الفصل الثاني : ميـــلاده وعصــره (ع) - نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

«

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ »

(الجمعة/2) .

بلى ، كان من الأهداف السامية لبعثة الرسل ، ونهضة اوصيائهم ، وقيام أوليائهم ، إعداد الناس للقيام بالقسط . ولا أقول قيامهم بالقسط بين الناس ، لأن ذلك يوحي بالوكالة في ذلك ، وهذا ما ينفيه الوحي ببلاغة نافذة . فاستمع إلى قول ربِّك العزيز :

«

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللـه مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللـه قَوِيٌّ عَزِيزٌ »

(الحديد/25) .

الإمام السجاد وريث الأنبياء :

ولأن الإمام زيــن العابدين (ع) ورث عن جده النبي المصطفى ( عليه وآله الصلاة والسلام ) دور الأنبياء ، فإن الحكمة الأولى لإمامته هي ذات الحكمة الأولى في رسالة الأنبياء ، ابتلاء الناس بعد دعوتهم إلى اللـه ، وكانت سائر الأهداف السامية - كإقامة القسط ونصرة المظلومين - في امتداد تلك الحكمة ، أي أنها تتفرع منها وتأتي بعدها .

ولقد تسنَّت لسائـر أئمة الهدى (ع) الظروف للقيام بتلك الأهداف المتدرجة ، وبالذات الهدف السياسي ، كما فعل الإمام علي (ع) عندما نهض بأعباء الحرب ضد قريش مرتين ، مرة في عهد النبي وتحت لوائه ، ومرة بعد النبي وتحت لواء الرسالة الحنفية وبرفقة أصحاب النبي (ص) . وهكذا نجله الإمام الحسن (ع) . حيث نهض هو الآخر بأعباء الحرب ضد معاوية ، ثم أوقف الحرب لمصلحة المسلمين . وكذلك الإمام الحسين (ع) حيث قاوم معاوية بالسبل السلمية ، وقام ضد ابنه يزيد بالسيف حتى استُشهد مظلوماً .

وهكذا قام سائر الأئمة بأدوار سياسية ، وبوسائل غير مباشرة ، وبدرجات مختلفة .

بينما الظروف العامة كانت تناسب تمخض الإمام السجاد (ع) تقريباً في الدعوة الربانية ، حسبما نبين ذلك في مناسبة أخرى إن شاء اللـه تعالى .

وبذلك كانت حياة الإمام السجاد قطعة مشرقة بنور ربِّه .. وكانت تجلياً باهراً للإيمان الخالص باللـه ، وللهيام الشديد باللـه ، وللعبادة والتبتل .

وحينما نقرأ معاً صفات الإمام على لسان نجله الإمام الباقر (ع) ، نعرف ماذا تعني ولاية اللـه ، وولاية أوليائه ، ولماذا التأكيد عليها ، وكيف كانت حياة السجاد شلال نور إلهي . يقول نجله الإمام الباقر (ع) : كان علي بن الحسين (ع) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ، كما كان يفعل أمير المؤمنين (ع) . كانت له خمسمائة نخلة . فكان يصلي عند كل نخلة ركعتين ، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر ، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل ، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية اللـه عزَّ وجلَّ ، وكان يصلي صلاة مودِّع يرى أنه لا يصلي بعدها أبداً ، ولقد صلَّى ذات يوم فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوِّه حتى فرغ من صلاته ، فسأله بعض أصحابه عن ذلك ، فقال : ويحك أتدري بين يدي مَن كنت ؟. إنَّ العبد لا يُقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه . فقال الرجل : هلكنا ، فقال : كلاَّ .. إن اللـه عزَّ وجلَّ متمم ذلك بالنوافل وكان (ع) لَيخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره ، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب ، حتى يأتي باباً باباً فيقرعه ، ثم يناول مَن يخرج إليـه . وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه . فلما توفي (ع) فقدوا ذلك ، فعلموا أنه كان علي بن الحسين (ع) . ولما وُضع (ع) على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل رُكَبِ الإبل . مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين . ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خز فتعرض له سائل فتعلّق بالمطرف فمضى وتركه ، وكان يشتري الخزَّ في الشتاء ، إذا جاء الصيف باعه فتصدق بثمنه ، ولقد نظر (ع) يوم عرفة إلى قوم يسألون الناس ، فقال : ويحكم أغير اللـه تسألون في مثل هذا اليوم ، إنّه ليُرجى في هذا اليوم لِمَا في بطون الحبالى أنْ يكون سعيداً ؟. ولقد كان (ع) يأبى أن يؤاكل أُمَّه ، فقيل له : يابن رسول اللـه أنت أبرُّ الناس وأوصلَهم للرحم ، فكيف لا تؤاكل أمَّك ؟ فقال : إني أكره أنْ تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليه . ولقد قال له رجل : يابن رسول اللـه إني لأحبُّك في اللـه حبّاً شديداً ، فقال : اللـهم إني أعوذ بك أن أُحبَّ فيك وأنت لي مبغض . ولقد حج على ناقة له عشرين حجة فما قرعها بسوط ، فلما نفقت [263] أمر بدفنها لئلا يأكلها السباع . ولقد سئلت عنه مولاة له فقالت : أُطنب أو اختصر ؟ فقيل لها : بل اختصري ، فقالت : ما أتيته بطعام نهاراً قط ، وما فرشت له فراشاً بليلٍ قط . ولقد انتهى ذات يوم إلى قوم يغتابونه فوقف عليهم ، فقال لهم : إن كنتم صادقين فغفر اللـه لي ، وإن كنتم كاذبين فغفر اللـه لكم . وكان (ع) إذا جاءه طالب علم فقال : مرحباً بوصيِّ رسول اللـه (ص) . ثم يقول : إن طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجلَيه على رَطب ولا يابس من الأرض ، إلاّ سبَّحت له إلى الأرضين السابعة ، ولقد كان يعول مئة أهل بيت من فقراء المدينة . وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضرار والزّمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم . وكان يناولهم بيده ، ومن كان له منهم عيال حمل له إلى عياله من طعامه ، وكان لا يأكل طعاماً حتى يبدأ فيتصدق بمثله . ولقد كان تسقــــط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده لكثرة صلاته ، وكان يجمعها ، فلما مات دُفنت معـــه . ولقد بكى على أبيه الحسين (ع) عشرين سنة ، وما وضُع بين يَديه طعام إلاّ بكى ، حتى قال له مولى له : يابن رسول اللـه أَمَا آن لِحُزنك أن ينقضي ؟. فقال له : ويحك ، إن يعقوب النبيَّ (ع) كان له اثني عشر ابناً فغيَّب اللـه عنه واحداً منهم ، فابيضَّت عيناه من كثرة بكائه عليه ، وشاب رأسه من الحزن ، واحدودب ظهره من الغم ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني ؟. [264]

وقد زخرت كتب التاريخ بكرامات الإمام [265] ولا عجب فإن إماماً هذه صفاته ، يكرمه اللـه بفضله ، أولم يكرم اللـه عباده الصالحين باستجابة دعواتهم ؟

وقد قال سبحانه :

«

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ »

(غافر/60) .

فكيف لا يستجيب لمن ذاب في حب ربه حتى خشي عليه الهلاك من شدة العبادة . ولننظر معاً في الرواية التالية ثم نقيسها بما نعرفه من قصص القرآن حول الصالحين من عباد اللـه ، نرى أنهما نبعان من عين واحدة .

عن إبراهيم بن أدهم وفتح الموصلي ، قال كل واحد منهما : كنت أسيح في البادية مع القافلة ، فعرضت لي حاجة فتنحيت عن القافلة ، فإذا أنا بصبي يمشي ، فقلت : سبحان اللـه بادية بيداء وصبي يمشي ؟. فدنوت منه وسلَّمت عليه ، فردّ عليَّ السلام . فقلت له : إلى أين ؟. قال : أريد بيت ربِّي . فقلت : حبيبي ، إنك صغير ليس عليك فرض ولا سنَّة . فقال : يا شيخ ما رأيت من هو أصغر سنّاً مني مـــات ؟ فقلت : أين الزاد والراحلة ؟ فقال : زادي تقواي ، وراحلتي رجلاي ، وقصدي مولاي . فقلتُ : ما أرى شيئاً من الطعام معك ؟ فقال : يا شيخ هل يستحسن أن يدعوك إنساناً إلى دعوة فتحمل من بيتك الطعام ؟. قلت : لا ، قال : الذي دعاني إلى بيته هو يطعمني ويسقيني . فقلت : ارفع رجلك حتى تدرك [266] فقال : عليَّ الجهاد ، وعليه الإبلاغ . أما سمعت قوله تعالى :

«

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإِنَّ اللـه لَمَعَ الْمُـحْسِنِينَ »

(العنكبوت/69) .

قــــال : فبينما نحن كذلك إذ أقبل شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض حسنة ، فعانق الصبي وسلَّم عليه . فأقبلتُ على الشاب وقلت له : أسألك بالذي حَسَّن خلقك مَن هذا الصبي ؟ فقال : أما تعرفه ؟ هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . فتركت الشاب وأقبلت على الصبي ، وقلت : أسألك بآبائك مَن هذا الشاب ؟ فقال : أما تعرفه ؟ هذا أخي الخضر ، ، يأتينا كلَّ يوم فيسلِّم علينا . فقلت : أسألك بحق آبائك لما أخبرتني بما تجوز المفاوز بلا زاد ؟ قال : بل أجوز بزاد ، وزادي فيها أربعة أشياء . قلت : وماهي ؟ قال : أرى الدنيا كلها بحذافيرها مملكة اللـه ، وأرى الخلق كلهم عبيد اللـه وإماؤه وعياله ، وأرى الاسباب والأرزاق بيد اللـه ، وأرى قضاء اللـه نافذاً في كل أرض اللـه . فقلت : نعم الزاد زادك يا زين العابدين ، وأنت تجوز بها مفاوز الآخرة ، فكيف مفاوز الدنيا ؟ [267]

وقصة مشابهة يرويها حماد بن حبيب الكوفي القطان فيقول :

انقطعت عن القافلة عند زبالة [268] فلما أجنَّني الليل أويت إلى شجرة عالية . فلما اختلط الظلام إذا أنا بشاب قد أقبل عليه أطمار بيض تفوح منه رائحة المسك . فأخفيت نفسي ما استطعت . فتهيأ للصلاة ، ثم وثب قائماً وهو يقول : يا من حاز كل شيء ملكوتاً ، وقهر كل شيء جبروتاً ، أولج قلبي فرح الإقبال عليك ، وألحقني بميدان المطيعين لك ، ثم دخل في الصلاة . فلما رأيته وقد هدأت أعضاؤه ، وسكنت حركاته ، قمت إلى الموضع الذي تهيأ فيه إلى الصلاة ، فإذا أنا بعين تنبع . فتهيأت للصلاة ، ثم قمت خلفه ، فإذا بمحراب كأنه مثل في ذلك الوقت فرأيته كلما مر بالآية التي فيها الوعد والوعيد يرددها بانتحاب وحنين . فلما أن تقشع الظلام وثب قائماً وهو يقول : يا من قصده الضالون فأصابوه مرشداً ، وأَمَّه الخائفون فوجدوه معقلاً ، ولجأ إليه العابدون فوجدوه موئلاً . متى راحة مَن نصب لغيرك بدنه ، ومتى فرح من قصد سواك بِنيِته ؟ إلهي قد تقشّع الظلام ولم أقض من خدمتك وطراً ، ولا من حياض مناجاتك صدراً ، صلِّ على محمد وآله وافعل بي أولى الأمرين بك يا أرحم الراحمين . فخفت أن يفوتني شخصه وأن يخفي علي أمره ، فتعلقت به فقلت : بالذي أسقط عنك هلاك التعب ، ومنحك شدة لذيذ الرهب ، إلاّ ما لحقتني منك جناح رحمة وكنف رقة ، فإني ضال . فقال : لو صدق توكلك ما كنت ضالاً ، ولكن اتبعني واقفُ أثري . فلما ان صار تحت الشجرة أخذ بيدي وتخيل لي أن الأرض تمتد من تحت قدمي ، فلما انفجر عمود الصبح قال لي : أبشر فهذه مكة ، فسمعت الضجة ورأيت الحجة ، فقلت له : بالذي ترجوه يوم الآزفة يوم الفاقة ، مَن أنت ؟ فقال : إذا أقسمت فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب [269] .

ألم أقل لك إنه كان ومضة نور وشلاَّل إيمان ، وقبساً من وهج الرسالة ؟..

كان الظلام يخيم على طرقات المدينة وقد أوى الناس إلى بيوتهم ، والسماء تمطر ورياح الشتاء الباردة تعصف .. فيقول : الزهري : رأيته (ع) يمشي وعلى ظهره دقيق . فقلت يابن رسول اللـه ، ما هذا ؟.

قال (ع) : أريد سفراً أعد له زاداً أحمله إلى موضع حريز .

فقال الزهري : فهذا غلامي يحمله عنك ، فأبى (ع) .

فقال الزهري : أنا أحمله عنك فأني ارفعك ( وأجلُّك ) عن حمله .

فقال علي بن الحسين (ع) : لكني لا أرفع نفسي ( ولا أجل نفسي ) عما ينجيني في سفري ، ويحسن ورودي على ما أرد عليه . وأضاف الإمام قائلا : أسألك بحق اللـه لما مضيت لحاجتك وتركتني . فانصرف عنه . فلما كان بعد أيام قال له يابن رسول اللـه لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً .

قــــال : بلى يا زهري !. ليس ما ظننت ، ولكنه الموت ، وله استعدّ ، وأضاف الإمام لبيان هدف حملـــه تلك البضاعة في الليل إلى بيوت الفقراء : إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام ، وبذل النفوس في الخيـــر [270] .

إن جذور شخصية الإمام زين العابدين تمتد في أفق معرفته باللـه تعالى ، ويقينه باليوم الآخر ، ووعيه للسرعة الخاطفة التي تبتلع ساعات الليل والنهار من عمر البشر ، وتزاحم الواجبات عليه !.

حينما يسأله رجل كيف أصبحت يابن رسول اللـه ؟ يقول : أصبحت مطلوباً بثمان : اللـه يطلبني بالفرائض ، والنبي (ص) بالسنّة ، والعيال بالقوت ، والنفس بالشهوة ، والشيطان باتِّباعه ، والحافظان بصدق العمل ، وملك الموت بالروح ، والقبر بالجسد . فأنا بين هذه الخصال مطلوب [271] .

إنه كان مثلاً رائعاً للآية الكريمة :

«

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللـه قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ »

(آل عمران/191) .

لقد أحبَّ اللـه حتى فاضت على شفاهه روافد الحب في صورة ابتهالات ومناجاة سجَّل التاريخ جزءاً بسيطاً جدّاً منها في صحيفته المعروفة بـ ( السجادية ) .. فلنستمع معاً إلى هذه الرائعة التي تبهر الأبصار :

فقد انقطعتْ إليك هِمَّتي ، وانصرفتْ نحوك رغبتي . فأنتَ لا غيرك مرادي ، ولك لا لسواك سهري وسُهادي ، ولقاؤك قرة عيني ، ووصلك مُنَى نفسي ، وإليك شوقي ، وفي محبتك وَلَهي ، وإلى هواك صبابتي ، ورضاك بُغيتي ، ورؤيتك حاجتي ، وجوارك طلبي ، وقربك غاية سؤلي ، وفي مناجاتك رَوحي وراحتي ، وعندك دواء علتي ، وشفاء غُلتي ، وبردُ لوعتي ، وكشفُ كربتي ، فكن أنيسي في وحشتي ، ومُقيل عثرتي ، وغافر زلتي ، وقابل توبتي ، ومجيب دعوتي ، ووليّ عصمتي ، ومغني فاقتي ، ولا تقطعني عنك ، ولا تبعدني منك ، يا نعيمي وجنتي ، ويا دنياي وآخرتي ، يا أرحم الراحمين [272] .

فـــأيُّ قـــلبٍ مفعم بالإيمان هـــذا الذي يفيض بهذه الكلمات المضيئـــة ؟!.. وأي فؤاد ملتهب بالشوق إلــى

اللـه ، متيم بحب اللـه ، يشع بهذه المناجاة ؟. إنّه قلب ذلك الإمام الذي كانت الصلاة أحب الأمور إليه . وكان الذكر شغله الشاغل والعبادة صبغة حياته !

فقد دخل على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان فاستعظم عبد الملك ما رأى من أثر السجود بين عينَي علي بن الحسين (ع) ، فقال : يا أبا محمد لقد بيَّن عليك الإجتهاد ، ولقد سبق لك من اللـه الحسنى ، وأنت بضعة من رسول اللـه (ص) قريب النسب وكيد السبب . وإنك لذو فضل عظيم على أهل بيتك وذوي عصرك ، ولقد أُوتيتَ من الفضل والعلم والدين والورع مالم يؤته أحد مثلك ولا قبلك ، إلاّ مَن مضى من سلفك .. وأقبل يُثني عليه ويطريه .. قال : فقال علي بن الحسين (ع) :

كلّما ذكرته ووصفته من فضل اللـه سبحانه وتأييده وتوفيقه . فأين شكرُه على ما أنعم يا أمير المؤمنين ؟. كان رسول اللـه (ص) يقف في الصلاة حتى تورّمت قدماه ، ويظمأ في الصيام حتى يُعصب فوه ، فقيل له : يا رسول اللـه ألم يغفر لك اللـه ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول (ص) أفلا أكون عبداً شكوراً ؟. الحمد لله على ما أولى وأبلى ، وله الحمد في الآخرة والأولى . واللـه لو تقطعت أعضائي ، وسالت مقلتاي على صدري ، لن أقوم لله جل جلاله بشكر عَشر العشير من نعمة واحدة من جميع نعمه الَّتي لا يحصيها العادُّون ، ولا يبلغ حدّ نعمة منها على جميع حمد الحامدين ، لا واللـه أو يراني اللـه لا يشغلني شيء عن شكره وذكره ، في ليل ولا نهار ، ولا سر ولا علانية . ولولا أن لأهلي عَلَيَّ حقاً ، ولسائر الناس من خاصهم وعامهم عَلَيَّ حقوقاً لا يسعني إلاّ القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤديها إليهم ، لَرميتُ بطرفي إلى السماء ، وبقلبي إلى اللـه ، ثم لم أرددهما حتى يقضي اللـه على نفسي وهو خير الحاكمين .

وبكى (ع) وبكى عبد الملك وقال : شتان بين عبد طلب الآخرة وسعى لها سعيها ، وبين من طلب الدنيا من أين جاءته ، ماله في الآخرة من خلاق . ثم أقبل يسأله عن حاجاته وعما قصد له فشفّعه فيمن شفَّع ، ووصله بمال [273] .

وعندما يراه طاوس في أخريات الليل يطوف بالبيت الحرام يرى منه عجباً حتى يشفق عليه فلنستمع إليه ، يروي قصته :

رأيته يطوف من العشاء إلى السَّحر ويتعبد ، فلمّا لم يَرَ أحداً رمق السماء بطرفه ، وقال :

إلهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون أنامك ، وأبوابُك مفتّحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني ، وتريني وجه جَدِّي محمد (ص) في عرصات القيامة . ثم بكى وقال : وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌّ ، ولا بنكالك جاهلٌ ، ولا لعقوبتك متعرضٌ ، ولكن سوَّلت لي نفسي ، وأعانني على ذلك سترُك المرخَى به عَلَيَّ . فالآن من عذابك من يستنقذني ؟. وبحبل مَن أعتصم إنْ قطعتَ حبلك عني ؟. فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يَديك ، إذا قيل للمخفِّين جوزوا ، وللمثقَلين حُطُّوا . أمع المخفّين أجوز ؟ أم مع المثقلين أَحط ؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطايايَ ولم أتب ، أما آن لي أن أستحي من ربِّي ؟! .

ثم بكى وأنشأ يقول :

أتحــــــــــــــرقنـــي بالنــــار يـــا غـــايــــــــــة الــمنـــــــــــــــــــــى فـــأيــــن رجـــــــائــــــــي ثــــــــــــــم ايــــــــــــــــن محبّتـــــــــي

أتيــــــــــــــــــتُ بــــــــأعمـــــــــــــــالٍ قبــــــــــــــــــــــــــــاحٍ زَرِيَّـــــــــــــــــــةٍ ومــــا فــي الــــــورى خلـــــــق جنـــى كجنايتـــــــي

ثم بكى وقال : سبحانك تُعصَى كأنك لا ترى ، وتحلم كأنك لم تُعص تتودّد إلى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيدي الغني عنهم .

ثم خر إلى الارض ساجداً . قال : فدنوتُ منه وشلتُ برأسه ووضعتُه على ركبتي وبكيتُ حتى جرت دموعي على خده ، فاستوى جالساً وقال : مَن الذي أشغلني عن ذكر ربِّي ؟

فقلتُ : أنا طاووس يابن رسول اللـه ، ما هذا الجزع والفزع ؟

ونحن يلزمنا أن نفعل هذا ونحن عاصون جانون ، أبوك الحسين بن علي وأُمك فاطمة الزهراء ،و جدك رسول اللـه (ص) ؟! قال : فالتفت إليّ وقال :

هيهات هيهات يا طاووس ، دع عني حديث أبي وأمي وجدي ، خلق اللـه الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً . أما سمعتَ قوله تعالى :

«

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسآءَلُونَ »

( المؤمنون/101) ؟. واللـه لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدمها من عملٍ صالح [274] .

ولأنه أحب اللـه فوّض إليه أمره وسلّم له أشد التسليم ، وهو (ع) يروي عن نفسه القصة التالية فيقول :

مرضتُ مرضاً شديداً ، فقال لي أبي : ما تشتهي ؟ فقلتُ : أشتهي أنْ أكون ممَّن لا أقترح على اللـه ربِّي ما يدبِّره لي . فقال لي : أحسنتَ ، ضاهيتَ إبراهيم الخليل صلوات اللـه عليه حيث قال جبرئيل [275] : هل من حاجة ؟. فقال : لا أقترح علي ربِّي ، بل حسبي اللـه ونعم الوكيل [276] .

وهكذا أحبه اللـه تعالى وأكرمه ورفع شأنه ، وأجرى علي يديه تقديره ، وألزم الناس ولايته .

والقصة التالية تعكس مدى حب اللـه سبحانه للإمام زين العابدين (ع) :

والقصة يرويها طائفة من عُبَّاد البصرة وفقهاءها وهم ثابت البناني ، وأيوب السجستاني ، وصالح المري ، وعتبة الغلام ، وحبيب الفارسي ، ومالك بن دينار .

وننقـــل فيما يلي نص ما جاء في هامش كتاب بحار الأنوار ( ج 46 ، ص 50 ) عن هؤلاء الْعُبَّاد بالترتيـب :

أولاً :

ثابت البناني : من التابعين وقد ترجمه أبو نعيم في حلية الأولياء ( ج 2 ، ص 318 إلى ص 333) فقال : ومنهم المتعبد الناحل ، المتهجد الذابل ، أبو محمد ثابت بن مسلم البناني ، وذكر أنه أسند عن غير واحد من الصحابة منهم : ابن عمر ، وابن الزبير ، وشداد وأنس وأكثر الرواية عنه . وروى عنه جماعة من التابعين منهم : عطاء بن أبي رياح ، وداود بن أبي هند ، وعلي بن زيد بن جدعان ، والأعمش ، وغيرهم .

ثانياً :

أيوب السجستاني : من التابعين . قال أبو نعيم في حلية الأولياء ، وقد ترجمه في ( ج 3 من ص 3 إلى ص 13 ) : ومنهم فتى الفتيان ، سيد العبّاد والرهبان ، المنوَّر باليقين والإيمان . السجستاني أيوب بن كيسان . كان فقيهاً محجاجاً ، وناسكاً حجاجاً ، عن الخلق آيساً ، وبالحق آنساً .

أسند أيوب عن أنس بن مالك ، وعمرو بن سلمة الجرمي . ومن قدماء التابعين ، عن أبي عثمان الهندي ، وأبي رجاء العطاردي ، وأبي العالية ، والحسن ، وابن سيرين وأبي قلابة .

وذكره الأردبيلي في جامع الرواة ( ج 1 ، ص 111 ) فقال : أيوب بن أبي تميمة ، كيسان السجستاني العنزي البصري ، كنيته أبو بكر مولى عمار بن ياسر ، وكان عمار مولى ، فهو مولى مولى . وكان يحلق شعره في كل سنة مرة ، فإذا طال فَرَق . مات بالطاعون بالبصرة سنة 131 .

ثالثاً :

صالح المري : هو ابن بشير ، وصفه أبو نعيم في الحلية ( ج 6 ، ص 165 ) بقوله : القارئ الدرِي ، والواعظ التقي ، أبو بشير صالح بن بشير المري ، صاحب قراءة وشجن ومخافة وحزن . يحرك الأخيار ، ويفرك الأشرار .

اسند عن الحسن ، وثابت ، وقتادة ، وبكر بن عبد اللـه المزني ، ومنصور بن زاذان وجعفر بن زيد ، ويزيد الرقاشي ، وميمون بن سياه ، وأبان بن أبي عياش ، ومحمد بن زياد ، وهشام بن حسان ، والجريري ، وقيس بن سعد ، وخليد بن حسان في آخَرِين .

رابعاً :

عتبة الغلام : هو الحر الهمام ، المجلو من الظلام ، المكلوء بالشهادة والكلام ، قال عبيد اللـه بن محمد : عتبة الغلام هو عتبة بن أبان بن صمعة ، مات قبل أبيه . وسئل رباح القيسي عن سبب تسمية عتبة بالغلام فقال : كان نصفاً من الرجال ، ولكنّا كنّا نسميه الغلام لأنه كان في العبادة غلامَ رهِان ، استشهد وقتل في قرية الحباب في غزو الروم ، ترجمه مفصلاً أبو نعيم في الحلية ( ج 6 ، ص 226 إلى 238 ) .

خامساً :

حبيب الفارسي : قال أبو نعيم في الحلية ( ج 6 ، ص 149 ) : أبو محمد الفارسي من ساكني البصرة ، كان صاحب المكرمات ، مُجاب الدعوات ، وكان سبب إقباله على الآجلة وانتقاله عن العاجلة ، حضوره مجلس الحسن بن أبي الحسن ، فوقعت موعظته من قلبه .. وتصدق بأربعين ألفــــاً في

أربع دفعات .

سادساً :

مالك بن دينار أبو يحيـــى ، وصفه أبو نعيم في الحلية بقوله : العارف النظَّار ، الخائف الجبَّار .. كان لشهوات الدنيا تاركاً ، وللنفس عند غلبتها مالكاً ، وقد أطال في ذكره ( ج 2 ، من ص 357 إلى ص 389 ) .

استجابة دعائه (ع)

عن ثابت البناني قال : كنت حاجّاً وجماعةَ عٌبَّاد البصرة مثل أيوب السجستاني وصالح المري وعتبة الغلام وحبيب الفارسي ومالك بن دينار . فلما ان دخلنا مكة رأينا الماء ضيقاً ، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث . ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألونا أن نستسقي لهم ، فأتينا الكعبة وطفنا بها ، ثم سألنا اللـه خاضعين متضرعين بها ، فَمُنعنا الإجابة ، فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتىً قد أقبل ، قد أكربته أحزانُه ، وأقلقته أشجانُه ، فطاف بالكعبة أشواطاً ، ثم أقبل علينا فقال : يا مالك بن دينار ، ويا ثابت البناني ، ويا أيوب السجستاني ، ويا صالح المري ، ويا عتبة الغلام ، ويا حبيب الفارسي ، ويا سعد ، ويا عمر ، ويا صالح الأعمى ، ويا رابعة ، ويا سعدانة ، ويا جعفر بن سليمان ، فقلنا : لَبَّيك وسعدَيك يا فتى . فقال : أما فيكم أحد يحبه الرحمان ؟. فقلنــــا : يا فتى علينا الدعاء وعليه الإجابة . فقــــال : ابعدوا من الكعبة ، فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمان لأجابه . ثم أتى الكعبة فخر ساجداً فسمعته يقول في سجوده : سيدي ، بحبك لي إلاّ سقيتهم الغيث ، قال : فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه الْقُرَب ، فقلت يا فتى : من اين علمت أنه يحبك ؟ قال : لو لم يحبني لم يستزرني ، فلما استزارني علمتُ أنّه يحبني ، فسألتُه بحبه لي فأجابني ، ثم ولى عنّا وأنشأ يقول :

مـــــــــــــــن عــــــــــــرف الـــــــرب فلـــــــــــــــــــــم يُغنـــــــــــــــــــــه معـــــــــرفــــــــــــــــةُ الـــــــــــــــــــرب فـــــــــــــــذاك الشقـــــــــــي

مــــــــا ضــــــــــرَّ فـــــــــــــــــــي الطاعـــــــــــة مـــــــا نالــــــــــــــه فــــــــــــــي طــــــــــــاعـــــــــــــــة اللــــــــــــــه ومــــــــــاذا لقــــــــي

مــــــا صنــــــع الــــــعبـــــــد بـــــغــــــــيـــــــــــر الــتــقــــــــــــــــــى والعــــــــــــــــــزُّ كــــــــــــــــــــــــلُّ العــــــــــــــــــــــــزِّ للمتَّقــــــــــــــــــــي

فقلت : يا أهل مكة من هذا الفتى ؟. قالوا : علي بن الحسين (ع) بن علي بن أبي طالب .

وعن المنهال بن عمرو في خبر قال : حججت فلقيت عليَّ بن الحسين (ع) ، فقال : ما فعل حرملة بن كاهــل ؟. قلت : تركته حيّاً بالكوفة ؛ فرفع يديه ثمَّ قال (ع) : اللـهمَّ أذِقْهُ حَرَّ الحديد ، اللـهمَّ أذِقْهُ حَرَّ النـــــار . فتوجّهت نحو المختار ، فإذا بقوم يركضون ويقولون البشارة أيّها الأمير ، قد أُخِذَ حرملةُ ، وقد كان توارى عنه ، فأمر بقطع يديه ورجليه وَحرْقه بالنار .

وكان زين العابدين (ع) يدعو في كلِّ يوم أن يريه اللـه قاتل أبيه مقتولاً ، فلمّا قتل المختارُ قَتَلَة الحسين صلوات اللـه وسلامه عليه بعث برأس عبيد اللـه بن زياد ورأس عمر بن سعد مع رسول من قِبَلِه إلى زين العابدين ، وقال لرسوله : إنّه يصلّي من اللّيل ، وإذا أصبح وصلّى صلاة الغداة هجع ، ثمَّ يقوم فيستاك ويؤتى بغدائه ، فإذا أتيت بابه فاسأل عنه ، فإذا قيل لك : إنَّ المائدة وضعت بين يديه فاستأذن عليه وضع الرأسين على مائدته ، وقل له : المختار يقرأ عليك السلام ويقول لك : يابن رسول اللـه ، قد بلّغك اللـه ثارك . ففعل الرَّسول ذلك : فلمّا رأى زين العابدين (ع) الرأسين على مائدته خرَّ ساجداً وقال :

الحمد لله الّذي أجاب دعوتي ، وبلّغني ثاري من قتلة أبي ، ودعا للمختار وجزّاه خيراً [277] .

وحينما نعرف جانباً من شخصية الإمام زين العابدين (ع) ومدى تفانيه في ذات اللـه عزَّ وجلَّ وذوبانه في تيار حبِّه سبحانه ، وخلوصه من شوائب المصلحة المادية ، نعرف - حينئذ - جانباً من حكمة الولاية ، وذلك التأكيد الشديد عليها في نصوص الإسلام . فمثل ولاية الإمام السجاد تصلح نفس الإنسان وتتسامــــى في معارج الكمال ، وإن ولاية الأنبياء والأوصياء تصبغ شخصية المجتمع المؤمن بصبغة الإيمــان ، وتيسر له العمل بتعاليم أولياء اللـه تعالى ، والسعي وراء تمثيل شخصياتهم الإلهية ، كما أن تلك الولاية تسقي روضة حب اللـه في أفئدتهم ، وتصونها من الذبول ، لأن حب أولياء اللـه يفيض من حب اللـه كما تفيض الروافد من نبعٍ زخَّار ، بل إن حب أولياء اللـه هو انبساط لحب اللـه ، وأمثلة له وشواهد عليه !. وكيف يمكن أن يدَّعي أحد أنه يحب اللـه ثم لا يحب من هام في حب اللـه حتى بلغ ما بلغه الإمام زين العابدين (ع) من العبادة والتهجد ؟!

أولم يقل ربُّنا العزيز :

«

قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللـه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللـه »

(آل عمران/31) .

فلنغترف من نبع حب اللـه فيضاً ، وذلك بِحُبِّ أوليائه أكثر مما مضى ، حتى نطهِّر أفئدتنا من أهواء الدنيا ومن أدران حب أهلها اللئام .

الفصل الثاني : ميـــلاده وعصــره (ع)

كان الإمام زين العابدين (ع) في قلب الأحداث السياسية التي ساهمت في تكوين الأمة الإسلامية ، ورَسْمِ ملامحها التاريخية ..

لقد ولد ( سلام اللـه عليه ) في بيت جدِّه علي أمير المؤمنين (ع) ، من نجله الكريم الإمام الحسين (ع) ، عندما كان الإمام يخوض صراعاً مريراً مع أعداء الإسلام المتستِّرين في الجمل وصِفين والنهروان ، وكان والده الحسين (ع) قائداً في جيش الإسلام - يومئذ - كما كان مضطلعاً مع والده بإدارة أمور المسلمين ..

ولا ريب أن تلك الأحداث الرهيبة التي لازالت أصداؤها تدوي في واقعنا حتى اليوم ، ساهمت في صنع شخصيـة الوليد الكريم الذي استقبله بيت الإمامة في عام ( 35 ) للهجرة الكريمة ، عندما كانت الأمة الإسلامية تعيش غلياناً انتهى بمقتل الخليفة الثالث ، وما أعبقه من فتنة بني أمية في المطالبة بدمه .

أُم السجاد (ع) :

جاء في كتب التاريخ أن والدة الإمام السجاد (ع) هي ( شهر بانو ) بنت آخر ملوك الفرس ، من سلسلة الساسانية ( يزدجرد ) .

وكانت الأمبراطورية الفارسية كأي نظام جاهلي آخر قائمٍ على الطبقية والظلم والعدوان ، فلما أشرق نور الإسلام تهاوت كما تتهاوى شجرة منخورة أمام إعصارٍ عنيف ، وانهزم الأمبراطور من بلد إلى آخر حتى قُتل غيلةً في خراسان ، وبقيت عائلته في تلك البلاد حتى فتحت على عهد عثمان في عام ( 32 ) وجيء بهم إلى المدينة المنورة ، فلما مثلوا أمام الخليفة الثالث وحضر كبار الأصحاب ، أشار الإمام أمير المؤمنيـن (ع) إلى الخليفة بإكرامهم ورغّبه في ذلك بذكر حديث الرسول (ص) : أكرموا عزيزَ قومٍ ذَل .

ولعل الحكمة في ذلك كانت استمالة الشعوب التي لم تزل تحترم قيادتها وكرماءها ، لكي لاتبقى بينهم وبين قبول الإسلام حواجز الحقد والضغينة .

فلما تريث الخليفة في ذلك قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : اعتقتُ منهم لوجه اللـه حقي وحق بني هاشم .

وتبعــــه في ذلك الأنصار والمهاجرون ، فلم ير الخليفة بـدّاً من قبول الأمــــر ، فأشــــار الإمام أمير المؤمنيــــن (ع) بأن تُترك كلُّ واحدةٍ لاختيار الزوج المناسب ، فاختارت إحدى بنات يزدجرد الحسين (ع) ، بينما اختارت الثانية الحسن ، وقيل محمد بن أبي بكر . فحملت شهر بانو في تلك السنة . وفي منتصف شهر جمادي الأولى لعام ثلاث وثلاثين من الهجرة ولدت ابنها البكر ، وماتت وهي في نفاسها ، فتكفلته واحدة من أمهات الأولاد عند الإمام الحسين (ع) ، فنشأ زين العابدين في كنفها ، وكان يزعم الناس أنها أُمه بينما كانت مولاته [278] .

وفي السابعة من عمره استُشهد جدُّه الإمام أمير المؤمنين (ع) في محراب مسجد الكوفة . وبعد أشهر عاد أهل البيت إلى المدينة حيث ترعرع علي بن الحسين (ع) في ربوعها المضوَّعة بعطر الرسول (ص)، فلما بلغ السابعة عشر اغتيل بالسم عمَّه الإمام الحسن المجتبى (ع) .

وعاش الإمام السجاد (ع) يمارس في ظلال والده الإمام الحسين (ع) دور الريادة في مواجهة الردة الجاهلية الأموية .

وبالرغم من قلة المعلومات التي تفصّل طبيعة هذه المواجهة المتسمة بالهدوء وربما السرّية ، فإن ما بقي لنا من خُطب الإمام الحسين (ع) ضد معاوية ، وكتبه النارية الموجهة إليه ، وما رافق عهد معاوية من انتفاضات بقيادة أصحاب الرسول الموالين لأهل بيته عليه وعليهم صلوات اللـه ، أقول : إن ما بقي لنا من ذلك يُعطينا صورة كافية للحالة السياسية التي عاشها الإمام السجاد أيام والده (ع) ، حينما كان في مقتبل العمر .

بعد عاشوراء :

ومهما كانت قوة الحركة السياسية في عهد معاوية ، فإنها كانت ناراً تحت رماد الهدوء السياسي الذي فرضه معاوية على الساحة بدهائه المعروف وبوسائله المختلفة من توزيع الأموال والمناصب ثمناً لسكوت الطامعين ، وتوزيع العسل المسموم على الأحرار . وقد اشتهر عنه القول : إن لله جنوداً من عسل ..

وهكذا كانت التيارات السياسية تنتظر بفارغ الصبر هلاك معاوية . ومن هنا أصبحت واقعة كربلاء صاعقاً فجَّر الثورات في آفاق العالم الإسلامي ، لأنها جاءت في الوقت المناسب بعد هلاك وريث أبي سفيان ، داهية العرب ، فافتتحت عصر الثورات المناهضة للجاهلية المقنَّعة .

فبعد شهادة السبط الشهيد (ع) انتفضت مدينة الرسول ، وخلعت يزيد بن معاوية ، وقام عبد اللـه بــن

الزبير بمكة يطالب بالخلافة ، وثارت الكوفة بقيادة سليمان بن صرد ، ثم بقيادة المختار . وهكذا أصبحت الثورات والإنتفاضات صبغة الحياة السياسية في البلاد الإسلامية ، واسلوباً شاخصاً لمواجهة الطغيان والفساد . ولذلك فإننا نستطيع أن نسمي عهد الإمام السجاد (ع) ، خصوصاً في بداياته - منذ واقعة عاشوراء - عهد الثورات والإنتفاضات .

بيد أن الثورة بذاتها ليست هدفاً مقدساً ، وإنما الهدف المقدس هو تلك القيم المتسامية التي تحركها ، وإلاّ فان ضررها يكون أكبر من نفعها . أوليست الثورة بذاتها حالة تمرد على النظام وتعكِّر جو الأمن ، وتُثير الإضطراب ، وتُريق الدماء ؟ وبلى ، فهي - إذاً - حالة استثنائية لا يحمدها العقلاء ، ولكنها إنما تكتسب شرعيتها وقدسيتها من الغايات النبيلة التي تهدف إليها .

فلأنها تخرج الناس من ظلمات الركود والجهل والظلم إلى نور النشاط والعقل والعدالة ، أصبحت الثورة - بمعناها الشامل - صبغة حياة الأنبياء والأوصياء وعباد اللـه الابرار .

ولأنها تزيل عن قلوب الناس رين الغفلة واللامبالاة ، وعن تجمعاتهم سحابة الظلم والإعتداء ، وعن مجتمعهم كابوس الطغيان والفساد ، فقد أصبحت مسؤولية كلِّ حرٍّ أبيٍّ ، ووسامَ حقٍّ لكلِّ ذي كرامة وشرف ..

ومن هنا ركزت نصوص الوحي على هدف الثورات ضمن تعبير القيام لله وحيث قال ربُّنا سبحانه :

«

قُلْ اِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ »

( سبأ/46) .

وقال عزَّ وجلَّ :

« قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ »

(النساء/135) .

وهكذا كانت الحالة الثورية التي عمّت آفاق البلاد الإسلامية ببركة استشهاد الإمام الحسين (ع) ، بحاجة إلى هوية وصبغة ، وروح ، وقيم ، لكي تتكرس في ضمير الأمة ، ولا تصبح كشعلة السعف أو زوبعة الفنجان لا تلبث أن تتلاشى .. ولكي تتخذ مساراً رساليّاً مستقيماً ، ولا تصبح أداةً بيد كلِّ طامع أو متهوِّر كأمثال عبد اللـه بن الزبير وكغيره من الذين طفقوا يستفيدون منها بابشع صورة .

فهذا ابن الزبير يصعد المنبر بعد مقتل الإمام الحسين (ع) فيثني عليه ويلعن قاتله ويخلع يزيد . ولكن عندما أحس باستتباب الأمر له أظهر عداءً شديداً لآل البيت (ع) ، حتى أنه ترك الصلاة على جدهم النبي (ص) ، لكي لا يشمخوا بأنوفهم عند ذكره حسب قوله !

فمن أجل ألا تصبح الحالة الثورية مطية لكل من يهوى السلطة أو يبحث عن مجد مثل ابن الزبير ، جاء الإمام السجاد (ع) يعطي لتلك الحالة هويَّتها الرسالية ، وصبغتها الإلهية ، وروعتها التي تمثلت في قيم الوحي ، وسبيلها القويم الذي رسمته شريعة اللـه تعالى .

ولعل هذا أعظم دور قيادي قام به الإمام السجاد (ع) . ولم يكن هذا الدور نابعاً من حالة مزاجية عند الإمام (ع) أو لأنه شاهدَ مثلاً وقائع الطف الفظيعة ، فاصطبغت شخصيته بها . ولم يملك إلاّ البكاء والتفجّع والتبتّل والضراعة .

أجل ، إن تلك الحادثة كان لها أثرها البالغ في شخصيته الكريمة ، ولكن الإمام المعصوم (ع) يقوم بواجبه الإلهي ، وليس بما تمليه حالته النفسية . والشاهد على ذلك أن الإمام زين العابدين (ع) ، الذي اصطبغت شخصيته الكريمة بالتهجد والبكاء ، حمل رسالة عاشوراء بعد شهادة والده ، هو وعمّته عقيلة الهاشميين زينب (ع) . وما أدراك ما رسالة عاشوراء !. إنها رسالة الجرح الثائر ، والدم المنتصر ، والألم المتمرد ، والإنتفاضة التي لا تهدأ . أَوَما سمعت خطبته اللاهبة في أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من فاجعة الطف كيف أثارت فيهم دفائن العطف ، ونفضت عن أفئدتهم غبار الرهبة والتردد ، فقالوا له : مرنا بأمرك فإنّا مطيعون لأمرك ، لنأخذن يزيد ونتبرأ ممن ظلمك وظلمنا .

ولكنه قال لهم : مسألتي ألا تكونوا لنا ولا علينا .

وها نحن نستمع معاً إلى فقرات من تلك الخطبة الثائرة :

أومأ إلى الناس فسكتوا ، فحمد اللـه وصلَّى على النبيِّ ، ثم قال :

أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أُعرِّفه بنفسي . أنا عليُّ بن الحسين بن علي ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات ، أنا ابن من هُتك حريمه ، وانتُهب ماله ، وسُلب نعيمه . فبأية عين تنظرون بها رسول اللـه (ص) إذا قال لكم : قتلتم عترتي ، وهتكتم حرمي ، فلستم من أمتي ثم بكى (ع) [279] .

وعندما أُدخل أسيراً على ابن زياد الطاغية الذي زعم أنه انتصر على الخط الرسالي وإلى الأبد ، تحدَّاه الإمام (ع) وقال له :

سوف نَقف وتَقفون ، ونُسأل وتُسألون ، فأيّ جواب تردُّون ، وبخصام جدِّنا إلى النار تُقادون [280] .

فلما همّ ابن زياد بقتله قال له الإمام (ع) :

أأنت تهددني بالقتل ؟. أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتُنا من اللـه الشهادة ؟.

وكان موقفه من الطاغية يزيد ، ذلك المجرم الذي لم يدع جريمة شنيعة إلاّ وارتكبها في سني حكمه القصيرة ، كان موقفه قمة في التحدِّي ومثلاً أعلى في الجهاد بالكلمة الرافضة .

ومرة أخرى حينما نال خطيب يزيد في الجامع الأموي من آل بيت الرسول تصدَّى له الإمام السجاد (ع) قائلاً : ويلك يا هذ الخاطب ، اشتريت مَرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوَّأ مقعدك من النار .

ثم التفت إلى يزيد واستأذنه بصعود المنبر ، فلم يجد يزيد بدّاً من ذلك فلما تشرف به المنبر ألقى تلك الخطبة البليغة التي لايزال صداها يدوّي في الآفاق إلى اليوم .. وإلى أبد الآبدين .

وحينما هدم طاغية العراق الحجاج بن يوسف الثقفي الكعبة تصدَّى له الإمام (ع) وقال :

يـا حجـــاج ، عمدت إلى بناء إبراهيم وإسماعيل فألقيته في الطريق وانتهبته ، كأنك ترى أنّه تـــراث لك . إصعد المنبر وانشد الناسَ أن لايبقى أحد منهم أخذ منه شيئاً إلاّ ردَّه [281] .

وهكذا كانت سجية الإمام الشجاعة ، ولكن الظروف التي عاشها لم تكن تنقصها الثورة والشجاعة ، لأن واقعة الطف قد شحنت ضمير الأمة بالشجاعة بِما يكفيها لقرون متمادية ، وربما إلى الأبد . إنما كانت بحاجة إلى صبغة إيمانية تسمو بالثورة إلى أهدافها القيّمة ، وهكذا اتَّجه الإمام (ع) إليها .

فزعم السذج من الناس أن ذلك كان مزاجاً شخصيّاً . كما زعموا في مثل ذلك في الأنبياء . فمنهم من قال : إن تضحية إبراهيــــم وصبر نوح ، ووحدة موسى وزهد عيسى وخُلق محمد عليهم جميعاً صلوات اللــــه ، وسائر الصفات المتميزة لكل نبيٍّ من رُسل اللـه (ع) إنما كانت سمات شخصياتهم ، وحالاتهم المزاجية ، ناسيــــن أن اللـه تعالى أعلم حيث يجعل رسالته ، وأنه لا يجعل رسالته إلاّ حيث تقتضي حكمتـــه . وأن تلك الصفات التي تجلَّت بهم كانت ضرورية للظروف التي عاشوها والبشر الذين تعاملوا معهم . حتى ولو افترضنا جدلاً أن نبيّاً وُضِعَ في مقام نبيٍّ آخر لتبنّى سلوكه وعمل بمنهاجه ، بلا اختلاف قليل أو كثير .

وكالأنبياء يكون الأئمة ، فلكل واحد منهم صحيفة يعمل بها ، وقد كانت مرسومة ضمن السياق التاريخي الذي عاشه . وحسب تلك الصحيفة الإلهية عمل الإمام السجاد (ع) . الذي كانت حياته قمة في العبــــادة والضراعة ، وبثَّ روح الإيمان في المجتمع ، وتربية رجال متميزين في الزهد والتهجد ، من أمثـــال : الزهري ، وسعيد بن جبير ، وعمر بن عبد اللـه السبيعي ، وآخرين ..

وهكذا رسمت صحيفة السجاد (ع) منهاج إمامته فيما يبدو في التركيز على الجانب الروحي ، على أنه كان في طليعة مهامِّ سائر الأئمة (ع) ، إلاّ أن الحاجة إليه كان في عهد الإمام زين العابدين (ع) أشد ، ولذلك كان التركيز عليه أعظم . ولكن السؤال : كيف اضطلع الإمام بهذه المهمة ؟. وأي منهاج اتَّبعه لبلوغ هذا الهدف العظيم ؟

منهاج الإمام (ع) في التربية الروحية :

ممَّا لاشك فيه أن أئمة الهدى هم مشاعل الحق للأجيال في كل عصر ومصر ، ولكن لأن الظروف مختلفة من جيل لآخر ، ومن مصر لمصر ثان ، ولأن اللـه قد ختم بالمصطفى رسالاته ، وبأوصيائه خلفاءه المعصومين ، فإن حكمته اقتضت أن تكون سيرة كل واحد منهم متميزة بهدى ومنهاج ، ليكون مجمل سيرهم المتنوعة ذخيرة غنية يرجع الناس إليها ليأخذوا منها ما يتناسب وظروفهم الخاصة ..

وكانت سيرة الإمام علي بن الحسين (ع) الإيمانية هي المنهاج المتناسب كليّاً وظروف مشابهة لظروفنا في بعض البلاد حيث حبانا اللـه سبحانه بحالة ثورية تحتاج إلى المزيد من الروح الإيمانية حتى لاتخرج الحركة عن مسارها الديني ، ولا تفسد السياسة ومصالحها وحتمياتها النقاء الإيماني الذي يحتاجه العاملون في سبيل اللـه .

فماذا كانت سيرته ، وماهو برنامجه ؟

أولاً :

كان عباد اللـه المخلصون دعاة إلى اللـه بسلوكهم قبل أن يكونوا دعاة بألسنتهم ، فما أمروا الناس بشيء إلاّ وسبقوهم إليه .

وكانت حياة الإمام السجاد (ع) لوحة إيمانية نقية ، وقد تحدثنا عنها في فصل آخر . وقال عنه جابر بن عبد اللـه الأنصاري الصحابي الشهير : ما رأيت في أولاد الأنبياء شخصاً كعلي بن الحسين (ع) .

ثانياً :

تربية جيل من العلماء الربانيين الذين ربوا بدورهم علماء وثائرين وعبّاداً صالحين . وهكذا تماوجت تعاليم الإمام عبر النفوس الزكية في حلقات مترامية كالصخرة العظيمة تُلقى في بحر واسع ..

وكان في هؤلاء الرجال العرب والموالي ،ولكلٍّ قصة وتاريخ . فَدَعْنا نتزود من عبق سيرة حواري الإمام (ع) الذين كان أكثرهم من التابعين :

ألف :

كـــان سعيد بن جبير من أولئك التابعين الذين اقتبس من الإمـام زين العابديــــن (ع) روح الإيمـــان .. كان مثلاً في العبادة والإجتهاد كان يسمى بـ ( بصير العلماء ) ويقرأ القرآن في ركعتين ، وبلغ من علمه أنه اشتهر بين العلماء أنه ما على الأرض أحد إلاّ وهو محتاج إلى علمه [282] .

واستشهد سعيد على يد طاغية العراق الحجاج . ويقول الإمام الصادق (ع) :

إن سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن الحسين ، فكان علي يثني عليه . وما كان سبب قتل الحجاج له إلاّ على هذا الأمر ، وكان مستقيماً [283] .

ومن خلال حوار ساخن جرى بينه وبين جزار بني أمية الزنيم نعرف مدى استقامة هذا العالم الرباني .

ذكر أنه لما دخل على الحجاج بن يوسف قال له : أنت شقي بن كسير .

قال : أُمي كانت أعرف بي ، سمتني سعيد بن جبير .

وقيل إنه سأله كيف يفضل أن يقتله ؟ قال : اختر لنفسك ، قال وكيف ذلك ؟. قال : لأنه لاتقتلني بقتلة إلاّ وأقتلك بها يوم القيامة .

باء :

وكان عمرو بن عبد اللـه السبيعي الهمداني الذي يكنى بـ ( أبي إسحاق ) من ثقاة الإمام السجاد (ع) وبلغ من عبادته أن قيل عنه لم يكن في زمانه أعبد منه ، حيث كان يختم القرآن في كل ليلة . وقد صلى اربعين سنة صلاة الفجر بوضوء صلاة العتمة ، وكان محدثاً لا أوثق منه في الرواية عند الخاص والعام [284] .

جيم :

وكان الزهري عاملاً في بلاط الأمويين ، فعاقب رجلاً فمات في العقوبة ، فارتاع لذلك فخرج على وجهه هائماً ، واعتكف في غار تسع سنين ، فرآه الإمام السجاد (ع) وهو في طريقه إلى الحج ، فقال له :

إني أخاف عليك من قنوطك مالا أخاف عليك من ذنبك . فابعث بِدِيَةٍ مسلّمة إلى أهله ، واخرج إلى أهلك ومعالم دينك .

فقال له : فرّجتَ عني يا سيدي ، اللـه أعلم حيث يجعل رسالته . ورجع إلى بيته ، ولزم علي بن الحسين (ع) . وكان يعد من أصحابه . ولذلك قال له بعض بني مروان : يا زهري . ما فعل نبيك ، يعني علي بن الحسين [285] .

ومن هذه الرواية نعرف كيف كان اللـه يهدي الناس بالإمام حتى يصبح عامل بني أمية من كبار العلماء المعروفين عند كل الفرق الإسلامية كالزهري .

دال :

وكان سعيد بن المسيب بن حزن من كبار التابعين الذين ربَّاهم أمير المؤمنين (ع) ، والتزم خط آل البيت (ع) حتى كان من صفوة أصحاب الإمام السجّاد (ع) . وعنه قال : سعيد بن المسيّب أعلم الناس بما تقدم من الآثار [286] .

وقـــد قال رجل لسعيد يوماً : ما رأيت رجلاً أورع من فلان ( وذكر اسم رجل من الناس ) فقال له سعيد : فهل رأيت علي بن الحسين ؟. قال : لا ، قال سعيد : ما رأيتُ رجلاً أورع منه [287] .

ومثل هؤلاء طائفة كبيرة من كبار علماء الإسلام الذين أخذوا عن الإمام الزهد والتقوى ، والتفسير والحكمة والفقه ، حتى قال الشيخ المفيد : إنه روى عنه الفقهاء من العلوم مالا يحصى كثرة ، وحفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ماهو مشهور بين العلماء .. وقال ابن شهر اشوب : قلَّما يوجد كتاب زهد وموعظة لم يذكر فيه : قال علي بن الحسين ، أو قال زين العابدين (ع) [288] .

وكان شديد الإحترام لطلبة العلوم الذين كانوا يتوافدون عليه في المدينة من أقطار العالم الإسلامي ، ويرى أنهم وصية رسول اللـه (ص) .. وكان العلماء يستلهمون من سلوكه الهدى والورع قبل أن يتلقوا من منطقه العلم والمعرفة ، ومن لايستلهم نور اللـه من تلك الطلعة الربانية ، من العين التي تفيض من خشيــــة اللـه ، والجبهة التي عليها ثفنات من أثر السجود ، من ذلك اللسان الذي لايني يذكر اللـه عزَّ وجــلَّ .. وبالتالي من تلك السيرة التي يشع منها نور اللـه تبارك وتعالى .

يذكر عبد اللـه بن الحسن فيقول : كانت أمي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسيـن (ع) . فما جلست إليه قط إلاّ قمت بخير قد أفدته ، إما خشية لله تَحدث في قلبـــــي لما أرى مـــــن

خشيته لله ، أو علم قد استفدته منه [289] .

وكانت الفتوحات الإسلامية تطوي كل يوم بلداً جديداً ، وتضم إلى الجسد الإسلامي عضواً جدياً ، ولكنها كانت بحاجة إلى زخم إيماني يصهر مختلف الثقافات والتقاليد والمصالح في بوتقة الأُمة الواحدة .

وقد تصدى الإمام زين العابدين (ع) وأصحابه وأنصاره لهذه المسؤولية وبسبل شتى . فقد كان شديد الإحترام للموالي ، وهم المنتمون إلى سائر الشعوب التي دخلت في الإسلام ، بعد فتح البلاد لها ، ولمّا تبلغ من المعارف الإلهية نصيباً كافياً .

وكان كثير من الموالي من خيرة أصحاب الإمام (ع) . كما كان الإمام يتبع منهجاً فريداً في زرع القيم الإلهية في أفئدة ثلة مختارة منهم .. حيث كان يشتري العبيد ويتعامل معهم بأفضل طريقة ثم يُعتقهم ويزوِّدهم بما يوفر لهم الحياة الكريمة ، فيكون كل واحد منهم ركيزة إعلامية بين بني قومه .. ولنقرأ معاً أخلاق الإمام في تعامله مع مواليه قبل أن نعرف كيف كان يعتقهم ، فإن تلك الأخلاق الحسنة كانت مدرسة عملية لهم إلى جانب التوجيه المباشر .

روي عن عبد الرزاق ( أحد الرواة ) أنه قال : جعَلت جارية لعلي بن الحسين (ع) تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه . فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية : إنّ اللـه يقول :

« وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ »

(آل عمران/134) قال : كظمت غيظي ، قالت :

« وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ »

(آل عمران/134) قال لها : عفا اللـه عنك ، قالت :

« وَاللـه يُحِبُّ الْمُـحْسِنِينَ »

، (آل عمران/134) قال : اذهبي فأنت حرّة لوجه اللـه عزَّ وجلَّ [290] .

هكــــذا كان يتعامـل مع الرقيق الذين اعتبرهم بعض الناس ذلك اليوم ان لهم طبيعة غير طبيعة الإنسان ، فكيف لا يؤثر فيهم ذلك الخلق الرفيع ؟.

ويروي بعضهم القصة التالية التي تعكس مستوىً رفيعاً من الصفح والسماحة والإيثار ، تقول الرواية :

كان عنده (ع) قوم أضياف ، فاستعجل خادماً له بشواءٍ كان في التنور ، فأقبل به الخادم مسرعاً فسقط السفود منه على رأس بُنَيٍّ لعلي بن الحسين تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله ، فقال عليٌّ للغلام وقد تحير الغلام واضطرب : أنتَ حرٌّ ، فإنك لم تعتمده ، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه [291] .

وكـان له مولى يتولّى عمارة ضيعة له، فجاء فأصاب فيها فساداً وتضييعاً كثيـــراً. فغاظه ما رأى من ذلك وغمّه ، فقرع المولى بسوطٍ كان في يده وندمَ على ذلك ، فلما انصرف إلى منزله أرسل في طلب المولى فجاء فوجده عارياً والسوط بين يديه ، فظنّ أنّه يريد عقوبته ، فاشتد خوفه ، فقال له علي بن الحسين :

قد كان مني إليك مالم يتقدَّم مني مثلُه ، وكانت هفوة وزلَّة ، خذ ذلك السوط واقتصَّ مني .

فقال : يا مولاي واللـه إن ظننت إلاّ أنّك تريد عقوبتي ، وأنا مستحق للعقوبة . فكيف اقتصُّ منك ؟! قــال : ويحك اقتصّ ؟ قال : معاذ اللـه أنتَ في حلٍّ وسعة ، فكرَّر عليه ذلك مراراً والمولى يتعاظم قوله ويجلله ، فلما لم يره يقتص قال له : أمّا إذا أبيتَ فالضيعة صدقة عليك [292] .

هذه نماذج من الخلق الكريم الذي اتّسَم به سلوك الإمام (ع) مع الموالي . وقد كان أسلوب عتق الإمام لهـــم متميزاً يرويه التاريخ بجلال وإعجاب . فقد روى ابن طاووس في كتاب شهر رمضان المعروف بالإقبال ، بسنده عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : كان علي بن الحسين (ع) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ، ولا أَمَة . وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان ، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه . فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ، ثم أظهر الكتاب ثم قال : يا فلان فعلت كذا وكذا ولم أؤذك أتذكر ذلك ؟ فيقول بلى يابن رسول اللـه . حتى يأتي على أخرهم ويقررهم جميعاً ثم يقوم وسطهم ويقول : ارفعوا أصواتكم وقولوا : يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كلَّ ما عملت كما أحصيت علينا ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها وتجد كلَّ ما عملت لديه حاضراً ، فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح ، فإنه يقول : وليعفوا وليصفحوا ، ألا تحبون أن يغفر اللـه لكم ، وهو ينادي بذلك على نفسه ويلقنهم وينادون معه وهو واقف بينهم يبكي ويقول :

ربَّنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا ، وقد عفونا عمن ظلمنا كما أمرت ، فاعف عنَّا فإنك أولى بذلك منَّا ومن المأمورين . إلهي كرمت فأكرمني إذ كنت من سؤالك وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم .

ثم يقبل عليهم فيقول قد عفوت عنكم ، فهل عفوتم عني ما كان مني إليكم من سوء ملكة فإني مليك سوء لئيم ظالم مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضل ؟. فيقولون : قد عفونا عنك يا سيدنا ، وما أسأت . فيقول لهم قولوا : اللـهم اعف عن علي بن الحسين كما عفا عنَّا وأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق . فيقولون ذلك ، فيقول : اللـهم آمين ربَّ العالمين ، اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم رجاء للعفو عني وعتق رقبتي . فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس . وما من سنة إلاّ وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين نفساً إلى أقل أو أكثر . وكان يقول : إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف عتيق من النار ، كُلاًّ قد استوجب النار . فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثلما أعتق في جميعه . وإني لأحب أن يراني اللـه وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا ، رجاء أن يعتق رقبتي من النار . وما استخدم خادماً فوق حول . وكان إذا ملك عبداً في أول السنة أو في وسط السنة ، إذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني ثم أعتقوا كذلك . ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة ، يأتي بهم عرفات فيسد بهم تلك الْفُرج فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم وجوائز لهم من المال .

الفصل الثالث : دور الإمام (ع) في الاعلام الرسالي

الإعلام الرسالي هو الجهر بالقيم التي يدعو إليها الوحي . ولعل الكلمة المرادفة له في المنطق الإسلامي الأذان . وإذا كانت الدعوة إلى اللـه هي الركيزة الأولى لرسالات اللـه ، فإن الإعلام جانب أساسي منها .

ولقد كانت واقعة الطف الرهيبة الفجيعة واحدةً من أعظم الإثارات الإعلامية . أولم يقل السبط الشهيد أنا قتيل العبرة ؟. أولم يتواتر عن أئمة أهل البيت (ع) فضلُ البكاء على الحسين (ع) وزيارة قبره ، والدعاء تحت قبته ؟.

وهذا الدور الإعلامي الذي كان الهدف من استشهاد الإمام الحسين (ع) اضطلع به الإمام زين العابدين (ع) ، ومعه البقية العائدة من كربلاء ، وبالذات عقيلة الهاشميين زينب الكبرى (ع) .

وبقي الإمام (ع) خمساً وثلاثين سنة قائماً بهذا الدور حتى رسَّخ في ضمير الأمة قواعدَ الإعلام الحسيني المبارك على النحو التالي :

ألف :

كان أول وأعظم هدف لوسائل الإعلام الحسيني ، إظهار الجانب المأساوي لواقعة الطف ، لتبقى راسخة في ضمير الأجيال المتصاعدة ، ولتكون شعلة متقدة في أفئدة المؤمنين ، تستثير فيهم حوافز الخير والفضيلة ، وتدعوهم إلى الإجتهاد والإيثار ، وليقولوا على مدى العصور : يا ليتنا كنَّا معك فنفوز فوزاً عظيماً ، وليكونوا أبداً جنود الحق المتفانين في سبيل اللـه لكي لا تتكرر فاجعة الطف مرة أخرى ؛ أو ليكونوا . إذا وقعت مشاركين فيها بسهم واق ، ومدافعين عن الحق بكل قواهم .

ومن هنا نجد الإمام زين العابدين (ع) واحداً من البكَّائين الخمسة في عداد آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد عليهم جميعاً صلوات اللـه وسلامه .

لقد بقي باكياً بعد واقعة الطف ثلاثاً وثلاثين عاماً ، ما وُضع أمامه طعام إلاّ وخنقته العبرة وقال : لقد قتل ابن بنت رسول اللـه جائعاً ، فإذا جيء إليه بشراب انهالت دموعه فيه وقال : لقد قتل ابن بنت رسول اللـه عطشاناً . وإذا مرّ على جزّار استوقفه وسأله : هل سقى الشاة ماءً ، ثم طفق يبكي ويقول : لقد قتلوا سبط رسول اللـه ظامئاً على شط الفرات .

وقد ضج لبكائه مواليه وأهل بيته . قال له أحد مواليه مرة : جُعلت فداك يابن رسول اللـه ، إني أخاف أن تكون من الهالكين ، قال : إنما أشكو حزني إلى اللـه ، وأعلم من اللـه مالا تعلمون . إني لم أذكر مصرع

بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة [293] .

باء :

ولم يكن البُكاء الرسالة الوحيدة التي حملها الإمام زين العابدين (ع) إلى التاريخ ، فقد كانت رسالة الكلمة الثائرة هي المشكاة الصافية التي تشع من خلالها رسالة الكلمة . فمنذ الأيام الأولى لملحمة كربلاء عملت كلماتُ آل البيت (ع) وفي طليعتهم الإمام السجاد والصديقة زينب الكبرى (ع) في هدم جدار الصمت والتردد والخوف ، في الكوفة ، وفي الشام ، ثم في المدينة المنورة .

وحينما فرّق عامل يزيد الأشدق أهل البيت في البلاد الإسلامية خشية انتفاضة أهل المدينة حسب بعض الروايات التاريخية ، رُفِعَ لظُلامة الحسين (ع) في كل حاضرة منبر وجهاز إعلامي مقتدر .

ومن أشهر خطب الإمام (ع) تلك الرائعة التي أوردها في مسجد الشام ، والتي تحتوي على منهاج المبنر الحسيني الذي لو اتَّبعناه ، لكان أبلغ أثراً وأنفذ في أفئدة الناس . وها نحن نتدبر في مفردات هذا المنهج قبل أن نستوحي معاً نص الخطاب :

ألف :

حدد الإمام أهداف المنبر إذ قال للخاطب الذي سبقه إلى المنبر : اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوَّأ مقعدك من النار .. وتوجه إلى يزيد وقال له : أتأذن أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلام فيه لله رضاً ولهؤلاء الجلساء نفع وثواب .

إذاً لابد أن تكون توجيهات الخطيب خالصة لوجه اللـه ، وأن يبحث عما يرضي اللـه ، حتى ولو أسخط الطغاة ، وأن ينطق بما ينفع الناس لا بما يضرهم .

/ 35