الفصل الثالث: مواقف مشرقة - نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

إن نظرة خاطفة لهذه الشروط تهدينا إلى أنها اشتملت على أهم قواعد النظام الإسلامي من دستورية الحكم ( على هدى الكتاب والسنّة ) وشوريّة الحكم . وإنه مسؤول عن توفير الأمن للجميع وبالذات لقيادة المعارضة ، وهم أهل بيت الرسول . وقـد قبل معاوية بهذه الشروط ، مما جعلها أساساً للنظام عند الناس . وقد وجد الإمام بذلك أفضل طريقة لتبصير الناس بحقيقته ، وتأليب أصحاب الضمائر والدين عليه ، حين كان يخالف بعض تلك الشروط .

قد تحمّل الإمام الحسن عناءً كبيراً في إقناع المسلمين بالصلح مع معاوية ، حيث إنّ النفوس التي كانت تلتهب حماساً ، والتي كانت معبأة نفسيّاً ضد معاوية ، كانت تأبى البيعة معه . على أنّ القشريين من طائفة الخوارج كانت ترى كفر من أسلم الأمر إلى معاوية ، وقد قالوا للإمام الحسن (ع) : ( كفر واللـه الرجل ) [217] .

وقد خطب الإمام بعد صلحه مع معاوية في الناس وقال :

أيها الناس إنكم لو طلبتم ما بين جابلقا وجابرسا رجلاً جدّه رسول اللـه (ص) ما وجدتم غيري وغير أخي . وإن معاوية نازعني حقّاً هو لي فتركته لصلاح الأمة ، وحقن دمائها . وقد بايعتموني على أن تسالمــــوا من سالمت ، وقد رأيت أن أُسالمه ، وأن يكون ما صنعت حجةً على مــــن كان يتمنّى هذا الأمــــر ،

وإنْ أَدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين [218] .

ومع ذلك فقد عارضه بعض أفضل أصحابه في ذلك . فقال حجر بن عدي رضوان اللـه عليه له : أما واللـه لَوَددتُ أنك مت في ذلك اليوم ، ومتنا معك ولم نَرَ هذا اليوم ، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا ، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا .

ويبدو أن الإمام كره أن يجيبه في الملأ إلاّ أنه حينما خلا به قال :

يا حجر قد سمعتُ كلامك في مجلس معاوية . وليس كلُّ إنسان يُحب ما تُحب ، ولا رأيه كرأيك ، وإنّي لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاءً عليكم ، واللـه تعالى كلَّ يوم هو في شأن [219] .

وكان سفيان من شيعة أمير المؤمنين والحسن (ع) ، ولكنه دخل على الإمام وعنده رهط من الناس فقال له : السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين .

فقال له : وعليك السلام يا سفيان .

يقول سفيان : فنزلت فعقلت راحلتي ثم أتيته فجلست إليه فقال : كيف قلت يا سفيان ؟

قال : قلت : السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين . واللـه بأبي أنت وأمّي أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة ، وسلّمت الأمر إلى اللعين ابن آكلة الأكباد ، ومعك مئة ألف كلّهم يموت دونك ، وقد جمع اللـه عليك أمر النّاس .

فقال :

يا سفيان إنّا أهل بيت إذا علمنا الحقَّ تمسّكنا به ، وإنّي سمعت عليّاً (ع) يقول : سمعت رسول اللـه (ص) يقول : لا تذهب الأيّام واللّيالي حتّى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم ، ضخم البلعوم ، يأكل ولا يشبع ، لا ينظر اللـه إليه ، ولا يموت حتى لايكون له في السماء عاذر ، ولا في الأرض ناصر ، وإنّه لمعاوية . وإنّي عرفتُ أنّ اللـه بالغ أمره .

ثم أذّن المؤذِّن فقمنا إلى حالب يحلب ناقته فتناول الإناء فشرب قائماً ثمّ سقاني وخرجنا نمشي إلى المسجد فقال لي :

ما جاء بك يا سفيان ؟

قلت : حُبُّكم والذي بعث محمدّاً بالهدى ودين الحق .

قال : فأبشر يا سفيان فإنّي سمعت عليّاً (ع) يقول : سمعت رسول اللـه (ص) يقول : يرد عليَّ الحوض أهل بيتي ومَن أحبّهم من أُمّتي كهاتين - يعني السبّابتين - أو كهاتين - يعني السبابة والوسطى - إحداهما تفضل على الأخرى ، أبشر يا سفيان ، فإنّ الدنيا تسع البرّ والفاجر ، حتّى يبعث اللـه إمام الحقّ من آل محمّد (ص) .

وفي بعض الأحيان كان الإمام الحسن (ع) يصد على أصحابه ببيعة معاوية . فحين دخل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري صاحب شرطة الخميس الذي أسسه الإمام علي (ع) ، دخل على معاوية فقال لــه معاوية : بايع . فنظر قيـــس إلى الحسن (ع) ، فقال : يا أبا محمّد بايعت ؟. فقال له معاوية أما تنتهــــي ؟. أما واللـه إنّي ... [220] .

فقال له قيس : ما شئت . أَمَا واللـه لئن شئت لتناقضت به [221] .

قال : فقام إليه الحسن وقال له : بايع يا قيس ، فبايع [222] .

الفصل الثالث: مواقف مشرقة

الإمام الحسن (ع) يجني ثمار الصلح :

وكان هدف الإمام الحسن (ع) من الصلح فضح معاوية ، وهدم أسس سلطته القائمة على القيم الجاهلية ، وتنظيم صفوف المعارضة من جديد ، واستغلال كل فرصة لبث روح الإيمان والتقوى في ضمائر الناس .

وفيما يلي نذكر بعضاً من مواقف الإمام مع سلطة معاوية التي كانت تهز عرشه ، وتُلهم معارضيه أسلوب مقاومته :

أ - بُعَيْدَ المصالحة صعد معاوية المنبر ، وجمع الناس فخطبهم وقال : إن الحسن بن علي رآني للخلافة أهلاً ، ولم يَر نفسه لها أهلاً ، وكان الحسن (ع) أسفل منه بمرقاة .

فلمّا فرغ من كلامه قام الحسن (ع) فحمد اللـه تعالى بما هو أهله ، ثمّ ذكر المباهلة ، فقال :

فجاء رسول اللـه (ص) من الأنفس بأبي ، ومن الأبناء بي وبأخي ، ومن النساء بأمّي . وكنّا أهله ونحن آله ، وهو منّا ونحن منه .

ولمّا نزلت آية التطهير جمعنا رسول اللـه (ص) في كساء لأُمِّ سلمة رضي اللـه عنها خيبري ثم قال : اللـهمّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي ، فَأذهِبْ عنهم الرِّجسَ وطهّرهم تطهيراً . فلم يكن أحد في الكساء غيري وأخي وأبي وأُمّي ولم يكن أحد تصيبه جنابة في المسجد ويولد فيه إلاّ النبي (ص) وأبي تكرمة من اللـه لنا وتفضيلاً منه لنا ، وقد رأيتم مكان منزلتنا من رسول اللـه (ص) .

وأمر بسدِّ الأبواب فسدَّها وترك بابنا ، فقيل له في ذلك فقال : أَمَا إنّي لم أسدَّها وأفتح بابه ، ولكنَّ اللـه عزَّ وجلَّ أمرني أن أسدَّها وأفتح بابه .

وإنَّ معاوية زعم لكم أنّي رأيته للخلافة أهلاً ، ولم أرَ نفسي لها أهلاً فكذب معاوية ، نحن أولى بالناس في كتاب اللـه عزَّ وجلَّ وعلى لسان نبيه (ص) ، ولم نزل أهل البيت مظلومين ، منذ قبض اللـه نبيه (ص) ، فاللـه بيننا وبين من ظلمنا حقّنا ، وتوثّب على رقابنا ، وحمل الناس علينا ، ومنعنا سهمنا من الفيء ومنع أُمَّنا ما جعل لها رسول اللـه (ص) .

وأُقسم باللـه لو أنَّ الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول اللـه (ص) لأعطتهم السماء قطرها ، والأرض بركتهـــا ، وما طمِعتَ فيها يا معاوية . فلمّا خرجتْ من معدنها تنازعتها قريش بينها ، فطمعتْ فيها الطُّلَقـاء ، وأبناء الطُّلَقاء - أنت وأصحابك - وقد قال رسول اللـه (ص) : ما ولّت أُمّة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا ، فقد تركت بنو إسرائيل هارون وهم يعلمون أنّه خليفة موسى فيهم واتّبعوا السامريَّ ، وقد تركت هذه الأُمّة أبي وبايعوا غيره ، وقد سمعوا رسول اللـه (ص) يقول : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوَّة ، وقد رأَوا رسول اللـه (ص) نصب أبي يوم غدير خم وأمرهم أن يبلّغ الشاهد منهم الغائب .

وقد هرب رسول اللـه (ص) من قومه ، وهو يدعوهم إلى اللـه تعالى حتّى دخل الغار ، ولو وجد أعواناً ما هرب ، وقد كفَّ أبي يده حين ناشدهم ، واستغاث فلم يُغَثْ فجعل اللـه هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه ، وجعل اللـه النبيَّ (ص) في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعواناً . وكذلك أبي وأنا في سعة من اللـه حين خذلتنا هذه الأمة ، وبايعوك يا معاوية . وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً .

أيها الناس : إنكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب ، أن تجدوا رجلاً ولده نبيّ غيري وأخي لم تجدوا ، وإنّي قد بايعت هذا وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين [223] .

ب - ومرة أخرى صعد معاوية المنبر ونال من أمير المؤمنين فتحداه الإمام الحسن (ع) بما فضحه أمام الملأ . تقول الرواية :

بعد أن تمت المصالحة سار معاوية حتّى دخل الكوفة فأقام بها أيّاماً فلمّا استتمّت البيعة له من أهلها صعد المنبر ، فخطب الناس وذكر أمير المؤمنين (ع) ونال منه ، ونال من الحسن (ع) ما نال ، وكان الحسن والحسين (ع) حاضرَين ، فقام الحسين (ع) ليردَّ عليه ، فأخذ بيده الحسن (ع) فأجلسه ، ثمَّ قام فقال :

ايّها الذاكر عليّاً ، أنا الحسن وأبي عليٌّ ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأُمي فاطمة وأُمّك هند ، وجدّي رسول اللـه (ص) وجدُّك حرب ، وجدَّتي خديجة وجدَّتك قتيلة ، فلعن اللـه أخملنا ذكراً وألأَمنا حَسَباً ، وَشرنا قَدماً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً . فقالت طوائف من أهل المسجد : آمين آمين [224] .

ج - وفي الشام حيث رَكَّز معاوية سلطته خلال عشرات السنين . ولفقَ أكاذيب على الإسلام حتى كاد يخلق للناس ديناً جديداً . وقف الإمام الحسن المجتبى (ع) يعارض نظامه الفاسد ، ويبيِّن أنه وخطه الأولى بالقيادة . يقصّ علينا التاريخ الحادثة التالية :

رُوي أنَّ عمرو بن العاص قال لمعاوية : إنَّ الحسن بن علي رجل عَيِيٌّ ، وإنه إذا صعد المنبر ورمقوه بأبصارهم خجل وانقطع ، لو أذنت له . فقال معاوية : يا أبا محمّد لو صعدت المنبر ووعظتنا !. فقام فحمد اللـه وأثنى عليه ، ثمَّ قال :

مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن عليّ ، وابن سيدّة النّساء فاطمة بنت رسول اللـه (ص) . أنا ابن رسول اللـه ، أنا ابن نبيِّ اللـه ، أنا ابن السراج المنير ، أنا ابن البشير النّذير ، أنا ابن من بُعث رحمة للعالمين ، أنا ابن من بُعث إلى الجنِّ والإنس ، أنا ابن خير خلق اللـه بعد رسول اللـه ، أنا ابن صاحب الفضائل ، أنا ابن صاحب المعجزات والدّلائل ، أنا ابن أمير المؤمنيـن ، أنا المدفوع عن حقّي، أنا واحدُ سَيِّدَي شباب أهل الجنّة ، أنا ابن الُّركن والمقام ، أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن المشعر وعرفات .

فاغتاظ معاوية وقال : خذ في نعت الرُّطب ودعْ ذا ، فقال : الرِّيح تنفخه والحرُّ ينضجه ، وبرد اللّيل يطيّبه ، ثمَّ عاد فقال :

أنا ابن الشفيع المطاع ، أنا ابن من قاتل معه الملائكة ، أنا ابن من خضعت له قريش ، أنا ابن إمام الخلق وابن محمّد رسول اللـه (ص) .

فخشي معاوية أن يفتتن به النّاس ، فقال : يا أبا محمّد انزل فقد كفى ما جرى . فنزل فقال له معاوية : ظننتَ أن ستكون خليفة ، وما أنت وذاك ، فقال الحسن (ع) :

إنّما الخليفة ممن سار بكتاب اللـه ، وسنّة رسول اللـه ، ليس الخليفة من سار بالجور وعطّل السنّة ، واتّخذ الدُّنيا أباً وأُمّاً ، ملك ملكاً مُتّع به قليلاً ، ثمَّ تنقطع لذَّته ، وتبقى تَبِعَتُه .

وحضر المحفل رجل من بني أُمية وكان شاباً فأغلظ للحسن كلامه ، وتجاوز الحدَّ في السبِّ والشتم له ولأبيه . فقال الحسن (ع) : اللـهمَّ غيّر ما به من النّعمة واجعله أُنثى ليُعتبر به ، فنظر الأمويُّ في نفسه وقد صار امرأة قد بدَّل اللـه له فرجه بفرج النّساء وسقطت لحيته ، فقال الحسن (ع) : أُعْزُبي ! مالكِ ومحفل الرِّجال ؟ فإنّكِ امرأة .

ثمَّ إنَّ الحسن (ع) سكت ساعة ، ثمَّ نفض ثوبه ونهض ليخرج ، فقال ابن العاص : اجلس فانّي أسألك مسائل . قال (ع) : سل عمّا بدا لك ، قال عمرو : أخبرني عن الكرم والنجدة والمروءة ، فقال (ع) :

أمّا الكرم فالتبرُّع بالمعروف والإعطاء قبل السؤال . وأما النجدة فالذَّبُّ عن المحارم ، والصّبر في المواطن عند المكاره . وأما المروءة فحفظ الرجل دينه ، وإحرازه نفسه من الدنس ، وقيامه بأداء الحقوق وإفشاء السلام .

فخرج ( الإمام الحسن عليه السلام ) فعذل معاوية عمراً . فقال : أفسدت أهل الشام . فقال عمرو : إليك عنّي . إن أهل الشام لم يحبوك محبة إيمان ودين . إنّما أحبوك للدنيا ينالونها منك ، والسيف والمال بيدك ، فما يغني عن الحسن كلامه .

ثم شاع أمر الشاب الأموي ، وأتت زوجته إلى الحسن فجعلت تبكي . وتتضرع فرقَّ لها ودعا فجعله اللـه كما كان [225] .

إلى المدينة :

وهكذا ظل الإمام في الكوفة شهوراً ، ثم ارتحل عنها وارتحل معه كلّ الخير . ففي نفس الأيام التي خرج الإمام عنها ، حلّ بها طاعون فمات الكثير من أهلها ، حتى أن واليها ( المغيرة بن شعبة ) أُصيب به فمات .

فلما بلغ المدينة ، خف أهلها يستقبلونه أحرّ الإستقبال . وظل هناك يقود حرباً باردة ضد معاوية ومؤامراته على المسلمين ، حتى كانت السنة حيث وفد إلى الشام عاصمة الخلافة الإسلامية ، فراح يبلّغ عن دعوته التي خُلق لها وخرج بها ، وعاش معها ، تلك دعوة الحق ، ومحق الباطل . ولقد أظهر الإمام في تلك الرحلة الرسالية ، لأهل الشام ، أن معاوية ليس بالذي يصلح للقيادة ، على ما موَّه عليهم بدعاياته المضللة ، فهو يرجع بهم إلى الجاهلية حيث كان أبوه يستعبد الناس ويستنزف جهودَهم وطاقاتهم ، ولا يهمه بعد ذلك أَسَعِدُوا أم شقوا .

وليس من العجب أن نرى كلّ من التفَّ حول معاوية ودافع عن أفكاره ونصب نفسه لدعوته ، كان من قبل قد التف هو أو أسرته حول ابي سفيان ودافع عن أفكاره . فلا زال معاوية يقود الحزب الأموي الذي قاده من قبل والده أبو سفيان ، بذات المفاهيم والعادات والسلوكيات . كما أنه لا يثير العجب إذا رأينا في صف الإمام الحسن (ع) ثلة صالحة ممن كان قبل أيام يناضل أبا سفيان وحزبه دفاعاً عن قيم الرسالة .

والواقع أن حركة معاوية كانت ردّ فعل جاهلي ضد انتشار رسالة الإسلام وكانت على صلة تامة بالروم .

وكان يعتمد معاوية على أشخاص مثل عمرو بن العاص ، وزياد بن أبيه ، وعتبة بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، ونظائرهم ممن لاتزال صورهم أو صور أسرهم تتراءى لنا ، في ميادين بدر والخندق، كما كان يعتمد على النصارى الذين أصبحت لهم قوة لا يُستهان بها داخل الدولة الأموية . وإن معاوية كان يجتمع كلّ مساء بمن يقرأ عليه أخبار الحروب السابقة وخصوصاً تجارب الروم في الحروب السياسية فيستفيد منها .

من هنا نعرف أن الحرب بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، أو نجله الإمام الحسن (ع) وبين معاوية ، لم تكن صراعاً مجرداً على السلطة ولا صراعاً بين حزبين داخل الإطار الإسلامي ، بل كان صراعاً بين الكفر المبطن والإسلام الحق . ولذلك اتبع الإمام الحسن (ع) نهجاً خاصاً في مواجهة الصراع ، وهو نهج الدعوة الصريحة ، حيث سافر إلى الشام ، عاصمة الخلافة ، كي يُقر حقّاً نذر له نفسه ، ومن الطبيعي أن أهل الشام سوف يلتفتون إليه بعد أن كان رئيس الحركة المناوئة لدولتهم ، وقائد الحرب المعارض لسياستهم . ولابد أن يفد منهم خلق كثير ، فهنالك يستطيع أن يبلِّغ دعوته وينشر من علومه ما يدكّ صرح معاوية السياسي وينسف أحلامه الجاهلية .

وإن صفحات التاريخ تطالعنا بكثير من خطبه التي ألقاها على أهل الشام ، فأثر في نفوسهم أبلغ تأثير ، ولـــم يزل كذلك حتى اشتكــــاه أنصار معاوية قائلين له إن الحســــن قد أحيا أباه وَذِكْره ، وقال فصُدِّق ، وأمــــر

فأُطيع ، وخفقت له النعال ، وإن ذلك لرافعة إلى ما هو أعظم منه ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا .

سياسته في عهد معاوية :

وهكذا قاد الإما الحسن المجتبى (ع) معارضة سياسية قوية ، ولكن من دون الحرب . وكان يوجه شيعته هنا وهناك ، وينظم صفوفهم ، وينمي كفاءاتهم ، ويدافع عنهم أمام بطش معاوية وكيده . وفي ذات الوقت كان (ع) يقوم بنشر الثقافة الإسلامية في كافة البلاد ، إما عن طريق الرسائل والموفودين من تلامذته البارعين الذين كان يتكفل أمورهم المادية والمعنوية ثم يبعثهم إلى الآفاق ، أو عبر الخطب التي كان يلقيها في مواسم الحج وغيرها ، فيملك ناحية الأمة ويستأثر بقيادتها الثقافية . ومن ذلك أيضاً ، نستطيع أن ندرك سر اختياره المدينة المنورة كوطن دائم له ، حيث كان فيها من الأنصار وغيرهم ممن يقدر على إرشادهم وتوجيههم ، وبذلك يستطع أن يشقّ طريقه إلى إرشاد الأمة وتوجيهها ، حيث كان الأنصار وأولادهم هم القدوة الفكرية للأمة ، فمَن ملك قيادة الأنصار ملك قيادة الأمة فعلاً .

الشهادة : العاقبة الحسنى

لقــد دعت سياسة الإمام الرشيدة ومكانته المتنامية في الأمة معاوية إلى أن يشك في قدرته على مناوأته، واستئثاره - من ثم - بقيادة الأمة ، حيث إنه ما خطى خطوة تُالف قِيَمَ الحق أو مصالح الأمة ، إلاّ وعارضه الإمام واتَّبعته الأمة في ذلك ، ففشلت مساعي معاوية وخابت آماله ، فدبَّر حيلة كانت ناجحة إلى أبعد الحدود ، تلك هي الفتك بحياة الإمام (ع) عن طريق سمٍّ بعثه إلى زوجته . وقد سبق القول : في أن منطق معاوية كان يبرّر له كلّ جريمة ، وكان له جنود من عسل على حدّ تعبيره ، فإذا كره من فرد شيئاً بعث إليه عسلاً ممزوجاً بالسمّ فيقتله بذلك .

وقد جعل مثل ذلك بالإمام الحسن (ع) مرات عديدة ، فلم يؤثر فيه ، وباءت مساعيه بالفشل . إلا أنه ذات مرة بعث إلى عاهل الروم يطلب منه سمّاً فتَّاكاً ، فقال ملك الروم : إنه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا ، فراسله معاوية يقول : إن هذا الرجل هو ابن الذي خرج بأرض تهامة - يعني رسول اللـه (ص) - خرج يطلب ملك أبيك ، وأنا أُريد أن أدس إليه السمّ ، فأريح منه العباد والبلاد .

فبعث ملك الروم إلى معاوية بالسمّ الفتاك الذي دسه إلى الإمام (ع) عن طريق جعدة الزوجة الخائنة التي كانت تنتمي إلى أسرة فاجرة ، حيث اشترك أبوها في قتل أمير المؤمنين وأخوها في قتل الإمام الحسين ( عليهما السلام ) فيما بعد .

وفي ذلك النهار حيث كان قد مضى أربعون يوماً أو ستون على سقيه السمّ ، وقد أتمَّ وصاياه التي أوصى بها إلى أخيه الإمام الحسين (ع) ، وعلم باقتراب أجله ، فكان يبتهل إلى اللـه تعالى قائلاً :

اللـهمّ إني أحتسب عندك نفسي ، فإنها أعز الأنفس عليّ لم أُصَب بمثلها . اللـهمَّ آنس صرعتي ، وآنس في القبر وحدتي ، ولقد حاقت شربته ( أيّ معاوية ) . واللـه ما وفيَ بما وعد ، ولا صدق فيما قال .

وكان يتلو آياتٍ من الذِّكْرِ الحيكم حين التحق بالرفيق الأعلى سلام اللـه عليه .

التشييع :

وقامت المدينة المنورة لتشيع جثمان ابن بنت رسول اللـه (ص) الذي لم يزل ساهراً على مصالحهم قائماً بها أبداً . وجاء موكب التشييع يحمل جثمانه الطاهر إلى الحرم النبويِّ ليدفنوه عند الرسول ، أو ليجددوا العهد معه على ما كان قد وصَّى به الإمام ، فركبت عائشة بغلة شهباء واستنفرت بني أمية وجاؤوا إلى الموكب الحافل بالمهاجرين والأنصار وبني هاشم وسائر الجماهير المؤمنة الثاوية في المدينة ، فقالت عائشة تصيح : يا رُبَّ هيجاء هي خير من دعة !. أيُدفن عثمان بأقصى المدينة ويدفن الحسن عند جدِّه .

ثم صرخت في الهاشميين ، نحّوا ابنكم واذهبوا به فإنكم قوم خصمون ..

ولولا وصية من الحسن (ع) بالغة على الحسين (ع) ، أَلاَّ يُراق في تشييعه ملء محجمةِ دمٍ ، لَمَا ترك بنو هاشم لبني أمية في ذلك اليوم كياناً . ولولا أن الحسين نادى فيهم : اللـه اللـه يا بني هاشم ، لا تضيّعوا وصية أخي ، واعدلوا به إلى البقيع ، فإنه أقسم عليَّ ان أنا مُنعت من دفنه عند جدِّه إذاً لا أُخاصم فيه أحداً ، وأن أدفنه في البقيع مع أُمّه . هذا ، وقبل أن يعدلوا بالجثمان ، كانت سهام بني أمية قد تواترت على جثمان السبط وأخذت سبعين سهماً مأخذها منه .

فراحوا إلى البقيع وقد اكتظ بالناس فدفنوه حيث الآن يُزار مرقده الشريف .

وهكذا عاش السبط الأكبر لرسول اللـه (ص) ، نقياً طاهراً مقهوراً مهتضماً ، ومضى شهيداً مظلوماً محتسباً ، فسلام اللـه عليه ما بقي الليل والنهار .

الفصل الرابع :مكارم الأخلاق

أ - العابد الزاهد :

1- حجَّ الإمام الحسن (ع) خمساً وعشرين مرةً ماشياً ، والنجائب تقاد من بين يديه . وكلما مرَّت به طائفة صعقت وخفت بالنزول إجلالاً لسموِّه وكبير مكانته . فلم يزل حتى يعدل بطريقه عن الشارع العام ، ليبلغ في تذلله للخالق كلّ مبلغ .

2- وكان إذا ذكر اللـه عزَّ وجلَّ بكى ، وإذا سُمِّي لديه القبر بكى ، وإذا قيل في البعث شيء بكى ، وإذا ذُكِّر بالصراط في المعاد بكى . وأما إذا ذُكر لديه العَرض الأكبر إذ الخلائق بين يدَي اللـه القدير ، كلٌ ينظر في شأنه ، ولهم شؤون تغنيهم عن الآخرين ، فهناك شهق شهقة وغشي عليه خوفاً وذعراً .

أما إذا حدَّث بالجنة والنار اضطرب اضطراب السليم ، وسأل اللـه الجنة واستعاذ به من النار .

وإذا توضـــأ فإنه كان يصفرُّ لونُه وترتعدُ فرائصُه ، فإذا قام إلى الصلاة اشتد اصفرار لونه وارتعاد فرائصـه .

3- وأما أمواله فقد قاسَمَ اللـه فيها ثلاثَ مرات ، نصفاً بذل ونصفاً أبقى . وقد خرج من ماله كله مرتين في سبيل اللـه ، فلم يبقَ له شيء إلا أعطاه في سبيل اللـه .

4- ولا تمر عليه حال من الأحوال إلاّ ذكر اللـه عزّ وجلّ رغَباً ورهَباً .

5- أما ما قال فيه معاصروه ، فقد قالوا : وكان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم بالدنيا .

ولقد أفرد بعض الكتّاب الأولين ، موضوع زهد الإمام الحسن (ع) في مجلد خاص ، مثل محمد بن علي بن الحسين بن بابويه المتوفي سنة 381 في كتابه ( كتاب زهد الحسن عليه السلام ) .

ب - المهيب الحبيب :

1- قال واصفوه : ما رآه أحد إلاّ هابه ، وما خالطه إنسان إلاّ أحبّه ، ولا سمعه عدوٌ له أو صديقٌ خاطباً فاجترأ عليه بالتكلم واللغو . وقالوا في شمائله أيضاً : لم يكن أحد أشبه برسول اللـه (ص) من الحسن بن علي (ع) ، خلقاً وخُلقاً وهيئة وهدياً وسؤدداً .

وقالــوا كذلك : كــان أبيــض اللــــون مُشْربــاً بحمــرة ، أدعــج العينيــن [226] سهـــل الخدَّيــــن [227] كَثَّ

اللحية [228] جَعْد الشعر [229] كأنَّ عنقه إبريق فضة ، حسن البدن ، بعيد ما بين المنكبَين ، عظيم الكراديس [230] رقيق المرية [231] ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير ، مليحاً من أحسن الناس وجهاً .

2- كـــان الإمام (ع) ، محبوباً لدى الجميع ، يكرمه البعيد والقريب سواء ، ومن مظاهر محبوبيته العامة ، أنه كان يفرش له بباب داره في المدينة ، يجلس يقضي حوائج الناس ويحل مشاكلهم ، فكلّ من يمرّ به يقف هنيئة يسمع حديثه ، ويرى شمائله ويتزود بها من شمائل الرسول الأكرم وملامحه (ص) ، فلا يزال حتى ينسد الطريق دون المّارة . فإذا عرف الإمام ذلك قام ودخل لكي لا يسبب قطع الطريق .

3- وقال فيه محمد بن إسحاق : ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول اللـه (ص) ، ما بلغ الحسن بن علي .

4- وقال فيه الزبير : واللـه ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي .

5- وكان ابن عباس يأخذ بركاب الحسن والحسين على عادة من يريد أن يبالغ في تواضعه إلى أحد ، ويعرف الناس مدى خضوعه لسموِّه ، فإنه كان يقود له الراحلة كالذي يُستأجر لذلك بالمال . فكان ابن عباس يصنع ذلك للحسين ، فرآه ذات مرة مدرك بن زياد ، فاندهش إذ رأى شيخ المفسرين يصنع هذا الإكرام بالحسين ، فقال أنت أسنّ منهما تُمسك لهما بالركاب . فصاح ابن عباس في وجهه : يالكع !! وما تدري من هذان ؟. هذان ابنا رسول اللـه . أوليس مما أنعم اللـه عليّ به أن أُمسك لهما وأسوِّي عليهما ؟.

6- وقد سبق أنَّه إذا امتطى الصحراء إلى مكة ماشياً ، ورآه ملأ من المسلمين نزلوا يمشون إلى جنبه ولا يركبون حتى يعدل عنهم .

ج - الجواد الكريم :

1- أتاه رجل يطلب حاجة وهو يستحيي من الحاضرين أن يفصح عنها ، فقال له الإمام : اكتب حاجتك في رقعة وارفعها إلينا . فكتب الرجل حاجته ورفعها . فضاعفها له الإمام مرتين ، وأعطاه في تواضع كبير .

فقال له بعض الشاهدين ما كان أعظم بركة الرقعة عليه ، يابن رسول اللـه !. فقال : بركتها إلينا أعظم حين جعلنا للمعروف أهلاً ، أما علمت : إن المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة . فأمَّا مَن أعطيته بعد مسألة فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه . وعسى أن يكون بات ليلته متململاً أرقا ، يميل بين اليأس والرجاء ليعلم بما يرجع من حاجته أبكآبة ردّ ، أم بسرور النجح ، فيأتيك وفرائصه ترعد ، وقلبه خائف يخفق ، فإن قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه فإن ذلك أعظم مما ناله من معروفك .

2- وجاءه رجل يسأل معروفاً، فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار، وقال له : إئت بحمّال لك،

فأتى بحمال فأعطاه طيلسانه وقال هذا كرى الحمّال .

3- وجاءه أعرابي يريد أن يسأله حاجة ، فقال الإمام لمن حوله : أعطوه ما في الخزينة . فوجد فيها عشرون ألف درهم ، فدفعت إليه قبل أن يسأل . فاندهش الأعرابي وقال : يا مولاي ألاّ تركتني أبوح بحاجتي وأنشر مدحتي ، فأنشأ الإمام يقول :

نحـــــــــــنُ أنـــــــــــــــاسٌ نـــــــــــوالـــــــــنـــــــــــا خضـــــــــــــــــــــــــــلٌ يــــــرتـــــــــــــــعُ فــــيـــــــــــــــه الرجــــــــــاءُ والأمــــــــــــــــــــــلُ

تجـــــــــــــــــــودُ قبـــــــــــــــلَ السـّـــــــــــــؤالِ أنــــــــــــــفسُنـــــــــــــــا خوفــــــاً علــــــــــى مــــاء وجْــــــــــهِ مَــــــن يَســــــــــــــَلُ

4- وحجّ ذات سنة هو وأخوه الإمام الحسين (ع) ، وعبد اللـه بن جعفر ، ففاتتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا ، فرأوا عجوزاً في خباء فاستسقوها فقالت هذه الشويهة ، أحلبوها واستطعموها ، فذبحت لهم شاتها وشوتها ، فلما طعموا قالوا لها : نحن نفر من قريش ، نريد هذا الوجه ، فإذا عدنا فَمُرِّي بنا ، فإنا صانعون بك خيراً . ثم مضت بها الأيام وأضرت بها الحال ، فرحلت حتى وصلت المدينة المنورة . فرآها الحسن (ع) ، فعرفها فقال لها : أتعرفينني ؟. قالت : لا . قال : أنا ضيفك يوم كذا وكذا . فأمر لها بألف شاة وألف دينار ، وبعث بها إلى الحسين (ع) ، فأعطاها مثل ذلك ثم بعثها إلى عبد اللـه بن جعفر ، فأعطاها مثل ذلك .

5- وتنازع رجلان ، هذا أموي يقول : قومي أسمح ، وهذا هاشمي يقول : بل قومي أسمح .

فقال أحدهما : فاسألْ أنت عشرة من قومك ، وأنا أسأل عشرة من قومي ، يريد أن يسأل كلٌّ عطاء عشرة من قومه ، فينظروا أيّ القومين أسخى وأسمح يداً . ثم إذا عرفوا ذلك أرجع كلّ منهما الأموال إلى أهلها ، كلّ ذلك شريطة أن لا يخبرا من يسألاه بالأمر .

فانطلق صاحب بني أمية فسأل عشرة من قومه فأعطاه كلّ واحد منهم ألف درهم . وانطلق صاحب بني هاشم إلى الحسن بن علي فأمر له بمائة وخمسين ألف درهم ، ثم أتى الحسين فقال : هل بدأت بأحد قبلي ؟ قال : بدأت بالحسن ، قال : ما كنت أستطيع أن أزيد على سيدي شيئاً ، فأعطاه مائة وخمسين ألفاً من الدراهم ، فجاء صاحب بني أمية يحمل عشرة آلاف درهم من عشرة أنفس وجاء صاحب بني هاشم يحمل ثلاثمائة ألف درهم من نفسَين ، فغضب صاحب بني أمية ، حيث رأى فشله في مبادراته القبلية .

فردّ الأول حسب الشرط ما كان قد أخذه من بني أمية فقبلوه فَرحِين ، وجاء صاحب بني هاشم الحسن والحسين يردّ عليهما أموالهما فأبيا أن يقبلاهما قائلين : ما نبالي أخذتها أم ألقيتها في الطريق .

د - المتواضع الحليم :

1- مرّ بطائفة من الفقراء جلوساً على كسيرات من الرغيف يأكلونها ، فلما رأوا موكب الإمام قاموا إليه ، ودعــــوه إلى طعامهم قائلين هلّم يابن رسول اللـه إلى الغداء ، فنزل وهو يقول : إن اللــه لايحب المتكبريــــن وجعل يأكل معهم ثم دعاهم إلى ضيافته فأطعمهم وكساهم .

2- وعصفت به ظروف عصيبة أن لو مرت على الجبال لتدكدكت ، وازدحمت فوق كتفيه مسؤوليات عظيمة فاضطلع بها وتغلب على صعابها في حلم وأناة ، مما دفع أشدّ الناس عداوة له - وهو مروان - إلى أن يقول : كان من حلمه ما يوازن به الجبال . وكانت صفة الحلم أبرز سماته (ع) ، حيث كان يشبّه فيها بالنبي (ص) .

الفصل الخامس : من بلاغة الإمام

1- لا جبر ولا تفويض :

مــن لا يؤمن باللـه وقضائه وقدره فقد كفر ، من حمل ذنبه على ربه فقد فجـر . إن اللـه لايُطـــاع استكراهــاً ، ولا يعطي لغلَبه ، لأنه المليك لما ملَّكهم ، والقادر على ما أقدرهم . فإن عملوا بالطاعة لم يَحُلْ بينهم وبين ما فعلوا ، فإذا لم يفعلوا فليس هو الذي يجبرهم على ذلك . فلو أجبر اللـه الخلق على الطاعة لأسقط عنهم الثواب ، ولو أجبرهم على المعاصي لأسقط عنهم العقاب . ولو أنه أهملهم لكان عجزاً في القدرة . ولكنْ له فيهم المشيئة التي غيَّبها عنهم ، فإن عملوا بالطاعات كانت له المنّة عليهم ، وإن عملوا بالمعصية كانت له الحجة عليهم .

2- الموت يطلبك :

يا جنادة ، استعدَّ لسفرك ، وحصّل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك . ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه ، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك . واعلم أن الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب ، وفي الشبهات عتاب ، فَأَنزِلِ الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك ، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيه ، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر ، فأخذت منه كما أخذت من الميتة ، وان كان العقاب فالعقاب يسير . واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً . وإذا أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية اللـه ، إلى عزّ طاعة اللـه عزَّ وجلَّ . وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة ، فاصحب مَن إذا صحبته زانك ، وإذا أخذت منه صانك ، وإذا أردت منه معونة أعانك ، وإن قلت صدَّقك ، وإن صلت شدّ صولتك ، وإن مددت يدك بفضل مدّها ، وإن بدت منك ثلمة سدّها ، وإن رأى منك حسنة عدّها ، وإن سألته أعطاك ن وإن سكتَ عنه ابتداك ، وإن نزلتْ بك إحدى الملمات واساك ، مَن لا تأتيك منه البوائق ، ولا تختلف عليك منه الطرائق ، ولا يخذلك عند الحقائق ، وإن تنازعتما منقسماً آثرك .

من حكمته البالغة :

1- المزاح يأكل الهيبة . وقد أكثر من الهيبة الصامت .

2- المسؤول حرّ حتى يَعِدّ ومسترق بالوعد حتى ينجز .

3- اليقين معاذ السلامة .

4- رأس العقل معاشرة الناس بالجميل .

5- القريب من قرَّبته المودة وإن بعد نسبه ، والبعيد من باعدته المودة وإن قرب نسبه . فلا شيء أقرب من يد إلى جسد ، وإن اليد تفل فتقطع وتحسم .

6- الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود .

7 - لئــــــن ساءنـــــــي الدنيــــا عـــزمـــــتُ تَصَبُّـــــراً و كـــــــــــــــلُّ بـــــــــــــــلاءٍ لا يــــــــــــــدوم يســـــــــــــــيـــــــرُ

و إن ســــــرّنــــــــــــي لــــــــــــــم أبتهـــــــــــج بســــــــــــــــــروره و كــــــــــــــــلّ ســـــــــــــــــرورٍ لا يـــــــــــــــــــدوم حقيــــــــــــــــرُ

8- يـــــا أهــــــــلَ لـــــذاتِ دنيــــــــــاً لا بقـــــــــــــاء لهــــــا إنَّ المقـــــــاــــــــــــــمَ بظـــــــــــــــــــــــلٍّ زائــــــــــــلٍ حَمــــــَقُ

9- لكســـرة مـــن خسيــس الخـبـز تُشبعنـــي وشربـــــــــــة مـــــــــــــن قـــــــــــــراح المـــاء تكفينــــــــي

وطــــــــــــــــــرة مـــــــــــــــــن دقيـــــق الـــثـــوب تسـتــرنـــي حيّــــــــــــــاً وإن مـــــــــــــت تكفينــــــي لتكفينـــــــــــــي

10- إذا مــا أـتــانــي ســائــل قلـــت مـــرحـــــــــــبـــــــاً بمَـــن فــــضلـــــهُ فــــــــــــــرضٌ علـــــــيّ معجــــــــــــــلُ

ومـــــــن فضلــــــــــه فضـــــــــــلٌ علـــــى كـــــــــلِّ فاضـــــلِ و أفضــــــــــــــــلُ أيــــــــــــــــامِ الفتـــــــى حيـــــن يُســـألُ

تاريخ الانتهاء من التأليف 3 / 10 / 1386 هـ

وأنا أشكر اللـه الكريم على ذلك ..

الامــام الحسيــن ( عليه السلام )

قدوة وأسوة

تمهيـــد

انبعث من ضمير الإنسانية رجال ، كانوا المعجزة في أقرب مفاهيمها ، وأصدق معاييرها ، وفي أسنى تألقها ، وأبهى تجليها .

لا شك في أنها كانت آية ظاهرة ، تهدي إلى قوة قاهرة وراء الغيب لتنير الكون ، وتدفعه إلى سُبله المستقيمة ، تدعو إلى التصديق الواعي ، بحقيقة أخرى غير هذه المادة ، وغير ملابساتها الظاهرية ، تلك هي حقيقة الخالق العليم .

بِنا عُرف اللـه [232] .

وليس من شك في أن للمسلمين أحظى نصيب من هذا النمط البالغ في سنائه وبهائه حدّ المعجزة الخارقة ، من الأبطال البارعين .

فالنبي محمد (ص) وأهل بيته (ع) ، قممٌ لاشك في مجدها وسموقها - لِسِلسلة شاهقة من جبال لا يرقى إليها الطير ، وسامقات متأصلات كانت تحمل هم وشرف الحقيقة وأوتاد صعيد الفكر . ولولاهم لتزلزل وماد ، إذ أنهم سفن محيط الشك الذي لولاهم لغمر كل حي ونزل القعر البعيد ..

ومن قمم هذه السلسلة المباركة الإمام علي (ع) الذي هو - بلا ريب - ثاني الرسول العظيم .

ومنها الإمام الحسن (ع) الذي حفظ اللـه به الدِّين حين أصلح اللـه به بين فئتين متنازعتين من المسلمين ..

ومنها الإمام الحسين (ع) ، الذي استقر في أشمخ وأروع قمة بعد النبي (ص) ، وبعد الوصي (ع) .

ولا أُحب أن أفاتحك الحديث قبل أوانه فهذا الكتاب بين يديك سوف نفتح فيه أسرار المعجزة في هذه القمة المجيدة ، وسوف يعالج كل موضوع ، ولو كانت معالجة بتراء ، إلاّ أني آملها معالجة واعية إن شاء اللـه .

غير اني أريد أن أقدم شيئاً مما يجب أن أصبر عليه إلى أوانه القريب . لندخل فصول الكتاب في تفتح ذكري بالغ .. وها هو بين يديك :

اصبح المسلمون اليوم أحوج إلى النور من أي يوم آخر ، لأنهم أصبحوا وسط زوابع هادرة تلفهم من كل جانب ، في ليل مظلم ، وفي قفر لا يملكون هادياً أو رائداً . قد ظلَّت بهم السبل ، واختلفت في وجههم التيارات ، وهم لا يدرون ما يعملون ؟

أقول ، إنهم اليوم أحوج ما يكونون إلى النور ، في حين أنهم أبعد ما كانوا عنه ، لأنهم - كما نراهم - مجــــردون عن الوعي الكافي الذي يجب أن يكفل غذاءهم الفكري المستمر - في خضم هذه الأفكار الـواردة - فلا يعرفون تعاليم دينهم ، ولا يميزون معالمه الوضيئة التي دلَّت تجارب السنين العديدة على انها الوحيدة من نوعها التي تستطيع أن تنتشل الأمة من قعرها العميق إلى قمتها المأمولة .

وإن هذا نموذج حي أريد أن أقدمه إليك - أيها القارئ - هنا ومن خلال السطور التي نمر عليها .

وسوف لا أوقفك طويلاً لأمهّد لك ، فلنقطع الحديث للنظر في سطور الكتاب ، لنرى أحفل حياة بالمكرمات الرائعة .

الفصل الأول :الوليــد السعيــد

كان ذلك الفجر آلف وأبهى فجر ، من السنة الثالثة للهجرة ، حيث استقبل بأصابع من نور ، وليداً ما أسعده ، وما أعظمه .

في الثالث من شعبان غمر بيت الرسالة نور ، سنيٌّ متألقٌ ، إذ جاء ذلك الوليد المبارك واصطفاه اللـه ليكون امتداداً للرسالة ، وقدوة للأمة ، ومنقذاً للإنسان من أغلال الجهل والعبودية .

ولا ريب أننا سوف ننبهر إذا لاحظنا بيت الرسالة وهو يستقبل الوليد الجديد ، فهذا البيت البسيط الذي يستقر على مرفوعته الأولى الرسول ، الجد الرؤوم ، والوالد الحنون .

وأتاه الخبر : أنه وُلِدَ لفاطمة (ع) وليد ، فإذا به (ص) يغمره مزيج من السرور والحزن ، ويطلب الوليد بكل رغبة ولهفة !.

فماذا دهاك يا رسول اللـه !. بأبي أنت وأمي ، هل تخشى على الوليد نقصاً أو عيباً ؟!

كلا .. إن تفكير صاحب الرسالة يبلغ به مسافات أوسع وأبعد مما يفكّر فيه أي رجل آخر ، ومسؤوليته أعظم من مسوؤلية أب أو واجبات جد ، أو وظائف قائد .. إنه مكوِّن أمة ، وصانع تاريخ ، ونذير الخالق تعالى إلى العالمين .

إنه يذهب بعيداً في تفكيره الصائب فيقول : لابد للمنية أن توافيه في يوم من الأيام ، ولابد لجهوده أن تفسح أمامها مجالات أوسع مما بلغتها اليوم ، فسوف تكون هناك أمة تدعى ( بالأمة الإسلامية ) تتخذ من شخص الرسول أسوة وقدوة صالحتين .

ولابد لهذه الأمة من هداة طاهرين ، وقادة معصومين يهدون الأمة إلى الصراط المستقيم .. إلى اللـه العزيز الحكيم ..

وسوف لايكونون - كما أخبرته الرسالة مراراً - إلاّ ذريته هؤلاء ، علي ابن عمه ، وولداه (ع) ، ثم ذُرِّيتهم الطيبة من بعدهم !.

ولكن هل تجري الأُمور كما يريدها الرسول في المستقبل ؟. إن وجود العناصر المنحرفة بين المسلمين نذيرٌ لا يرتاح له الرسول (ص) على مستقبل الأمة .

وإن الوحي قد نزل عليه غير مرة يخبره بأن المصير الذي رآه الحق المتمثل في شخص الرسول (ص) هو نفس المصير الذي يترقبه الحق المتمثل في آله (ع) ، وأن العناصر التي قاومت الرسالة في عهده سوف تكون نفس العناصر التي تقاوم - بنفس العنف والإصرار - امتداد الرسالة في عهد أبنائه الطيبين صلوات اللـه عليه وعليهم .

فقد علم أنه سوف تبلغ الموجة مركزها الجائش ، وسوف يقف أنصار الحق والباطل موقفهم الفاصل في عهد الإمام الحسين (ع) ، هذا الوليد الرضيع الذي يُقلِّب وجهه فيظهر مستقبلُه على ملامح الرسول وهو يضطرب على ساعديه المباركتين .

والنبي (ص) يلقي نظرةً على المستقبل البعيد ، ويعرج فيه فيلقي نظرة أخرى على هذا الرضيع الميمون فيهزه البُشر حيناً ، ويهيج به الحزن أحياناً ، ولا يزال كذلك حتى تنهمر من عينيه الوضيئتين دموع ، ودموع ...

يبكي رسول اللـه (ص) .. وما أشجعه ، وهو الذي يلوذ بعريشه أشجع قريش وأبسلها ، علي بن أبي طالب (ع) حينما يشتد به الروع ، فيكون أقرب المحاربين إلى العدو ، ثم لايفل ذلك من عزمه ومضائه قدر أنملة ، لكنه الآن يبكي وحوله نسوة في حفلة ميلاد .. فما أعجبه من حادث !..

تقول أسماء فقلت : فداك أبي وأمي ممَّ بكاؤك ؟! قال : على ابني هذا ؟

فقلت : إنه ولد الساعة يا رسول اللـه ؟!

فقال : تقتله الأمة الباغية من بعدي . لا أنالهم اللـه شفاعتي [233] .

إن القضية التي تختلج في صدر رسول اللـه (ص) ليست عاطفة إنسانية أو شهوة بشرية حتى تغريه عاطفة إعلاء ذكره وبقاء أثره في آله .

كلا .. بل هي قضية رسول . اصطفاه اللـه واختاره على علم منه ، بعزمه ومضائه ، وصدقه وإيمانه .

قضية مَن تَحمَّل مسؤولية أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال الرواسي .. إنها مسؤولية الرسالة العامة إلى العالمين جميعاً .

والحسين (ع) ليس ابنه فقط ، بل هو قدوة وأسوة لمن ينذر من بعده ، فنبأ مصرعه - هو بالذات - نبأ مصرع الحق بالباطل ، والصدق بالكذب ، والعدالة بالظلم ... وهكذا .

فيبكي النبيُّ (ص) لذلك ، ويحق له البكاء ..

أنها ظاهرة ميلادٍ غريبة نجدها الساعة في بيت الرسالة تمتزج المسرة بالدموع ، والإبتسامة بالكآبة .. فهي حفلة الصالحين تدوم في رحلة مستمرة بين الخوف والرجاء ، والضحك والبكاء .

لنصغ قليلاً لنسمع السماء هل تشارك المحتفلين في هذا البيت الهادئ البسيط .

نعم . نسمع حفيفاً يقترب ، ونظنه حفيف الملائك ، فإذا بهم ملأوا رحاب البيت .

يتقدم جبرئيل (ع) فيقول :

يا محمد ! العلي الأعلى يقرؤك السلام ويقول : علي منك بمنزلة هارون من موسى ، ولا نبي بعدك . سمِّ ابنك هذا باسم ابن هارون ؟

/ 35