الإمام الحسن (ع) يجني ثمار الصلح : وكان هدف الإمام الحسن (ع) من الصلح فضح معاوية ، وهدم أسس سلطته القائمة على القيم الجاهلية ، وتنظيم صفوف المعارضة من جديد ، واستغلال كل فرصة لبث روح الإيمان والتقوى في ضمائر الناس . وفيما يلي نذكر بعضاً من مواقف الإمام مع سلطة معاوية التي كانت تهز عرشه ، وتُلهم معارضيه أسلوب مقاومته : أ - بُعَيْدَ المصالحة صعد معاوية المنبر ، وجمع الناس فخطبهم وقال : إن الحسن بن علي رآني للخلافة أهلاً ، ولم يَر نفسه لها أهلاً ، وكان الحسن (ع) أسفل منه بمرقاة . فلمّا فرغ من كلامه قام الحسن (ع) فحمد اللـه تعالى بما هو أهله ، ثمّ ذكر المباهلة ، فقال : فجاء رسول اللـه (ص) من الأنفس بأبي ، ومن الأبناء بي وبأخي ، ومن النساء بأمّي . وكنّا أهله ونحن آله ، وهو منّا ونحن منه . ولمّا نزلت آية التطهير جمعنا رسول اللـه (ص) في كساء لأُمِّ سلمة رضي اللـه عنها خيبري ثم قال : اللـهمّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي ، فَأذهِبْ عنهم الرِّجسَ وطهّرهم تطهيراً . فلم يكن أحد في الكساء غيري وأخي وأبي وأُمّي ولم يكن أحد تصيبه جنابة في المسجد ويولد فيه إلاّ النبي (ص) وأبي تكرمة من اللـه لنا وتفضيلاً منه لنا ، وقد رأيتم مكان منزلتنا من رسول اللـه (ص) . وأمر بسدِّ الأبواب فسدَّها وترك بابنا ، فقيل له في ذلك فقال : أَمَا إنّي لم أسدَّها وأفتح بابه ، ولكنَّ اللـه عزَّ وجلَّ أمرني أن أسدَّها وأفتح بابه . وإنَّ معاوية زعم لكم أنّي رأيته للخلافة أهلاً ، ولم أرَ نفسي لها أهلاً فكذب معاوية ، نحن أولى بالناس في كتاب اللـه عزَّ وجلَّ وعلى لسان نبيه (ص) ، ولم نزل أهل البيت مظلومين ، منذ قبض اللـه نبيه (ص) ، فاللـه بيننا وبين من ظلمنا حقّنا ، وتوثّب على رقابنا ، وحمل الناس علينا ، ومنعنا سهمنا من الفيء ومنع أُمَّنا ما جعل لها رسول اللـه (ص) . وأُقسم باللـه لو أنَّ الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول اللـه (ص) لأعطتهم السماء قطرها ، والأرض بركتهـــا ، وما طمِعتَ فيها يا معاوية . فلمّا خرجتْ من معدنها تنازعتها قريش بينها ، فطمعتْ فيها الطُّلَقـاء ، وأبناء الطُّلَقاء - أنت وأصحابك - وقد قال رسول اللـه (ص) : ما ولّت أُمّة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا ، فقد تركت بنو إسرائيل هارون وهم يعلمون أنّه خليفة موسى فيهم واتّبعوا السامريَّ ، وقد تركت هذه الأُمّة أبي وبايعوا غيره ، وقد سمعوا رسول اللـه (ص) يقول : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوَّة ، وقد رأَوا رسول اللـه (ص) نصب أبي يوم غدير خم وأمرهم أن يبلّغ الشاهد منهم الغائب . وقد هرب رسول اللـه (ص) من قومه ، وهو يدعوهم إلى اللـه تعالى حتّى دخل الغار ، ولو وجد أعواناً ما هرب ، وقد كفَّ أبي يده حين ناشدهم ، واستغاث فلم يُغَثْ فجعل اللـه هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه ، وجعل اللـه النبيَّ (ص) في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعواناً . وكذلك أبي وأنا في سعة من اللـه حين خذلتنا هذه الأمة ، وبايعوك يا معاوية . وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً . أيها الناس : إنكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب ، أن تجدوا رجلاً ولده نبيّ غيري وأخي لم تجدوا ، وإنّي قد بايعت هذا وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين [223] . ب - ومرة أخرى صعد معاوية المنبر ونال من أمير المؤمنين فتحداه الإمام الحسن (ع) بما فضحه أمام الملأ . تقول الرواية : بعد أن تمت المصالحة سار معاوية حتّى دخل الكوفة فأقام بها أيّاماً فلمّا استتمّت البيعة له من أهلها صعد المنبر ، فخطب الناس وذكر أمير المؤمنين (ع) ونال منه ، ونال من الحسن (ع) ما نال ، وكان الحسن والحسين (ع) حاضرَين ، فقام الحسين (ع) ليردَّ عليه ، فأخذ بيده الحسن (ع) فأجلسه ، ثمَّ قام فقال : ايّها الذاكر عليّاً ، أنا الحسن وأبي عليٌّ ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأُمي فاطمة وأُمّك هند ، وجدّي رسول اللـه (ص) وجدُّك حرب ، وجدَّتي خديجة وجدَّتك قتيلة ، فلعن اللـه أخملنا ذكراً وألأَمنا حَسَباً ، وَشرنا قَدماً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً . فقالت طوائف من أهل المسجد : آمين آمين [224] . ج - وفي الشام حيث رَكَّز معاوية سلطته خلال عشرات السنين . ولفقَ أكاذيب على الإسلام حتى كاد يخلق للناس ديناً جديداً . وقف الإمام الحسن المجتبى (ع) يعارض نظامه الفاسد ، ويبيِّن أنه وخطه الأولى بالقيادة . يقصّ علينا التاريخ الحادثة التالية : رُوي أنَّ عمرو بن العاص قال لمعاوية : إنَّ الحسن بن علي رجل عَيِيٌّ ، وإنه إذا صعد المنبر ورمقوه بأبصارهم خجل وانقطع ، لو أذنت له . فقال معاوية : يا أبا محمّد لو صعدت المنبر ووعظتنا !. فقام فحمد اللـه وأثنى عليه ، ثمَّ قال : مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن عليّ ، وابن سيدّة النّساء فاطمة بنت رسول اللـه (ص) . أنا ابن رسول اللـه ، أنا ابن نبيِّ اللـه ، أنا ابن السراج المنير ، أنا ابن البشير النّذير ، أنا ابن من بُعث رحمة للعالمين ، أنا ابن من بُعث إلى الجنِّ والإنس ، أنا ابن خير خلق اللـه بعد رسول اللـه ، أنا ابن صاحب الفضائل ، أنا ابن صاحب المعجزات والدّلائل ، أنا ابن أمير المؤمنيـن ، أنا المدفوع عن حقّي، أنا واحدُ سَيِّدَي شباب أهل الجنّة ، أنا ابن الُّركن والمقام ، أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن المشعر وعرفات . فاغتاظ معاوية وقال : خذ في نعت الرُّطب ودعْ ذا ، فقال : الرِّيح تنفخه والحرُّ ينضجه ، وبرد اللّيل يطيّبه ، ثمَّ عاد فقال : أنا ابن الشفيع المطاع ، أنا ابن من قاتل معه الملائكة ، أنا ابن من خضعت له قريش ، أنا ابن إمام الخلق وابن محمّد رسول اللـه (ص) . فخشي معاوية أن يفتتن به النّاس ، فقال : يا أبا محمّد انزل فقد كفى ما جرى . فنزل فقال له معاوية : ظننتَ أن ستكون خليفة ، وما أنت وذاك ، فقال الحسن (ع) : إنّما الخليفة ممن سار بكتاب اللـه ، وسنّة رسول اللـه ، ليس الخليفة من سار بالجور وعطّل السنّة ، واتّخذ الدُّنيا أباً وأُمّاً ، ملك ملكاً مُتّع به قليلاً ، ثمَّ تنقطع لذَّته ، وتبقى تَبِعَتُه . وحضر المحفل رجل من بني أُمية وكان شاباً فأغلظ للحسن كلامه ، وتجاوز الحدَّ في السبِّ والشتم له ولأبيه . فقال الحسن (ع) : اللـهمَّ غيّر ما به من النّعمة واجعله أُنثى ليُعتبر به ، فنظر الأمويُّ في نفسه وقد صار امرأة قد بدَّل اللـه له فرجه بفرج النّساء وسقطت لحيته ، فقال الحسن (ع) : أُعْزُبي ! مالكِ ومحفل الرِّجال ؟ فإنّكِ امرأة . ثمَّ إنَّ الحسن (ع) سكت ساعة ، ثمَّ نفض ثوبه ونهض ليخرج ، فقال ابن العاص : اجلس فانّي أسألك مسائل . قال (ع) : سل عمّا بدا لك ، قال عمرو : أخبرني عن الكرم والنجدة والمروءة ، فقال (ع) : أمّا الكرم فالتبرُّع بالمعروف والإعطاء قبل السؤال . وأما النجدة فالذَّبُّ عن المحارم ، والصّبر في المواطن عند المكاره . وأما المروءة فحفظ الرجل دينه ، وإحرازه نفسه من الدنس ، وقيامه بأداء الحقوق وإفشاء السلام . فخرج ( الإمام الحسن عليه السلام ) فعذل معاوية عمراً . فقال : أفسدت أهل الشام . فقال عمرو : إليك عنّي . إن أهل الشام لم يحبوك محبة إيمان ودين . إنّما أحبوك للدنيا ينالونها منك ، والسيف والمال بيدك ، فما يغني عن الحسن كلامه . ثم شاع أمر الشاب الأموي ، وأتت زوجته إلى الحسن فجعلت تبكي . وتتضرع فرقَّ لها ودعا فجعله اللـه كما كان [225] . إلى المدينة : وهكذا ظل الإمام في الكوفة شهوراً ، ثم ارتحل عنها وارتحل معه كلّ الخير . ففي نفس الأيام التي خرج الإمام عنها ، حلّ بها طاعون فمات الكثير من أهلها ، حتى أن واليها ( المغيرة بن شعبة ) أُصيب به فمات . فلما بلغ المدينة ، خف أهلها يستقبلونه أحرّ الإستقبال . وظل هناك يقود حرباً باردة ضد معاوية ومؤامراته على المسلمين ، حتى كانت السنة حيث وفد إلى الشام عاصمة الخلافة الإسلامية ، فراح يبلّغ عن دعوته التي خُلق لها وخرج بها ، وعاش معها ، تلك دعوة الحق ، ومحق الباطل . ولقد أظهر الإمام في تلك الرحلة الرسالية ، لأهل الشام ، أن معاوية ليس بالذي يصلح للقيادة ، على ما موَّه عليهم بدعاياته المضللة ، فهو يرجع بهم إلى الجاهلية حيث كان أبوه يستعبد الناس ويستنزف جهودَهم وطاقاتهم ، ولا يهمه بعد ذلك أَسَعِدُوا أم شقوا . وليس من العجب أن نرى كلّ من التفَّ حول معاوية ودافع عن أفكاره ونصب نفسه لدعوته ، كان من قبل قد التف هو أو أسرته حول ابي سفيان ودافع عن أفكاره . فلا زال معاوية يقود الحزب الأموي الذي قاده من قبل والده أبو سفيان ، بذات المفاهيم والعادات والسلوكيات . كما أنه لا يثير العجب إذا رأينا في صف الإمام الحسن (ع) ثلة صالحة ممن كان قبل أيام يناضل أبا سفيان وحزبه دفاعاً عن قيم الرسالة . والواقع أن حركة معاوية كانت ردّ فعل جاهلي ضد انتشار رسالة الإسلام وكانت على صلة تامة بالروم . وكان يعتمد معاوية على أشخاص مثل عمرو بن العاص ، وزياد بن أبيه ، وعتبة بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، ونظائرهم ممن لاتزال صورهم أو صور أسرهم تتراءى لنا ، في ميادين بدر والخندق، كما كان يعتمد على النصارى الذين أصبحت لهم قوة لا يُستهان بها داخل الدولة الأموية . وإن معاوية كان يجتمع كلّ مساء بمن يقرأ عليه أخبار الحروب السابقة وخصوصاً تجارب الروم في الحروب السياسية فيستفيد منها . من هنا نعرف أن الحرب بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، أو نجله الإمام الحسن (ع) وبين معاوية ، لم تكن صراعاً مجرداً على السلطة ولا صراعاً بين حزبين داخل الإطار الإسلامي ، بل كان صراعاً بين الكفر المبطن والإسلام الحق . ولذلك اتبع الإمام الحسن (ع) نهجاً خاصاً في مواجهة الصراع ، وهو نهج الدعوة الصريحة ، حيث سافر إلى الشام ، عاصمة الخلافة ، كي يُقر حقّاً نذر له نفسه ، ومن الطبيعي أن أهل الشام سوف يلتفتون إليه بعد أن كان رئيس الحركة المناوئة لدولتهم ، وقائد الحرب المعارض لسياستهم . ولابد أن يفد منهم خلق كثير ، فهنالك يستطيع أن يبلِّغ دعوته وينشر من علومه ما يدكّ صرح معاوية السياسي وينسف أحلامه الجاهلية . وإن صفحات التاريخ تطالعنا بكثير من خطبه التي ألقاها على أهل الشام ، فأثر في نفوسهم أبلغ تأثير ، ولـــم يزل كذلك حتى اشتكــــاه أنصار معاوية قائلين له إن الحســــن قد أحيا أباه وَذِكْره ، وقال فصُدِّق ، وأمــــر فأُطيع ، وخفقت له النعال ، وإن ذلك لرافعة إلى ما هو أعظم منه ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا . سياسته في عهد معاوية : وهكذا قاد الإما الحسن المجتبى (ع) معارضة سياسية قوية ، ولكن من دون الحرب . وكان يوجه شيعته هنا وهناك ، وينظم صفوفهم ، وينمي كفاءاتهم ، ويدافع عنهم أمام بطش معاوية وكيده . وفي ذات الوقت كان (ع) يقوم بنشر الثقافة الإسلامية في كافة البلاد ، إما عن طريق الرسائل والموفودين من تلامذته البارعين الذين كان يتكفل أمورهم المادية والمعنوية ثم يبعثهم إلى الآفاق ، أو عبر الخطب التي كان يلقيها في مواسم الحج وغيرها ، فيملك ناحية الأمة ويستأثر بقيادتها الثقافية . ومن ذلك أيضاً ، نستطيع أن ندرك سر اختياره المدينة المنورة كوطن دائم له ، حيث كان فيها من الأنصار وغيرهم ممن يقدر على إرشادهم وتوجيههم ، وبذلك يستطع أن يشقّ طريقه إلى إرشاد الأمة وتوجيهها ، حيث كان الأنصار وأولادهم هم القدوة الفكرية للأمة ، فمَن ملك قيادة الأنصار ملك قيادة الأمة فعلاً . الشهادة : العاقبة الحسنى لقــد دعت سياسة الإمام الرشيدة ومكانته المتنامية في الأمة معاوية إلى أن يشك في قدرته على مناوأته، واستئثاره - من ثم - بقيادة الأمة ، حيث إنه ما خطى خطوة تُالف قِيَمَ الحق أو مصالح الأمة ، إلاّ وعارضه الإمام واتَّبعته الأمة في ذلك ، ففشلت مساعي معاوية وخابت آماله ، فدبَّر حيلة كانت ناجحة إلى أبعد الحدود ، تلك هي الفتك بحياة الإمام (ع) عن طريق سمٍّ بعثه إلى زوجته . وقد سبق القول : في أن منطق معاوية كان يبرّر له كلّ جريمة ، وكان له جنود من عسل على حدّ تعبيره ، فإذا كره من فرد شيئاً بعث إليه عسلاً ممزوجاً بالسمّ فيقتله بذلك . وقد جعل مثل ذلك بالإمام الحسن (ع) مرات عديدة ، فلم يؤثر فيه ، وباءت مساعيه بالفشل . إلا أنه ذات مرة بعث إلى عاهل الروم يطلب منه سمّاً فتَّاكاً ، فقال ملك الروم : إنه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا ، فراسله معاوية يقول : إن هذا الرجل هو ابن الذي خرج بأرض تهامة - يعني رسول اللـه (ص) - خرج يطلب ملك أبيك ، وأنا أُريد أن أدس إليه السمّ ، فأريح منه العباد والبلاد . فبعث ملك الروم إلى معاوية بالسمّ الفتاك الذي دسه إلى الإمام (ع) عن طريق جعدة الزوجة الخائنة التي كانت تنتمي إلى أسرة فاجرة ، حيث اشترك أبوها في قتل أمير المؤمنين وأخوها في قتل الإمام الحسين ( عليهما السلام ) فيما بعد . وفي ذلك النهار حيث كان قد مضى أربعون يوماً أو ستون على سقيه السمّ ، وقد أتمَّ وصاياه التي أوصى بها إلى أخيه الإمام الحسين (ع) ، وعلم باقتراب أجله ، فكان يبتهل إلى اللـه تعالى قائلاً : اللـهمّ إني أحتسب عندك نفسي ، فإنها أعز الأنفس عليّ لم أُصَب بمثلها . اللـهمَّ آنس صرعتي ، وآنس في القبر وحدتي ، ولقد حاقت شربته ( أيّ معاوية ) . واللـه ما وفيَ بما وعد ، ولا صدق فيما قال . وكان يتلو آياتٍ من الذِّكْرِ الحيكم حين التحق بالرفيق الأعلى سلام اللـه عليه .
التشييع :
وقامت المدينة المنورة لتشيع جثمان ابن بنت رسول اللـه (ص) الذي لم يزل ساهراً على مصالحهم قائماً بها أبداً . وجاء موكب التشييع يحمل جثمانه الطاهر إلى الحرم النبويِّ ليدفنوه عند الرسول ، أو ليجددوا العهد معه على ما كان قد وصَّى به الإمام ، فركبت عائشة بغلة شهباء واستنفرت بني أمية وجاؤوا إلى الموكب الحافل بالمهاجرين والأنصار وبني هاشم وسائر الجماهير المؤمنة الثاوية في المدينة ، فقالت عائشة تصيح : يا رُبَّ هيجاء هي خير من دعة !. أيُدفن عثمان بأقصى المدينة ويدفن الحسن عند جدِّه . ثم صرخت في الهاشميين ، نحّوا ابنكم واذهبوا به فإنكم قوم خصمون .. ولولا وصية من الحسن (ع) بالغة على الحسين (ع) ، أَلاَّ يُراق في تشييعه ملء محجمةِ دمٍ ، لَمَا ترك بنو هاشم لبني أمية في ذلك اليوم كياناً . ولولا أن الحسين نادى فيهم : اللـه اللـه يا بني هاشم ، لا تضيّعوا وصية أخي ، واعدلوا به إلى البقيع ، فإنه أقسم عليَّ ان أنا مُنعت من دفنه عند جدِّه إذاً لا أُخاصم فيه أحداً ، وأن أدفنه في البقيع مع أُمّه . هذا ، وقبل أن يعدلوا بالجثمان ، كانت سهام بني أمية قد تواترت على جثمان السبط وأخذت سبعين سهماً مأخذها منه . فراحوا إلى البقيع وقد اكتظ بالناس فدفنوه حيث الآن يُزار مرقده الشريف . وهكذا عاش السبط الأكبر لرسول اللـه (ص) ، نقياً طاهراً مقهوراً مهتضماً ، ومضى شهيداً مظلوماً محتسباً ، فسلام اللـه عليه ما بقي الليل والنهار .
الفصل الرابع :مكارم الأخلاق
أ - العابد الزاهد :
1- حجَّ الإمام الحسن (ع) خمساً وعشرين مرةً ماشياً ، والنجائب تقاد من بين يديه . وكلما مرَّت به طائفة صعقت وخفت بالنزول إجلالاً لسموِّه وكبير مكانته . فلم يزل حتى يعدل بطريقه عن الشارع العام ، ليبلغ في تذلله للخالق كلّ مبلغ . 2- وكان إذا ذكر اللـه عزَّ وجلَّ بكى ، وإذا سُمِّي لديه القبر بكى ، وإذا قيل في البعث شيء بكى ، وإذا ذُكِّر بالصراط في المعاد بكى . وأما إذا ذُكر لديه العَرض الأكبر إذ الخلائق بين يدَي اللـه القدير ، كلٌ ينظر في شأنه ، ولهم شؤون تغنيهم عن الآخرين ، فهناك شهق شهقة وغشي عليه خوفاً وذعراً . أما إذا حدَّث بالجنة والنار اضطرب اضطراب السليم ، وسأل اللـه الجنة واستعاذ به من النار . وإذا توضـــأ فإنه كان يصفرُّ لونُه وترتعدُ فرائصُه ، فإذا قام إلى الصلاة اشتد اصفرار لونه وارتعاد فرائصـه . 3- وأما أمواله فقد قاسَمَ اللـه فيها ثلاثَ مرات ، نصفاً بذل ونصفاً أبقى . وقد خرج من ماله كله مرتين في سبيل اللـه ، فلم يبقَ له شيء إلا أعطاه في سبيل اللـه . 4- ولا تمر عليه حال من الأحوال إلاّ ذكر اللـه عزّ وجلّ رغَباً ورهَباً . 5- أما ما قال فيه معاصروه ، فقد قالوا : وكان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم بالدنيا . ولقد أفرد بعض الكتّاب الأولين ، موضوع زهد الإمام الحسن (ع) في مجلد خاص ، مثل محمد بن علي بن الحسين بن بابويه المتوفي سنة 381 في كتابه ( كتاب زهد الحسن عليه السلام ) .
ب - المهيب الحبيب :
1- قال واصفوه : ما رآه أحد إلاّ هابه ، وما خالطه إنسان إلاّ أحبّه ، ولا سمعه عدوٌ له أو صديقٌ خاطباً فاجترأ عليه بالتكلم واللغو . وقالوا في شمائله أيضاً : لم يكن أحد أشبه برسول اللـه (ص) من الحسن بن علي (ع) ، خلقاً وخُلقاً وهيئة وهدياً وسؤدداً . وقالــوا كذلك : كــان أبيــض اللــــون مُشْربــاً بحمــرة ، أدعــج العينيــن [226] سهـــل الخدَّيــــن [227] كَثَّ اللحية [228] جَعْد الشعر [229] كأنَّ عنقه إبريق فضة ، حسن البدن ، بعيد ما بين المنكبَين ، عظيم الكراديس [230] رقيق المرية [231] ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير ، مليحاً من أحسن الناس وجهاً . 2- كـــان الإمام (ع) ، محبوباً لدى الجميع ، يكرمه البعيد والقريب سواء ، ومن مظاهر محبوبيته العامة ، أنه كان يفرش له بباب داره في المدينة ، يجلس يقضي حوائج الناس ويحل مشاكلهم ، فكلّ من يمرّ به يقف هنيئة يسمع حديثه ، ويرى شمائله ويتزود بها من شمائل الرسول الأكرم وملامحه (ص) ، فلا يزال حتى ينسد الطريق دون المّارة . فإذا عرف الإمام ذلك قام ودخل لكي لا يسبب قطع الطريق . 3- وقال فيه محمد بن إسحاق : ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول اللـه (ص) ، ما بلغ الحسن بن علي . 4- وقال فيه الزبير : واللـه ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي . 5- وكان ابن عباس يأخذ بركاب الحسن والحسين على عادة من يريد أن يبالغ في تواضعه إلى أحد ، ويعرف الناس مدى خضوعه لسموِّه ، فإنه كان يقود له الراحلة كالذي يُستأجر لذلك بالمال . فكان ابن عباس يصنع ذلك للحسين ، فرآه ذات مرة مدرك بن زياد ، فاندهش إذ رأى شيخ المفسرين يصنع هذا الإكرام بالحسين ، فقال أنت أسنّ منهما تُمسك لهما بالركاب . فصاح ابن عباس في وجهه : يالكع !! وما تدري من هذان ؟. هذان ابنا رسول اللـه . أوليس مما أنعم اللـه عليّ به أن أُمسك لهما وأسوِّي عليهما ؟. 6- وقد سبق أنَّه إذا امتطى الصحراء إلى مكة ماشياً ، ورآه ملأ من المسلمين نزلوا يمشون إلى جنبه ولا يركبون حتى يعدل عنهم .
ج - الجواد الكريم :
1- أتاه رجل يطلب حاجة وهو يستحيي من الحاضرين أن يفصح عنها ، فقال له الإمام : اكتب حاجتك في رقعة وارفعها إلينا . فكتب الرجل حاجته ورفعها . فضاعفها له الإمام مرتين ، وأعطاه في تواضع كبير . فقال له بعض الشاهدين ما كان أعظم بركة الرقعة عليه ، يابن رسول اللـه !. فقال : بركتها إلينا أعظم حين جعلنا للمعروف أهلاً ، أما علمت : إن المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة . فأمَّا مَن أعطيته بعد مسألة فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه . وعسى أن يكون بات ليلته متململاً أرقا ، يميل بين اليأس والرجاء ليعلم بما يرجع من حاجته أبكآبة ردّ ، أم بسرور النجح ، فيأتيك وفرائصه ترعد ، وقلبه خائف يخفق ، فإن قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه فإن ذلك أعظم مما ناله من معروفك . 2- وجاءه رجل يسأل معروفاً، فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار، وقال له : إئت بحمّال لك، فأتى بحمال فأعطاه طيلسانه وقال هذا كرى الحمّال . 3- وجاءه أعرابي يريد أن يسأله حاجة ، فقال الإمام لمن حوله : أعطوه ما في الخزينة . فوجد فيها عشرون ألف درهم ، فدفعت إليه قبل أن يسأل . فاندهش الأعرابي وقال : يا مولاي ألاّ تركتني أبوح بحاجتي وأنشر مدحتي ، فأنشأ الإمام يقول : نحـــــــــــنُ أنـــــــــــــــاسٌ نـــــــــــوالـــــــــنـــــــــــا خضـــــــــــــــــــــــــــلٌ يــــــرتـــــــــــــــعُ فــــيـــــــــــــــه الرجــــــــــاءُ والأمــــــــــــــــــــــلُ تجـــــــــــــــــــودُ قبـــــــــــــــلَ السـّـــــــــــــؤالِ أنــــــــــــــفسُنـــــــــــــــا خوفــــــاً علــــــــــى مــــاء وجْــــــــــهِ مَــــــن يَســــــــــــــَلُ 4- وحجّ ذات سنة هو وأخوه الإمام الحسين (ع) ، وعبد اللـه بن جعفر ، ففاتتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا ، فرأوا عجوزاً في خباء فاستسقوها فقالت هذه الشويهة ، أحلبوها واستطعموها ، فذبحت لهم شاتها وشوتها ، فلما طعموا قالوا لها : نحن نفر من قريش ، نريد هذا الوجه ، فإذا عدنا فَمُرِّي بنا ، فإنا صانعون بك خيراً . ثم مضت بها الأيام وأضرت بها الحال ، فرحلت حتى وصلت المدينة المنورة . فرآها الحسن (ع) ، فعرفها فقال لها : أتعرفينني ؟. قالت : لا . قال : أنا ضيفك يوم كذا وكذا . فأمر لها بألف شاة وألف دينار ، وبعث بها إلى الحسين (ع) ، فأعطاها مثل ذلك ثم بعثها إلى عبد اللـه بن جعفر ، فأعطاها مثل ذلك . 5- وتنازع رجلان ، هذا أموي يقول : قومي أسمح ، وهذا هاشمي يقول : بل قومي أسمح . فقال أحدهما : فاسألْ أنت عشرة من قومك ، وأنا أسأل عشرة من قومي ، يريد أن يسأل كلٌّ عطاء عشرة من قومه ، فينظروا أيّ القومين أسخى وأسمح يداً . ثم إذا عرفوا ذلك أرجع كلّ منهما الأموال إلى أهلها ، كلّ ذلك شريطة أن لا يخبرا من يسألاه بالأمر . فانطلق صاحب بني أمية فسأل عشرة من قومه فأعطاه كلّ واحد منهم ألف درهم . وانطلق صاحب بني هاشم إلى الحسن بن علي فأمر له بمائة وخمسين ألف درهم ، ثم أتى الحسين فقال : هل بدأت بأحد قبلي ؟ قال : بدأت بالحسن ، قال : ما كنت أستطيع أن أزيد على سيدي شيئاً ، فأعطاه مائة وخمسين ألفاً من الدراهم ، فجاء صاحب بني أمية يحمل عشرة آلاف درهم من عشرة أنفس وجاء صاحب بني هاشم يحمل ثلاثمائة ألف درهم من نفسَين ، فغضب صاحب بني أمية ، حيث رأى فشله في مبادراته القبلية . فردّ الأول حسب الشرط ما كان قد أخذه من بني أمية فقبلوه فَرحِين ، وجاء صاحب بني هاشم الحسن والحسين يردّ عليهما أموالهما فأبيا أن يقبلاهما قائلين : ما نبالي أخذتها أم ألقيتها في الطريق .
د - المتواضع الحليم :
1- مرّ بطائفة من الفقراء جلوساً على كسيرات من الرغيف يأكلونها ، فلما رأوا موكب الإمام قاموا إليه ، ودعــــوه إلى طعامهم قائلين هلّم يابن رسول اللـه إلى الغداء ، فنزل وهو يقول : إن اللــه لايحب المتكبريــــن وجعل يأكل معهم ثم دعاهم إلى ضيافته فأطعمهم وكساهم . 2- وعصفت به ظروف عصيبة أن لو مرت على الجبال لتدكدكت ، وازدحمت فوق كتفيه مسؤوليات عظيمة فاضطلع بها وتغلب على صعابها في حلم وأناة ، مما دفع أشدّ الناس عداوة له - وهو مروان - إلى أن يقول : كان من حلمه ما يوازن به الجبال . وكانت صفة الحلم أبرز سماته (ع) ، حيث كان يشبّه فيها بالنبي (ص) .
الفصل الخامس : من بلاغة الإمام
1- لا جبر ولا تفويض : مــن لا يؤمن باللـه وقضائه وقدره فقد كفر ، من حمل ذنبه على ربه فقد فجـر . إن اللـه لايُطـــاع استكراهــاً ، ولا يعطي لغلَبه ، لأنه المليك لما ملَّكهم ، والقادر على ما أقدرهم . فإن عملوا بالطاعة لم يَحُلْ بينهم وبين ما فعلوا ، فإذا لم يفعلوا فليس هو الذي يجبرهم على ذلك . فلو أجبر اللـه الخلق على الطاعة لأسقط عنهم الثواب ، ولو أجبرهم على المعاصي لأسقط عنهم العقاب . ولو أنه أهملهم لكان عجزاً في القدرة . ولكنْ له فيهم المشيئة التي غيَّبها عنهم ، فإن عملوا بالطاعات كانت له المنّة عليهم ، وإن عملوا بالمعصية كانت له الحجة عليهم . 2- الموت يطلبك : يا جنادة ، استعدَّ لسفرك ، وحصّل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك . ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه ، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك . واعلم أن الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب ، وفي الشبهات عتاب ، فَأَنزِلِ الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك ، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيه ، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر ، فأخذت منه كما أخذت من الميتة ، وان كان العقاب فالعقاب يسير . واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً . وإذا أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية اللـه ، إلى عزّ طاعة اللـه عزَّ وجلَّ . وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة ، فاصحب مَن إذا صحبته زانك ، وإذا أخذت منه صانك ، وإذا أردت منه معونة أعانك ، وإن قلت صدَّقك ، وإن صلت شدّ صولتك ، وإن مددت يدك بفضل مدّها ، وإن بدت منك ثلمة سدّها ، وإن رأى منك حسنة عدّها ، وإن سألته أعطاك ن وإن سكتَ عنه ابتداك ، وإن نزلتْ بك إحدى الملمات واساك ، مَن لا تأتيك منه البوائق ، ولا تختلف عليك منه الطرائق ، ولا يخذلك عند الحقائق ، وإن تنازعتما منقسماً آثرك . من حكمته البالغة : 1- المزاح يأكل الهيبة . وقد أكثر من الهيبة الصامت . 2- المسؤول حرّ حتى يَعِدّ ومسترق بالوعد حتى ينجز . 3- اليقين معاذ السلامة . 4- رأس العقل معاشرة الناس بالجميل . 5- القريب من قرَّبته المودة وإن بعد نسبه ، والبعيد من باعدته المودة وإن قرب نسبه . فلا شيء أقرب من يد إلى جسد ، وإن اليد تفل فتقطع وتحسم . 6- الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود . 7 - لئــــــن ساءنـــــــي الدنيــــا عـــزمـــــتُ تَصَبُّـــــراً و كـــــــــــــــلُّ بـــــــــــــــلاءٍ لا يــــــــــــــدوم يســـــــــــــــيـــــــرُ و إن ســــــرّنــــــــــــي لــــــــــــــم أبتهـــــــــــج بســــــــــــــــــروره و كــــــــــــــــلّ ســـــــــــــــــرورٍ لا يـــــــــــــــــــدوم حقيــــــــــــــــرُ 8- يـــــا أهــــــــلَ لـــــذاتِ دنيــــــــــاً لا بقـــــــــــــاء لهــــــا إنَّ المقـــــــاــــــــــــــمَ بظـــــــــــــــــــــــلٍّ زائــــــــــــلٍ حَمــــــَقُ 9- لكســـرة مـــن خسيــس الخـبـز تُشبعنـــي وشربـــــــــــة مـــــــــــــن قـــــــــــــراح المـــاء تكفينــــــــي وطــــــــــــــــــرة مـــــــــــــــــن دقيـــــق الـــثـــوب تسـتــرنـــي حيّــــــــــــــاً وإن مـــــــــــــت تكفينــــــي لتكفينـــــــــــــي 10- إذا مــا أـتــانــي ســائــل قلـــت مـــرحـــــــــــبـــــــاً بمَـــن فــــضلـــــهُ فــــــــــــــرضٌ علـــــــيّ معجــــــــــــــلُ ومـــــــن فضلــــــــــه فضـــــــــــلٌ علـــــى كـــــــــلِّ فاضـــــلِ و أفضــــــــــــــــلُ أيــــــــــــــــامِ الفتـــــــى حيـــــن يُســـألُ تاريخ الانتهاء من التأليف 3 / 10 / 1386 هـ وأنا أشكر اللـه الكريم على ذلك ..
الامــام الحسيــن ( عليه السلام )
قدوة وأسوة
تمهيـــد
انبعث من ضمير الإنسانية رجال ، كانوا المعجزة في أقرب مفاهيمها ، وأصدق معاييرها ، وفي أسنى تألقها ، وأبهى تجليها . لا شك في أنها كانت آية ظاهرة ، تهدي إلى قوة قاهرة وراء الغيب لتنير الكون ، وتدفعه إلى سُبله المستقيمة ، تدعو إلى التصديق الواعي ، بحقيقة أخرى غير هذه المادة ، وغير ملابساتها الظاهرية ، تلك هي حقيقة الخالق العليم . بِنا عُرف اللـه [232] . وليس من شك في أن للمسلمين أحظى نصيب من هذا النمط البالغ في سنائه وبهائه حدّ المعجزة الخارقة ، من الأبطال البارعين . فالنبي محمد (ص) وأهل بيته (ع) ، قممٌ لاشك في مجدها وسموقها - لِسِلسلة شاهقة من جبال لا يرقى إليها الطير ، وسامقات متأصلات كانت تحمل هم وشرف الحقيقة وأوتاد صعيد الفكر . ولولاهم لتزلزل وماد ، إذ أنهم سفن محيط الشك الذي لولاهم لغمر كل حي ونزل القعر البعيد .. ومن قمم هذه السلسلة المباركة الإمام علي (ع) الذي هو - بلا ريب - ثاني الرسول العظيم . ومنها الإمام الحسن (ع) الذي حفظ اللـه به الدِّين حين أصلح اللـه به بين فئتين متنازعتين من المسلمين .. ومنها الإمام الحسين (ع) ، الذي استقر في أشمخ وأروع قمة بعد النبي (ص) ، وبعد الوصي (ع) . ولا أُحب أن أفاتحك الحديث قبل أوانه فهذا الكتاب بين يديك سوف نفتح فيه أسرار المعجزة في هذه القمة المجيدة ، وسوف يعالج كل موضوع ، ولو كانت معالجة بتراء ، إلاّ أني آملها معالجة واعية إن شاء اللـه . غير اني أريد أن أقدم شيئاً مما يجب أن أصبر عليه إلى أوانه القريب . لندخل فصول الكتاب في تفتح ذكري بالغ .. وها هو بين يديك : اصبح المسلمون اليوم أحوج إلى النور من أي يوم آخر ، لأنهم أصبحوا وسط زوابع هادرة تلفهم من كل جانب ، في ليل مظلم ، وفي قفر لا يملكون هادياً أو رائداً . قد ظلَّت بهم السبل ، واختلفت في وجههم التيارات ، وهم لا يدرون ما يعملون ؟ أقول ، إنهم اليوم أحوج ما يكونون إلى النور ، في حين أنهم أبعد ما كانوا عنه ، لأنهم - كما نراهم - مجــــردون عن الوعي الكافي الذي يجب أن يكفل غذاءهم الفكري المستمر - في خضم هذه الأفكار الـواردة - فلا يعرفون تعاليم دينهم ، ولا يميزون معالمه الوضيئة التي دلَّت تجارب السنين العديدة على انها الوحيدة من نوعها التي تستطيع أن تنتشل الأمة من قعرها العميق إلى قمتها المأمولة . وإن هذا نموذج حي أريد أن أقدمه إليك - أيها القارئ - هنا ومن خلال السطور التي نمر عليها . وسوف لا أوقفك طويلاً لأمهّد لك ، فلنقطع الحديث للنظر في سطور الكتاب ، لنرى أحفل حياة بالمكرمات الرائعة .
الفصل الأول :الوليــد السعيــد
كان ذلك الفجر آلف وأبهى فجر ، من السنة الثالثة للهجرة ، حيث استقبل بأصابع من نور ، وليداً ما أسعده ، وما أعظمه . في الثالث من شعبان غمر بيت الرسالة نور ، سنيٌّ متألقٌ ، إذ جاء ذلك الوليد المبارك واصطفاه اللـه ليكون امتداداً للرسالة ، وقدوة للأمة ، ومنقذاً للإنسان من أغلال الجهل والعبودية . ولا ريب أننا سوف ننبهر إذا لاحظنا بيت الرسالة وهو يستقبل الوليد الجديد ، فهذا البيت البسيط الذي يستقر على مرفوعته الأولى الرسول ، الجد الرؤوم ، والوالد الحنون . وأتاه الخبر : أنه وُلِدَ لفاطمة (ع) وليد ، فإذا به (ص) يغمره مزيج من السرور والحزن ، ويطلب الوليد بكل رغبة ولهفة !. فماذا دهاك يا رسول اللـه !. بأبي أنت وأمي ، هل تخشى على الوليد نقصاً أو عيباً ؟! كلا .. إن تفكير صاحب الرسالة يبلغ به مسافات أوسع وأبعد مما يفكّر فيه أي رجل آخر ، ومسؤوليته أعظم من مسوؤلية أب أو واجبات جد ، أو وظائف قائد .. إنه مكوِّن أمة ، وصانع تاريخ ، ونذير الخالق تعالى إلى العالمين . إنه يذهب بعيداً في تفكيره الصائب فيقول : لابد للمنية أن توافيه في يوم من الأيام ، ولابد لجهوده أن تفسح أمامها مجالات أوسع مما بلغتها اليوم ، فسوف تكون هناك أمة تدعى ( بالأمة الإسلامية ) تتخذ من شخص الرسول أسوة وقدوة صالحتين . ولابد لهذه الأمة من هداة طاهرين ، وقادة معصومين يهدون الأمة إلى الصراط المستقيم .. إلى اللـه العزيز الحكيم .. وسوف لايكونون - كما أخبرته الرسالة مراراً - إلاّ ذريته هؤلاء ، علي ابن عمه ، وولداه (ع) ، ثم ذُرِّيتهم الطيبة من بعدهم !. ولكن هل تجري الأُمور كما يريدها الرسول في المستقبل ؟. إن وجود العناصر المنحرفة بين المسلمين نذيرٌ لا يرتاح له الرسول (ص) على مستقبل الأمة . وإن الوحي قد نزل عليه غير مرة يخبره بأن المصير الذي رآه الحق المتمثل في شخص الرسول (ص) هو نفس المصير الذي يترقبه الحق المتمثل في آله (ع) ، وأن العناصر التي قاومت الرسالة في عهده سوف تكون نفس العناصر التي تقاوم - بنفس العنف والإصرار - امتداد الرسالة في عهد أبنائه الطيبين صلوات اللـه عليه وعليهم . فقد علم أنه سوف تبلغ الموجة مركزها الجائش ، وسوف يقف أنصار الحق والباطل موقفهم الفاصل في عهد الإمام الحسين (ع) ، هذا الوليد الرضيع الذي يُقلِّب وجهه فيظهر مستقبلُه على ملامح الرسول وهو يضطرب على ساعديه المباركتين . والنبي (ص) يلقي نظرةً على المستقبل البعيد ، ويعرج فيه فيلقي نظرة أخرى على هذا الرضيع الميمون فيهزه البُشر حيناً ، ويهيج به الحزن أحياناً ، ولا يزال كذلك حتى تنهمر من عينيه الوضيئتين دموع ، ودموع ... يبكي رسول اللـه (ص) .. وما أشجعه ، وهو الذي يلوذ بعريشه أشجع قريش وأبسلها ، علي بن أبي طالب (ع) حينما يشتد به الروع ، فيكون أقرب المحاربين إلى العدو ، ثم لايفل ذلك من عزمه ومضائه قدر أنملة ، لكنه الآن يبكي وحوله نسوة في حفلة ميلاد .. فما أعجبه من حادث !.. تقول أسماء فقلت : فداك أبي وأمي ممَّ بكاؤك ؟! قال : على ابني هذا ؟ فقلت : إنه ولد الساعة يا رسول اللـه ؟! فقال : تقتله الأمة الباغية من بعدي . لا أنالهم اللـه شفاعتي [233] . إن القضية التي تختلج في صدر رسول اللـه (ص) ليست عاطفة إنسانية أو شهوة بشرية حتى تغريه عاطفة إعلاء ذكره وبقاء أثره في آله . كلا .. بل هي قضية رسول . اصطفاه اللـه واختاره على علم منه ، بعزمه ومضائه ، وصدقه وإيمانه . قضية مَن تَحمَّل مسؤولية أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال الرواسي .. إنها مسؤولية الرسالة العامة إلى العالمين جميعاً . والحسين (ع) ليس ابنه فقط ، بل هو قدوة وأسوة لمن ينذر من بعده ، فنبأ مصرعه - هو بالذات - نبأ مصرع الحق بالباطل ، والصدق بالكذب ، والعدالة بالظلم ... وهكذا . فيبكي النبيُّ (ص) لذلك ، ويحق له البكاء .. أنها ظاهرة ميلادٍ غريبة نجدها الساعة في بيت الرسالة تمتزج المسرة بالدموع ، والإبتسامة بالكآبة .. فهي حفلة الصالحين تدوم في رحلة مستمرة بين الخوف والرجاء ، والضحك والبكاء . لنصغ قليلاً لنسمع السماء هل تشارك المحتفلين في هذا البيت الهادئ البسيط . نعم . نسمع حفيفاً يقترب ، ونظنه حفيف الملائك ، فإذا بهم ملأوا رحاب البيت . يتقدم جبرئيل (ع) فيقول : يا محمد ! العلي الأعلى يقرؤك السلام ويقول : علي منك بمنزلة هارون من موسى ، ولا نبي بعدك . سمِّ ابنك هذا باسم ابن هارون ؟