الدفاع بكل وسيلة : - نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید


وقد أفصح عبيد اللـه بن عمر ، وكان في صف معاوية عن خلفيات الحرب ، وذلك حينما الْتَقى بالإمام الحسن المجتبى في أرض المعركة فقال :


إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً ، وقد شنأوه . فهل لك أن تخلعه ونوليك هذا الأمر ؟


وهكذا كشف عن الأحقاد الجاهلية التي طفحت بها قلوب قريش وهم قيادات ذلك الجيش .


ولكن الإمام الحسن (ع) رده بقوة وقال : كلا ، وأضاف :


لكأني أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك . اما إن الشيطان قد زين لك وخدعك حتى أخرجك خلقاً بالخلوق ، ترى نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك اللـه ، ويبطحك لوجهك قتيلاً .


هكذا قاتل عمار بن ياسر :


قام عمار بن ياسر فخطب في القوم يحرضهم على معاوية ويكشف حقيقة المعركة ، وخلفياتها فقال :


امضوا عباد اللـه ، إلى قوم يطلبون - فيما يزعمون - بدم عثمان ، واللـه ما أظنهم يطلبون دمه ، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبُّوها واستمرأوها ، وعلموا لو أن الحق لزمهم لحَالَ بينهم وبين ما يرغبون فيه منها . ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون لها الطاعة والولاية ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا : قُتل إمامنا مظلوماً ، ليكونوا بذلك جبابرة وملوكاً ، وتلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون . ولولا هي ، ما بايعهم من الناس رجلان .


ثم التقى بعمرو بن العاص فقال له : يا عمرو بعت دينك بمصر ؟. تبّاً لك ، وطالما بغيت الإسلام عوجاً .


ثم حمل على القوم ، وهو يرتجز بأبيات تفيض إيماناً ويقيناً ، وتعكس شخصية عمار الجهادية وهو يومئذ يناهز التسعين من عمره :


ثـــم قــــال : اللـهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أقذف بنفسي في هذا البحر لَفعلت . اللـهم إنك تعلــــــم أني لو أعلم أن أضع ظُبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى يخرج من ظهــــري لَفعلت ، ولو أعلم اليـــــــــوم


عملاً هو أرْضَى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين لَفعلته [127] .


وبهذه الروح الإيمانية المتسامية ، حارب الصفوة من أصحاب الرسول (ص) معاوية والمنافقين معه . لقد كانت الشهادة غاية مناهم ، وكانوا على يقين أنهم على حق . وأن عدوهم طالب ملك وباغي دنيا ..


وهكذا تقدم عمار بين الصفين ونادى : أيها الناس ، الرواحَ إلى الجنــة ، فلما بصر راية عمرو بن العاص ، قال : واللـه إن هذه الراية قد قاتلتها ثلاث مرات ، وما هذه بأرشدهم . ثم قال :


ثم استسقى - وقد اشتد ظمأه - فأتته امرأة بضياح من اللبن ، فقال حين شرب الأجنة تحت الأسنة :


واللـه لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا انا على الحق وهم على باطل [128] .


هكذا تقدم الشيخ العظيم الذي التحق بمسيرة الرسالة منذ شبابه ، ولم يتخلف عن أية مهمة أوكلت إليه ، ودفعه النبي (ص) إلى مستوى الصديقين ، ولم تأخذه في اللـه لومة لائم . تقدم إلى الشهادة ببصيرة نافذة ، وخطى ثابتة ، وهو يحمل معه صحيفته المضيئة ، ذات التسعين صفحة مشرقة ، فلما توسط المعركة حمل عليه اثنان من المجرمين ( أبو العادية الفزاري ، وابن جون ) فقتلاه ، فألزم اللـه بقتله الحجة على أهل الشام ، إذ قال الرسول الأكرم (ص) يوماً :


آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن ، وتقتلك الفئة الباغية .


فلما انتشر خبر مقتله في معسكر أهل الشام ، وكاد يؤثِّر على معنوياتهم ، قال معاوية إن عليّاً هو الذي قتله ، لأنه هو الذي أخرجه لقتالنا . ولقد كان معاوية قد استخف قومه فأطاعوه ، وهكذا كان يتعامل مع سائر النصوص الدينية .


الدفاع بكل وسيلة :


لقد كانت معارك صفّين غريبة ، فمعاوية كان قد أعد جيشه إعداداً جيداً ، وكانت إلى جانبه القيادات العربيــــة العريقة ، والقبائل التي دخلت الإسلام بعد الفتح حاملة معها رواسبها وتقاليدها وطاعتها لشيوخهــا . وقد استفاد من خبرة الروم بحكم احتكاكه بحضارتهم في الشام ، وجهّز جنوده بأفضل الأسلحة ، ومنَّاهم بالأموال التي تكدست عند الحزب الأموي ، منذ أيام الجاهلية وتضاعفت على عهد عثمان .


وفي الجانب الآخر كانت التعبئة الروحية عند أنصار الإمام (ع) في القمة ، فها هم أصحاب رسول اللـه (ص) وعددهم ألف وسبعمائة ، بينهم كبار المهاجرين وبقية البدريين ، والمشتركين في بيعة الرضوان ، يتبعهـم جيش من قراء القرآن والعُبَّاد وأصحاب البرانس ، وما نمى وتبارك من الجيل القرآني ، ومن ورائهم


القبائل العربية التي اتَّبعت هذا الخط بدافع أو بآخر .


وحين التقى الفريقان ، كانت الكفة متعادلة تقريباً ، ولذلك قلما كانت المعارك حاسمة ، وأنقل إليكم صورة معبرة واحدة من هذا التعادل :


يقول زياد بن نصر الذي كان في مقدمة جيش الإمام (ع) :


شهدت مع علي بصفّين ، فاقتتلنا ثلاثة أيام وثلاث ليال ، حتى تكسرت الرماح ، ونفدت السهام ، ثم صارت إلى المسايفة ، فاجتلدنا بها إلى نصف الليل ، حتى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضاً . وقد قاتلت يومئد بجميع السلاح فلم يبق شيء من السلاح إلاّ قاتلت به ، حتى تحاثينا بالتراب وتكادمنا ، حتى صرنا قياماً ينظر بعضنا الى بعض ما يستطيع واحد من الفريقين أن ينهض إلى صاحبه ولا يقاتل .


فلما كان نصف الليل ، من الليلة الثالثة انحاز معاوية وخيله من الصف ، وغلب علي على القتلى ، وأقبل على أصحاب محمد وأصحابه فدفنهم ، وقد قتل كثير منهم ، وقتل من أصحاب معاوية أكثر [129] .


الإمام (ع) يقــود المعــارك :


في صفّين تجلَّى علي بشجاعته وبطولاته وصدق مواقفه ، لقد ذرَّف الآن على الستين ، ولقد تواردت عليه مصائب لو نزل بعضها على الجبال لانهدَّت ، ولكنه سيد المتقين الذي يتعالى على قمم الجبال .


مواقفه في صفّين تعكس جانباً من تلك الروح العظيمة ، وذلك الإيمان الصادق .


لقــــد أرسل الإمام (ع) إلى معاوية أنِ ابْرُزْ إِلَيَّ واعفُ الفريقين من القتال ، فأيُّنا قتلَ صاحبه كان الأمر لــــه .


فانظروا إلى هذه البطولة .. إنه يستعد لافتداء المسلمين بنفسه . ولكن معاوية قال في الجواب بالحرف الواحد : إني أكره أن أبارز الأهوج الشجاع ، ثم نظر إلى عمرو بن العاص الذي شجعه على قبول تحدي الإمام (ع) قائلاً : لقد انصفك الرجل ، نظر إليه وقال : لعلك طمعت فيها يا عمرو !


أما عمرو بن العاص الذي كان يعتبر من دهاة العرب ، ومن القيادات العربية العريقة في الجاهلية ، فقد أراد أن يأخذ الإمام (ع) على غرة ، فحمل عليه الإمام ، فلما كاد يخالطه رمى بنفسه عن فرسه ورفع ثوبه وشغر برجله فبدت عورته ، فصرف عليٌّ (ع) وجهه عنه ، وقام معفراً بالتراب هارباً على رجليه معتصماً بصفوفه فقال القوم : أفلت الرجل يا أمير المؤمنين .. قال : وهل تدرون من هو ؟. قالوا : لا ، قال : إنه عمرو بن العاص تلقاني بعورته فصرفت وجهي عنه [130] .


وفي موقعة أخرى برز عروة بن داود الدمشقي إلى الإمام (ع) فضربه ضربة علوية فقدَّه نصفين وقع نصفه يمنة ونصفه يسرة ، فارتج العسكر ، وخاطبه الإمام (ع) بعد مقتله قائلا :


يــــا عروة اذهب فأخبر قومك . أَمَا والذي بعث محمداً بالحق لقد عاينتَ النار وأصبحتَ من النادميـــــــــــــن [131] .


فبرز إليه ابن عمه فألحقه الإمام (ع) بصاحبه . ومعاوية واقف على تل يبصر ويشاهد فقال : تبّاً لهذه الرجال وقبحاً . أَمَا فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع .


فقال الوليد بن عقبة : ابرز إليه أنت ، فإنك أولى الناس بمبارزته . فقال : واللـه لقد دعاني إلى البراز حتى استحيت من قريش . واللـه إني لا أبرز إليه [132] .


وذات مرة قال معاوية لجلسائه وهو يذكر نكوله عن مبارزة علي وكشف صاحبه عمرو عن سوأته للفرار عنه :


إن الجبن والفرار من عليٍّ لا عار على أحد فيهما [133] .


هكذا تجلى الإمام ببطولاته - التي صنعها في حروب الإسلام الأولى ضد قريش وبني أمية بالذات - تجلى في الوقت الذي كان أميراً للمؤمنين ، والقائد العام للجيش الإسلامي ..


وإننا لو أطَّلعنا على ساحة المعركة في صفّين ، ورأينا أصحاب محمد (ص) يلتفون حول قائدهم الإمام علي (ع) ، وقد تراوحت أعمارهم بين الخمسين والتسعين عاماً ، وهم الرواد الأوائل ، وطلائع الرسالة ، وحملة راية التوحيد في الأرض ، وهم قادة الأمة بلا منازع ، لاستبدَّ بنا العجب !. سبحان اللـه ، ما أروع هذا المشهد !. ماالذي جعل هؤلاء الشيوخ يشكلون كتيبة خاصة بهم باسم الكتيبة الخضراء ؟ وماالذي جعلهم يرخصون أنفسهم ؟ وما الذي أخرجهم إلى الحرب وهم كرام سواء خاضوا حرباً أم استقروا في بيوتهم ؟!.


إنه الإسلام ، وهم الجيل القرآني ، والقرآن يصوغ شخصية الإنسان بحيث تتحدى حاجز السنين ، وتتعالى على الماديات . لقد أحس القوم بالردة الجاهلية التي يقودها بنو أمية ، فلم يألوا جهداً في مقاومتها ، وأقروا عين حبيبهم ومربيهم وقائدهم ، النبي محمد (ص) بفعلهم .


ما فاته بالشجاعة أخذه بالمكر :


كانت التعبئة الروحية ، أعظم قوة اعتمد عليها جيش الرسالة ، وبالرغم من أنها صنعت بطولات نادرة ، إلاّ أن حجمها كان دون مستوى النصر النهائي . فلما استمرت الحرب طويلاً بدأ المتخاذلون يتنامون في صفوف الجيش الرسالي . أمَّا معاوية الذي لم يتورع عن التوسل بأية طريقة مهينة لنيل النصر ، فقد عرف كيف يستفيد من الصعوبات التي ازدادت في صفوف جيش الإمام . لم تكن أكثرية الجيش عند الإمام في مستوى فهم الصراع الرسالي - الجاهلي . وإن الذي يطلع على تاريخ صفّين يتمزق ألماً ، كيف كانت حيل معاوية تنطلي عليهم ، وكيف كان الإمام يستخدم براعته وبلاغته ، وقوة شخصيته ، وحضوره الدائم عند كل حادثة ، بل وجولاته الحربية المباشرة ، لكي يُفشل خطط معاوية الماكرة ..


لقد سأله - ذات مرة - بعض اصحابه كيف لم ننتصر حتى الآن على معاوية ؟. فأمره أن يدنو منه ثم ناجاه :


إن قوم معاوية يطيعونه ، ولا يطيعني قومي .


وكم كان يؤلم ذلك القلب الكريم الذي غمره حب الرسالة ، جهل المسلمين بها ، وتفرقهم عن الحق .


وكان معاوية يعرف ذلك ولا يكف عن محاولاته للتأثير على معنويات جيش الإمام ، وبث الفرقة فيهم . وحتى لو فشلت سائر حيله فإن نجاح واحدة منها كفيلة بإنقاذه من ورطته وإعطائه فرصة العودة إلى مؤامراته الخبيثة !


وهكذا خطط هذه المرة بطلب الصلح ، والتحاكم إلى القرآن الكريم .


في بداية الحرب ندب الإمام (ع) واحداً من فتيان الأنصار ليحمل القرآن إلى معسكر معاوية ، ويطالبهم بالتحاكم إليه ، وقد بشره بالشهادة في هذا السبيل ، وضمن له الجنة ، فأسرع الفتى إلى القوم ، وهو يحمــــل كتاب اللـه على يديه ، ويطالبهم بالنزول على حكمه ولكنهم أمطروه بوابل من السهام فسقط شهيـــداً ، وسقط إلى جنبه كتاب اللـه العزيز .


ولكن معاوية يجد نفسه مهزوماً لا محالة ، وقد بدأ جيشه يولي الدبر أمام صولات جيش الإمام وبالذات أمام هجمات القائد المغوار مالك الأشتر ، الذي أخذ يزيد من ضغطه على جيش الشام .


واستشار معاوية عمراً ( ذلك الداهية المعروف ) فأشار عليه بحمل المصاحف ، فإذا بهم يحملون على رماحهم ما يشبه المصاحف ويطالبون بحكم القرآن .


ولعل جواسيس معاوية في جيش الإمام كانوا وزعوا الأماني على أصحاب القلوب المريضة فوعدوا قيادات الجيش الكوفي ، الذين عصرهم الإمام بعدالته ومساواته عصراً ، المزيد من الأموال والمناصب .


فإذا بالحيلة تنطلي على الغوغاء ، ولا تقف دونها القيادات العميلة ، ولم تنفع شيئا محاولات الإمام (ع) والقيادات الرسالية الراشدة في توعية الغوغاء أو ردع العملاء .


فلنستمع إلى التاريخ وهو يروي قصة المؤامرة الكبرى ، لعلنا ننتفع بها عبرة لما يشبهها اليوم .


روى نصر بن مزاحم أن عليّاً (ع) غلس بالناس في صلاة الغداة يوم الثلاثاء عاشر ربيع الأول سنة (37) - وقيل عاشر صفر - ثم زحف إلى أهل الشام بعسكر القرآن ، والناس على راياتهم ، وزحف إليهم أهل الشام ، وقد كانت الحرب أكلت الفريقين ، ولكنها في أهل الشام أشد نكاية وأعظم وقعاً .


ثم تمضي الرواية تنقل كيف الْتَقى الجمعان في واقعة عظيمة كادت تُفني الطرفين ، مما سمي ليلة الهرير ، حيث استمر القتال من صلاة الغداة إلى نصف الليل ، ومرت مواقيت أربع صلوات لم يسجدوا لله فيهن سجــــدة ، ولم يصلوا لله صلاة إلاّ التكبير ، ثم استمر القتال من نصف الليــــل إلى ارتفــــاع الضحــــى ،


وافترقوا على سبعين ألف قتيل ، في ذلك اليوم وتلك الليلة [134] .


والإمام علي (ع) في القلب ، بينما ابن عباس في الميسرة ، والأشتر في الميمنة .


والإمام يحرض القوم ، ويدعو الرب ، ويجالد بالسيف حتى يقول الراوي :


لا واللـه الذي بعث محمداً بالحق نبياً ، ما سمعنا برئيس قوم منذ خلق اللـه السماوات والأرض ، أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب ( أي الإمام عليه السلام ) يخرج بسيفه منحنياً فيقول : معذرة إلى اللـه وإليكم من هذا ، لقد آن أفلقه ، ولكن حجزني عنه أني سمعت رسول اللـه (ص) يقول كثيراً :


وأنا أقاتل به دونه (ص) .


قال ( الراوي ) فكنا نأخذه فنقوِّمه ، ثم يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصف ، فلا واللـه ما ليث بأشد نكاية منه في عدوه .


وخطب الإمام في الناس وقال :


أيها الناس قد بلغ بكم الأمر وبعدوكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلاّ آخر نفس . وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا . وأنا عادٍ عليهم بالغداة ، أحاكمهم إلى اللـه عزَّ وجلَّ [135] .


فبلغ ذلك معاوية فاستشار عمرو بن العاص ، فقال له فيما قال : ألق إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردوه اختلفوا . أدعهم إلى كتاب اللـه .


فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح .


وبالرغم من أن القيادات الرسالية قد حذروا من مكر معاوية ، وقال عدي بن حاتم للإمام : ( وقدجزع القوم ، وليس بعد الجزع إلاّ ما تحب فناجز القوم ) ، وهكذا قال مالك الأشتر وعمرو بن الحمق وآخرون .


إلاّ أن أكثرية الناس كانوا قد ملّوا الحرب فقالوا : أكلتنا الحرب وقتلتِ الرجال ، فقال الإمام (ع) :


إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب ، وقد واللـه أخذت منكم الحرب وتركت ، وأخذت من عدوكم فلم تترك . وإنها فيهم أنكى وأنهك ، إلاّ أني كنت بالأمس أمير المؤمنين ، فأصبحت اليوم مأموراً ، وكنت ناهياً فأصبحت منهيّاً ، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون [136] .


وبعد ان رضينا بالتحاكم ، وتقرر أن يختار كل فريق شخصاً يتفاوضان في شؤون الخلافة ، واختار معاوية عمرو بن العاص . ذلك الداهية المعروف والطامع في ولاية مصر بعدئذ وقع الإختلاف - مرة أخرى - في أصحاب الإمام . فبينما اختار لهم الإمام عبد اللـه بن العباس ، وقال :


إن عمراً لا يعقد عقدة إلاّ حلها عبد اللـه ، ولا يحلُّ عقدة إلاّ عقدها .


فقال الأشعث : لا واللـه لا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة .


فاختار لهم مالك الأشتر ، فرفضوا ، وقالوا له سعَّر الارض علينا ، غير الأشتر .


فاصروا على اختيار أبي موسى الأشعري ، والذي اعتزل الإمام وخذَّل الناس عنه .


وفي الواقع إن أصحاب الإمام (ع) كانوا طوائف شتى ، المخلصون ، والمنافقون ، والمتطرفون ، الذين اشتركوا في القيام ضد عثمان ، وكانوا يظنون أنهم أحق بالأمر من علي وأصحابه !! وهم الذين انتهى بهم المطاف إلى التمرد على الإمام وسُمُّوا بالخوارج .


قصة الخوارج :


بعد ان كتب الطرفان وثيقة الصلح ، ووقَّع عليها كل من الإمام ومعاوية ، دار بها أبو موسى الأشعري على عسكر الإمام ، فلما مرّ برايات بني راسب قالوا : لا نرضى ، لا حكم إلاّ لله ، فلما أخبر الإمام قال له : هل هي غير راية أو رايتين ونبذ من الناس ؟ قال : لا .


صحيح أن أهل الكوفة كانوا قد تعبوا من الحرب ، إلاّ أن أوارها كان لايزال يتقد في أفئدة الكثيرين . فلما بادر المتطرفون بإعلان التمرد ، انتشرت دعوتهم كالنار في الهشيم . فما راع الإمام إلاّ نداء الناس من كل جانب : لا حُكم إلاّ لله ، لا الحكم إلاّ لله ، لا الحكم إلاّ لله ، يا علي لا حُكم لك ، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين اللـه ، إن اللـه قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا في حكمنا عليهم .


وكلما نصحهم الإمام وذكَّرهم بان العهد لاينقض وقد جعلوا اللـه عليه وكيلاً ، أبوا إلا الحرب وقالوا للإمام بالحرف الواحد : تب إلى اللـه كما تبنا ، وإلاّ برئنا منك .


وعزز موقف الخوارج نتائج الحكمين حيث غرّر عمرو بن العاص بصاحبه أبي موسى الأشعري ، فاتفق معه على أن يخلعا كلاًّ من الإمام ومعاوية ، وقدم عمرو صاحبه فلما فعل أبو موسى قام عمرو وقال : إن هذا خلع صاحبه ، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية . وهكذا دعمت عاقبة التحكيم جانب المتطرفين فاجتمعوا في منطقة الحروراء وبعث إليهم الإمام ابن عباس فناقشهم بالقرآن فلم يستجيبوا له ، فذهب إليهم بنفسه وسأل عن الرجل المقدَّم فيهم فقيل : يزيد بن قيس الأرحبي ، فذهب إلى خبائه وصلَّى ركعتين ، ثم قام وقال : هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة .


ثم التفت إلى الناس وقال :


أنشدكم اللـه ، أعلمتم أحداً كان أكره للحكومة مني .؟ . قالوا : اللـهم لا ، قال : أتعلمون بأنكم أكرهتموني حتى قبلتها ؟. قالوا : اللـهم نعم .


قال : فعلام خالفتموني ونابذتموني ؟. قالوا : إنا أتينا ذنباً عظيماً فتبنا إلى اللـه ، فتب إلى اللـه منه واستغفره نَعُدْ إليك .


فقـــــــــال الإمام (ع) : إني أستغفر اللـه من كل ذنب ، فاستجابوا إليه ورجعوا معه إلى الكوفة ، وكانوا أكثــــر


من ستة آلاف مقاتل .


ولكن يبدو أنهم - عند عودتهم إلى الكوفة - التقوا بالمدافعين عن التحكيم ، وهم أكثرية الجند ممن اتَّبع الأشعث ، فأثارهم هذا الأخير الذي كانت مواقفه الخيانية مشهودة في كل مكان ، وهو الذي أكره الإمام على التحكيم أول مرة - فخرج القوم إلى منطقة تسمى بالنهروان فمر بهم مسلم ونصراني ، فقتلوا المسلم بعد أن عرفوا رأيه حول الإمام ، وتركوا الثاني قائلين لابد أن نحفظ ذمة نبيِّنا ، وكأنَّ الإسلام لم يحقن دماء المسلمين !


والواقع : أن تنامي التطرف وانحسار الوعي ، وتهافت أسس التفكير عند القوم ، كان السبب في جرائمهم ، كما كان سبب انقراضهم ..


لقد كان عبد اللـه بن خباب من أصحاب رسول اللـه (ص) وكذلك والده خباب بن الأرت كان من أعظم أصحاب الرسول ، فمرَّ بهم عبد اللـه وفي عنقه قرآن ، ومعه زوجته الحامل ، وكانت في شهرها الأخير ، فأخذوه وقالوا له : إن هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك ، فقال لهم أحيوا ما أحياه القرآن ، وأميتوا ما أماته.


وفيما هم يحاورونه كانت تسقط تمرة من نخلة فيتناولها أحدهم ، فيصيحون به حتى يلفظها . ويمر بهم خنزير فيقتله أحدهم ، فينهرونه ويقولون هذا فساد في الأرض .


وعادوا إلى عبد اللـه بن خباب وقالوا له : ما تقول في أبي بكر وعمر وعلي قبل التحكيم ، وعثمان في الســت السنين الأخيرة من خلافته ؟. فأثنى عليهم خيراً . فقالوا : ما تقول في علي بعد التحكيم والحكومــــة ؟. فقال : إن عليّاً أعلم باللـه ، وأشد توقياً على دينه ، وأنفذ بصيرة .


فقالوا : إنك لا تتبع الهدى ، بل تتبع الهوى ، والرجال على أسمائهم ، ثم جروه إلى شاطئ النهر وذبحوه وجاؤوا بزوجته فبقروا بطنها ، وذبحوها مع ولدها إلى جانبه ! [137] .


وهكذا عاث الخوارج فساداً في الأرض وكادت روح القتال المتمردة على القيم تنتشر فيهم وهم أبناء الجزيرة العربية التي لاتزال أرضها تغلي بالدم والثار والعصبيات الدفينة .


ولــــولا أن الإمام (ع) بادر وسار إليهم لَكان يُخشى أن تشمل الفتنة كل أطراف بلاده .. فقد قصدهم للـتوِّ ، ولمَّا بلغ مكاناً قريباً أرسل إليهم من يأمرهم بدفع قتلة الصحابي الجليل عبد اللـه بن خباب وزوجته وسائر من قتل من المسلمين على أيديهم . فقالوا له : كلّنا قتلة عبد اللـه . وأضافوا : ولو قدرنا على علي بن أبي طالب ومن معه لقتلناهم .


فمشى إليهم الإمام بنفسه ، وقال :


أيها العصابة ، إنِّي نذير لكم أن تصبحوا لعنة هذه الأمة غداً وأنتم صرعى في مكانكم هذا بغير برهان ولا سنَّة .


وحاجّهــــم - مرة أخرى - ونصحهم بأن ينظمّوا إليه لقتال معاويــة ، وهو هدفهم المعلـــــن ، فقالوا : كـــــلا لابد أن تعترف أولاً بالكفر ، ثم تتوب إلى اللـه كما تبنا حتى نطيع لك ، وإلاّ فنحن منابذوك على سواء .


فقال لهم : ويحكم ، بم استحللتم قتالنا والخروج عن جماعتنا .


فلم يجيبوه وتنادوا من كل جانب : الرواحَ إلى الجنة !. وشهروا السلاح على أصحابه وأثخنوهم بالجراح ، فاستقبلهم الرماة بالنبال والسهام ، وشد عليهم أمير المؤمنين وأصحابه ، فما هي إلاّ ساعات قلائل حتى صرعوا [138] .


وفتش الإمـــــام بين قتلاهم عن شخص اسمه مخرج وكان معروفاً بذي الثديَّة ، فلما وجده بعد بحث كثير ، كبَّر وكبَّر أصحابه لأن النبي (ص) كان قد أخبر عن هذه الفئة المارقة ، وأنبأ عن علامتهم بوجود هذا الشخص بينهم .


فالرواية تقول : لما عاد الرسول (ص) من حنين ، وبدأ تقسيم الغنائم قام إليه رجل من بني تميم ، يقال له الخويعة فقال له : إعدل يا محمد ! فقال (ص) : لقد عدلت . وأعاد إليه التميمي قوله ثانية فقال (ص) له : ويلك ، إن لم أعدل أنا فمن يعدل ؟. وفي الثالثة رد عليه النبي (ص) بقوله :


سيخرج من ضضيء هذا قوم يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية ، يخرجون على حين فرقة من الناس ، تحقرون صلاتكم في جنب صلاتهم ، يقرأون القرآن فلا يتجاوز تراقيهم بينهم رجل أسود مخرج اليدين إحدى يديه كأنها ثدي امرأة ، وفي رواية عائشة : يقتله خير أمتي من بعدي [139] .


لقد أشار النبي (ص) بكلمته الرشيدة تلك إلى وجود طوائف قشرية جاهلة في الأمة ، وأنها ستظهر عند أول فرصة تسنح لهم ، وذلك حين تقع الفتنة . فهذا الرجل الذي يأمر رسول العدالة بالعدل ، ويرى نفسه أحرص على القيم من ذلك الذي اختاره اللـه تعالى لرسالاته لا يشبه إلاّ الرجل الذي يأمر عليّاً (ع) بالتوبة والإيمان ، وهو ابن الإيمان ، وعلى أكتافه قامت قواعده وترسخت أسسه .


ولعل حرص الإمام (ع) على التفتيش عن جثمان ذي الثدية ، حيث بعث رجالا من أصحابه ليبحثوا عنه فلم يجدوه فاضطر للبحث عنه شخصياً .. أقول : لعل ذلك ، كان لإتمام الحجة على الناس ، وليعلموا أن هؤلاء مارقون عن الدِّين بشهادة رسول اللـه (ص) ، فلا يزايدون على الناس بدينهم الأجوف . ولمعرفة أن هذه الفئة المارقة الملعونة ، لم تنته بتصفية أفرادها جميعاً ، إذ أنها حالة اجتماعية مستمرة سوف تبرز بين الفينة والأخرى هنا أو هنالك ، تحت راية هذا أو ذاك ، حيث لم يخلُ عصرٌ منهم أو من أمثالهم ذوي الثفنات الغليظة ، والمظاهر الدينية والتطرف للقشور . وتكفير الناس بغير حجة من اللـه ، ولا دليل من العقل ..


والخوارج من هنا ، وأصحاب الأشعث المتخاذلون من هناك ، شكَّلوا أكبر خطر على النظـــام الإسلامــــي ،


في عهد الإمام (ع) وهم يشكِّلون ذات الخطر على كل رسالة إصلاحية ..


وفعلاً برزت بُثور عفنة من تابعي نهج الخوارج بعدئذ في أطراف دولة الإسلام ، وشغلوا جانباً من اهتمام الإمام (ع) بما أتاح فرصة لمعاوية بتثبيت حكمه !




الأيام الأخيرة لعهد الإمام (ع) :


حين يمر شريط حياته سلام اللـه عليه أمام أعيننا تبدو نهاياتها أشد قتاماً حتى يكاد يتفطر القلب أسى . فهذا معاوية يقود رايات الجاهليــــة ضد رسالـــة اللـــه !. وهذا الأشعث وأهل الدنيا من قيادات الجيش الكوفي ، يميلون إلى باطل معاوية ، وتستهويهم وعوده الكاذبة أكثر من نصائح الإمام (ع) .. وهؤلاء أصحابه الكرام يَلقون مناياهم ويُصرعون بالحرب حيناً ، وبالغيلة أحياناً .. ولا يمر عليه يوم إلاّ وتتوارد عليه أنباء مؤسفة ..


فالمتطرفون يخرجون عليه ، ويزعجون جيشه ، والجيش قد تعب من الحرب ، ومعاوية يزداد قوة كل يوم ، ويبعث بسرايا خفيفة تغير على أطراف البلاد . يحيي بذلك سنن الجاهلية التي ينتمي إليها ، ويشجع القبائل العربية والقيادات الجاهلية على العودة إلى عاداتهم السابقة من سلب ونهب .. ثم يهاجم اليمن والحجاز بجيش يقوده بسر بن أرطأة ، ويأمره بإثارة الفوضى وإرهاب الموالين للإمام (ع) .. ويجهز جيشاً لمهاجمة مصر ، بقيادة عمرو بن العاص الذي اتَّبعه طمعاً في ولاية مصر ، فيعيث فساداً في مصر ، ويقتل والي الإمام عليها ( محمد بن أبي بكر ) ويمثل به ويحرقه ..


وحينما ندب الإمام لمصر السيف الصارم ( مالك الأشتر ) ، دبّر معاوية خطة لاغتياله بالسم في بعض الطريق .. وكان نبأ شهادته على الإمام عظيماً ، إذ فقد بطلاً راسخ الإيمان شديد الوطأة على أعداء اللـه .


كل ذلك ، وأهل الكوفة لايزالون مختلفين ، إذ كانوا متأخرين قروناً عديدة عن أفق الإمام (ع) ، حيث كان يستحثهم بكل ما أُوتي من بلاغة القول وحكمة الرأي وقوة الطرح ، على الجهاد في سبيل اللـه وعلى المحافظة على كرامتهم ومكاسب ثورتهم ، فلم يكن يستجيب له إلاّ طليعة القوم .


ولعل الهدف الأسمى للإمام (ع) كان ترسيخ أسس الإيمان عند هؤلاء الطليعة الذين هم شيعته المخلصون ، ليمتد الخط الرسالي حاملاً مشعل التوحيد ، عبر الأجيال .


وكان يؤلمه حقّاً تفرقُ أهل الكوفة عن حقهم ، واجتماع أهل الشام على باطلهم ، وكان يتمنى أن لَو بادَلَه معاويةُ بأصحابه على أن يدفع منهم عشرة ويأخذ واحداً من أصحاب معاوية ، وأخيراً رمى بآخر سهم من كنانته فقال :


أَمَا إني قد سئمت من عتابكم وخطابكم ، فبيّنوا لي ما أنتم فاعلون ، فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وما أحب ، وان كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن أمركم . فواللـه لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوه حتى يحكم اللـه بيننا وبينه وهو خير الحاكمين . لأدعون اللـه عليكم ولأسيرن إلى عدوكم . ولو لم يكن معي إلاّ عشرة .


واضاف قائلاً :


أجلاف أهل الشام أصبرُ على نُصرة الضلال ، وأشدُّ إجماعاً على الباطل منكم على هداكم وحقكم . ما بالكم وما دواؤكم ؟. إن القوم أمثالكم لايُنشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة [140] .


فلما رأى أهل الكوفة منه العزم على أن يزحف بمن بقي معه من أصحابه المخلصين استجابوا له ، وتداعوا للجهاد وخرج المقاتلون إلى النخيلة حيث كان يعسكر فيه جيش الكوفـــــة . ولبث الإمام (ع) : هناك ، ووجَّه واحداً من قادة جيشه ( زياد بن حفصة ) باتجاه الشام ، يقود طلائع الجيش ، بينما انتظر انسلاخ شهر رمضان ليزحف ببقية الجيش إلى الشام ، لولا أن القدر كان في انتظاره في ليلة التاسع عشر من شهر اللـه المبارك ..


تهدمت أركان الهدى :


ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك ، تُعتبر من الليالي التي يُرجى فيها أن تكون ليلة القدر . وكان حديث الناس في تلك الليلة في كل مكان حول الحرب ، بعد أن بث الإمام (ع) فيهم روح الجهاد ، ودبّ إليهم النشاط والعزيمة .


وفي طرف مسجد الكوفة كان يصلي جماعة من المصريين ، كعادتهم في كل ليلة ، قريباً منهم عند السرة كان يصلي جماعة باجتهاد . وهناك في بيت متواضع على طرف تستضيف الإمام (ع) أبنته فتحمل إليه عند الإفطار ، رغيفاً من الخبز ولبناً وشيئاً من الملح ، فيأمرها برفع اللبن . ولما تناول لقمات نهض لصلواته ، وبين الفينة والأخرى كان يتطلع إلى السماء فيقول : هي هي الليلة التي وُعدت بها . لا كَذبت ولا كُذِّبت .. ثم يخرج إلى المسجد ، ويدخله من ذات الباب الذي اجتمع خلفه أولئك الرجال .


يقول الراوي : خرج عليهم علي بن أبي طالب (ع) عند الفجر ، فأقبل ينادي .. الصلاة الصلاة ، وبعدها رأيت بريق السيف ، وسمعت قائلاً يقول : الحكم لله لا لك يا علي ، ثم رأيت بريق سيف آخر ، وسمعت عليّاً يقول : لا يفوتنَّكُم الرجل . وكان الأشعث قال لابن ملجم النجاة لحاجتك قبل أن يفضحك الفجر [141] .


فمن هو الذي اشترك في المؤامرة ضد حياة قائد المسلمين ؟


إنهم ثلاثة اجتمعوا في الحج وقرر كل واحد منهم اغتيال واحد من الثلاثة : معاوية ، وعمرو بن العاص ، والإمام (ع) فلم ينجح صاحب عمرو بن العاص ، إذ كان قد استناب عنه آخر ، للصلاة فقُتل ، بينما وقع سيف صاحب معاوية على فخذه وجرحه جرحاً بسيطاً ..


اما ابن ملجم الذي كان قد اشترى سيفه بألف وسمَّمه بألف فقد التقى - فيما يبدو - بالمعارضة التي تنامت في الكوفة ، وكان يقودها ابن الأشعث الذي بدأ يتباكى على مصرع الخوارج ، وكان قد دخل الإمــــــــــام (ع) قبل فترة فاغلظ عليه لمؤامرته المستمرة ضد الإسلام ، فتوعده وهدده بالفتك ، فقال له الإمـــام :


أَبِالموت تخوِّفني وتهدِّدني ؟. فواللـه ما أُبالي وقعتُ على الموت أو وقع الموتُ عَلَيَّ [142] .


وهكذا تعاون معه في جريمته سبيب بن بجران ، ووردان بن مجالد ، ولعل رجالاً آخرين من جماعة ابن الأشعث كانوا مساهمين معهم .


ومن خلال الأشعث التقت مصلحة الخوارج ( الذين كانوا من أشد المعارضين لمعاوية ) بمصالح معاوية الذي كان يخشى هجوماً صاعقاً لجند الإسلام ضده .وكان لا يني من توزيع الوعود على الطامعين في الكوفة ، للفتك بالإمام (ع) . ومن هنا خاطب أبو الأسود الدؤلي معاوية بعد تنفيذ الجريمة قائلاً : [143]


وبعد تنفيذ الجريمة ، حُمل الإمام (ع) إلى البيت ، وأُحضر عنده ابن ملجم فقال الإمام :


النفس بالنفس ، إن أنا متُّ فاقتلوه كما قتلني ، وإن سلمتُ رأيت فيه رأيي . وأضاف : يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قتل أمير المؤمنين . أَلاَ لا يَقتلنَّ إلاّ قاتلي .


ودخل على الإمام (ع) أكبر أطباء الكوفة واسمه : أثير بن عمر بن هاني ، فلما فحصه مليّاً قال : يا أمير المؤمنين اعهد عهدَك ، فإن عدو اللـه قد وصلت ضربتُه إلى أم رأسك [144] .


ويقول الأصبغ بن نباتة : دخلتُ على أمير المؤمنين (ع) ، فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء قد نزف دمُه واصفرَّ وجهه . فما أدري وجهه أشد صفرة أم العمامة ، فاكببتُ عليه فقبلته وبكيــــت . فقال لي : لا تبكِ يا أصبغ فإنها - واللـه - الجنة .


فقلت له : جَعلتُ فداك ، إني أعلم - واللـه - أنك تصير إلى الجنة ، وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين [145] .


وبكت عنده أم كلثوم بعد أن نعى إليها نفسه ، فقال لها :


لا تــــؤذينــــي يـــا أم كلثوم ، فإنـــك لو ترين مـــا أرى ، إن الملائكة مـــن السماوات السبـــع بعضهـــم خلـــــــــف


بعــض ، والنبيون يقولون : انطلق يا علي فما أمامك خير لك مما أنت فيه [146] .


وبقي الإمام (ع) ثلاثاً تشتد حالته ، حتى كان ليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان ، في الثلث الأول منها ، وعهد عهده إلى الإمام الحسن وأوصاه وأخاه الإمام الحسين عليهما السلام ، بآخر وصاياه ، ثم ودع أهل بيته ، واستقبل ملائكة ربه بالسلام وفارقت روحه الزكية الحياة ، وصرخت بناته ونساؤه ، وارتفعت الصيحة في بيته ، فعلم أهل الكوفة أن أمير المؤمنين قد قُبض ، فأقبل الرجال والنساء أفواجاً ، وصاحوا صيحة عظيمة ، وارتجَّت الكوفة بأهلها ! وكان ذلك اليوم كيوم مات فيه رسول اللـه (ص) .


ثم غسله الإمام الحسن والإمام الحسين معاً سلام اللـه عليهم أجمعين ، بينما كان محمد بن الحنفية يصب الماء . وحُنِّط ببقية حنوط رسول اللـه ، ووضعوه على سريره ، وصلَّى عليه الإمام الحسن (ع) ، وحُمل في جوف الليل من تلك الليلة إلى ظهر الكوفة فدفن بالنوبة عند قائم الغرَّيين حيث مرقده الشريف الآن .


وكانت الحكمة في كتمان موضع قبره الذي ظل سريّاً عن العامة حتى عهد الإمام الرضا (ع) ، اتَّقاء شرِّ الخوارج وبني أمية .


ثم قتل ابن ملجم وأحرق بالنار .


وطويت صفحة ناصعة من حياة الإمام (ع) بشهادته ، لتنشر على مدى الدهر صفحات مجده وعزه ، وفضائله ، وتابعيه على الهدى والإستقامة . فسلام اللـه عليه حين ولد في الكعبة ، وحين وقع صريعاً في محراب الكوفة ، وحين مضى شهيداً وشاهداً على الظالمين ، وحين أضحى راية العدالة وعلم الهدى ، ومنار التقوى . وسلام اللـه عليه حين يبعث حيّاً ، ليجعله اللـه ميزاناً يفصل به بين عباده ، وقسيماً للجنة والنار .. وسلام على الصدِّيقين الذين اتَّبعوا خطاه ، وعلى شيعته الذين تحملوا في ولائه ما تعجز عنه الجبال الراسيات .



الفصل الخامس :فضائلــه ومناقبــه


فضائله ومناقبه سلام اللـه عليه


وكأشعَّة الشمس ملأت فضائل الإمام (ع) الآفاق ، وأعطتنا ضياءً ودفئاً روحيّاً . ولقد تنافس كبار علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم في سرد فضائله ، حتى ليكاد السذَّج من القراء يقولون : فعلي - اذاً - أفضل الناس جميعاً جاهلين بأنه آيةُ صدقٍ لرسالة محمد (ص) ومرآة صافية تتجلى فيها صورة مربيه وسيده محمد (ص) حتى قال سلام اللـه عليه :


أنا عبد من عبيد محمد (ص) .


بلى ، إن إصرار أصحاب الرسول (ص) وأولي البصائر من التابعين والصدِّيقين من المسلمين على نشــــر فضائل الإمام (ع) كان تحدياً لخط الضلال الذي تسلط على المسلمين ، واجتهد لمحو معالم الحق .. وهكذا خرجت فضائله عن إطار الإحصاء .


بيد أن علينا أَلاَّ ننظر إلى فضائله بصورة منفصلة عن بعضها .. أرأيت كيف لو مزقت زهرة وبدأت تنظر إلى كل ورقة فيها وحدها ؟.


إنَّنا حين نتحدث عن الزهد يخيَّل إلينا انطواء المرتاضين ورهبنة الهاربين عن الحياة ..


وإذا تحدثنا عن العلم قفزت إلى أذهاننا صورة أولئك المنكبين على أوراقهم في المكتبات ، أو على أدواتهم في المختبرات ، دون ان يتحملوا المسؤولية أو يخوضوا صراعاً .


وإذا ذكرنا الجود تذكرنا الملوك حين يوزعون الهدايا على الملأ من قومهم ، ليستدرجوهم إلى مؤازرتهم وليضمنوا ولاءهم .


وإذا بيَّنا الشجاعة ، ارتسمت أمامنا صورة أبطال الحروب ، الذين دأبهم القتل ومهمتهم إراقة الدماء ، وهكذا ..


بيد أن عليّاً (ع) غير كل أولئك . لأنَّ صفاته تجليات لروحه الإيمانية ، كالنور الواحد ينعكس على الأشياء فيتجلى عليها ألواناً مختلفة ، وهكذا نور التوحيد في ضمير الإمام (ع) ينبعث في واقعه صفةً مُثلى وآيةً عُظمى للحق .


فحين يتجلى الرب سبحانه للقلب السليم فيثبِّته بالقول الثابت ، ويُفيض عليه من نور عزه ، يصبح صاحبــــه الجواد العدل ، والشجاع الحنــــون ، والعالم المســؤول ، والزاهـــــد المتصدي ، والبكَّاء في ظــــــــــلام


الليل ، والقتَّال حين يرتفع النهار ..


ويقول قائلهــــــــــــــم :


جمعــــــــــــــت فـــــــــــــــي صفـــــاتـــــــــــك الأضـــــــــــــــــــــــدادُ ولهـــــــــــــــــــــــــذا عـــــــــــــــــــزت لــــــــــــــــــك الأنــــــــــــــــــــــــدادُ


ونقول إنها الصفات الحسنى يتبع بعضها بعضاً .. إنها الحب والصدق والأمانة ، تجمعها معرفة اللـه ، وتنساب منها سائر فضائل الخير ..


لقد عاش لله سبحانه ، لأنه عرف اللـه وتنمَّر في ذات اللـه ، لأنه أوتي اليقين بعظمة ربِّه . أو لم يقل (ع) عن المؤمنين وهو أميرهم :


عَظُمَ الخالقُ في أنفسهم ، فَصَغُرَ ما دونَهُ في أعينهم .


واستهان بالموت لأنه أحب لقاء ربه ..


وعدل في الرعية لأنه تجاوز حواجز المادة إلى حقائق الجوهر ، فأسقط كل الميزات الظاهرية ، وتحدَّى الضغط الذي يدعو إليها .


وزهد في الدنيا ، لأنه أبصر حقيقتها فصامت نفسه عنها قبــــل أن تصوم جوارحه ، وطلَّقها ثلاثاً وقال لهــا :


يا دنيا يا دنيا !! إليك عنّي ، قد طلَّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها [147] .


وأنهكته العبادة لأنه يلتقي هناك بحبيبه الكريم . فلم يزل ذاكراً ربه ، يعيش قلبه بمناجاته . وهكذا كانت سائر فضائله روافد من نبع الإيمان والمعرفة واليقين .


وها نحن نروي لك شيئاً قليلاً منها لعلنا نزداد معرفة بإمامنا سلام اللـه عليه ، ونزداد قرباً إلى ربنا بمعرفته .


فقد روى أبو الدرداء في جمع من أصحاب النبي قصته مع الإمام علي (ع) ، وكيف شاهد جانباً من عبادته الليلية :


/ 35