أ - عبادته وزهده : - نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

إنما جعل اللـه أنبياءه وحملة رسالاته من البشر ، لكي تتم الحجة على الناس فيقتدوا بهم ، ولو كانوا ملائكة لكان الناس يقولون مالنا والملائكة ، أوليسوا من جنس آخر ؟

بلى وإن الإنسان مفطور على حب الفضيلة ، وإذا تجسدت في شخص ازداد لها حباً ، ودفعته دواعي الخير في ذاته إلى اتباعه ، والسعي لكي يكون مثله .

إنك لو ألقيت على شخص محاضرة مفصّلة عن فضيلة الإحسان فإنه لا يندفع بقدر ما لو حكيت له قصة رجل محسن .

إن مكارم أخلاق الأئمة من أهل البيت (ع) أفضل منهاج تربوي ، وإنهم - بحق - أسمى قدوات الخير والفضيلة ، وإن سيرة حياتهم الحافلة بالمكرمات أقوى حجة على سلامة نهجهم في التربية وسلامة خطتهم في الحياة ، وإن أفكارهم التي تناقلتها الرواة هي التفسير الصحيح للقرآن الحق ، أوليسوا من البشر ؟ إذاً كيف بلغوا هذا الشأن من العظمة ، ألم يبلغوه بتطبيق هذه الأفكار التي رويت عنهم ؟ بلى ، أولسنا نحن أيضاً نريد العظمة ؟ إذاً دعنا نقرأ تلك الأفكار ونتفاعل معها .

والواقع أن التاريخ لم يحفظ لنا من سيرة الأئمة إلاّ قليلاً ، لأنهم كانوا محاصرين إعلامياً من قبل سلطات الجور حتى أن رواية فضيلة لهم كانت تكلِّف في بعض العصور حياة الراوي ، وكان على الشاعر دعبل أن يحمل على كتفه خشبة إعدامه لمدة ربع قرن ، ويهيم على وجهه في القفار لأنه كان يمدح أهل البيت . ومع ذلك فإن ما تبقّى من فضائلهم يعتبر دورة تربوية كاملة لمكارم الأخلاق .

ولأن عاش إمامنا الكاظم (ع) في أشد أيام الصراع وأصعب أوقات التقيّة وسرّية العمل ، فإن اختراق قصصه لحصار السلطات يعتبر معجزة ، وعلينا أن نستدل بما وصلتنا من قصصه وهي قليلة على ما لم تصل إلينا وهي الأكثر .

أ - عبادته وزهده :

من أبرز سمات القيادات الرسالية الزهد ، والتقشف والإجتهاد في التبتل إلى اللـه تعالى ، وقد كان عصر الإمام الكاظم (ع) معروفاً بالعصر الذهبي ، وكانت بيوت السلطة العباسية تفيض بالثروات الطائلة، وتشهد حفلات المجون ، كالتي نقرأ بعضها في قصص ألف ليلة وليلة ، وفي ذات الوقت ينقل إبراهيم بن عبد الحميد ويقول : ( دخلت على أبي الحسن الأول (ع) في بيته الذي كان يصلي فيه فإذا ليس في البيت شيء إلاّ حضفة [419] وسيف معلق ومصحف ) [420] .

وكان (ع) يسعى إلى بيت اللـه الحرام ماشياً لشدة تواضعه لله ، واجتهاده في العبادة ، وإذا عرفنا المسافة بين المدينة ومكة التي تقارب ( 400) كليو متر وطبيعة الصحراء في أرض الحجاز ، عرفنا مدى تحمل الإمام للصعاب في سبيل اللـه .

يقول علي بن جعفر (ع) : ( خرجنا مع أخي موسى بن جعفر (ع) في أربع عُمَرٍ يمشي فيها إلى مكة بعياله وأهله ، واحدة منهن مشى فيها ستة وعشرين يوماً ، وأخرى خمسة وعشرين يوماً ، وأخرى أربعة وعشرين يوماً ، وأخرى واحداً وعشرين يوماً ) [421] .

أما شدة اجتهاده في الصلاة وهي قرة عين المؤمنين وملتقى الحبيب مع الحبيب فيقول عنها الحديث التالي :

روي أنه كان يصلي نوافل الليل ، ويصلها بصلاة الصبح ، ثم يعقب حتى تطلع الشمس ، ويخر لله ساجداً فلا يرفع رأسه من السجدة والتحميد حتى يقرب زوال الشمس ، وكان يدعو كثيراً فيقول : اللـهم إني أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب ، ويكرر ذلك ، وكان من دعائه (ع) عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك ، وكان يبكي من خشية اللـه حتى تخضلّ لحيته بالدموع ، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه ، وكان يفتقد فقراء المدينة [422] .

والواقع أن اجتهاد الإمام في عبادة ربه والتبتل إليه بالصلوات والأدعية ، هو السبب الذي بعثه اللـه به مقاما محموداً . وهو الذي أعطاه قدرة تحمل أعباء الرسالة التي نهض بها وضحّى بما لديه في سبيل تبليغها ، وكانت صلواته أعظم مؤنس له في ظلِّ ظُلم الطغاة ، فهذا أحمد بن عبد اللـه ينقل عن أبيه فيقول : ( دخلت على الفضل بن الربيع وهو على سطح فقال لي : إشرف على هذا البيت وانظر ما ترى ؟ فقلت : ثوباً مطروحا فقال : أنظر حسناً فتأملت فقلت : رجل ساجد ، فقال لي : تعرفه ؟ هو موسى بن جعفر أتفَّقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على هذه الحالة ، إنه يصلي الفجر فيعقب إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة ، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس ، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة ، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء ، وهو دأبه فإذا صلّى العتمة أفطر ، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر ، وقال بعض عيونه : كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه :

اللـهم إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرِّغني لعبادتك ، اللـهم وقد فعلت فلك الحمد [423] .

أما قراءته للقرآن ، فيحدثنا عنها حفص ويقول : ( ما رأيت أحداّ أشد خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر (ع) ولا أرجى للناس منه ، وكانت قراءته حزناً ، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنساناً [424] .

لقد علّمه القرآن الكريم أسمى القيم ، ومن أبرزها الإشفاق على نفسه ، والسعي الدائب لتزكيتها وخلاصها من غضب الرب ، وإصلاحها لتكون موضع محبة الخالق ورضوانه .

بينما كان يرجو للناس كل خير ، ولم يكن رجاؤه مجرداً عن العمل ، بل كان (ع) يتقرب إلى اللـه بالإحسان إلى الناس ، فقد كان يتفقد فقراء أهل البيت فيحمل إليهم في الليل العين والورق وغير ذلك ، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أي جهة هو ) [425] .

ب - جوده وكرمه :

بالتوكل على اللـه واليقين يعظم ثواب المحسنين عنده ، والثقة بأنه الرزاق ذو القوة المتين . يعطي المؤمن عطاءً لا يخشى الفقر ، وأئمة الهدى هم المثل الأسمى في الكرم والجود ، فهذا الإمام موسى بن جعفر (ع) مع ما كان يعيشه من ظروف قاسية ، اشتهر بهذه الصفة في الآفاق .

جاء في التاريخ رواية مأثورة عن محمد بن عبد اللـه البكري ، قال :

( قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني ، فقلت لو ذهبت إلى أبي الحسن (ع) فشكوت إليه ، فأتيته بنقمي في ضيعته ، فخرج إليّ ومعه غلام ومعه منسف فيه قديد مجزع ، ليس معه غيره ، فأكل فأكلت معه ، ثم سألني عن حاجتي فذكرت له قصَّتي ، فدخل ولم يقم إلاّ يسيراً حتى خرج إليّ فقال لغلامه : إذهب ثم مدّ يده إليّ فناولني صرة فيها ثلاثمائة دينار ، ثم قام فولى فقمت فركبت دابّتي وانصرفت ) [426] .

وروي عن أبي الفرج في مقاتل الطالبيين عن يحيى بن الحسن قال : ( كان موسى بن جعفر (ع) إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرة دنانير ، وكانت صراره ما بين الثلاثمائة إلى المائتين دينار ، فكانت صرار موسى مثلاً ) [427] .

وجاء في حكاية تاريخية طريفة أن المنصور العباسي تقدم إلى موسى بن جعفر (ع) بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز ، وقبض ما يحمل إليه فقال (ع) :

إني قد فتشت الأخبار عن جدي رسول اللـه (ص) فلم أجد لهذا العيد خبراً ، وإنه سنة للفرس ومحاها الإسلام ، ومعاذ اللـه أن نحيي ما محاه الإسلام .

فقال المنصور : إنما نفعل هذا سياسة للجند ، فسألتك باللـه العظيم إلاّ جلست ، فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنئونه ، ويحملون إليه الهدايا والتحف ، وعلى رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل ، فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السن فقال له : يا ابن بنت رسول اللـه إني رجل صعلوك لا مال لي أتحفك ولكن أتحفك بثلاثة أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن علي (ع) :

عجبـــــــــــــــــــت لمصقـــــــــــــــــــــول عــــــــــــــــلاك فرنــــــــــــده يـــــــــــــــوم الهيــــــــــــــاج وقـــــــــــــد عـــــــــــلاك غبـــــــــــار

ولأسهـــــــــــــــــــــم نفذتـــــــــــــــــــــــــك دون حــــــــــــــــــرائــــــــــــــــــــــر يدعــــــــون جــــــــــــدك والــــــــــــــدمــــــــــــوع غـــــــــــــــــزار

ألا تغضغضــــــــــــت السَّهــــــــــــــــــــــام وعــــــــــاقهــــــــــــــــــــــا عــــــــن جسمــــــــــــــــــــك الإجـــــــــــــــــــلال والإكبـــــــــار

قال : قُبلت هديتك ، إجلس بارك اللـه فيك ، ورفع رأسه إلى الخادم وقال : إمضي إلى أمير المؤمنين وعرّفه بهذا المال وما يصنع به ، فمضى الخادم وعاد وهو يقول : كلّها هبة منّي له ، يفعل به ما أراد ، فقال موسى للشيخ : إقبض جميع هذا المال فهو هبة مني لك ) [428] .

وكان يلقى بكرمه عدوه فإذا به يصبح ولياً حميماً ، فهذا شخص من أولاد الخليفة الثاني كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى (ع) ويسبه إذا رآه ، ويشتم عليّاً ، فقال له بعض حاشيته يوماً : دعنا نقتل هذا الفاجـــر ، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم ، وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع ناحية من نواحي المدينــة ، فركب إليه ، فوجده في مزرعة له ، فدخل المزرعة بحماره ، فصاح به العمري لا توطىء زرعنا، فتوطأه (ع) بالحمار حتى وصل إليه ونزل وجلس عنده ، وباسطه وضاحكه ، وقال له : كم غرمت على زرعك هذا ؟ قال : مائة دينار ، قال : فكم ترجو أن تصيب ؟ قال : لست أعلم الغيب ، قال له : إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه ؟ قال : أرجو أن يجيء مائتا دينار .

قال : فأخرج له أبو الحسن (ع) صرة فيها ثلاثمائة دينار ، وقال هذا زرعك على حاله ، واللـه يرزقك فيه ما ترجو ، قال : فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه ، فتبسم إليه أبو الحسن وانصرف ، قال : وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً فلما نظر إليه قال : اللـه أعلم حيث يجعل رسالاته قال : فوثب أصحابه إليه فقالوا له : ما قضيتك ؟ قد كنت تقول غير هذا ، قال : فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن ، وجعل يدعو لأبي الحسن (ع) فخاصموه وخاصمهم ، فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري : إيَّما كان خيراً ما أردتم أم ما أردت ؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكُفيت به شره [429] .

ج - علمــه (ع) :

سبق الحديث عن علم الإمام ونعود هنا لنثبت رواية طريفة في علمه ، حيـث ينقل عن محمـد بن النعمان المعروف بأبي حنيفة إمام المذهب أنه قال :

( رأيت موسى بن جعفر وهو صغير السن في دهليز أبيه ، فقلت : أين يحدث الغريـــب منكم إذا أراد ذلـــك ؟ فنظر إليّ ثم قال : يتوارى خلف الجدار ويتوقَّى عن أعين الجار ، ويتجنب شطوط الأنهار ومساقط الثمار ، وأفنية الدور والطرق النافذة ، والمساجد ، ولا يستقبل القبلة ، ولا يستدبرها ، ويرفع ويضع ذلك حيث شاء .

قال : فلما سمعت هذا القول منه ، نبل في عيني ، وعظم في قلبي فقلت له : جعلت فداك ممن المعصية ؟ فنظر إليّ ثم قال : إجلس حتى أخبرك ، فجلست فقال : إن المعصية لابد أن تكون من العبد أو من ربه أو منهما جميعاً ، فإن كانت من اللـه تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله ، وان كانت منهما فهو شريكه ، والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر ، وإليه توجه النهي ، وله حق الثواب والعقاب ، ووجبت الجنة والنار فقلت :

« ذريةً بعضها من بعض »

( آل عمران / 34) .

وروي عنه الخطيب في تاريخ بغداد ، والسمعاني في الرسالة القومية ، وأبو صالح أحمد المؤذن في الأربعين ، وابو عبد اللـه بن بطة في الإبانة ، والثعلبي في الكشف والبيان ، وكان أحمد بن حنبل مع انحرافه عن أهل البيت (ع) لما روي عنه قال : حدثني موسى بن جعفر قال : حدثني أبي جعفر بن محمد وهكذا إلى النبي (ص) ثم قال أحمد : ( وهذا إسناد لو قُرِأ على المجنون أفاق ) .

شجاعتــه واستقامتــه :

لقد حمل الإمام أعباء رسالات الأنبياء بذات العزيمة العظيمة التي كانت للنبيين (ع) . لقد تحدى كل طغيان الإستكبار ، وكل تراكمات الفساد بثقة مطلقة برب العالمين .

حينما يأتيه الفضل بن الربيع ويقول له : استعد للعقوبة يا أبا إبراهيم رحمك اللـه فقال (ع) : أليس معي من يملك الدنيا والآخرة ولن يقدر اليوم على سوء بي إن شاء اللـه :

وحينما يدخل على هارون الرشيد ذلك الطاغية الذي كان يخاطب مرة السحاب ويفتخر بسعة سلطانه ، فيقول : شرِّقي غرِّبي فأنّى ذهبت فخراجك إليّ .

يقول له هارون : ما هذه الدار ؟

فقال الإمام : هذه دار الفاسقين ، قال اللـه تعالى :

« سَاَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الاَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ لاَيُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً »

(الاعراف/146)

فقال له هارون : فدار من هي ؟ قال : هي لشيعتنا فترة ، ولغيرهم فتنة .

قال : فما بال صاحب الدار لا يأخذها ؟ فقال : أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلاّ معمورة .

قال فأين شيعتك ، فقرأ أبو الحسن (ع) :

«

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ »

(البَيِّنةِ/1)

قال : فقال له : فنحن كفّار ؟ قال : لا .. ولكن كما قال اللـه :

« الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللـه كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ »

(اِبراهيم/28)

فغضب عند ذلك وغلّظ عليه [430] .

ومن المعتقل حيث تحيط به جلاوزة السلطات المجرمون ، كتب رسالة إلى الرّشيد جاء فيها : إنه لن ينقضيَ عنّي يوم من البلاء إلاّ انقض عنك معه يوم من الرضاء، حتى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له إنقضاء يخسر فيه المبطلون [431] .

الفصل الخامس : محنتــه وشهادتــه

بعد محنة أبي عبد اللـه الحسين (ع) ، وأكثر من سائر أئمة الـهدى من أهل بيت الرسول ، كانت محنة أبي إبراهيم موسى بن جعفر (ع) شديدة وأليمة .

لقد كان الرّشيد يترصده ولا يقدر عليه ، ولعله كان يخشى من بعث جيش إليه خوف انقلابه وتحوله إلى صفِّه ، وكانت السرّية التي عمل بها الرساليون تجعل السلطات لا تثق بأقرب الناس إليهم ، فهذا علي بن يقطين وزير الرّشيد ، وذاك وزيره الآخر جعفر بن محمد بن الأشعث شيعيان ، كما كان من بين قيادات جيشه ، وأبرز ولاته على الأمصار من يخفي ولائه لآل البيت (ع) ، فلذلك قرر الذهاب بنفسه إلى المدينة ، لإلقاء القبض عليه ، وأخذ معه قوّاته الخاصة ، بالإضافة إلى جيش من الشعراء ، وعلماء السلاطين ، والمستشارين و. و. كما أنه حمل معه الملايين مما سرقه من المحرومين ، فقسّمها بين الناس لشراء سكوتهم .

وخص منهم رؤساء القبائل ووجوه وأعيان المعارضة .

هكذا ذهب الرّشيد إلى المدينة ليلقي القبض على أعظم معارضي سلطانه الغاصب ، لننظر ما فعل :

أولاّ :

جلس عدة أيام يستقبل الناس ويأمر لهم بالصِّلات السخية ، حتى أشبع بطون المعارضين ، ممن كانت معارضتهم للسلطة لأسباب شخصية ومصالح خاصة .

ثانياً :

بعث في البلد من يبث الدعايات ضد أعداء السلطان ، وأغرى الشعراء وعملاء السلطة من أدعياء الدين بمدح السلطان وإصدار الفتاوى بحرمة محاربته .

ثالثاً :

استعرض قوّته لأهل المدينة لكي لا يفكر أحد بمقاومته في هذا الوقت بالذات .

رابعاً :

وحينما أكمل استعداده قام شخصياً بتطبيق البند الأخير من خطته الإرهابية ، فدخل مسجد رسول اللـه ، ربما في وقت يجتمع الناس لأداء الفريضة ، ولا يتخلف عنهـم - بالطبـع - الإمام موسـى بن جعفـر (ع) .

ثم تقدم إلى قبر الرسول وسلم عليه : وقال : السلام عليك يا رسول اللـه ، يا ابن عم .

وكان هدفه إثبات شرعية خلافته لرسول اللـه ، لتكون سبباً وجيهاً لاعتقال الإمام (ع) ، ولكن الإمام فوّت عليه هذه الفرصة ، وشق الصفوف حتى تقدمها وتوجه إلى القبر الشريف وقال في ذهول الجميع : السلام عليك يا رسول اللـه ، السلام عليك يا جدّاه .

فلإن كان رسول اللـه ابن عمك يا سلطان الجور ، وإنّك تدّعي شرعية سلطتك بانتمائك النسبي لرسول اللـه (ص) ، فإنه أقرب إليّ ، فهو جدي وأنا أحقَّ بخلافته منك .

ولكن الرّشيد استدرك الموقف وقال وهو يبرّر عزمه على اعتقال الإمام بالقول :

بأبي أنت وأمي يا رسول اللـه ، إني أعتذر إليك من أمر عزمت عليه ، وإني أريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه ، لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حرباً تسفك فيها دماؤهم .

فلما كان اليوم التالي أرسل إليه الفضل بن الربيع وهو قائم يصلي في مقام رسول اللـه ، فأمر بالقبض عليه وحبسه [432] .

وأخرج من داره بغلان عليهما قبتان مغطاتان هو في أحدهما ، ووجّه مع كل واحدة منهما خيلاً فأخذ بواحدة على طريق البصرة ، والأخرى على طريق الكوفة ، ليعمي على الناس امره ، وكان الإمام في القبة التي مضت على البصرة ، وأمر الرسول أن يسلم إلى عيسى بن جعفر بن المنصور ، وكان والياً يومئذ على البصرة فمضى به فحبسه عنده سنة .

ثم كتب إلى الرّشيد أن خذه منّي ، وسلّمه إلى من شئت ، وإلاّ خلّيت سبيله ، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة ، فما أقدر على ذلك ، حتى أني لأتسمّع عليه إذا دعا لعله يدعو عليّ أو عليك فما أسمعه يدعو إلاّ لنفسه ، يسأله الرحمة والمغفرة ، فوجّه من تسلمه منه ، وحبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد ، فبقي عنده مدة طويلة ، وأراده الرّشيد على شيء من أمره فأبى ، فكتب بتسليمه إلى الفضل بن يحيى ، فتسلّمه منه وأراد ذلك منه فلم يفعل ، وبلغه أنه عنده في رفاهية وسعة ، وهو حينئذ بالرقة .

فأنفذ مسروراً الخادم إلى بغداد على البريد ، وامره أن يدخل من فوره إلى موسى بن جعفر (ع) فيعرف خبره ، فإن كان الأمر على ما بلغه أوصل كتاباً منه إلى العباس بن محمد وأمره بامتثاله ، وأوصل منه كتاباً آخر إلى السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس [433] .

وتمضي الرواية التاريخية لتقول : وبلغ يحيى بن خالد فركب إلى الرّشيد ودخل من غير الباب الذي يدخل الناس منه ، حتى جاءه من خلفه وهو لا يشعر ، ثم قال : التفت إليّ يا أمير المؤمنين فأصغى إليه فزعاً ، فقال له : إن الفضل حدث وأنا أكفيك ما تريد ، فانطلق وجهه وسرّ وأقبل على الناس فقال : إن الفضل كان عصاني في شيء فلعنته وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولوه ، فقالوا له : نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت وقد توليناه . ثم خرج يحيى بن خالد بنفسه على البريد حتى أتى بغداد فماج الناس وأرجفوا بكل شيء ، فأظهر أنه ورد لتعديل السواد ، والنظر في أمر العمّال وتشاغل ببعض ذلك ، ودعا السندي فأمره فيه بامره ، فامتثله وسأل موسى (ع) السندي عند وفاته أن يحضره مولى له ينزل عند دار العبّاس بن محمد في أصحاب القصب ليغسله ، ففعــل ذلك ، قال : وسألتــــه أن يأذن لي أن أكفّنه فأبــــــــى

وقــال :

( إنا أهل البيت مهور نسائنا وحجّ صرورتنا ، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا ، وعندي كفني ) .

فلما مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره فنظروا إليه ولا أثر به ، وشهدوا على ذلك وأخرج فوضع على الجسر ببغداد ، ونودي : هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه، فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو (ع) ميت .

قال : وحدّثني رجل من بعض الطالبيّين أنه نودي عليه : هذا موسى بن جعفر الذي تَزعم الرافضة أنه لا يموت ، فانظروا إليه ، فنظروا إليه .

قالوا : وحمل فدفن في مقابر قريش ، فوقع قبره ، إلى جانب رجل من النوفلِّيين يقال له عيسى بن عبد اللـه [434] .

وتنقل الروايات التاريخية : أن الإمام (ع) كان يتصل بشيعته وأهل دعوته من السجون التي يتناقل فيها ، ويأمرهم بأمره ، كما انه كان يجيب عن مسائلهم السياسية ، والفقهية .

وقد نتساءل : كيف كان (ع) يتصل بهم ، لعله بطرق غيبية ، ولكن أحاديث كثيرة تبيّن لنا أن أكثر من سجن عندهم الإمام (ع) قالوا بإمامته ، بالرغم من أن السلطة كانت تختار سجّانه من بين أغلظ الناس وأكثرهم ولاءً لها ، لما كانوا يرونه فيه من شدة الإجتهاد في العبادة ، وغزارة العلم ومكارم الأخلاق ، ولما كانوا يرونه منه من كرامات .

وفي كتاب الأنوار قال العامري : إن هارون الرشيد أنفذ إلى موسى بن جعفر جارية خصيفة ، لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجـن ، فقـال قل له :

«

بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ »

(النَّـمْل/36)

لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها ، قال : فاستطار هارون غضباً وقال : إرجع إليه وقل له : ليس برضاك حبسناك ولا برضاك أخذناك ، واترك الجارية عنده وانصرف ، قال : فمضى ورجع ، ثم قام هارون عن مجلسه وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول : قدوس سبحانك سبحانك .

فقال هارون : سحرها واللـه موسى بن جعفر بسحره ، عليّ بها ، فأتي بها وهي ترعد شاخصة نحو السماء بصرها فقال : ما شأنك ؟ قالت : شأني الشأن البديع ، إنّي كنت عنده واقفة وهو قائم يصلي ليله ونهاره ، فلما انصرف عن صلاته بوجهه وهو يسبح اللـه ويقدّسه قلت : يا سيدي هل لك حاجة أعطيكها ؟ قال : وما حاجتي إليك ؟ قلت : إني أدخلت عليك لحوائجك قال : فما بال هؤلاء ؟ قالت : فالتفت فإذا روضة مزهــرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري ، ولا أولها من آخرها ، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج ، وعليها وصفاء ووصائف لم أرَ مثل وجوههم حسناً ، ولا مثل لباسهم لباساً ، عليهم الحرير الأخضر ، والأكاليل والدرّ والياقوت ، وفي أيديهم الأباريق والمناديل ومن كل الطعام ، فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت .

قال : فقال هارون : يا خبيثة لعلك سجدت فنمت فرأيت هذا في

منامك ؟ قالت : لا واللـه يا سيدي إلاّ قبل سجودي رأيت فسجدت من أجل ذلك ، فقال الرّشيد : إقبض هذه الخبيثة إليك ، فلا يسمع هذا منها أحد ، فأقبلت في الصلاة ، فإذا قيل لها في ذلك قالت : هكذا رأيت العبد الصالح (ع) ، فسئلت عن قولها قالت : إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة ابعدي عن العبد الصالح ، حتى ندخل عليه فنحن له دونك ، فما زالت كذلك حتى ماتت ، وذلك قبل موت موسى بأيام يسيرة .

هذه هي كرامة الإمام (ع) على اللـه ، وتلك هي عاقبة الرّشيد الظَّالم الطَّاغي .

نـسأل اللـه العلي العظيـم أن يجعلنا ممـن يتولى أوليائه ، ويتبرأ من أعدائه ، ويسير على نهجهم أئمة الهدى من آل محمد ( صلى اللـه عليه وعليهم اجمعين ) والحمد لله رب العالمين .

الامــام الرضـــا ( عليه السلام )

قدوة وأسوة

تمهيــد

الحمد لله رب العالمين وسلام الله على الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين .

وصلى الله على سيد الخلق أجمعين المهيمن على رسالات الله خاتم النبيين محمد وعلى آله الهداة الميامين .

وبعد ..

إن حياة المعصومين الأربعة عشر كانت زاهرة بالحب والمعرفة والعبر والبصائر ، إلاّ أن ما بلغنا من ضياء بعضهم كان أكثر من البعض الآخر ، والإمام الرضا (ع) من أولئك الذين تسنَّت لنا فرصة الاهتداء إلى المزيد من فضائلهم ، ولأنهم عند الله نور واحد ، فليس علينا إلاّ الاستضاءة بسيرته (ع) لمعرفة سيرة سائر المعصومين من آبائه ( عليهم جميعا سلام الله ) .

وأظن أن حياة الإمام الرضا (ع) كانت فاتحة مرحلة جديدة من حياة الشيعة حيث خرجت بصائرهم وأفكارهم من مرحلة الكتمان إلى الظهور والإعلان ، ولم يعد الشيعة من بعد ذلك العهد طائفة معارضة في مناطق خاصة ، بل أصبحوا ظاهرين في كل البلاد ، ولقب الرضا الذي أطلق على الإمام علي بن موسى (ع) يدل - فيما يدل - على أنه كان إماماً رضي به الموافق والمخالف .

وهــا نحن نتبرك بالحديث عنه سائلين الرب أن يرزقنا معرفته وأتباعه وشفاعته وشفاعة جده المصطفى ( عليه وآله الصلاة والسلام ) .

الفصل الاول

وجاء المولود الميمــون

يذكر الرواة أن أم الإمام موسى بن جعفر (ع) حميدة المصفاة كانت من أشراف العجم ، فاشترت جارية قد ولدت في البلاد العربية وتربت فيها ، فلما اختبرتها ووجدتها من افضل الناس في دينها وعقلها ، اختارتها لولدها الإمام موسى بن جعفر (ع) ، وقالت له : يا بني إن تكتم ( وهذا أحد أسماءها ) جارية ما رأيت جارية قط أفضل منها ، ولست أشك أن الله تعالى سيطهر نسلها إن كان لها نسل ، وقد وهبتها لك فاستوصي بها خيراً .

وذكروا من فضلها : أنها لمّا وَلدت للإمام علي الرضا كان الرضا يرتضع كثيراً وكان تام الخلق ، فقالت: أعينوني بمرضعة فقيل لها : أنقص الدر ؟ فقالت : لا أكذب ، والله ما نقص ، ولكن علي ورد عن صلاتي وتسبيحي وقد نقص منذ ولَدت [435] .

وقد ذكر المؤرخون أسماء عديدة لوالدة الإمام ، أما الجارية فكانت تسمى عند كل مولاة باسم جديد . فكانت تسمى نجمة ، وأروى ، وسكن وسمان ، وتكتم وطاهرة . إلاّ أن أشهر الأسماء هي تكتم ، وبعد ولادتها سميت طاهرة ، وأم البنين .

وفي سنة مائة وثمان وأربعين من الهجرة في اليوم الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام [436] ولد الإمام (ع) ، وعمَّ بيت الرسالة سرور وبهجة .

تقول أمه ( تكتم الطاهرة ) لمّا حملت بابني علي لم أشعر بثقل الحمل ، وكنت أسمع في منامي تسبيحاً وتهليلاً وتمجيداً في بطني فيفزعني ذلك ويهولني ، فإذا انتبهت لم أسمع شيئاً ، فلما وضعته وقع على الأرض واضعاً يده على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء يحرك شفتيه كأنه يتكلم ، فدخل إلي أبوه موسى بن جعفر (ع) فقال لي : هنيئاً لك يا نجمة كرامة ربك ، فناولته إياه في خرقة بيضاء فأذّن في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ودعا بماء الفرات فحنكه به ثم ردّه إلي وقال : خذيه فإنه بقية الله تعالى في أرضه [437] .

وكـــــان الإمام موسى بن جعفر (ع) قد منحه لقب الرضا منذ نعومة أظفاره ، كما أنه أعطاه كنية أبـو الحسن فكان كثير الحب له ، هكذا يروي المفضل بن عمر يقول :

دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) وعلي ابنه في حجره وهو يقبله ويمص لسانه ، ويضعه على عاتقه ويضمه إليه ويقول : بأبي أنت ما أطيب ريحك وأطهر خلقك ، وأبين فضلك ؟ قلت : جعلت فداك لقد وقع في قلبي لهذا الغلام من المودة ما لم يقع لأحد إلاّ لك ، فقال لي : يا مفضل هو مني بمنزلتي من أبي (ع) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم .

قال : قلت هو صاحب هذا الأمر من بعدك ؟ قال : نعم من أطاعه رشد ومن عصاه كفر [438] .

وهكذا ترعرع الوليد في ظل والده يزكيه بآداب الإمامة ويعلّمه أسرارها ويطلعه على ودائع النبوة .

وكان الإمام موسى بن جعفر يقول - حسبما جاء في حديث : -

علي ابني أكبر ولدي وأسمعهم لقولي وأطوعهم لأمري ، ينظر معي في كتاب الجفر والجامعة ، وليس ينظر فيه إلاّ نبي أو وصي نبي [439] .

وخلال سني حياته مع والده تولى - فيما يبدو لي - إدارة بعض شؤون الطائفة نيابة عن والده ، ولعل الحديث التالي يدل على ذلك . يقول زياد بن مروان القندي : دخلت على أبي إبراهيم ( الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ) وعنده علي ابنه ، فقال لي :

يا زياد هذا كتابه كتابي ، وكلامه كلامي ، ورسوله رسولي ، وما قال فالقول قوله [440] .

وقد أكثر الإمام موسى بن جعفر (ع) من بيان فضائل ابنه الرضا (ع) وأنه خليفته والإمام من بعده مما يثير السؤال عن حكمة ذلك ، ولعل من الأسباب التي تهدينا إلى تلك الحكمة :

أن الظروف السياسية كانت قياسية جداً . حيث التقيّة في أشدها ، وأهل البيت مطاردون ، وهارون الرشيد كان يلاحق أصحاب وانصار أهل البيت من بلد إلى بلد ، ويقتلهم زرافاتٍ ووحداناً . والإمام موسى بن جعفر يتنقل بأمره من سجن لآخر ، فكانت إمكانية تفرق كلمة الشيعة بعد وفاته تجعل من الحكمة التأكيد على ولاية الإمام الرضا .

والأصحاب بدورهم كانوا يتوجسون خيفة من اختفاء الإمام فجأة دون معرفة الإمام من بعده ، يظهر ذلك كله من بعض الأحاديث التالية :

روي عن يزيد بن سليط الزيدي قال : لقيت موسى بن جعفر فقلت : أخبرني عن الإمام بعدك بمثل ما أخبر به أبوك قال : كان أبي في زمن ليس مثل هذا .

قال يزيد فقلت من يرضى منك بهذا فعليه لعنة الله ، قال فضحك ثم قال : أخبرك يا أبا عمارة إني خرجت من منزلي فأوصيت في الظاهر إلى بنّي وأشركتهم مع علي ابني وأفردته بوصيَّتي في الباطن [441].

ويروي علي بن عبد الله الهاشمي : قال : كنا عند القبر ( أي قبر رسول الله صلى الله عليه وآله ) إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفر ويد علي ابنه في يده فقال : أتدرون من أنا ؟

قلنا : أنت سيدنا وكبيرنا ، قال : سموني وانسبوني .

فقلنا أنت موسى بن جعفر ، فقال : من هذا معي ؟

قلنا : هو علي بن موسى بن جعفر ، قال : فاشهدوا أنه وكيلي في حياتي ووصيي بعد موتي [442] .

وقد اتخذ الإمام موسى بن جعفر (ع) كافة وسائل الاحتياط لبيان إمامة الإمام الرضا . فمثلاً : كتب كتاباً بذلك وأشهد عليه ستين رجلاً من وجوه أهل المدينة [443] .

وكان يرجع الأمور إليه في حياته كما فعل عندما أشخص به إلى البصرة ، حيث دفع إلى عبد الله بن وحوم كتباً وأمره بإيصالها إلى نجله الرضا في المدينة [444] .

وكتب في البصرة ألواحاً وبعثها إلى شيعته هناك وقد كتب فيها : عهدي إلى أكبر ولدي [445] .

وكان يأخذ بعض الحقوق التي تجبى إليه ويبقي بعضها ليعطيه إلى وصيه الذي يطالبه به ليكون علامة ظاهرة كما فعل بداود بن زربي [446] .

وذلك شبيه بعكس الظروف السياسية الصعبة التي كان يعيشها الإمام في حياة والده والتي احتاط الإمام موسى بن جعفر (ع) فيها لتبقى الإمامة بعيدة عن الشكوك .

ويظهر ذلك بوضوح من وصية لنجله بأن يسكت مادام الرشيد حياً فإذا هلك نطق بالحق .

ومن جهة أخرى في مثل هذه الظروف الصعبة التي كان الشيعة يعيشونها على عهد طاغية بغداد هارون الرشيد ، كان من الممكن أن تنتشر الخرافات التي لها سوق رائجة عند اشتداد الأزمات . ولعل بعض التيارات السياسية كانت وراء نشر مثل تلك الخرافات لأهداف معينة . فدرءاً لمثلها قام الإمام الكاظم ببيان امامة ابنه الرضا بذلك الوضوح .

وبالرغم من أن فكرة غياب الإمام الكاظم انتشرت ردحاً من الزمان وغذتها أيد خائنة واخرى جاهلة ، فقالوا بأن الإمام لم يمت وانه مهدي هذه الأمة ، ووقفوا عند الإمام السابع فسمّوا ( الواقفية ) .

إلاّ أنها لم تلبث أن زالت ، ويبدو أن أحد أهم أسباب ذلك ، تأكيد الإمام (ع) في تعريف الشيعة بأن وصيَّه الإمام الرضا (ع) .

خلقه وفضائله :

كان الإمام الرضا (ع) بمثابة قرآن ناطق ، فخلقه من القرآن ، وعلمه ومكرماته من القرآن ، أوليس القرآن هو آية الله العظمى في خلقه ، أولم ييسّره ربنا لمن شاء من عباده أن يستقيم عليه ؟ أوَ يكون ذلك غريباً أن يصبح من تمثل القرآن في حياته آية عظمى لرب العالمين .

والنبي (ص) كان أفضل وأعظم ميزاته ، أنه عبد يوحى إليه ، وحين سأل بعضهم عن خلقه العظيم قـــال :

كان القرآن خلقه .. .

وأعظم ميزات الإمام علي (ع) ان الله قد جعل أذنه واعية للقرآن .

وقد ذكّرنا الرسول بأنه يخلّف بعده الثقلين : كتاب الله وعترته أهل بيته ، ثم بيّن أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض . أوَلا يعني ذلك أن أهل بيت الرسالة (ع) كانوا مشكاة نور القرآن ومعدن خيرات الوحي ومستقر علم الله ؟.

وكان الإمام الرضا (ع) قد تمثل هذا النور - بكل وجوده حتى جاء في الحديث : عن ابي ذكوان قال : سمعت إبراهيم بن العباس يقول :

ما رأيت الرضا (ع) سئل عن شيء قط إلاّ علمه ، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقته وعصره ، وكان المأمون يمنحه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه ، وكان كلامه كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن ، وكان يختمه في كل ثلاث ليالٍ ، ويقول :

لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمت ، ولكني ما مررت بآية قط إلاّ فكرت فيها وفي أي شيء أنزلت وفي أي وقت ، فلذلك صرت أختم كل ثلاثة أيام [447] .

ولكن دعنا نعرف كيف تمثل إمامنا الرضا (ع) القرآن بهذه الدرجة ، أو يمكننا أن نتبعه في ذلك ؟

القرآن كتاب الله ومن لا يتصل قلبه بنور الله لا يعرف كتابه ، أو لم يقل ربنا سبحانه :

«

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً »

( الاسراء / 82 ) .

وبدرجة الإيمان ، وبمستوى اليقين ، وبقدر تجلي عظمة الرب في القلب يستضيء الإنسان بنور الله الذي تجلى به في كتابه ..

والإمام الرضا (ع) عظَّم الله ووقره وسلّم له أمره واستصغر كل شيء سواه ، واستعد لكل بلاء في سبيلــه ، وكان كل ذلك وسيلته إلى ربه .

دعنا نلتمس بعض الشواهد على ما قلنا لا لنزداد بالإمام معرفة فقط ، بل لكي تخشع قلوبنا أيضاً بهذه السيرة التي تفيض روحاً إلهياً وضياءً .

كان من عبادته (ع) أنه إذا صلّى الفجر في أول وقتها يسجد لربه فلا يرفع رأسه الى أن ترتفع الشمــس[448] ..

وعندما كلّف المأمون العباسي وإليه على المدينة بمرافقة الإمام إلى خراسان ، سأله - بعد مقدمه إليها - عن أحواله في الطريق ففصّل الحديث عن درجات عبادته وذكره وتبتله ، فلما قص عليه ذلك أمره بأن يكتم عن الناس ذلك وكان مما نقله :

كان إذا أصبح صلى الغداة ، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ، ويصلي على النبي وآله حتى تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة يبقى فيها حتى يتعالى النهار ، ثم أقبل على الناس يحدثهم ويعظهم إلى قرب الزوال ، ثم جدد وضوءه وعاد إلى مصلاه .. وبعد أن يذكر كيفية صلاته وسجداته ونوافله إلى وقت العصر مما هو معروف في الفقه ، ثم يقول أقام وصلى العصر فإذا سلم جلس في مصـــلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله ، ثم سجد سجدة يقول فيها مائة مرة حمداً لله .

ثم يذكر كيف كان يصلي بعد غروب الشمس ويسبّح ربه حتى يمضي قريب من ثلث الليل ثم يأوي إلى فراشــه .. فإذا كان الثلث الأخير من الليل قام من فراشه لنافلة الليل ، واستمر على ذلك حتى يطلع الفجـــر ، ثم يجلس للتعقيب حتى تطلع الشمس ، ويسجد حتى يتعالى النهار .

ويضيف : وكان يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن فإذا مر بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوَّذ من النار [449] .

وكان الإمام يرى أن ماله من فضل إنما هو بالتقوى وليس فقط بالانتساب إلى رسول الله (ص) بالولادة .

هكذا ينقل البيهقي عن الصولي عن محمد بن موسى بن نصر الرازي قال : سمعت أبي يقول : قال رجل للرضا والله ما على وجه الأرض أشرف منك أباً ، فقال : التقوى شرفتهم وطاعة الله أعظمتهم .

فقال له آخر : أنت والله خير الناس ، فقال له :

لا تحلـف يا هذا ، خير منـــي من كان أتقى لله عـــزّ وجـــلّ وأطوع له واللـه ما نسخت هذه الآية :

« وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم »

[450]

.

وهذا الحديث يذكرنا بما يروى عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : لَولايتي لمحمد صلّى الله عليه وآله أحب إليّ من ولادتي منه .

وهكـــذا أطاع الله بكل جوانب حياته ، فأحبه الله ونوّر قلبه بضياء المعرفة وألهمه من العلوم مـــا ألهمـــــه .

وجعله حجة بالغة على خلقه ، أو لم نقرأ سورة (ص) كيف بيّن فيها ربنا مواهبه لعباده الصالحين ، وأنه إنما أتاهم كل تلك المواهب لعبادتهم وإخلاصهم فقال مثلاً :

«

اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ »

( ص/ 17)

« وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ »

( ص /20)

.

إلى أن يقول :

«

فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَأَبٍ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ اِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ »

(ص/25-26)

.

وهكذا أناب الإمام الرضا (ع) إلى ربه فوهب الله له ما شاء من الكرامة والعلم ..

لقد زهد في الدنيا واستصغر شأنها ، ورفض مغرياتها ، فرفع الله الحجاب بينه وبين الحقائق لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، وهو حجاب سميك بين الإنسان وبين حقائق الخلق ..

يذكر البيهقي عن الصولي : كان جلوس الرضا في الصيف على حصير وفي الشتاء على مسح ، ولبسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزين لهم [451] .

وكان ذلك عندما أقبلت الدنيا عليه فلم يقبلها ، وتزينت له فلم يغترّ بها . بل عندما كانت الخلافة العباسية في أوج عظمتها وبذخها وترفها وكان الإمام ولي عهد الخليفة في الظاهر يومئذ عاف الدنيا وشهواتها . هكذا تروي جارية اسمها عذر فتقول : اشتريت مع عدة جواري من الكوفة ، وكنت من ولداتها ( كانت مولودة في الكوفة ) قالت : فحملنا إلى المأمون فكنا في داره في جنة من الأكل والشرب والطيب وكثرة الدنانير فوهبني المأمون للرضا ، فلما صرت في داره فقدت جميع ما كنت فيه من النعيم ، وكانت علينــا قيّمة تنبهنا من الليل ، وتأخذنا بالصلاة ، وكان ذلك من أشد ما علينا فكنت أتمنى الخروج من داره [452] .

وأعظم الزهد زهده في الخلافة بالطريقة التي عرضها عليه المأمون العباسي ، فإن من الناس من يزهد في الدنيا طلباً لما هو أعظم من متاعها . ولا أعظم من الرئاسة في أعين الإنسان .

يقول الفضل بن سهل الذي شهد حوار المأمون مع الإمام الرضا في شأن الخلافة ما رأيت الملك ذليلاً مثل ذلك اليوم .

يقول المأمون العباسي فيما روي منه ، فجهدت الجهد كله وأطمعته في الخلافة وما سواها فما أطمعني في نفسه [453] .

السبيل إلى الله :

ومـــــن يعظم الله يعظم أولياءه ، ومن يرفض توقير أولياء الله يفقد السبيل الى الله . والإمام الرضـــــــا (ع)

سلك هذا السبيل إلى ربه . ولعمري إن الشيطان يزين للإنسان مخالفة أولياء الله والتكبر عليهم حتى يضله عن سبيل الله القويم ، ويلقيه في تيه السبل المتفرقة .

وكلما ازداد الإنسان تسليماً لقيادته الشرعية ، وحباً لولي أمره ، ولأولياء الله من الأنبياء والأوصياء والصالحين ، كلما يزداد من ربه قرباً .

والإمام الرضا (ع) كان كما سائر الأئمة (ع) أطوع الناس لولي أمره الإمام موسى بن جعفر (ع) فجعله الله حجة من بعده .

يقول الإمام الكاظم :

علي ابني أكبر ولدي وأسمعهم لقولي ، وأطوعهم لأمري [454] .

وقال :

علي أكبر ولدي وأبرهم عندي وأحبهم إلي [455] .

/ 35