المؤمنين : إنه رجل قد انَحَلته العبادة واشتغل باللـه عن طلب الملك والخلافة .

فقال : يا محمد لقد علمت أنك تقول به وبإمامته ولكن الملك عقيم وقد آليت على نفسي الاَّ أمسي عشيتي هذه أو أفرغ منه .

قال محمد : واللـه لقد ضاقت عليَّ الأرض برحبها ، ثم دعا سيافاً وقال له : إذا أنا أحضرت أبا عبد اللـه الصادق وشغلته بالحديث ووضعت قلنسوتي عن رأسي فهي العلامة بيني وبينك فاضرب عنقه .

ثم احضر أبا عبد اللـه (ع) في تلك الساعة ولحقته في الدار وهو يحرك شفتيه فلم أدر ما الذي قرأ ، فرأيت القصر يموج كأنه سفينة في لجج البحار ورأيت أبا جعفر المنصور وهو يمشي بين يديه حافي القدمين مكشوف الرأس قد اصطكت أسنانه وارتعدت فرائصه يحمر ساعة ويصفر أخرى ، واخذ بعضد أبي عبد اللـه وأجلسه على سرير ملكه وجثا بين يديه كما يجثوا العبد بين يدي مولاه ، ثم قال : يا أبن رسول اللـه (ص) ما الذي جاء بك في هذه الساعة ؟

قال : جئتك طاعة لله ولرسوله ولأمير المؤمنين أدام اللـه عزه .

قال : ما دعوتك والغلط من الرسول . ثم قال : سل حاجتك ؟

فقال : أسألك الا تدعوني لغير شغل .

قال : لك ذلك وغير ذلك . ثم انصرف أبو عبد اللـه (ع) سريعاً وحمد اللـه عزّ وجلّ كثيراً .

ودعا أبو جعفر المنصور بالدواويج - أي الألحفة والأغطية - ونام ولم ينتبه إلاّ في نصف الليل ، فلما انتبه كنت عند رأسه فترة ذلك ، وقال : لا تخرج حتى أقضي ما فاتني من صلاتي فأحدثك بحديث ، فلما قضى صلاته أقبل على محمد وحدَّثه بما شاهده من الأهوال التي أفزعته عند مجيء الصادق (ع) ، وكان ذلك سبباً لانصرافه عن قتله وداعياً لاحترامه والإحسان إليه .

يقول محمد قلت له : ليس هذا بعجيب - يا أمير المؤمنين - فإن أبا عبد اللـه وارث علم النبي (ص) وجده أمير المؤمنين (ع) ، وعنده من الأسماء وسائر الدعوات التي لو قرأها على الليل لأنار ولو قرأها على النهار لأظلم ولو قرأها على الأمواج في البحور لسكنت .

وهكذا استمر المنصور يدعو الإمام مرة بعد أخرى حتى دس إليه السم فقتله .

ولم تقتصر مواقف الإمام المشرفة في التي وقفها مع المنصور فقط ، بل ، إن له مواقف مشابهة مع ولاة المنصور من ذلك ما يلي :

1

- ذات مرة كان الصادق (ع) عند زياد بن عبد اللـه فقال الرجل : يابني فاطمة ما فضلكم على النــاس ؟ ( فسكت كل من كان في المجلس من الفاطميين خوفاً على أنفسهم من قتل الرجل ) .

فقال الإمام : إن من فضْلنا على الناس أنا لا نحب أن نكون من أحد سوانا ، وليس أحد من الناس لا يحب أن يكون منا .

2 - وكان داود بن علي والياً على المدينـة فأمـر مديـر الشرطة بإعدام ( معلى بن خنيس ) وهو من زعماء الشيعة البارزين ومن أصحاب الإمام الصادق (ع) المفوهين ، فنفذ مدير الشرطة أمر الرئيس .

فلما قتل ( معلى ) جاء الإمام وقد اشتد غضبه على الحكم إلى الوالي يقول له : قتلت مولاي وأخذت مالي !! أما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب .

فاعتذر الوالي بانه لم يكن القاتل المباشر .

فذهب إلى مدير الشرطة فاعترف بالجرم فأمر بضرب عنقه فقتله جزاءً على قتله وقوراً .

الفصل الرابع :مكــارم الاخــلاق

ثقافتــه الواسعــة :

لا نستطيع أن نحدد من ثقافة الإمام - أيّ إمام - إذا اعتقدنا بأن ثقافته صورة واضحة عن اتصاله باللـه تعالى ، حيث أنه يحدو بنا إلى الإعتقاد بأن اللـه يوحي إليه إلهاماً . وكذلك لا نستطيع أن نجد وصفاً شاملاً لثقافته إذا عرفنا بأن المفاهيم العادية التي نعيشها في حياة الإنسان لا تضبط كل ثقافته وكل معرفته ، لأن للإمام وللنبي ولبعض الملهمين من الصالحين قوة يهبهم إياها اللـه القدير ، تلتقط المعلومات عن الكون والحياة كما تلتقط آلة التصوير أو أفلام السينما صور الموجات ، وكما تلتقط العين وأعصاب الأذن جمال الحياة وصوت الأحياء ، فيعرف شيئاً جميلاً وفرداً متكلماً .

وأعود فأقول : ليست ثقافة الإمام الصادق (ع) محـدودة بما قال أو بما حفظ عنه من آثار في مختلف العلوم ، بل أكبر من هذا سعة وأكثر رحابة وأبعد أفقاً ، لأن ثقافته اتصلت بالموجودات رأساً كما تتصل السحابة بالبحر ، والضياء بالشمس والعطر بالورد وحيث كان يستوحي أفكاره واتجاهاته ومعارفه من اللـه خالق البحر والشمس ، ومفتح الورد . فالوحي من اللـه فالنبي فالإمام ، وكذلك الإلهام من اللـه فالإمام .

إن الحقيقة التي عبر عنها فم الإمام هي الحقيقة التي عرفها قلبه ، وحواها فكره ، وأدركتها روحه ، والتي نفخها بارئ الحقيقة في روح الإمام (ع) .

وبعد كل هذا فإن هناك جانباً واحداً يهمنا من ثقافة إمامنا الصادق (ع) وهو أنها كانت معجزته كما كان معجزة النبي (ص) قرآنه ، وإنه يعلم كل شيء يحتاج إليه الإنسان ، وهذا الجانب وحده هو الذي حدا بالجعفرية أن يتبعوا مدرسته الفكرية في كل عصر .

وهنا يجدر بنا أن ننقل اعترافات بعض الزعماء والمفكرين بمدى سعة آفاق الإمام العلمية ، ومدى رحابة مكانته الثقافية ، التي جعلت من أعدائه منابر المدح ومنصات الثناء .

قال فيه أبو حنيفة : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد و جعفر بن محمد أفقه من رأيت .

وقال فيه الشهرستاني : وهو ذو علم غزير في الدين وأدب كامل في الحكمة .

وقــــال فيه ابن حجر الهيثمي : جعفر بن محمد الصادق نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ، وروى عنه الأئمة الكبار .

وقال فيه السيد أمير علي صاحب كتاب مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي :

لا يفوتنا أن نشير إلى ان الذي تزّعم تلك الحركة هو حفيد علي بن أبي طالب المسمى بالإمام جعفر والملقب بـ ( الصادق ) ، وهو رجل رحب أفق التفكير ، بعيد أغوار العقل ، ملم كل الإلمام بعلوم عصره ، ويعتبر في الواقع أنه أول من أسس المدارس الفلسفية في الإسلام . ولم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسسي المذاهب الفقهية فحسب ، بل كان يحضرها طلاب الفلسفة المتفلسفون من الأنحاء القاصية .

وقال العلاّمة هولميادر الكاتب الإنكليزي :

إن جابر هو تلميذ جعفر الصادق وصديقه ، وقد وجد في إمامه الفذ سنداً ومعيناً وراشداً أميناً وموجهاً لا يستغني عنه ، وقد سعى جابر إلى أن يحرر الكيمياء بإرشاد أستاذه من أساطير الأولين التي علقت بها من الإسكندرية ، فنجح في هذا السبيل إلى حد بعيـد ، مـن أجل ذلك يجـب أن يقـرن اسم جابـر مع أساطيـن هذا الفن في العالـم أمثال ( بويله) و ( فوازيه ) وغيرهما من الأعلام [367] .

وهناك مئات بل ألوف من الإعترافات التي أبداها كل من الكتَّاب المسلمين وغيرهم من المحدثين والقدماء ، وبصورة خاصة من معاصري الإمام (ع) حتى ملأ العالم فضله وعلمه الغزير وثقافته الوسيعة البالغة .

جــوده وكرمــه :

1 - قال سعيد بن بيان : مرَّ بنا المفضل بن عمر - أنا وأخت لي - ونحن نتشاجر في ميراث فوقف علينا ساعة ثم قال لنا : تعالوا إلى المنزل ، فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم دفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا صاحبه قال المفضل : أما إنها ليست من مالي ولكن أبا عبد اللـه الصادق أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا أن أصلح وأفتد بها من ماله - فهذا مال أبي عبد اللـه - .

2 - وجاء إليه رجل وقال : لقد سمعت أنك تفعل في عين زياد - وكان ذلك اسم قرية له - شيئاً أحب أن أسمعه منك .

فقال (ع) : نعم كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم ( أي يشق ويهدم ) في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلوا . وكنت آمر أن يوضع بنيات يقعد على كل بنية عشرة ، كلما اكل عشرة جاء عشرة أخرى يلقي لكل منهم مدّ من رطب ، وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم الشيخ والعجوز والمريض والصبي والمرأة ومن لا يقدر أن يجيء فيكال لكل إنسان مدّاً فإذا أوفيت القوام والوكلاء آجرتهم وأحمل الباقي إلى المدينة ففرقت في أهل البيوت والمستحقين على قدر استحقاقهم ، وحصل لي بعد ذلك أربعمائة دينار وكان غلتها أربعة آلاف دينار [368].

يعني ذلك أنه كان يصرف تسعة أعشار تلك الضيعة في الوجوه الخيرية بينما يجعل لنفسه عشراً واحداً منها فقط .

3 - وينقل هشام بن سالم أحد أصحاب الإمام البارزين فيقول : كان أبو عبد اللـه إذا اعتم - أي أظلم - وذهب من الليل شطره أخذ خناً فيه لحم وخبز ودراهم فحمله على عنقه ثم ذهب إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسمه فيهم ولا يعرفونه .

فلما مضى وتوفي أبو عبد اللـه فقدوا ذلك ، فعلموا أنه كان أبا عبد اللـه [369] .

4 - يحدّث الهياج البسطامي عن كرم الإمـام فيقول : كـــــان أبو عبد اللـه ينفق حتى لا يبقى شـــــيء لعيالـــــه [370] .

5 - وقال بوابه المصادف : كنت مع أبي عبد اللـه بين مكة والمدينة فمررنا على رجل في أصل شجرة وقد ألقى بنفسه فقال (ع) مل بنا إلى هذا الرجل ( أي إعدل الطريق إلى جانبه ) فإني أخاف أن يكون قد أصابـــه العطش ، فملنا إليه فإذا هو رجل من النصارى طويل الشعر ، فسأله الإمام : عطشان أنت ؟ فقال : نعم فقال الإمام : إنزل يا مصادف فاسقه ، فنزلت وسقيته ثم ركب وسرنا ، فقلت له : هذا نصراني أفتصرف على نصراني ؟

فقال : نعم إذا كانوا بمثل هذه الحالة [371] .

6 - كان مريضاً ذلك النهار الذي دخل عليه الشاعر الملهم اشجع السلمي فجلس إليه يسأل عن أحواله فقال له الإمام (ع) تعدّ عن العلة واذكر ما جئت له .

فقال الشاعر :

ألبســــــــــــــك اللـــــــــــه منـــــــــــــــــــــه عــــــــــــــــافيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة فـــــــــــــــي نومــــــــــــــك المعتــــــــري وفــــي أرقـــــــــــك

يخــــــــــــرج مـــــــــــــن جسمــــــــــك السقـــــــــــــــام كمــــــــــــــا أخــــــــــــــــــــــرج ذل الســـــــــــؤال مــــــــــــــــن عنقــــــــــــــك

فقال الإمام : يا غلام أي شيء عندك ؟

قال : أربعمائة . قال : أعطها لأشجع .

7 - وبعث إلى ابن عم له من بني هاشم صرَّة بيد أبي جعفر الخشعمي - وكان من وراته الموثوقين - فأمره بأن يكتمه عنه . فلما جاء إلى الهاشمي وأعطاه ، قال : جزاه اللـه خيراً ، ما يزال كل حين يبعث بها فنعيش به إلى عام قابل ، ولكني لا يصلني جعفر بدرهم مع كثرة ماله .

وحينما حضرته الوفاة أمر بسبعين ديناراً لابن عمه الحسن بن علي الأفطس ، فقيل له : أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة ليقتلك ؟

فقال عليه السلام : ويحكم أما تقرأون :

« وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللـه بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ »

(الرعد /20)

إن اللـه خلق الجنة فطيَّبها وطيَّب ريحها ليوجد من مسيرة ألف عام ، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم [372] .

حلمــه ورأفتــه :

1 - كان (عليه السلام ) إذا بلغه من أحد نيلاً منه أو وقيعة فيه قام إلى مصلاّه فأكثر من ركوعه وسجوده وبالغ في ابتهاله وضراعته وهو يسأل اللـه أن يغفر لمن ظلمه بالسب ونال منه .

وإن كان من أقربائه الأدنين فكان يوصله بمال ويزيد في بره قائلاً : إني لأحب أن يعلم اللـه أني أذللت رقبتي في رحمي ، وأني لأبادر أهل بيتي أصلهم قبل أن يستغنوا عني .

لله سيدي ما أعظمك واحلمك .. وماأكبرك نفساً وأرحبك صدراً وأحسنك خلقاً .

2 - وبعث غلامه إلى حاجة فأبطأ ، فذهب على أثره يتفقده فوجده نائماً على بعض الأرصفة ، فجاء حتى جلس بجانبه يروح له فلما انتبه قال له : يا فلان ما ذلك لك تنام الليل والنهار ، لك الليل ولنا منك النهار.

إذا أضفنا هذه القصة الصغيرة إلى الوضع الإجتماعي ذلك اليوم الذي كان الرقيق يعاملون معاملة البهائم فيشبعونهم ضرباً بمجرد أن تبدر منهم بادرة ، نعرف مدى نضوج الإنسانية الرفيعة في فؤاده الكبير .

2

- بعث غلاماً له أعجمياً في حاجة فلما رجع بالجواب لم يستطع أن يفصح به العبد لأنه لم يكن يجيد العربية تماماً ، فبدلاً من أن ينهره ويطرده - شأن الناس ذلك اليوم - سكن قلبه وهدأ اضطرابه وقلقه حيث قال له : لإن كنت عيّ اللسان فما أنت بعيّ القلب ثم أضاف :

إن الحياء والعفاف والعيّ - عيّ اللسان لا عيّ القلب - من الإيمان [373] .

3 - ونهى أهل بيته عن الرقي إلى السطح عبر سلّم مشيراً لهم بأفضلية الدرج المألوف للصعود ، فدخل ذات مرة الدار ورأى إحدى الجواري التي كانت تربي ولداً له تتسلق السلَّم والطفل بيدها فلما بصرت الجارية بالإمام خافت وارتعدت فرائصها وسقط الصبي من يدها ومات .

فخرج (ع) إلى مجلسه متغيراً لونه ، فلما سئل عن ذلك قال : ما تغير لوني لموت الصبي ، وإنما تغير لوني لما أدخلت على الجارية من الرعب ، في حين أن الإمام قال لها حينما شاهدها خائفة مذعورة : أنت حرة لوجه اللـه ، أنت حرة لوجه اللـه . [374] .

4 - كانت الحجـــاج تتقاطر على مكة والمدينة وكان بعضهم يفضل المبيت فــــي مسجد النبي (ص) بــــدلاً

من أن يستأجروا مقابل بعض الدراهم ، فكان أحدهم نائماً بالمسجد والإمام يصلي بجانبه فلما انتبه لم ير هميانه الذي حفظ فيه نقوده ، فتعلق بالإمام - ولم يكن يعرفه - قائلاً له أنت سرقت همياني .

قال له الإمام : كم كان عندك من النقود ؟

قال : ألف دينار . فحمله إلى منزله وأعطاه ألف دينار فذهب الرجل ثم وجد هميانه وفيه ألف دينار فعاد بالمال إلى الإمام متعذراً ، فأبى قبوله قائلا : شيء خرج من يدي لا يعود إليّ .

فخرج الرجل يسأل الناس عن الإمام فقيل هذا جعفر بن محمد فقال : لا جرم هذا فعال مثله [375] .

صبــره وأمانتــه :

كان للإمام ولداً يدعى ( إسماعيل ) وكان أكبر أولاده ، فلما شبَّ كان جمَّاع الفضائل والمكارم حتى حسب أنه خليفة أبيه والإمام من بعده ، ولما اكتمل نبوغه صرعته المنية ، فلم يخرج لوفاته بل دعا أصحابه إلى داره لمراسم الدفن وأتى إليهم بأفخر الأطعمة وحثهم على الأكل الهنيء ، فسألوه عن حزنه على الفقيد الفتي الذي اختطفه الموت في ربيعه ولما يكمل من الحياة نصيبه ، قال لهم : ومالي لا أكون كما ترون في خير أصدق الصادقين - أي الرسول (ص) - :

« إنك ميت وإنهم ميتون »

2 - وكان له ولد آخر كان في بعض طرقات المدينة يمشي أمامه غضاً طرياً ، اعترضته غصة في حلقه فشرق بها ومات أمامه ، فبكى (ع) ولم يجزع بل اكتفى بقوله مخاطباً لجثمان ولده الفقيد :

لئن أخذت لقد أبقيت ، ولئن أبليت لقد عافيت .

ثم حمله إلى النساء فصرخن فأقسم عليهن ألا يصرخن .

ثم أخرجه إلى المدفن وهو يقول : سبحان من يقتل أولادنا ولا نزداد له إلاّ حبّاً .

وقال بعد الدفن : إنا قوم نسأل اللـه ما نحب فيمن نحب فيعطينا ، فإذا أحب ما نكره فيمن نحب رضينا .

نظرته الإنسانيــة :

إن نظرة الإمام الصادق (ع) الإنسانية تنبثق من نظرة الإسلام إليها في شتى صيغها ومفاهيمها ، وإني لا أريد أن أورد بعض المثل في ذلك من سيرة الإمام ، بينما أجعل البحث والتعليق لفرص أخرى إن شاء اللـه تعالى ، ذلك لكي نكشف عن مدى تفاني الإمام في حب الإنسانية وصراعاتها وتقدير حقوقها حتى ليجعل الصخر ينحني والنجم والشجر يسجدان إجلالاً وإكراماً لهذه النظرة العظيمة .

1 - أعطى بوابه ومـولاه - مصـادف - ألف دينار وقال له تجهز حتى نخرج إلى مصر ( أي في رحلة تجارية ) فإن عيالي قد كثروا ، فتجهز وخرج مع التجار إلى مصر فلما دنوا منها استقبلتهم قافلة خارجة منها فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة ؟ فأخبرهم أن ليس بمصر منه شيء فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا من أرباح دينار ديناراً - يعني يجعلون الربح مضاعفاً - فلما قبضوا أموالهـــم انصرفوا إلى المدينة .

فدخل مصادف على أبي عبد اللـه (ع) ومعه كيسان في كل واحد ألف دينار وقال : جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الآخر ربح فقال (ع) : إن هذا الربح كثير ولكن ما صنعتم في المتاع ؟ فحدَّثه مصادف بقصة تجارتهم .

فقال :

سبحان اللـه تحلفون على قوم مسلمين ألا تبيعوهم إلاّ بربح الدينار ديناراً ؟ ثم أخذ أحد الكيسين فقال هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في الربح . ثم قال يا مصادف مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال [376].

2 - كان للإمام صديق لا يكاد يفارقه ، فغضب يوماً على عبده وسبه قائلاً : أين كنت يا ابن الفاعلة !! فلما سمع أبو عبد اللـه دفع يده فصك بها جبهة نفسه . ثم قال : سبحان اللـه تقذف أمه ، قد كنت أرى لك ورعاً .

فقال الرجل : جعلت فداك إن أمه أمة مشركة ، فقال (ع) : أما علمت أن لكل أمة نكاحاً .

3 - انقطع شسع نعله وهو يسير مع بعض أصحابه يشيعون جنازة ، فجاء رجل بشسعه ليناوله ، فقال: أمسك عليك شسعك فإن صاحب المصيبة أولى بالصبر عليها .

4 - قال بعض أصحابه : أصاب أهل المدينة غلاء وقحط حتى أقبل الرجل الموسر يخلط الحنطة بالشعير ويأكله ، وكان عند أبي عبد اللـه طعام جيد - فيه كفاية - قد اشتراه أول السنة فقال لبعض مواليه : إشتر لنا شعيراً واخلط بهذا الطعام ، أو بعه فإنا نكره أن نأكل جيدا وياكل الناس رديئاً .

وقال الآخر دخلنا على أبي عبد اللـه في حائط - أي بستان - له وبيده مسحاة يفتح بها الباب وعليه قميص ، وكان يقول إني لأعمل في بعض ضياعي وإن لي من يكفيني ليعلم اللـه أني أطلب الرزق الحلال .

عبادتــه وطاعتــه :

كل من وصف جعفر بن محمد الصادق (ع) بالعمل شفعه بالزهد والطاعة وإليك بعض كلماتهم في ذلك :

قال مالك - إمام المذهب - : كان جعفـر لا يخلو مـن إحـدى ثلاث خصـال ، إما مصلٍّ وإما صائم وإما يقرأ القرآن [377] .

وقال : ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق (ع) علماً وعبادةً وورعاً [378] .

وقــــال الوزير أبو الفتح الأربلـــــي : وقف نفسه الشريفة علــــى العبادة وحثَّها على الطاعة والزهادة واشتغــــل

بأوراده وتهجده وصلاته وتعبده .

ويـروي بعض معاصـريه : رأيت أبا عبـد اللـه (ع) ساجداً في مسجـد النبي (ص) فجلست حتى أطلت ، ثم قلت : لأسبحنّ ما دام ساجداً فقلت : سبحان ربي وبحمده استغفر ربي وأتوب إليه ثلاثمائة ونيفاً وستين مرة فرفع رأسه [379] .

إنه كان يلبس الجبة الغليظة القصيرة من الصوف على جسده ، والحلة من الخز على ثيابه ويقول : نلبس الجبة لنا والخز لكم [380]، ويرى عليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه وفوقه جبَّة صوف وفوقها قميص غليظ .

ويطعم ضيوفه اللحم ينتقيه بيده وهو ياكل الخل والزيت ويقول : إن هذا طعامنا طعام الأنبياء [381] .

مــن بلاغتـــه :

لقد زخرت الكتب الدينية بأحاديث بليغة عن الإمام الصادق (ع) ولك أيها القارئ بعض روائعه تاركين من يريد أكثر من ذلك يراجع كتاب أشعة من بلاغة الإمام الصادق (ع) للعلاّمة الفقيه الشيخ عبد الرسول الواعظي .

أوصى إلى المنصور الخليفة المعاصر له فقال : عليك بالحلم فإنه ركن العلم ، واملك نفسك عند أسباب القدرة ، فإن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفي غيظاً أو تداوى حقداً أو يجد ذكراً بالصولة ، واعلم بانك إن عاقبت مستحقاً لم تكن غاية ما توصف به إلاّ العدل ، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر .

فقال المنصور : وعظت فأحسنت وقلت فأوجزت .

ومن وصية له إلى ولده الإمام الكاظم (ع) :

يا بني إفعل الخير إلى كل من طلبه منك . فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه ، وإن لم يكن له بأهل كنت أهله ، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحول إلى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره .

قال سفيان الثوري لقيت الصادق ابن الصادق جعفر بن محمد (ع) فقلت : يابن رسول اللـه أوصني .

فقال : يا سفيان لا مروءة لكذوب ، ولا أخ لملوك ، ولا راحة لحسود ، ولا سؤدد لسيّئ الخلق .

فقال : يابن رسول اللـه زدني .

فقال لي : يا سفيان ثق باللـه تكن مؤمناً ، وارض بما قسم اللـه لك تكن غنياً ، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً ، ولا تصحب الفاجر معك يعلمك من فجور ، وشاور في أمرك الذين يخشون اللـه عز وجل . [382]

الامــام الكـاظــم ( عليه السلام )

قدوة وأسوة

تمهيـــد

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، محمد وآله الهداة .

في الوقت الذي يشهد العالم بعثاً إسلامياً اصيلاً ، ليكون أملاً في أفئدة المحرومين ، وخطراً على كيان الظالمين ، يعكف مستكبروا العالم ، والظالمون على دراسة الخطط الكفيلة بصدّ هذا الموج ، أو لا أقل من احتوائه ، ويهمس شياطينهم في آذانهم أن لا يفسد أمر آخر هذه الأمة إلاّ بما أفسد أوّله ، أي بث النواة الطائفية ، وإقامة أنظمة التسلط والقهر باسم الدين ، وبعث الروح في العصبيات الجاهلية .

فإذا بالاقلام المرتزقة تضرب على وتر الطائفية ، وتهاجم مذهب آل البيت ، ولا تفتأ تكرر من نغمة : الإرهاب الشيعي ، عسى أن تثير أحقاداً أموية دفينة في نفوس بعض المسلمين .

وهكذا كان على الأقلام الشريفة والضمائر النظيفة أن تنهض بواجب المحافظة على مكاسب الأمة ، وتحمــــي روافد البعث الإسلامي الجديد ، من رجس الشياطين ونفثهم ووسوستهم وإعلامهم المضــلل .

ألا فلننبذ العصبيات الجاهلية ، ولندافع عن رسالات اللـه ، وعن رسله العظام ( عليهم السلام ) وعن رسول اللـه محمد بن عبد اللـه (ص) ، وعن أهل بيته المظلومين (ع) ، وعن الخط الرسالي الأصيل في الأمــة .

إن الشيطان قد عبّأ قواه وجاءكم بخيله ورجاله وأعدّ لإغوائكم وصدّكم عن السبيل كل مكائده ومصائده ، فلنتسلّح بمزيد من الوعي ولنكن على أشد الحذر ، ولنتخذ أقلامنا دروعاً للدفاع عن مقدسات الأمة ، وعن أهل بيـت الرسول وعن سبيلهم القويم في مقاومة أنظمة النفاق التي تعود اليوم إلى الظهور .

وإنّي أرى بوضوح ، أن الإهتمام بتراث آل البيت (ع) المتمثل في نهجهم وسيرتهم وشرحهم لمعارف القرآن ، وتفسيرهم لسُنة جدهم الرسول (ص) يضمن استمرار الثورة الإسلامية واستقامتها وانتصارها بإذن اللـه ، وإن التهاون بهذا الشأن غلطة كبيرة وخطأ مميت .

وفي اليوم الخامس والعشرين من شهر شوال لعالم 1405 هـ والذي يصادف ذكرى وفاة الإمام الصادق (ع) ، أبتدأ في تأليف حلقة جديدة من سلسلة ( قدوة وأسوة ) تقص حياة نجل الإمام الصادق الإمام موسى بن جعفر (ع) تلك الحياة الحافلة بالعبر والدروس الثورية .

وإني أعتبر ذلك مساهمة بسيطة في صدّ مؤامرات المستكبرين ضد خط آل البيت ، ومكرهم في احتواء البعث الإسلامي الأصيل .

أسأل اللـه أن يوفقني لإكمال هذه الحلقة وسائر الحلقات ، وأن ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى اللـه بقلب سليم .

الفصل الاول :الاصل الكريم والمولد المبارك

يبدو أن قرية ( الأبواء ) الواقعة بين المدينة ومكة ، كانت تستقطب قوافل الحجاج من آل البيت أكثر من غيرها ، لأنها كانت مثوى أم الرسول آمنة بنت وهب .

وفي طريقهم إلى المدينة قافلين من حج بيت اللـه الحرام [383] حطت قافلة الإمام أبي عبد اللـه الصادق (ع) في هذه القرية ، وذلك في اليوم السابع عشر من شهر صفر الخير ، عام 128 هـ - على أشهر الروايات -، حيث قدم الإمام المائدة لضيوفه ، وجاءه الرسول من عند نسائه تبشره بالوليد المبارك .

تقول الرواية التاريخية - المأثورة عن منهال القصّاب قال : ( خرجت من مكة وأنا أريد المدينة ) فمررت بالأبواء وقد ولد لأبي عبد اللـه (ع) فسبقته إلى المدينة ، ودخل بعدي بيوم فأطعم الناس ثلاثاً ، فكنت آكل فيمن يأكل ، فما آكل شيئاً إلى الغد حتى أعود فآكل ، فمكثت بذلك ثلاثاً أطعم حتى أرتفق ثم لا أطعم شيئاً إلى الغد ) .

وجاء في حديـث مـروي عـن ابي بصير قال : ( كنت مع أبي عبد اللـه (ع) في السنة التي ولد فيها إبنه موسى (ع) ، نزلنا الأبواء وضع لنا أبو عبد اللـه (ع) الغذاء ولأصحابه وأكثره وأطابه ، فبينما نحن نتغدى إذ أتاه رسول حميدة أن الطلق قد ضربني ، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا .

فقام أبو عبد اللـه فرحاً مسروراً ، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعيه ضاحكاً سنّه ، فقلنا : أضحك اللـه سنّك ، وأقر عينك ، ما صنعت حميدة ؟

فقال : وهب اللـه لي غلاماً وهو خير من برأ اللـه ، ولقد خبرتني عنه بأمر كنت أعلم به منها ، قلت : جعلت فداك وما خبّرتك عنه حميدة ؟ قال : ذكرت أنه لما وقع من بطنها وقع واضعاً يديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء ، فأخبرتها أن تلك أمارة رسول اللـه (ص) وأمارة الإمام من بعده .

فقلت : جعلت فداك وما تلك من علامة الإمام ؟ فقال : إنه لما كان في الليلة التي علق بجدي فيها ، أتى آتٍ جدّ أبي وهو راقد ، فأتاه بكأس فيها شربة أرقّ من الماء ، وأبيض من اللّبن ، وألين من الزبد ، وأحلى من الشهد ، وأبرد من الثلج ، فسقاه إيّاه وأمره بالجماع ، فقام فرحاً ومسروراً فجامع فعلق فيها بجدّي ، ولما كان في الليلة التي علق فيها بأبي أتى آتٍ جدي فسقاه كما سقى جدّ أبي وأمره بالجماع ، فقام فرحاً مسروراً فجامع قعلق بأبي ، ولما كان في الليلة التي علق بي فيها ، أتى آتٍ أبي فسقاه وأمره كما أمرهم ، فقام فرحاً مسروراً فجامع فعلق بي ، ولما كان في الليلة التي علق فيها بابني هذا أتاني آتٍ كما أتى جدّ أبي وجدّي فسقاني كما سقاهم ، وأمرني كما أمرهم ، فقمت فرحاً مسروراً بعلم اللـه بما وهب لي ، فجامعت فعلق بابني هذا المولود ، فدونكم فهو واللـه صاحبكم من بعدي ) [384].

فلما أن عاد الإمام إلى المدينة أطعم الناس ثلاثاً وتباشر الناس بالوليد المبارك .

أبواه :

والده : إمام الهدى أبو عبد اللـه جعفر بن محمد الصادق (ع) .

والدتـــه : حميدة البربرية التي ربما كانت من الأندلس أو من المغرب ، وكانت تلقب بـ ( حميدة المصفـــاة ) .

وقد كانت حميدة من فضليات النساء حيث اضطلعت بمهمة نشر الرسالة ، وقد روت بعض الأحاديث عن زوجها (ع) .

فعن ابن سنان ، عن سابق بن الوليد ، عن المعلّى بن خنيس أن أبا عبد اللـه (ع) قال : ( حميدة مصفّاة من الأدناس ، كسبيكة الذهب ، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أُدِّيت إليَّ كرامةً من اللـه لي والحجة من بعدي ) [385] .

/ 35