الشعر منبر سيَّار : - نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

باء :

ثم بدأ الحديث بذكر اللـه سبحانه ، وحذَّر الناس عقابه ، وذكَّرهم بالموت والفناء ، ولا أبلغ من الموت موعظة ولا من الفناء رادعاً .

وجاء في بعض الروايات أن الناس قد أجهشوا بالبكاء عندما أكمل الإمام (ع) حديثه عن الآخرة ، مما جعل قلوبهم خاشعة تستقبل ما بيَّنه بعدئذ من البصائر السياسية .

جيم :

وبيَّن الإمام (ع) خطه السياسي الأبلج الذي ينتهي إلى سيد المرسلين محمد وأهل بيته المعصومين ( صلَّى اللـه عليه وعليهم اجمعين ) ، وأسهب في بيان صفاتهم التي هي المثل الأعلى في اليقين والإستقامة والجهاد .

دال :

وأشهر الإمام (ع) ظُلامة السبط الشهيد ، وحملها راية حمراء تدعو الضمائر الحرة إلى الجهاد من أجل اللـه وفي سبيل نصرة المظلومين .. وهذه هي أشد محاور المنبر الحسيني : إثارةً للعواطف وتهييجا لكوامن الحزن والأسى .

هاء :

وبعد أن أمر يزيد بأن يقطع عليه المؤذن حديثه لم يترك الإمام (ع) المنبر كما كان معهوداً ، وإنما استوقفه عند الشهادة الثانية وحمّل يزيد مسؤولية قتل والده ، مما يعني - في لغة العصر - وضع النقاط على الحروف . فلا يكفي للخطيب الحسيني أن يشير من بعيد إلى الحقائق السياسية ، بل لابد أن يصرّح بها بوضوح حتى يتبصر الناس وتتم الحجة عليهم .

وهكذا استطاع الإمام السجاد (ع) عبر هذا المنهاج الرائع أن يزلزل عرش يزيد زلزالاً حتى تنصَّل من جريمته النكراء ، وتوجه إلى الجماهير الغاضبة التي كادت تبتلعه قائلاً : أيها الناس ، أتظنون أني قتلت الحسين ، فلعن اللـه مَن قتله عبيد اللـه بن زياد عاملي بالبصرة [294] .

اما خطاب الإمام (ع) الذي ينبغي أن يُتخذ مثلاً للخطَب الحسينية ، فهو التالي :

أيها الناس أحذركم الدنيا وما فيها ، فإنها دار زوال ، قد أفنت القرون الماضية ، وهم كانوا أكثر منكم مالاً ، وأطول أعماراً . وقد أكل التراب جسومهم ، وغيَّر أحوالهم . أفتطمعون بعدهم ، هيهات هيهات ، فلابد من اللحوق والملتقى . فتدبَّروا ما مضى من عمركم وما بقي ، فافعلوا فيه ما سوف يلتقي عليكم بالأعمال الصالحة قبل انقضاء الأجل وفروغ الأمل ، فعن قريب تؤخذون من القصور إلى القبور ، وبأفعالكم تحاسبون . فكم - واللـه - من فاجرٍ قد استكملت عليه الحسرات ، وكم من عزيز قد وقع في مهالك الهلكات ، حيث لا ينفع الندم ، ولا يُفات من ظَلم .. ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربُّك أحداً [295] .

قالوا : فضج الناس بالبكاء لبالغ أثر مواعظه في أنفسهم ثم قال :

أيها الناس ، أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع :

أُعطينا العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين .

وفُضِّلنا بأن منَّا النبيَّ المختار محمداً ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيار ، ومنّا أسد اللـه وأسد رسوله ، ومنّا سبطا هذه الأمة .

مَن عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي .

أيها الناس ! أنا ابن مكة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن مَن حَمل الرُّكن بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجَّ ولبَّى ، أنا ابن من حُمل على الْبُراق في الهواء ، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلَّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا إله إلا اللـه .

أنا ابن مَن ضرب بين يدي رسول اللـه بسيفَين ، وطعن برمحَين ، وهاجر الهجرتَين ، وبايع البيعَتين وقاتل ببدر وحنَين ، ولم يكفر باللـه طرفة عَين .

أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين وزين العابدين ، وتاج البكائين ، وأصبر الصابرين ، وافضل القائمين من آل ياسين رسول رب العالمين . أنا ابن المؤيد بجبرئيل ، المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين ، المجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأول السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبيد المشركين ، وسهم من مرامي اللـه على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين اللـه ، وولي أمر اللـه ، وبستان حكمة اللـه ، وعيبة علمه .

سمحٌ ، سخيٌّ ، بهيٌّ ، بهلولٌ ، زكيٌّ ، أبطحيٌّ ، رضيٌّ ، مقدامٌ ، همامٌ ، صابرٌ ، صوام ، مهذبٌ ، قوامٌ ، قاطعُ الأصلاب ، ومفرقُ الأحزاب ، أربطهم عناناً ، وأثبتهم جَناناً ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدهم شكيمة ، أسد باسل ، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنَّة وقربت الأعنَّة طحن الرحا ، ويذروهم فيها ذرو الريـح الهشيم ، ليث الحجاز ، وكبش العراق ، مكيٌّ مدنيٌّ خيفيٌّ عقبيٌّ بدريٌّ أحديُّ شجريٌّ مهاجريٌّ . من العرب سيدها ، ومن الوغى ليثها ، وارث المشعَرين وأبو السبطَين : الحسن والحسين ، ذاك جدي علي بن أبي طالب .

ثم قال : أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيدة النساء ...

فلم يزل يقول : أنا أنا ، حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد ( لعنه اللـه ) أن يكون فتنة ، فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام . فلما قال المؤذن : اللـه أكبر قال علي : لا شيء أكبر من اللـه ، فلما قال: أشهد أن لا إله إلاّ اللـه ، قال علي بن الحسين : شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ، فلما قال المؤذن : اشهد أن محمداً رسول اللـه ، التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال : محمد هذا جدِّي أم جدُّك يا يزيد ؟. فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت ، وإن زعمت أنه جدي فَلِمَ قتلتَ عِترَته ؟ قال : وفرغ المؤذن من الأذان والإقامة وتقدم يزيد فصلَّى صلاة الظهر [296] .

الدعاء مدرسة ومنبر :

لقد بعث اللـه تعالى إلينا رسالته ، ترى كيف نستجيب له . ونرد إلى ربِّنا الرحمن التحية ؟.

نردُّها بالدعاء . فإنه منهج حديث العبد مع ربِّه عزَّ وجلَّ ، كما أن الوحي ذروة حديث الرب مع عباده .

والدعاء مخ العبادة ، ولباب التواصل ، وجوهر الصلاة . وكل دعاء حميد إلاّ أن اللـه تعالى أنعم علينا بأن هدانا لتعلم أدعية أوليائه ، وبما أورثنا من أدعية النبيِّ وأهل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام . ويبدو أنها جميعاً أدعية تَوارثها عباد اللـه من الأنبياء ، ومن ثم من الوحي الإلهي ؛ أولا أقل هي تجليِّات الوحي على أفئدة الهداة من عباد اللـه المقرَّبين ، وانعكاسٌ لمعارف الوحي على قلوبهم الزكية وألسنتهم الصادقة .

فالأدعية المأثورة - إذاً - هي الوجه الآخر للوحي ، وهي ظلاله الوارفة ، وأشعته المنيرة ، وتفسيراته وتأويلاته .

وهكذا كانت الأدعية كنوز المعارف الربانية ، وتلاد الحكم التي لاتنفذ ، وفي طليعتها أدعية الصحيفة السجادية التي جمعت من كلمات الإمام زين العابدين (ع) .

فإلى ماذا كان يهدف الإمام من تلك الأدعية ؟. لا ريب أنها كانت شعاعاً من قلبه المنير بالإيمان ، وفيضاً من فؤاده المتقد بحب اللـه ، وكانت كلماتُها تتزاحم على شفاه رجل كاد يذوب في هيام ربِّهِ ، ولم تكن تَكَلُّفاً منه .

بلـــى ، قد حققت أهدافاً عديدة أبرزها تعليم عباد اللـه كيف يدعون ربَّهم العظيم ، وكيف يتضرعون إليـــه ، ويتحببون إليه ، ويلتمسون رضاه . ويتوافون على أسمائه الحسنى .. وكيف يطلبون منـه حوائجهــــم ، وماذا يطلبون ؟.

وهذا الهدف الرباني تفرّع بدوره إلى عدة أمور حياتية يذكرها المؤرخون عادةً عند بيان حكمة الصحيفة السجادية ، ونحن نشير إليها باختصار شديد .

أ : أن الضغوط كانت بالغة الشدة في عهد الإمام السجَّاد (ع) إلى درجة أن عقيلة الهاشميين زينب الكبرى (ع) أصبحت لفترة ، وسيطة في شؤون الإمامة بين الإمام والمؤمنين . وفي مثل تلك الظروف العصيبة كان من الطبيعي أن يبث الإمام بصائر الوحي وقيم الرسالة عبر الأدعية التي مشت في الأمة ولا تزال كما يمشي الشذى عند نسيم عليل !!

ب - والإمام كثائر رباني لم يدع معارضة الطواغيت والوقوف بوجه الفساد الذي أوجدوه بسبب الظروف الصعبة ، بل عارضهم بالأدعية التي لم تستطع أجهزة النظام برغم قوتها صد الإمام عنها .

وهكذا أتم اللـه سبحانه الحجة علينا ، كي لاندع الوقوف بوجه الطغاة بأية وسيلةٍ ممكنة ، حتى في أشد العصور إرهاباً وقمعاً .

ج : وكانت الأدعية - إلى ذلك - وسيلة تربية الناس على التقوى والفضيلة والإيثار والجهاد وذلك بما تضمنت من مفاهيم متسامية ، ومواعظ ربانية ، فكان النخبة من أبناء الأمة يتغذون عليها كما يتغذى النبات الزاكي من أشعة الشمس . فإن حركات المعارضة تحتاج إلى زخم ثوري يدفع أبناءها قُدُماً في طريق المعارضة كالنشرات السرية والجلسات الخاصة ، والشعارات والبيانات ، فإن تلك الصحف المطهرة كانت غذاءً رساليّاً لتلك النخبة المؤمنة في مواجهة النظام الأموي .

ولا تزال أدعية الإمام (ع) التي جمعت في الصحيفة السجادية ، لاتزال هذه الأدعية ذلك الزخم الإيماني الذي يوفر لنا الروح الإيمانية في الأيام العصيبة . ولا أظن - بعد القرآن - أنَّ كتاباً يكون تسلية لفؤاد المحرومين ، وثورة في دماء المستضعفين ، ونوراً في افئدة المجاهدين وهدى على طريق الثائرين كالصحيفــــة السجاديـة ، فسلام اللـه على تلك النفس الزكية التي فاضت بها ، وسلام اللـه على من تبتـَّـــــــــل

بها مع كل صباح ومساء .

الشعر منبر سيَّار :

تناغم الحياة ينعكس في ضمير الإنسان بحبك أوزان الشعر ومعانيه البديعة . وكانت العرب في الجاهلية وفي العصور الإسلامية الأولى ، بالغة الإهتمام بالشعر . وقد مدح ربُّنا سبحانه في سورة الشعراء أولئك المؤمنين منهم الذين ينتصرون للمظلوم . وقد اهتم أئمة الهدى (ع) بالشعر كمنبر سيار يمشي بين الناس بانسياب . كما أن الطغاة بدورهم استخدموا الشعراء مطية لإعلامهم المضلَّل . وقد قيل إن الإمام زين العابدين (ع) نظم الشعر . واشهر ما ينقل عنه تلك الرائعة التي يقول فيها :

نحـــــن بنــــــــــــو المـــــــــــــــصطفــــى ذوو غصـــــــــص يجـــــــــــــــــــرعهــــــــا فــــــي الأنــــــــــــــــــــــام كــــــــاظمنــــــا

عـــظيمــــــــــــــــــة فـــــــي الأنــــــــــــــــــــــــام محنتنـــــــــــــــــــــــــا أولنـــــــــــــــــــــــــــا مبتـــــــــــــــــلــــــــــــــــــــــــــى و آخــــــــــــــرنـــــــــــــا

يفــــــــــــــــرح هـــــــــــــــذا الـــــــــــــــــــــــورى بعيـــــــــــــــــدهــــــــــمُ و نـــحــــــــــن أعيـــــــــــــادنــــــــــــــــــــــــــــــا مـــــــــــــــــــآتمـنـــــــــــا

و النـــــــــــاس فـــي الأمــــــــن و الســــــــــرور ، و مـــا يــــــــــــــــأمـــــــــــن طــــــــول الـــــــزمـــــــــان خــــائـــفنــــــــــا

و مـــــا خصصنــــــــا بــــــه مـــــن الشــــرف الطــــــــا ئـــــــــــل بيـــــــــــــــــــــــــــــــــــن الأنـــــــــــــــــــــــــــــــــــام آفتنـــــــــــــــــــا

يُحْكَــــــم فينـــــــــا ، و الحكــــــــــم فيــــــــــــــه لنـــــــــــــــــــــــا جــــــــــــــاحــــــدُنـــــــــــا حقَّنـــــــــــــــــا و غـــاضبنــــــــــــــــــــــــا [297]

ونسب إليه ابن شهر اشوب في المناقب قوله :

لكــــــــــــــــم مـــــــــــــــــــــــا تدَّعــــــــــــــــون بغيــــــــــــــر حَــــــــــقٍّ إذا مِـــــيــــــــــــــــــز الصحــــــــــــــاحُ مــــــــن الْمـــــــــــِراضِ

عــــــــــــــرفتـــــــــــــمْ حقَّنــــــــــــــــــــــا فجحــــدتمــــــونـــــــــــــــــــــــا كمـــــــــــــــــا عــــــرف الســــــــواد مـــــــن البيــــــــــــاضِ

كتـــــــــــــــــــــابُ اللــــه شاهــــدُنــــــــــــــــا عليكـــــــــــــــــــــــــــــــم وقاضينـــــــــا الإلــــــــــــــه ، فنعـــــــــــــم قـــــــــــــــــــــــــاض [298]

أما تأييده للشعراء المدافعين عن الحق ، فنعرفه من خلال قصة مع الفرزدق الذي كان محسوباً على بلاط الأمويين ، إلاّ أنه كان ينتمي تاريخيّاً إلى البيت العلوي . فلما وجد فرصة فاضت قريحته بالرائعة المعروفة . فلما غضب عليه هشام بن عبد الملك والسلطة الأموية واعتقل ، بادر الإمام بجائزته . وبقي إلى آخر حياته يعيش في ظل الإمامة الإسلامية حسبما يذكر بعض المؤرخين .

أما رائعته وقصتها . فهي التالية :

رواها السبكي في طبقات الشافعية بسند متصل إلى ابن عائشة عبد اللـه بن محمد عن أبيه ، قال : حج هشام بن عبد الملك فطاف بالبيت فجهد أن يصل إلى الحجر فيستلمه فلم يقدر عليه ، فنُصب له منبرٌ وجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه أهل الشام ، إذ أقبل علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وكـــان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً ، فطاف بالبيت فلما بلغ الحجر تنحَّى له الناس حتى يستلمــه ، فقال رجل من أهل الشام مَن هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة ؟. فقال : هشام لا أعرفه ، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام . وكان الفرزدق حاضراً فقال الفرزدق : ولكني أعرفه. قال الشامي : من هو يا أبا فراس ؟. فقال الفرزدق ( وقد توافقت روايتا سبط ابن الجوزي والسبكي إلاّ في أبيات يسيرة ، وهذا ما ذكراه ) :

هــــذا الــــــــذي تَعـــــــــــــرف البطحــــــــاءُ وطأتَــــــــــــــهُ و البيـــــــــــــت يعرفـــــــــــــه و الْحِــــــــــلُّ و الحَـــــــــرمُ

هــذا ابــنُ خيــر عبادِ اللــــه كُلِّهـــــــــــــمُ هـــــــــذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلَــمُ

يكــــــــــــــادُ يَمْسِكُه عــــِرفــــــــــــانُ راحَتِـــــــــه ركنُ الحطيم إذا ما جاءَ يَستلـمُ

إذا رأتْهُ قريــــــشٌ قـــــــــــــــــالَ قائِلُهـــــــــــــــــــــا إلى مَكارمِ هذا يَنتهــــي الكــــــــــرَمُ

إنْ عُـــــدَّ أهلَ التُّقى كانوا ذوي عـــــــــــــــــددٍ أو قيل مَن خيرُ أهلِ الأرضِ قيلَ هُمُ

هــــذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهلَــــــــــــــهُ بِجَدِّه أنبياءُ الله قــــــد خُتِمـــــــــــــــوا

وليــــــسَ قولُك مَنْ هذا بِضــــائـــــــــــِرهِ أَلْعُـرْبُ تَعــرف مَن أنكرتَ والعجَمُ

يُغضي حَياءً ويُغْضَى مِنْ مَهابَتِــهِ فَمَا يُكلَّمُ إلاّ حيـــــــــــنَ يَبتســـــــــــــــــــــمُ

يُنْمَى إلى ذروةِ العـــــــزِّ التي قَصُرَتْ عنها الأكفُّ وعن إدراكِهـا القـــــدَمُ

مـــــــــــــــــــن جدَّه دان فضل الأنبياء له وفضـــل أمته دانت لـــــــــه الأمـــــــــــمُ

ينشقُّ نورُ الهدى عن صَبْحِ غُرَّتِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ كالشمس تَنْجابُ عن إِشرافِها الظُّلَمُ

مشتقَّةٌ من رسولِ اللـه نبعتُـــــــــــــــــــــه طابتْ عناصرُه والْخيمُ والشِّيَــــــــــمُ

اللـه شرَّفـــــــــــــــــَهُ قِدْمــــــــــــــــــــاً وفضَّلــــــــــــــــــه جرى بذاك له في لوحِهِ القلَـــــــــــمُ

كِلتا يَديهِ غيـــــــــــــــــــاثُ عمَّ نفعُهمــــا يَستوكَفــــــــــــــانِ ولا يَعروهما العدَمُ

سهـــــــلُ الخليقةِ لا تُخشى بــــــــــــوادرهُ يَزينه اثنانِ حُسْنُ الْخُلقِ والكرَمُ

حمَّالُ أثقـــــــــــــــــالِ أقـــــــــــــوامٍ إذا فُــدِحوا رحبُ الفِناء ، أريبٌ حين يَعتزمُ

ما قال : لا ، قطُّ إلاّ في تشهّــــدهِ لـولا التشهـــــــــدُ كانتْ لاؤه نَعَــــــــــــــــمُ

عَمَّ البريةَ بالإحســــــــــان فانقشعـــــــتْ عنه الغيــــابةُ لا هلقٌ ولا كَهَـــــــــــــــــــمُ

مِنْ مَعشرٍ حبُّهمْ ديٌ ، وبُغضُهُــمُ كفـرٌ ، وقربهــــــــــمُ ملجاً ومُعْتَصَــــمُ

لا يَستطيـــــــــع جوادٌ بَعْدَ غايتِهـــــــــم ولا يُدانيهــــــــمُ قومٌ وإن كَرُمُــــــــــــــــــــــوا

هـــــــــــــــــــمُ الْغُيــــــــــــــــــــــــــــــوثُ إذا مــــــا أزمـــــــــــــــــــــــــةٌ أزمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتْ والأسْدُ أُسدُ الشرى والرأي مُحْتَــــدِمُ

لا يُنقص العسرُ بَسْطاً من أَكُفِّهِم سِيَّانِ ذلك إن أَثْـــرَوْا وإنْ عُدِمُـــوا

يَستدفع السوءُ والبلـــــوى بحُبِّهــــــــــِمْ ويُستربُّ به الإحســــانُ والنّعَــــــــــمُ

مَقّدَّمٌ بعدَ ذِكَـــــــــــــــــــــــــرِ اللـه ذِكْرُهُـــــــــــمُ في كلِّ بَدْءٍ ، ومَختومٌ بِهِ الْكَلِمُ

يَأبَى لهمْ أن يَحُلَّ الــــــــذمُّ ساحتَهـــــم خيمٌ كريمٌ ، وأيدٍ بالنَّدى هُضُــمُ

أيُّ الخلائــقِ ليستْ في رقابهــــــــــــــــــمُ لأَوَّلِيَّــــــــــــــةِ هَـــــــــــــــــــذا أولُــــهُ نَعَــــــــــــــمُ

مَن يَعُــرِفِ اللـه يَعْــــــرِفْ أَوَّلِيَّـــــــــــــــة ذا أَلدِّيْنَ مِنْ بَيْتِ هَذا نَالَهُ الأُمَــــمُ

هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) ، فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة ، فبعث إليه علي بألف دينار فردها وقال : إنما قلت ما قلت غضباً لله ولرسوله ، فما آخذ عليه أجراً . فقال علي : نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما أعطينا ، فقبلها الفرزدق وهجا هشاماً فقال :

أَيحسبنـــــــــــي بيــــــــــــــــــن المدينـــــــــــــة والتـــــــــــــــــــي إليها قلـــــــــــــــــــوبُ الناس يَهـــــوي مُنِيبُهــــــــــــــا

يًقَلِّـــــــــبُ رأســـــــــــاً لـــــــم يكن رأسَ سَـــيْـــــــــــــــــــــــــــــدٍ وعَينـــــــــــــــاً لـــــــــــــه حـــــــــــــــــــولاءَ بــــــــادٍ عُيـــوبُهـــــــا

فأُخبر هشامُ بذلك فأطلقه . ولكنه قطع راتبه من الديوان ، وكان ألف دينار سنويّاً ، فاشتكى إلى الإمام فأعطاه أربعين ألف دينار وقال له : لو كنت تحتاج إلى أكثر لأعطيتك . فعاش الفرزدق أربعين عاماً ثم مات رحمه اللـه تعالى .

رسالة الحقوق :

يبحث بعض الناس عن الدرجات العلى في الإيمان ويتساءلون : كيف نجتهد حتى نصبح مؤمنين حق الإيمان ؟. لمثل هؤلاء كتب الإمام زين العابدين (ع) رسالة الحقوق التي تشرح واجبات المؤمن ومسوؤلياتــــه تجاه الخالق والناس ، وتحدِّد - بالتالي - طبيعة العلاقة القائمة على أسسٍ متوازنةٍ وعادلةٍ ، وقد استهلّت الرسالة بما يلي :

إعلم - رحمك اللـه - أن لله عليك حقوقاً محيطةً بك في كل حركة تحرَّكتها ، أو سكَنة سكَنتها ، أو منزلة نزلتها ، أو جارحة قلَّبتها ، أو آلة تصرفت بها ؛ بعضُها أكبر من بعض . وأكبر حقوق اللـه عليك ما أوجبه عليك نفسك من قرنك إلى قدمك ، على اختلاف جوارحك ، فجعل لبصرك عليك حقّاً ، ولسمعك عليك حقّاً ، وللسانك عليك حقاًّ ، وليدك عليك حقّاً ، ولرجلك عليك حقّاً ، ولبطنك عليك حقّاً ، ولفرجك عليك حقّاً ، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال . ثم جعل لأفعالك عليك حقوقا : لصلاتك عليك حقّاً ، ولصومك عليك حقّاً ، ولصَدَقتك عليك حقّاً ، ولهدْيِك عليك حقّاً ، ولأفعالك عليك حقّاً . ثم تُخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك ، وأوجَبُها عليك حقُّ أئمتك ، ثم حقوق رعيتك ، ثم حقوق رَحِمك [299] .

ويستمر الإمام (ع) في بيان هذه الحقوق وفروعها ، ويبيَّن من خلالها العلاقة المثلى بين الانسان وبين الخلق والخالق . وسوف نستوحي من دراسة رسالة الحقوق البصائر التالية :

أولاً :

أن حديث الإمام (ع) كان موجهاً للصفوة من أهل الإيمان ، الذين نشروا الكمال وسعوا إليه سعيــــه ، لذلك تجد الحقوق المذكورة في هــذه الرسالة تجمع بين الحقوق الواجبة والأخرى المندوبة . بــــل

إن أكثرها من النوع الثاني .

ثانياً :

إن هذه الرسالة وأمثالها مما نجده عند أئمة أهل البيت (ع) في صيغة رسائل أو وصايا مفصَّلة، والتي جمعها العالم الكبير الحسن بن علي بن شعبة الحلبي في كتابه الفذ ( تحف العقول ) كانت بمثابة دروس مركَّزة في التربية الرسالية توارثها الصالحون من أولياء أهل البيت ( عليهم السلام ) بهدف بناء القدوات المثلى والطليعة المتميزة من أبنائهم ليكونوا شهداء على الناس .

وما أحوجنا نحن المسلمين اليوم إلى العودة إليها في مناهج التربية ، وبالذات في الحوزات العلمية التي هي الامتداد الرسالي لخط أهل البيت النبوي (ع) .

ثالثاً :

إن هذه الرسالة تحافظ على توازن الشخصية الإيمانية وتصونها من التطرف نحو جانب من الشريعة وإهمال سائر الجوانب ؛ فلابد أن تتسع صدورنا لكافة أبعاد الشريعة ، وضمن برامج محددة نجدها في مثل رسالة الحقوق .

وكلمة أخيرة : إن هذه الرسالة تعكس البصيرة القرآنية ذات الشمول والعمق والدقة التي تتناسب ومقام الإمامة لسيد الساجدين (ع) ، والتي يعجز عن مثلها أي فقيه أو عالم إن لم يكن متصلاً برافد الرسالة الذي لا ينضب . فسلام اللـه على من أرسلها ، وبارك اللـه لمن استجاب لها .

كراماته وشهادته :

استفاضت كتب الأثر بالحديث القدسي الذي ينطق عن ربِّ العزة بالقول : عبدي أطعني تكن مثْلي (أو مَثلي ) أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون .

وكتاب اللـه العزيز حافل بأمثلة واقعية من تاريخ الأنبياء والصالحين الذين استجاب اللـه دعاءهم بما أعجز الناس . أليس طوفان نوح وسفينته ، ونيران إبراهيم التي جعلها اللـه تعالى برداً وسلاماً ، وعصا موسى التي ألقاها فجعلها اللـه ثعباناً مبيناً ، وحديث عيسى في المهد صبيّاً ، واستجابة دعاء إبراهيم ثم زكريــــا حينما رزقهما اللـه أولاداً وقد بلغا من الكبر عتيّاً . أليس كل ذلك من كرامة اللـه لأوليائه المخلصيــــن ؟. فلماذا يصعب على البعض تصديق كرامات أولياء اللـه الآخرين ، كما يصدقون بكرامات أولياء اللـه السابقين ؟. أوليس الحديث النبوي الشريف يقول : علماء أُمّتي كأنبياء بني إسرائيل ؟. فكيف تصــــدق المعجــــزة على عهد بني إسرائيل بنص الـقـــرآن ، ولا تأتي الكرامة على يد أهل بيت الرســــول ؟.

وهذا علي بن الحسين (ع) ، الذي قرأنا معاً بعض صفاته ، أَيعزُّ على اللـه سبحانه أن يجري على يدَيه الكرامات ؟ ومَن أولى بها ممن كان على مثل تلك الصفات ، قوَّامَ الليل ، صوَّام النهار ، بكّاءً ، سجّاداً ، إلــخ .....

ونحــــن إذ نقتطف من تاريخه (ع) نزراً يسيراً من كراماته ، فلكي نزداد يقيناً بأن ربَّنا سبحانـه يستجيــــب دعـــــوة المخلصين من عباده الذين جأروا إليه بكل كيانهم وأبعــــاد وجودهــــم .. ثـــــم نـــزداد للأئمة من أهـــــــل

البيت (ع) حبّاً ، فإن حُبَّهم نجاةٌ من النار ووسيلةٌ إلى اللـه عزَّ وجلَّ .

1- من كراماته (ع) ، أن اللـه ألهمه من علمه عبر رؤيا شاهد فيها رسول اللـه (ص) ، ما أظهر كرامته وفضله . والقصة كما يلي :

روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال :

لمّا وُلِّيَ عبد الملك بن مروان الخلافة كتب إلى الحجاج بن يوسف :

بسم اللـه الرحمن الرحيم

من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجاج بن يوسف .

أما بعد : فانظر دماء بني عبد المطلب فاحقنها واجتنبها ، فإني رأيت آل ابي سفيان لما ولعوا فيها لم يلبثوا إلاّ قليلاً ، والسلام . قال : وبعث بالكتاب سرّاً .

وورد الخبر على علي بن الحسين (ع) ساعة كتب الكتاب وبعث به إلى الحجاج ، فقيل له : إنّ عبد الملك قد كتب إلى الحجاج كذا وكذا ، وإن اللـه قد شكر له ذلك ، وثبَّت ملكه وزاده برهة .

قال : فكتب علي بن الحسين (ع) :

بسم اللـه الرحمن الرحيم

إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من علي بن الحسين بن علي .

أما بعد : فإنك كتبت يوم كذا وكذا ، من ساعة كذا وكذا من شهر كذا وكذا بكذا وكذا . وإن رسول اللـه (ص) أنبأني وخبَّرني . وإن اللـه قد شكر لك ذلك وثبَّت ملكك وزادك فيه برهة .

وطوى الكتاب وختمه وأرسل به مع غلام له على بعيره ، وأمره أن يوصله إلى عبد الملك ساعة يقدم عليه . فلما قدم الغلام أوصل الكتاب إلى عبد الملك ، فلما نظر في تاريخ الكتاب وجده موافقاً لتلك الساعة التي كتب فيها إلى الحجاج ، فلم يشك في صدق علي بن الحسين (ع) وفرح فرحاً شديداً ، وبعث إلى علي بن الحسين (ع) بوقر راحلته دراهم ثواباً لما سرَّه من الكتاب [300] .

2- وكذلك قصته مع أبي خالد الكابلي ، ويرويها الإمام الباقر (ع) كالتالي :

كان أبو خالد الكابلي يخدم محمد بن الحنفية دهراً ( وهو ابن الإمام علي ، وعم الإمام السجاد عليهما السلام ) . وما كان يشك في أنه إمام حتى أتاه ذات يوم ، فقال له : جعلت فداك إن لي حرمة ومودة وانقطاعاً ، فأسألك بحرمة رسول اللـه (ص) وأمير المؤمنين (ع) إلاّ أخبرتني أنت الإمام الذي فرض اللـه طاعته على خلقه ؟. قال : فقال : يا أبا خالد حلّفتني بالعظيم . الإمام عليٌّ بن الحسين (ع) عَلَيَّ وعلَيك وعلى كلِّ مسلم . فأقبل أبو خالد لَمَّا أن سمع محمد ابن الحنفية ، وجاء إلى علي بن الحسين (ع) فلما استأذن عليه أُخبر أن ابا خالد بالباب ، فأذن له .

فلما دخل عليه ودنا منه ، قال : مرحباً يا كنكر . ما كنت لنا بزائر ما بد لك فينا ؟.

فخر أبو خالد ساجداً شاكراً لله تعالى مما سمع من علي بن الحسين (ع) ، فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى عرفت إمامي .

فقال له علي (ع) : وكيف عرفت إمامك يا ابا خالد ؟.

قال : إنك دعوتني باسمي الذي سمَّتني به أمي التي ولدتني . وقد كنت في عمياء من أمري ، ولقد خدمت محمد ابن الحنفية عمراً من عمري ولا أشك أنه إمام ، حتى إذا كان قريباً سألته بحرمة اللـه تعالى وحرمة رسوله (ص) وبحرمة أمير المؤمنين (ع) فأرشدني إليك ، وقال : هو الإمام عَلَيَّ وعلَيك وعلى جميع خلق اللـه كلهم . ثم أذنت لي فجئت فدنوت منك وسمَّيتني باسمي الذي سمَّتني أمي ، فعلمت أنك الإمام الذي فرض اللـه طاعته عَلَيَّ وعلى كلِّ مسلم [301] .

3- ويذكر الشيخ الطوسي القصة التالية أيضاً :

خرج علي بن الحسين (ع) إلى مكة حاجّاً حتى انتهى إلى وادٍ بين مكة والمدينة ، فإذا هو برجل يقطع الطريق ، قال :

فقال لعلي إنزل .

قال : تريد ماذا ؟.

قال : أريد أن أقتلك وآخذ ما معك .

قال : فأنا أُقاسمك ما معي وأُحِلُّك .

قال : فقال اللص : لا .

قال : فدع معي ما أتبلّغ به .

فأبى .

قال : فأين ربك ؟.

قال : نائم .

قال : فإذا أَسَدانِ مُقبلان بين يَديه فأخذ هذا برأسه وهذا برجلَيه .

قال : زعمتَ أنّ ربك عنك نائم [302] .

4- ومن كراماته صلوات اللـه وسلامه عليه ، ما ظهر عند وفاته . فلقد توفي الإمام بعد أن دس إليــــه الأمويون السم في عام ( 94 ) في شهر محرم في اليوم الخامس والعشرين ، وقيل في اليوم الثامن عشر. وفي تلك السنة توفي طائفة من الفقهاء حتى سميت سنة الفقهاء . ولست استبعد أن يكون النظام الأموي في عهد الوليد بن عبد الملك قد دس السم إلى المعارضين وفيهم كبار الفقهاء من أمثال سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وسعيد بن جبير . وجاء في التواريخ أنه توفي في تلك السنة عامة فقهاء المدينة [303] .

وهل يعقل أن يموت كل الفقهاء في سنة واحدة صدفةً ، علماً بأن المعروف أن الإمام السجاد (ع) استشهد متأثراً بالسم الذي دسه إليه عبد الملك بن مروان في ظروف غامضة .

وكيفما كان الأمر فقد ظهرت عند وفاته كرامات منه (ع) ، فقد أُغمي عليه فبقي ساعة ثم رفع عنه الثوب ثم قال : الحمد لله الذي أورثنا الجنة نتبوَّأ منها حيث نشاء فنعم أجر العاملين ثم قال : احفروا لي ( قبراً ) وابلُغوا إلى الرسخ ( الثابت من الأرض ) ثم مد الثوب عليه فمات [304] .

وظهرت بعد وفاته الكرامة التي ينقلها سعيد بن المسيّب ، وبها نختم هذه الصفحات المشرقة بحياة الإمام زين العابدين (ع) .

فقد روي عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وعبد الرزاق ، عن معمر ، عن علي بن زيد قال :

قلت لسعيد بن المسيب إنك أخبرتني أن علي بن الحسين النفس الزكية وأنك لا تعرف له نظيراً ؟.

قال : كذلك ، وما هو مجهول ما أقول فيه . واللـه ما رؤي مثله .

قال علي بن زيد : فقلتُ : واللـه إنّ هذه الحجة الوكيدة عليك يا سعيد فلم لم تصلِّ على جنازته ؟.

فقال : إنّ القرّاء كانوا لايخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين (ع) . فخرج وخرجنا معه ألف راكب ، فلمّا صرنا بالسقيا نزل فصلّى وسجد سجدة الشكر ..

وفي رواية الزهري ، عن سعيد بن المسيب قال :

كان القوم لايخرجون من مكة حتى يخرج علي بن الحسين سيد العابدين . فخرج (ع) فخرجت معه فنزل في بعض المنازل فصلَّى ركعتين فسبَّح في سجوده ، فلم يبق شجر ولا مدر إلاّ سبَّحوا معه ، ففزعنا .

فرفع رأسه وقال : يا سعيد أفزعت ؟

قلت : نعم يابن رسول اللـه .

فقال : هذا التسبيح الأعظم . حدثني أبي عن جدي عن رسول اللـه (ص) أنه قال : لا تبقى الذنوب مع هذا التسبيح ، فقلت : علمنا .

وفي رواية علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب أنّه : سبح في سجوده فلم يبق حوله شجرة ولا مدرة إلاّ سبّحت بتسبيحه ، ففزعت من ذلك وأصحابي .

ثم قال : يا سعيد إن اللـه جل جلاله لما خلق جبرئيل ألهمه هذا التسبيح فسبَّحت السماوات ومن فيهن لتسبيحه الأعظم . وهو إسم اللـه جلَّ وعزَّ الأكبر .

يا سعيد أخبرني أبي الحسين ، عن أبيه ، عن رسول اللـه (ص) عن جبرئيل ، عن اللـه جلَّ جلالَه أنه قال :

ما من عبد من عبادي آمن بي وصدّق بك وصلَّى في مسجدك ركعتين على خلاء من الناس إلاّ غفرت له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .

فلم أَرَ شاهداً أفضل من علي بن الحسين (ع) حيث حدثني بهذا الحديث . فلما أن مات شهد جنازته البر والفاجر ، وأثنى عليه الصالح والطالح ، وانها لو يتبعونه حتى وضعت الجنازة فقلت : إن أدركت الركعتين يوماً من الدهر فاليوم هو . ولم يبق إلاّ رجل وامرأة ، ثم خرجا إلى الجنازة ، وَثبْتُ لأصلِّي فجاء تكبير من السماء فأجابه تكبير من الأرض ، وأجابه تكبير من السماء فأجابه تكبير من الأرض ، ففزعتُ وسقطتُ على وجهي ، فكبر من في السماء سبعاً ومن في الأرض سبعاً وصُلِّي على علي بن الحسين صلوات اللـه عليهما ودخل الناس المسجد فلم أدرك الركعتين ولا الصلاة على علي بن الحسين صلوات اللـه عليهما ، فقلت : يا سعيد لو كنت أنا لم أختر إلاّ الصلاة على علي بن الحسين ، إن هذا لهو الخســــران المبين ، فبكى سعيد ، ثم قال : ما أردت إلاّ الخير ليتني كنت صلّيت عليه ، فإنه ما رؤي مثلــه [305] .

الامــام الباقــر ( عليه السلام )

قدوة وأسوة

تمهيــد

الحمد لله رب العالمين - وصلى اللـه على سيدنا محمد وآله الطاهرين - .

في فاتحة الحديث عن الإمام الباقر (ع) ينبغي أن نشير إلى نهجين متنافرين في تقييم حياة الأئمة والنهج القديم بينهما .

فهناك فريق يقيِّمون حياة المعصومين عليهم السلام بمقياس السياسة . ومدى دورهم فيها . ويكاد تفسيرهم لعبادات الأئمة ، وعلومهم ، وأخلاقهم يكون أيضاً بمنظار سياسي .

بينما تجد أغلب المؤرخين لحياتهم عليهم السلام يختصرون حياتهم في حدود فردية ضيقة ، حتى يفصلونها من السياق الزمني لها .

وبين المنهجين حالة وسطى تجعل حياتهم ذات إشعاع فردي يتجاوز حدود الزمان والمكان .. وذات أفق سياسي يتفاعل مع الظرف التاريخي الخاص به ..

بلى . الأئمة هم قدوات البشر ، ونسبة رجال السياسة إلى سائر الناس نسبة ضئيلة ، فلم يكن من المناسب أن يكون كل قدوات البشر في قمة السلطة حتى يكون سلوكهم مناراً لأمثالهم من أصحاب السلطة فقط ، بل كان من المعقول أن يكونوا في مختلف المستويات الإجتماعية حتى تتم حجة اللـه على خلقه بأنفذ ما يكون بلاغاً وقوةً !

ولو كانوا كلهم في قمة السلطة لقال الناس أن مسيرتهم تخص أولي السلطة فحسب فما لنا للدخول في شأن السلاطين .

علــــى أن بعضهم لايزال يحاول التنصل من اتباع الأنبياء والأوصياء والصالحين ، بــزعـــم أنهم ليسوا ببشـــر .. وبالتالي فهو لايمكنه أن يتبع هداهم ، أو يقدر أحدنا أن يتمثل شخصيَّة الملائكة ..

إلاّ أن ما نزل بأنبياء اللـه وأوصياءهم من الضنك والأذى . وما تعرضوا له من السجن والتعذيب والتهجير والخوف وحتى القتل والأسر والتشهيـــــر .. كل ذلك دليل كونهم بشراً أمثالنا ميّزوا بالوحي والعـزم والإعتصام بحبل اللـه ، وقال ربنا سبحانه :

« قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِــــدٌ »

(الكهف/110)

وقال :

« قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ

إِلاَّ بإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ »

(ابراهيم/11)

ولعل هذه الحكمة كانت أيضاً وراء إذن اللـه سبحانه بتعرض أوليائه لبعض الأذى ، لكي لا يرفعهم الناس إلى مستوى الألوهية فيهلكوا ، ولكي يرفع اللـه به درجاتهم عنده . ولكي لايترك الدينَ البسطاءُ من الناس فراراً من الأذى .

ونحن إذ نشرع في الاستضاءة بسيرة الإمام الخامس من أئمة أهل البيت عليهم السلام ، والعلم السابع من قدوات الأئمة المعصومين عليهم السلام بجوار مقام السيدة زينب في الشام . نسأل اللـه أن يتم نورنا به ويجعلنا من أشد تابعيه تمسّكاً وأحسنهم عاقبة .. إنه ولي التوفيق .

الفصل الأول :الميلاد الميمــون

ولد الإمام الباقر (ع) من والدين علويين هما الإمام السجاد (ع) ، وأم عبد اللـه بنت الإمام الحسن المجتبى (ع) ، وكانت ولادته قبل أربع سنوات من واقعة الطف الرهيبة . أي في عام 57 من الهجرة . وكان ذلك الثالث من صفر أو العاشر في رجب ، ( في ذلك اختلاف بين الرواة ) . ولم يكن أكبر أبناء أبيه سنّاً ، إلاّ أنه كان أولاهم بالإمامة فنصبّه والده لها اتباعا لأمر رسول اللـه (ص) .

وقد سأل الزهري والده الإمام السجاد عن ذلك وقال : يا ابن رسول اللـه هلا أوصيت إلى أكبر أولادك ؟ قال : يا أبا عبد اللـه ليست الإمامة بالصغر والكبر ، هكذا عهد إلينا رسول اللـه ، وهكذا وجدنا مكتوباً في اللَّوح والصحيفة [306] .

وكانت أمّه - حسبما قال : الإمام الصادق (ع) - صديقة لم يدرك في آل الحسن مثلها [307] .

النشأة الطيبة :

عاش في ظل جده السبط الشهيد عليه السلام أربع سنوات ، وصبغت شخصيته الفذة بتلك الصبغة الإلهية التي تجلت في حياة السبط الشهيد ، ولا ريب أن مأساة كربلاء الفجيعة تركت طابعها على نفسية الإمام الباقر (ع) الذي رافق صورها وشاهدها لحظة بلحظة .. لأنه - حسب بعض الرواة - كان ممن حضرها مع سائر ابناء الأسرة الهاشمية .

وبعد تلك الفاجعة عاش الإمام (19) سنة و (60) يوماً في ظل والده سيد الساجدين [308] ، حيث كانت حياته الكريمة مثلاً أعلى للصبغة الربانية ، وظل شعاع تلك الحياة يضيء درب السالكين إلى اللـه .. حتى اليوم .

ومنذ باكورة حياته المباركة تجلت فيه ملامح الإمامة . وقد جاء في الحديث المأثور عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي قال : كنا عند جابر بن عبد اللـه فأتاه علي بن الحسين ومعه ابنه محمد وهو صبي ، فضمه جابر إليه فقال علي لابنه : قبّل رأس عمك فدنا محمد من جابر فقبل رأسه ، فقال جابر : من هذا ؟وكان قد كفّ بصره - فقال له علي : هذا ابني محمد فضمه جابر إليه وقال : يا محمد ! محمد

رسول اللـه (ص) يقرأ عليك السلام ، فقالوا لجابر : كيف ذلك يا ابا عبد اللـه ؟

فقال : كنت مع رسول اللـه (ص) والحسين في حجره وهو يلاعبه ، فقال :

يا جابر يولد لابني الحسين ابن يقال له علي إذا كان - يوم القيامة - نادى مناد ليقم سيد العابدين ، فيقوم علي بن الحسين ، ويولد لعلي ابن يقال له محمد ، يا جابر إن رأيته فاقرأه مني السلام واعلم أن بقاءك بعد رؤيته يسير . فلم يعش ( جابر ) بعد ذلك إلاّ قليلاً ومات . [309] وبعد والده اضطلع بمقام الإمامة العامة .

/ 35