الفصل الرابع: عهد امامته عليه السلام - نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید


لو أمرت به لكنت قاتلاً ، أو نهيت عنه لكنت ناصراً .


وأضاف : وأنا جامع لكم أمره : استأثر فأساء الاثرة ، وجزعتم فأسأتم الجزع ، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع [102] .


ولعل حكم اللـه الواقع في المستأثر أن يكبوَ به فرس السلطة ويقتل على فراشه ، وحكمه في الجازع أن يكون كمن يجتني الثمرة في غير أوانها فلا يهنأ بها . وهكذا استطاع الحزب الأموي أن يستفيد من مقتل الخليفة أكثر من الثوار . حتى تبرَّأ من مقتل الخليفة مَن كان مِن أشد المحرِّضين عليه ، فهذه أم المؤمنين عائشة كانت تهتف : اقتلوا نعثلاً فقد كفر . وهذا طلحة والزبير ، كانا يواصلان التحريض عليه ويجرِّدان الجيوش ضدَّه . وهذا عمرو بن العاص يؤلِّب عليه حتى الرعاة . ولكنهم جميعاً انحازوا إلى صف المطالبين بدمه .


ولو سمعوا نصيحة الإمام عليه السلام لكانت الخلافة تعود إلى مراسيها دون إراقة دماء ، وإثارة الفتن .



الفصل الرابع: عهد امامته عليه السلام


هكذا سعت الخلافة نحو الإمام (ع) :


وحملت أمواج الإضطراب سفينة الأمة بعيداً عن شواطئ الأمان ، واجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير ، وأجمعوا على بيعة الإمام (ع) فجاؤوا إليه مسرعين وقالوا : لابد للناس من إمام .


قال : لا حاجة لي في أمركم ، فَمَنِ اخترتم رضيت به .


قالوا : ما نختار غيرك ؛ وأضافوا : إنا لا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك .


قال : لاتفعلوا ، فإني أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً .


فقالوا : لا واللـه ، ما نحن بفاعلين حتى نبايعك .


قال : ففي المسجد ، فإن بيعتي لاتكون خفيّةً ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين .


فخشي الناس عليّاً ، فقالوا نبايعك ، فقد ترى ما نزل بالإسلام .


فقال : دعوني والتمسوا غيري ، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان . لاتقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول .


فقالوا ننشدك اللـه ، ألاَ ترى ما نحن فيه ؟ ألاَ ترى الإسلام ؟ ألاَ ترى الفتنة ؟


فقال : قد أجبتكم وإني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم [103] .


أجل ، إن الإمام (ع) يرفض الخلافة لأن أمواج الفتنة قد بلغت أعلى مد ، ويود لو يكون وزيراً يساهم من موقع حُرٍّ في إخماد نيران الفتنة ، ولكن لا أحد رشح نفسه للخلافة ، ولا أحد كان يقبل بغير الإمام (ع) .


والإمام يرفض بيعة أهل الحل والعقد من دون رضا الناس ، ويرى ذلك حق عامة الناس ، فيجعلها في المسجد على الملأ العام .


ويشترط عليهم بأن يقودهم على علمه ، لا بجهلهم ، ووفق سنّة الرسول ، لا مصالح أصحابه وضغوط القوى السياسية .


واستقبل الإمام عهده ، بالثورة ضد الوضع الفاسد ، وقد عقد عزمات قلبه جميعاً على مواجهة كل تلك العقبات التي خضع لها أو توقف عندها من كان قبله ، وأعظمها القوة السياسية المتنامية عند بني أميـــة ،


ومن تحالف معهم من بقايا العهد الجاهلي .


والواقع أن تصفية هذه القوة ، كانت من أعظم المهام الرسالية التي بدأها الرسول ، وتابع أصحابه من بعده نهجه بفتور ، حتى إذا جاء الإمام (ع) وكانت الظروف مؤاتية ، نهض بها بعزم راسخ .


أو ليسوا هم الشجرة الملعونة في القرآن ، أوليس الرسول (ص) قد حذَّر منهم ، وقال : إذا رأيتم معاوية هذا على منبري فاقتلوه ، ولن تفعلوا .


إنهم كانوا أكبر قوة سياسية في الجزيرة ، وكان الرسول قد احتواهم ، لعلهم يؤوبون إلى رشدهم ، ويكيِّفون أنفسهم مع الواقع الجديد ، أو تقوى شوكة الإسلام فتقضي عليهم في الوقت المناسب . وها قد حان ذلك الوقت ، فإنهم ليس فقط لم يذوِّبوا أنفسهم في بوتقة المجتمع الإسلامي . بل ما فتئوا يدبِّرون المؤامرات ضد القوى الرسالية ، ويتحيَّنون الفرص للانقضاض على السلطة .


ومن هنا نجد الإمام عليَّاً (ع) يبدأ عهده بالهجوم على بني أمية وامتيازاتهم التي ابتزُّوها من الخليفة السابق .


يروي ابن أبي الحديد : عن ابن عباس أن عليّاً خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال :


إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال اللـه فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوّج به النساء وفُرِّق في البلدان لرددته إلى حاله ، فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عنه الحق فالجور أضيق [104] .


وعزل الإمام عمال الخليفة السابق وهم حكام الولايات الإسلامية ، وأصرَّ على عزل معاوية ، قائد الحزب الأموي السياسي والعسكري ، والذي كان يرضى من الإمام إبقاءه على الشام كما فعل السابقون ، لعله يجد فرصة أخرى لتحقيق هدف حزبه في السلطة .


لقد كانت تلك أعظم مسؤوليات الإمام (ع) إذ عهد إليه رسول اللـه (ص) تكميل ما بدأه من تصفية القوى الجاهلية وبقاياها ، وقال له مرة :


تقاتلهم على تأويله ، كما قاتلناهم على تنزيله .


وإن أهل البصائر من أصحاب رسول اللـه (ص) واعون تماماً لهذه الرسالة الإلهية التي يجب عليهم تنفيذها ، وإن الإمام إنما قبل بالإمارة لتحقيق هذا الهدف . وبذل قصارى جهده لتحقيق واحد من هدفين متدرجين :


1- فإما سحق بقايا النظام الجاهلي وإقامة نظام العدل الإسلامي .


2- وإما تعرية هذه القوة الجاهلية وفضحها وإيجاد حركة رسالية تهدف إلى القضاء عليها وتمنعها من تحقيق كل أهدافها .


ولأن الظروف لم تسمح لتحقيق الهدف الأول ، فلقد حقق الهدف الثاني ، وأنشأ في الأمة طليعة رسالية ناضلت ضد بني أمية حتى تمت تصفيتهم كاملاً دون أن يحققوا هدفهم الرئيسي ، وهو إعادة الناس إلى الجاهلية . والقصة التالية تكشف جانبا من أهداف معاوية .


كان معاوية - بعد أن تم له الأمر ظاهرا - يستمع إلى الأذان ، وإلى جانبه بعض خواصه ، وإذا به يتميز من الغيظ عندما يسمع المنادي يهتف أشهد أن محمداً رسول اللـه فيسأله صاحبه عن ذلك فيقول :


إن أخا تيم حكم وذهب ، فقال الناس رحم اللـه أبا بكر .


وكذلك أخو عدي ، لم يزد الناس بعد حكمه أن قالوا : رحم اللـه عمر .


ولكــــن هذا ابن أبي كبشة ( أي رسول (ص) لم يَرْضَ حتى قُرن اسمه باسم اللـه ، لا واللـه إلاّ دفناً دفنــاً .


أمّا يزيد ابنه الماجن فقد أنشد قائلاً :


من هنا وضع أمير المؤمنين (ع) استراتيجيته على أساس محاربة الباطل وتصفية الحزب الأموي مهما كلفه الأمر .


الإمام (ع) يجاهد أعداء الدين :


وكأية ثورة أصيلة ؛ واجهت ثورةُ أنصار الحق ، ثلاثة محاور معادية :


1- بقايا العهد البائد .


2- الإنتهازيين .


3- المتطرفين .


أمّا الإنتهازيون فهم الذين يسايرون الثورة أيام تصاعد مدها يبغون ركوبها لتحقيق مطامعهم السياسية باسم المساهمة فيها . فإذا رأوا قيادة الثورة واعية ، قلبوا ظهر المجنّ وحاربوها وهم عادة ما ينهزمون أمامها . إن قوة هذا الفريق كامنة في مكرهم وتلوُّنهم ، فإذا افتضحوا فشلوا وانهزموا .


وكان طلحة والزبير وأقرانهما من هذا الفريق حيث عارضوا الخليفة الثالث ، وكانوا يمنّون أنفسهم بالسلطة أو بنصيب منها على الأقل . فلما رأوا ميل الناس إلى أمير المؤمنين ، انحنوا للعاصفة مؤقتاً ، وبايعوه ، بل كانوا أول من بادر إلى بيعته طمعاً في تقاسم السلطة معه . ولكنهم وجدوا الإمام لايطلب الحق بالجور ، ولم يحقق طلب طلحة والزبير بإمارة الكوفة والبصرة ، وكان لهما فيهما شيعة وهواة ، فتمردوا عليه ونكثوا بيعته ، وطالبوه بدم من قتلوهم ، وأدَّعوا بأنهم أولياء الخليفة الثالث ، وتحملوا وزراً عظيماً ، لأنهم بادروا إلى إشعال نار الفتنة بين المسلمين ، وكانت الحرب التي أعلنوها أول حرب دامية بين المسلمين .


حرب الجمل :


كان أبو بردة عوف الأزدي ممن تخلف عن نصرة الإمام في الكوفة ، فلما عاد الإمام فاتحاً من البصرة ، عاتب المتخلّفين ، وقال :


أَلاَ إنه قد قعد عن نصرتي منكم رجال ، فأنا علَيهم عاتبٌ زارٍ ، فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا ، لِيُعرفَ حزبُ اللـه عند الفرقة .


فقام إليه أبو بردة ، وقال : يا أمير المؤمنين أرأيت القتلى حول عائشة والزبير وطلحة بِمَا قُتلوا ؟


قال (ع) : قَتلوا شيعتي وعمالي وقَتلوا أخا ربيعة العبدي رحمة اللـه عليه في عصابة من المسلمين ، قالوا : لا ننكث كما نكثتم ، ولا نغرر كما غررتم ، فوثبوا عليهم فقتلوهم ، فسألتهم أن يدفعوا إليَّ قتلة إخواني أقتلهم بهم ، ثم كتاب اللـه حكم بيني وبينهم ، فَأَبوا عَليَّ ذلك وقاتلوني ، وفي أعناقهم بيعتي ودماء قريب من ألف رجل من شيعتي فقتلتهم بهم .


ثم خاطبه قائلاً : أفي شك أنت من ذلك ؟


قال : قد كنت في شك ، فأما الآن فقد عرفت واستبان لي خطأ القوم ، وإنك أنت المهديّ المهدي المصيب [105] . هكذا اختصر الإمام جرائم الناكثين .


ومرة أخرى حينما تواجه الفريقان بالبصرة ، دعا الإمام طلحة والزبير وحاججهما فقال :


لعمري لقد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً ، إن كنتما أعددتما عند اللـه عذراً فاتَّقيا اللـه سبحانه ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً . ألم أكن أخاكم في دينكما ، تحرمان دمي وأحرم دماءكما ؟ فهل من حدث ما أحل لكما دمي .


قال طلحة : أَلَّبت الناس على عثمان .


فقال علي : يومئذ يوفيهم اللـه دينهم الحق ويعلمون أن اللـه هو الحق المبين . يا طلحة تطلب بدم عثمان ؟ فلعن اللـه قتلة عثمان ، يا طلحة جئت بعرس رسول اللـه (ص) تقاتل بها ، وخبَّأت عرسك ، أما بايعتني ؟ [106] .


ثم ذكَّر الإمام (ع) الزبير ببعض المواقف مع رسول اللـه (ص) ، فاعتزل المعركة ، ولما اعتزل الزبير الحرب وتوجه تلقاء المدينة ، تبعه ابن جرموز فغدر به ، وعاد بسيفه ولامة حربه إلى الإمام (ع) فأخذ الإمام يقلِّب السيف ويقول :


سيف طالما كشف به الكرب عن وجه رسول اللـه (ص) ! .


فقال ابن جرموز : الجائزة يا أمير المؤمنين ، فقال : إني سمعت رسول اللـه (ص) يقول : بشر قاتل ابن صفيه ( الزبير ) بالنار ! .


ثم خرج ابن جرموز على عليِّ مع أهل النهروان فقتله معهم فيمن قتل [107] .


ومن خلال أسطر التاريخ نكتشف أن الزبير وطلحة وعائشة كانوا جميعاً ، مترددين في مسيرهم ، وكم قرر الواحد منهم العودة . إلاّ أن هناك يداً خفية كانت تثبط عزمهم وتعيدهم إلى قلب الفتنة من جديد .


فهذا طلحة يأتي إلى البصرة فيخطب الناس ، ويدعوهم إلى خلع الإمام (ع) فيقولون له : يأ ابا محمد قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا ، فسكت ولا يجد جواباً ، ويقدم الزبير للخطاب .


وهـــــذه عائشة تمر في مسيرها إلى البصرة بماء يسمَّى ( الحوأب ) فتنبح بها كلابه . قالت : أي ماء هذا ؟ قيل هذا ماء حوأب . فإذا بها تصرخ بأعلى صوتها ثم تضرب عضد بعيرها فتنيخه ثم تقول :


أنا واللـه صاحبة كلاب الحوأب طروقاً رُدُّوني ، رُدُّوني ، رُدُّوني ..


هكذا ظلت هنالك ومعها قومها يوماً وليلة ، فخدعها عبد اللـه بن الزبير ، وجاؤوا لها بأربعين رجلاً وقيل بخمسين من الأعراب رشَوهم فشهدوا أن هذا ليس بماء الحوأب [108] .


ويظهر عبد اللـه بن الزبير ، في الصورة مرة أخرى حينما أراد والده الاعتزال ، فأنحاه ، وغرَّر به .. مثله مثل محمد بن طلحة .


كماأن مروان بن الحكم ، يظهر في الصورة في بعض الأحيان وهو يحرض على الإستمرار في القتال ..


هكذا نكتشف الأصابع التي كانت وراء الشخصيات الظاهرة في حرب الجمل ، وهم تحالف بني أمية مع بعض الطامعين في السلطة ، من غيرهم ، تستَّروا بهم ، وقالوا لأنفسهم : لو ظفروا كان لنا معهم مثلما كان أيام الخليفة الثالث . أما إذا فشلوا ، فقد ضربنا عصفورين بحجر واحد : فمن جهة تخلصنا من المهاجرين والأنصار الطامعين في الخلافة ، حيث يصفي بعضهم بعضاً . ومن جهة ثانية سقطت هيبتهم بين المسلمين وظهروا في أعين الناس بمظهر الباحث عن مصالح شخصية .


وهكذا نستطيع أن نفسر وقوف الحزب الأموي إلى جانب طلحة والزبير وعائشة وهم من أشد المحرضين ضد عثمان ، وضد استئثار بني أمية بالسلطة والثروة في عهده .


وكان الناس يتساءلون أنهم يريدون البصرة يطالبون أهلها بدم عثمان وقاتِلوا عثمان معهم . فقد روى الطبري بسنده عن المغيرة بن الأخنس قال : لقي سعيد بن العاص ، مروان بن الحكم وأصحابه بذات عرق فقال : أين تذهبون وثأركم على أعجاز الإبل ؟ ( قال ابن الأثير يعني عائشة وطلحة والزبير ) . أُقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم ، لا تقتلوا أنفسكم . قالوا : بل نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً [109] .


ولعلهم أشاروا في نهاية حديثهم إلى أن هدفهم ضرب الناس ببعضهم للتخلص منهم جميعاً ، وهذا يفسر أيضاً ما ذكره ابن الأثير من أن مروان بن الحكم هو الذي رمى سهماً نحو طلحة فأصابه في رجله وقتله [110]. لقد أبلغ أمير المؤمنين (ع) حينما بيَّن في أكثر من خطاب طبيعة هذه الحرب وأن وراءها قريش التي حاربها لأجل الرسالة وهم كافرون ، ويحاربها اليوم لذات الهدف ، وهم مفتونون .


يقول الشيخ المفيد : لما نزل أمير المؤمنين (ع) الربذة لقي بها آخر الحاج فاجتمعوا إليه ليسمعوا من كلامه - وهو في خبائه - قال ابن عباس فأتيته فوجدته يخصف نعلاً ، فقلت له : نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تَصلح . فلم يكلمني حتى فرغ من نعله ، ثم ضمها إلى صاحبها وقال لي : قوِّمها . فقلت : ليس لهما قيمة ، قال : على ذاك ، قلت : كسر درهم قال :


واللـه لَهُمَا أحَبُّ إلَيَّ من أمركم هذا ، إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً .


قلت إن الحاجَّ قد اجتمعوا ليسمعوا من كلامك ، فتأذن لي أن أتكلم ، فإن كان حسناً كان منك ، وإن كان غير ذلك كان مني ؟ قال : لا ، أنا أتكلم . ثم وضع يده على صدري ، وكان شثن الكفين فآلمني ثم قام ، فأخذت بثوبه ، وقلت نشدتك اللـه والرحم ( وكأنه خاف أن يتكلم بما ينفرِّ الحاجّ ) قال : لا تنشدني ، ثم خرج ، فاجتمعوا عليه ، فحمد اللـه وأثنى عليه ثم قال :


أما بعد فإن اللـه بعث محمداً وليس في العرب أحد يقرأ كتاباً ولا يدَّعي نُبَّوة ، فساق حتى بوأهم محلتهم ، وبلغهم الناس الى منجاتهم . أما واللـه ما زلت في ساقتها . ما غيّرت ولا بدّلت ولا خُنت حتى قولت بحذافيرها ، مالي ولقريش ؟. أما واللـه لقد قاتلتهم كافرين ، ولأُقاتلنهم مفتونين ، وإن مسيري هذا عن عهدٍ إليّ فيه . واللـه لأبقرن بالباطل حتى يخرج الحق من خاصرته . ما تنقم منّا قريش إلاّ أن اللـه اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حَيْزِنا .


وأنشد :


أَدَمْـتَ - لَعمري - شُريك المحضَ خالصاً وأكــلــــــــــك بالزُّبـــــد المقشـــــــــرة البُحُـــــــــــــــــــــرَا


ونحـــــــــن وهبنــــــــــــاك العـــــــــــــلاء ولــــــــــــــم تكـــــــــــــــــن عليّــــــاً وحُطنــا دونــــك الْجـُــــرد والسُّمــــــــــرا [111]


وهكذا نجد قريشاً - التي لاتزال أحلام السلطة على العرب تراودها - تتظاهر بالدين ، وتقود حرباً ضده وقد استعادت قواها المنهارة ، مستغلة ضعف الخليفة الثالث ، وغررت ببعض أصحاب الرسالة ، وطمعتها في الخلافة وذلك لعدم وضوح الرؤية عندهم . فهذا طلحة الذي كان يطمع في الخلافة بعد الخليفة الثاني فيؤلب أهل البصرة ضد الخليفة الثالث ، ويحرضهم على قتله ، يأتي بنفسه إلى البصرة وينادي مناديه : من كان فيهم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا به فجيء بهم فقتلوا ولم ينج منهم إلاّ قليل [112] بالأمس كان يقودهم ، واليوم ينقلب عليهم ويقتلهم . أوليس هذا غريباً ؟ بَلَى ، ولكن طلحة كان بالأمس قائداً ، وأصبح اليوم رقماً في حسابات بني أمية ، وأضحى يصفِّي حزبه بنفسه . ولم يكن يشك أمير المؤمنين في وجوب قتالهم لأنه كان يعرف طبيعتهم وأهدافهم الخبيثة ولأن رسول اللـه (ص) كان قد أخبره بمسيره إليهم ، وأنه سوف يقتل الناكثين .. نعم ، إنه لاقى صعوبة حقيقية في توعية الناس ، ولولا أهل البصائر من المهاجرين والأنصار الذين نهضوا معه ضد الفئة الناكثة ، وآزروه ونصروه بذات القوة التي آزروا بها رسول اللـه (ص) لكانت قريش بمكائدها وقوتها وعصبياتها تشكِّل خطراً حقيقياً ضد بقاء الإسلام .


ولقد استنهض الإمام (ع) جيش الكوفة الذين فتحوا بلاد فارس ، ثم استقروا هناك يحمون ثغور الإسلام ويبعثون بالسرايا لفتح المزيد من البلاد ، وإنما اختارهم لعلمه بوجود أهل البصائر من أصحاب النبي (ص) والفقهاء والقرّاء بينهم . ولقد قال لهم حين التقى بهم في منطقة ذي قار : يا أهل الكوفة ، إنكم من أكرم المسلمين وأقصدهم تقويماً ، وأعدلهم سنّة وأفضلهم سهماً في الإسلام ، وأجودهم في العرب مركباً ونصاباً ، أنتم أشد العرب وُدّاً للنبي (ص) وأهل بيته ، وإنما جئتكم ثقة - بعد اللـه - بكم للذي بذلتم من أنفسكم عند نقض طلحة والزبير ، وخلعهما طاعتي وإقبالهما بعائشة للفتنة [113] .


ولقد استمرت عرب الكوفة ، في ولائها لآل البيت ومحاربتها للخط الأموي حتى أزال اللـه دولة بني أمية في عهد العباسيين .


وحينما عَبَّأ الإمام (ع) جيشه ، سار بهم إلى البصرة حتى وردها ، وألقى خطاباً هامّاً بيَّن فيه مشروعية قتاله للناكثين ، كما أوضح استراتيجية حربه هذه ، فقال فيما قال :


عباد اللـه ! . انهدوا إلى هؤلاء القوم ، منشرحةً صدوركم بقتالهم ، فإنهم نكثوا بيعتي ، وأخرجوا ابن حنيف عاملي ، بعد الضـــرب المبرِّح والعقوبة الشديدة ، وقتلوا السبابجة ، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي ، وقتلوا رجالاً صالحين ، ثم تتبَّعوا منهم من يحبني يأخذونهم في كل حائط ، وتحت كل رابية ، ثم يأتون بهم يضربون رقابهم صبراً . مالهم ، قاتلهم اللـه أنَّى يؤفكون !. انهدوا إليهم وكونوا أشداء عليهم والْقَوهم صابرين محتسبين ، تعلمون أنكم منازلوهم ومقاتلوهم وقد وطنتم أنفسكم على الطعن والضرب ومبارزة الأقران .


وأيُّ امرئ منكم أحسَّ من نفسه رباطة جأش عند اللقاء ، ورأى من إخوانه فشلاً ، فليذبَّ عن أخيه الذي فضل عليه ، كما يذب عن نفسه ، فلو شاء اللـه لجعله مثله [114] .


وكان الإمام (ع) يرفض معاملة الناكثين كما لو كانوا كفاراً ، بل منع أصحابه من المبادرة بالقتال ، ولم يأذن لهم به إلاّ بعد أن رمى اصحاب الجمل عسكره بالنبل رمياً شديداً متتابعــــاً ، فضج إليــه أصحابه وقالوا : عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين ، فلم يأذن لهم حتى بعث إلى عسكر البصرة رجلاً يحمل مصحفاً ويدعوهم إلى التحاكم إليه فقتلوه فأصدر أمره بقتالهم .


وظل القتال ثلاثة أيام وأبدى أصحاب النبي (ص) من المهاجرين والأنصار البطولات التي اشتهروا بها أيام رسول اللـه (ص) ، وقد اجتمعوا في كتيبة واحدة سميت بالكتيبة الخضراء ، يقودهم سيدهم وأميرهم الإمام علي (ع) وقد هجمت في اليوم الأخير على الجمل الذي كان يعتبر راية الناكثين ، فعقروه . فلما سقط انهزم جميعهم ، وانتهت المعركة بانتصار الإمام (ع) الذي نادى مناديه : ألاَّ تتبعوا مُدبراً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تدخلوا الدور ، ولا ترزأوا سلاحاً ولا ثياباً ولا متاعاً . ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن .


ثم مشى الإمام (ع) إلى عائشة وهي الباقية من قيادات المعارضة فاستقبلته صفية بنت الحارث وقد ثكلت بابنها فقالت له :


يا علي !. يا قاتل الأحبة ، يا مفرق الجمع ، أيتم اللـه منك بنيك كما أيتمت ولد عبد اللـه منه . فمشى عنها ولم يرد عليها . ثم دخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها ، فأخذت تعتذر إليه وتقول : إني لم افعل . فلما خرج الإمام أعادت صفية قولها المنكر للإمام فكفَّ عنها ولكنه قال : وهو يشير إلى بعض غرف الدار : أَما لَهممتُ أن أفتح هذا الباب وأقتل مَن فيه . ثم هذا فأقتل مَن فيه ، ثم هذا فأقتل من فيه . وكان أناس من مجرمي الحرب قد لجأوا إلى عائشة ، منهم مروان بن الحكم وعبد اللـه بن الزبير ، فتغافل الإمام (ع) عنهم . فقال رجل من الأزد وهو يشير إلى صفية ، واللـه لاتغلبنا هذه المرأة فغضب الإمام ، وقال :


صه ، لا تهتكنّ ستراً ، ولا تدخلنّ داراً ، ولا تهيجنّ امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم ، وسفهن أمراءكم وصلحاءكم ، فإنهن ضعاف . ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن ، وإنهن لَمُشركات [115] .


وهكذا أدب الإمام أصحابه كيف يتعاملون مع أعدائهم بالرفق ، بالرغم من أن أنهراً من الدم قد جرت بينهم . ثم مضى الإمام إلى بيت المال وقسم ما فيه على الجند بالسوية ، فأعطى كل واحد خمسمائة ، وأخذ ايضاً خمسمائة ، وجهَّز عائشة بما تحتاج من مركب وزاد ، وأرسلها إلى المدينة واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات ، وأرسل معها أخاها محمداً ، وكان من أقرب أصحاب الإمام إليه . واستخلف على البصرة ابن عباس وكتب إليه عهداً قال فيه .. فارغب راغبهم بالعدل عليه والانصاف له والاحسان إليه ، وحل عقدة الخوف عن قلوبهم .


وكتب إلى أمراء الجيش وهو يحدد معالم حكمه :


لكم عندي ألاَّ أحتجز دونكم سرّاً إلاّ في حرب ، ولا أطوي عنكم أمراً إلاّ في حكم ، ولا أؤخر حقّاً لكم عن محله ، ولا أرزأكم شيئاً وإن تكونوا عندي في الحق سواء .


وعاد أدراجه إلى الكوفة ورايات النصر ترفرف عليه ، وأبى أن يدخل قصر الإمارة بل اختار بيت جعدة بــن


أبي هبيرة المخزومي ، وكان ابن أخته أم هاني ، وقال عن قصر الإمارة : إنه قصر خبال لا تُنزلونيه .


صفّين : المنعطف الخطير :


وكانت لاتزال أمام الإمام عقبة كأداء لابد من تجاوزها حتى يقيم العدالة ويجري أحكام اللـه ، فهذا معاوية ابن أبي سفيان قائد الردة الجاهلية يعبئ إليه كل الحاقدين على الإسلام ، والموتورين وبقايا العهد البائد ، ويجمع إليهم الطامعين والأثرياء المترفين . وقد أركز نفسه في الشام منذ أن ولاه عليها الخليفة الثاني بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان ، قائد جيوش الشام . وقد حاول الخليفة الثاني جلب رضا بني أمية - القوة السياسية والعسكرية الأكثر تماسكاً والأبعد عن الدين - وقد زعم الحزب الأموي أن الشام قد أضحت إقطاعة خالصة لهم وإلى الأبد ، فركز قواه العسكرية هناك ولم يتصور أنَّ حاكماً في البلاد يجرؤ على مطالبتهم بها ، مادام الخليفة الثاني الأقوى بين الخلفاء غض طرفه عما يجري في الشام من تدعيم وجود الحزب المنافس للإسلام ، وكان يستثني الشام من قوانينه المشددة ، كقانون من أين لك هذا الذي اخترعه لمقاومة الترف الذي هبط إليه الحكام الجدد ، حتى أبو هريرة الراوية المعروف ، لم ينج من هذا القانون الصارم ، ففقد الكثير مما جمعه في البحرين تبعاً له ، بينما معاوية وحزبه الأموي ، الذي كان يرســــي قواعـد ملكه العضوض في الشام ، ويجمع الثروات الطائلة ، ويغدق الهبات السخية على المنتفعين ، كان يُستثنى منهم . وحينما قيل له في ذلك برر سكوته عنه بأنه يمثل عز الإسلام ، ولا تظن أنه كان قادراً على ضبط معاوية دون أن يدفع ثمناً باهضاً . وفعلاً قد دفع حياته ثمناً لبعض الضغط على الحزب الأموي في العاصمة وليس في الشام .


هكذا زعم معاوية أن بإمكانه أن يبقى حاكماً على الشام في عهد الإمام (ع) وما راعه إلاّ حكم علي (ع) بفصله وتولية غيره !!


وكان الإمام (ع) أعلم من غيره بواقع معاوية ، وأن مسيره إليه لايعني النصر عليه بالتأكيد ، إذ أن جيش معاوية المتماسك ذي الولاء الجاهلي ، يختلف عن جيشه الذي تتضارب أهواؤهم ولم يخلص ولاؤهم ، بالرغم من وجود قلة مؤمنة فيهم .


وقد صرح بذلك في أكثر من مناسبة فقال لجيشه مرة :


يا ليت معاوية يبادلني جيشه صَرْفَ الدينار بالدرهم ، يعطي واحداً ويأخذ عشرة ! .


وقبل المسير إلى الشام قال أحد قادة جيش الإمام للثاني وهو يسمعهما ، إن يومنا ويومهم ليوم عصيب لا يصبر عليه إلاّ كل مشبع القلب ، صادق النية . رابط الجأش . وأضاف القائل وهو زياد بن النضر الحارثي لعبد اللـه بن بديل قال : وأيم اللـه ما أظن ذلك اليوم يبقي منا ومنهم إلاّ الأرذال . فقال له صاحبه : وأنا واللـه أظن ذلك . فنظر إليهما الإمام (ع) وكأنه يؤيدهما ، ولكنه يطالبهما بمراعاة ظروف الحرب ، وقال :


ليكن هـــذا الكلام مخزوناً في صدوركما لاتظهراه ولا يسمعه منكما سامع . إن اللـه كتب القتل على قوم


والموت على آخرين ، وكل آتيه منيته كما كتب اللـه له ، فطوبى للمجاهدين في سبيل اللـه . والمقتولين في طاعته [116] .


هكذا كان يجري الحوار بين قيادات الجيش وهكذا كان الإمام (ع) يحدد الهدف من القتال وهو ابتغاء رضوان اللـه . ومقاومة المفسدين مهما كانت العواقب .


معاوية يعترف ويعاند :


ومعاوية - بدوره - كان يعترف بفضائل الإمام (ع) وأنه الأفضل بعد رسول اللـه (ص) إلاّ أنه كان يتمسك بقميص عثمان ، ويرى أنه أحق الناس به . وإذا كانت حجة معاوية واهية فإن دهاءه ومكره وأسباب القوة التي اجتمعت عنده كان يغنيه عن قوة الحجة . وكان يعترف بذلك مما يكشف عن طبيعة الصراع بينه وبين الإمام (ع) .


وقد حفظ التاريخ سجلاً كبيراً من اعترافات معاوية بفضل الإمام (ع) وبالذات في الرسائل الخاصة المتبادلة بينه وبين كبار الأصحاب ، ولكن الرسالة الأبلغ كانت التي بعثها إلى محمد بن أبي بكر ، وكان محمد من أشد المدافعين عن نهج الإمام علي (ع) . لقد بعث معاوية إلى محمد ابن ابي بكر كتاباً جاء فيه من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر : سلام على أهل طاعة اللـه .


أما بعد ، فقد أتاني كتابك ، لرأيك فيه تضعيف ، ولأبيك فيه تعنيف . ذكرت حق ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه وقرابته واحتجاجك بفضل غيرك لا بفضلك . فأحمد إلهاً صرَف الفضل عنك وجعله لغيرك . وقد كنا - وأبوك معنا - في حياة نبيِّنا نرى حق ابن أبي طالب لازماً لنا ، وفضله مبرزاً علينا ، فلما اختار اللـه لنبيّه ( صلىا لله عليه وآله ) ما عنده كان أبوك وفاروقُه أول من ابتزَّه وخالفه ، ثم قام عثمان يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما إلخ [117] .


وهكذا يعترف معاوية بفضل الإمام عليه وعلى كل أصحاب الرسول محاولاً إثارة عصبية محمد بن أبي بكر .


وفي حوار جرى بين معاوية وعمر بن العاص الذي كان من قادة العرب في الجاهلية ، وكان حليفاً تاريخياً لبني أمية ، قال له معاوية : يا أبا عبد اللـه ، إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربه ، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرق الجماعة وقطع الرحم .


قال عمرو : إلى من ؟


قال : إلى جهاد علي .


فقــال له عمــــرو : ما أنت وعلي بِعِكْمَي [118] بعير ، مالك هُجرتُــه ، ولا سابقتُه ، ولا صحبته ، ولا جهـــاده ،


ولا فقهه ، ولا علمه . واللـه إن له - مع ذلك - حّداً وحدوداً ، وحظاً وحظوة وبلاء من اللـه حسناً .


فما تجعل لي إن شايعتك على حربه ، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر ؟


قال : حكمك .


قال : مصرَ طُعمة .


فتلكأ عليه معاوية .


قال له : إني أكره لك أن يتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لعرض الدنيا . قال : دعني عنك .


هكذا تم التحالف بين معاوية وبين قائد جاهلي جمع خبرة العرب في الحرب .


وبعد إجراء هذه الصفقة التي تعكس طبيعة التجمع الأموي غضب مروان - وهو أحد القيادات الأموية - وقال : ما لي لا أُشْتَرَى كما اشْتُرِي عمرو ؟. فقال له معاوية : إنما تُباع الرجال لك [119] .


وكان يشير معاوية بذلك إلى أن مروان جزء من الحزب الأموي وأنه إنما يسعى لإعادة أمجاده الجاهلية .


ومرة أخرى اعترف معاوية لقراء الشام ، وهم الطائفة المؤمنة فيهم ، اعترف بفضل الإمام (ع) فحين قالوا له : علام تقاتل عليّاً وليس لك مثل صحبته ولا قرابته ولا سابقته ؟. قال لهم : ما أقاتل عليّاً ، وأنا أدعي أن لي في الإسلام مثل صحبته ، ولا هجرته ، ولا قرابته ، ولا سابقته .


ولكنه تشبث عندهم بقميص عثمان فقال لهم : ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً ؟


قالوا : بلى .


قال : فليدفع إلينا قتلته فنقتلهم به ، ولا قتال بيننا وبينه [120] .


ولكن الإمام (ع) أجاب عن هذا الطلب الماكر ، فقال : في رسالته إلى معاوية نقلها المبرد في الكامل هذا نصها :


من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) إلى معاوية بن صخر بن حرب .


أما بعد :


فإنه أتاني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه ، ولا قائد يرشده . دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتَّبعه . زعمتَ أنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان ، ولعمري ما كنتُ إلاّ رجلاً من المهاجرين ، أوردتُ كما وردوا ، وأصدرتُ كما صدروا ، وما كان اللـه ليجمعهم على الضلال ولا يضربهم بالعمى .


وبعد : فما أنت وعثمان ؟. إنما أنت رجل من بني أمية ، وبنو عثمان أولى بذلك منك .


فــــإن زعمت أنك أقوى من دم أبيهم منهـــــم ، فادخل في طاعتـي ثم حاكِمِ القــــومَ إليّ أحملــــك وإياهــــم علــــى


المحجة [121] .


هكذا أتم الإمام (ع) الحجة على معاوية بما يلي :



أولاً :


بأن شرعية عمله منبثقة من أنه إجماع المهاجرين الذين لايجمعهم اللـه على الضلال .



ثانياً :


بأن بني عثمان هم أولياء الدم ، وليس معاوية .



ثالثاً :


بأن طريقة المطالبة بالدم ، هي التحاكم إلى السلطة الشرعية وليست التمرد عليها باسم المطالبة بالدم .


إلاّ أن معاوية لم يكن يأبه بهذه الحجج ، لأنه كان يسعى لإعادة أمجاد بني أمية الجاهلية . وقد اجتمع إليه الموتورون الحاقدون على الإسلام ، من بقايا العهد البائد . وقد أقام لهم نظام مصالح ، وحوَّل السلطة الى شركة مساهمة ، بين الطلقاء والأدعياء والمترفين .


وهكذا جرى تبادل رسائل بين الإمام (ع) ومعاوية ردحاً من الزمن ، وقد قام أهل الإصلاح بمحاولات شتى لردع معاوية عن سفك دماء المسلمين ، فلم يفلحوا . وفي آخر رسالة بعثها الإمام (ع) قبل قراره بالمواجهة العسكرية كتب يقول ( بعد حديث طويل ) :


وإني أدعوكم إلى كتاب اللـه وسنَّة نبيِّه ، وحقن دماء هذه الأمة . فإن قبلتم أصبتم رشدكم ، وإن أبيتم إلاّ الفرقة وشق عصا هذه الأمة ، لن تزدادوا من اللـه إلاّ بُعْداً ، والسلام .


فكتب إليه معاوية :


ليـــــــــــس بينــــــــي و بيـــــــــن قيـــــــــس عتــــــــــــــــــــــابٌ غيـــــــر طعـــن الكــــــلى وضـــــــرب الــــرقـــــــــاب [122]


وكان الجواب بمثابة إعلان حالة الحرب . فكتب الإمام (ع) إلى عماله في الآفاق يحرضهم للقتال ، كما عبَّأ قدرات جيش الكوفة العسكرية ، بخطب حماسية لاهبة . وقد ساهم نجلاه الإمامان الحسن والحسين (ع) وأصحاب رسول اللـه ، وبالذات البدريون وأصحاب بيعة الرضوان منهم ساهموا - بما كان لديهم من مكانة مرموقة بين المسلمين - في تعبئة الطاقات الإيمانية في الأمة .


ولقد كان مع الإمام (ع) من أصحاب بدر سبعة وثمانون رجلاً ، منهم سبعة عشر من المهاجرين ، وسبعون من الأنصار . وشهد معه من الأنصار ممن بايع تحت الشجرة ( بيعة الرضوان ) تسعمائة ، وكان مجمل عدد أصحاب رسول اللـه ، في ركب الإمام (ع) ألفين وثمانمائة رجل [123] .


وكان الإمام (ع) يعطيهم مكانتهم المناسبة لهم ، وهم - بدورهم - كانوا متفانين في الدفاع عن حق الإمام في الخلافة ، لمعرفتهم بفضله ، وعلمهم بواقع بني أمية ، أعدائه وأعداء الإسلام .


وهكــــذا نجد الإمام (ع) لا يبت في أمر ، إلاّ بعد أن يستشيرهم ، ولم يعقد العزم على الحــــرب إلاّ بعــــد أن


سألهم وقال وهو يخاطبهم :


أما بعد !. فإنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر . وقد أردنا المسير إلى عدونا وعدوكم ، فأشيروا علينا برأيكم [124] .


فبادروا بالتأييد ، واستشهد كل منهم بحجة بالغة في شرعية قتال بني أمية .


فقال عمار بن ياسر : يا أمير المؤمنين ، إن استطعت أن لاتقيم يوماً واحداً فأشخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادعهم إلى رشدهم وحظهم . فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلاّ حربنا ، فواللـه إن سفك دمائهم ، والجد في جهادهم ، لقربة عند اللـه ، وهو كرامة منه [125] .


أما عدي بني حاتم ، فقد أوضح خلفية بني أمية في القتال ضد الإمام (ع) وقال :


إن القوم لو كانوا لله يريدون ، أو لله يعملون ما خالفونا . ولكن القوم إنما يقاتلون فراراً من الأسوة وحبّاً للأثرة ، وضنّاً بسلطانهم ، وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحنٍ في أنفسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها - يا أمير المؤمنين - بهم قديمة ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم .


ثم التفت إلى الناس فقال :


كيف يبايع معاوية عليّاً ، وقد قتل أخاه حنظلة ، وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد [126] .


لقد لخص هذا الصحابي الجليل طبيعة الموقف في كلمات . فإن الحزب الأموي يطلب الدنيا ويحاول الحفاظ على مكاسبه في السلطة ، ويريد الإنتقام من الإمام (ع) والتابعين له ، لما أنزلوا به هزائم نكراء في صدر الإسلام . وإنها بالتالي الردة الجاهلية بكل معنى الكلمة .


هكذا نجد أصحاب النبي محمد (ص) يجتهدون في الدفاع عن الخلافة الراشدة ، وقد استشهد الإمام (ع) في أكثر من مناسبة بموقف الأصحاب منه ومن بني أمية .


وفي المعركة شكل الإمام كتيبة خاصة بهم يقودها شخصيّاً ، سميت بالكتيبة الخضراء .


وقد أبلت هذه الكتيبة في الدفاع عن الإسلام وحرماته بلاءً حسناً .


والواقع أن حضور هذه الكتيبة في معركة صفّين كان دليلاً على عافية الأمة ويقظة ضميرها ، فبعد وفاة الرسول (ص) بربع قرن حفل بالأحداث السياسية العظيمة ، ولاتزال الفئة التي نصرت الرسالة وتعرضت للآلام وقدمت التضحيات ، لاتزال تخوض غمار معركة الحق ضد الباطل ، دون أن تميل مع رياح الشهوات وعواصف السياسة .


ومن المعروف أن كثيراً من هؤلاء الصحابة الكرام كان قد تقدم بهم العمر ، حتى بلغوا من الكبر عتيّاً ، ولكنهم لايزالون في مقدمة المجاهدين ، وفيهم عمار بن ياسر ، الذي فقد والديه شهيدين في صدر الإسلام ، وتعرض للضرب والإهانة منذ الأيام الأولى للبعثة ، وهو اليوم يناهز التسعين من عمره ويشد على وسطه حزاماً تنتصب قامته به ، ثم يدخل المعركة ، وهو ينادي الرواح الرواح إلى الجنة !. هكذا يصنع الإيمان بالقلوب الطاهرة والنفوس الزكية .


هكذا وقعت الواقعة :


في البلاد الإسلامية جيشان جيش الشام وجيش الكوفة ، وها هما يلتقيان لا ليحاربا عدوّاً مشتركاً ، وإنما ليتحاربا . فكم كانت الصدمة عنيفة في نفوس المسلمين ، وكم مشى رجال طيبون ، وكم سعى الإمام (ع) لردع معاوية عن هذا الغي والفساد العريض .


فمنذ أن التقى الجيشان بعث الأمام كبار قادته ، إلى معاوية وقال لهم : ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى اللـه عزَّ وجلَّ وإلى الطاعة والجماعة .


ولكنه يرفض إلاّ المطالبة بدم عثمان - كما يزعم - ويحاول أن يستخدم الوسائل الحربية التي كانت شائعة في الجاهلية . فلقد كتب في سهم أن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات ، فيغرقكم فخذوا حذركم ، ويرمي به إلى معسكر الإسلام فيقع السهم بيد رجل فينقل الخبر إلى الآخرين ، وكالعادة تنتشر الشائعة في المعسكرات سريعاً ، ويرتحل الجيش عن الشريعة ويهجم معاوية عليها . ولكن أصحاب الإمام لايلبثون أن يزحزحوه عنها .


وعندما منع معاوية الماء - بعد سيطرته على الشريعة - عن أصحاب الإمام ، وأمر الإمام بكسر الحصار عنها ، وقال كلمته المشهورة :


الحياة في موتكم مقهورين ، والموت في حياتكم قاهرين .


وزحف أصحاب الإمام (ع) نحو الماء وهزموا أعداءَهم ، واستولوا عليه . وزعم البعض أن الإمام سوف يقابل أعداءه بالمثل لأن الحرمات قصاص .


ولكنه رفض ذلك بقوة ، وأرسل إلى معاوية رسولاً وأخبره بأن السبيل إلى الشريعة سالك وبإمكان جيشه الورود إليها متى ما شاؤوا .


صور من معارك صفّين :


وبدأت المعارك وكانت في صورة مناوشات على الأطراف ، وكانت القوى متكافئة في الأغلب . بيد أن دوافع الحرب كانت مختلفة ، فبينما نجد العصبية الجاهلية توقد نار الحرب عند جيش الشام ، نجد الروح الإيمانية في أصحاب علي (ع) تحثهم على الجهاد والشهادة . فهذا قائد أموي كان يعدُّه معاويةُ وَلَدَهُ ، واسمه عبد الرحمن بن خالد ، يبارز قيادة جيش الإمام المتمثلة في تلك المعركة بعدي بن حاتم ويرتجز قائلاً :


إنك تراه كيف يفتخر بنسبه حتى تعود إلى أذهاننا ذكريات الجاهلية حيث كان الشخص يفتخر بآبائه وعشيرته .


و لكن عدي بن حاتم - بالرغم من مفاخره العظيمة - يذكر في رجزه الحربي دافعه الإيماني ويقول :


/ 35