قرأتُ عليه بعضه ، وبعضه قرأه علَيَ ، وبعضه إجازة ، وبعضه مناولةً . قال قُلْ في كلّه (145) .
فظهر أنّ إطلاق الألفاظ ، حتّى و في الإجازة ، أمر جوّزه القدمأ ، وجرى كثير من كبارهم عليه من دون حرج ، وإنّما تحرّج من ذلك بعض المتأخّرين على أثر اصطلاح أحدثوه ، لكنّه لم يكن ملزِما لغيرهم ، فلذا خالفه كبار المحدّثين والرواة ، كأبي نُعيم الأصفهاني ، والمرزباني ، كما مرّ ، ومن غير المعروفين كالسمرقنديّ أحمد بن محمّ-د ابن إبراهيم ، والجيزي إسحاق بن راشد(146) .
فظهر أنّ ما صنعه بعض الرجاليّين من عيب مَنْ فعل ذلك من المحدّثين ، كالمرزباني وأبي نُعيم ، وكذلك ابن بُطّة المؤدّب ، الذي قال فيه النجاشي يتساهل في الحديث ويعلّق الأسانيد بالإجازات(147) بنأً على إرادة هذا المعنى . .
ليس عيبا في الحقيقة ، وإنّما هو إشكال مبني على التشديد في الالتزام بالألفاظ حسب المصطلح المتأخر الحدوث ، وقد عرفتَ أنّه لا ملزِم له حتّى تكون مخالفته عَ-يْبا .
وقد ذكرنا الجواب عن مثل هذا الإشكال في بحث بتفصيلٍ أكثر ، فلاحظ .
وأمّا استعمال في سائر الطرق غير الإجازة فقد عرفنا في الفصل الثاني أنّ العنعنة مستعملة في التراث الإسلامي كلّه ، وفي مصادر الحديث الأُولى ومؤلّفاته المبكّرة ، وبشكل واسع وشائع ، ومن المعلوم أنّ أمر الإجازة لم يكن بتلك السعة وذلك الشيوع فلا بُدّ أنْ تكون مستعملةً مع الطرق الأُخرى ، حيث كانت أكثر الطرق شيوعا هي السماع والقرأة ، خصوصا إذا لاحظنا أنّ العنعنة تكثر مع أسمأ الرواة في نهايات الأسانيد ، حيث تتّصل بالصحابة والتابعين وتابعيهم ، بشكل واضح .
فالإجازة ، وإنْ كانت عريقةً في القِدَم على ما أثبت-ناه في دراستنا الموسّعة عنها ، إلاّض أنّها وبالقطع واليقين لم تكن الغالبة ولا الشائعة ، بحيث تُحمل عليها العنعنة في أكثر الأسانيد الموجودة في التراث الحديثي .
مع أنّ من المسلّم به عند علمأ الدراية ، ومؤرّخي علوم الحديث أنّ تخصيص بالإجازة على القول بالتشدّد في الألفاظ إنّما هو اصطلاح متأخّر ، كما عرفنا .
والحاص-ل أنّ العنعنة المستعملة في عامّة كتب الحديث ، لم تكن إلاّض مع غير الإجازة من طرق الحديث والرواية .
مضافا إلى ما يوجد من التصريح باستعمال بدل التي هي خاصّة بطريقة السماع ، في ما رواه أبو زُرْعة ، قال سألتُ أحمد عن حديث ? قال أحمد فقلت إنّ أسباطا هكذا يقول فقال أحمد قد علمتُ ، ولكن إذا قلتُ فقد خلّصتُه وخلّصتُ نفسي أو نحو هذا المعنى(148) .
كما إنّ الشافعيّ ساوى بين و في رسالته(149) .
وقد مرّ بنا ما ذكره الشيخ الطوسي في ترجمة من قوله أخبرنا بكتبه ورواياته أبو عب-د الله الحسين بن عبي-د الله ، عنه > .
وأضاف وقال الحسين قرأت سائرها عليه عدّة دفعات(150) .
فمع التصريح بكون روايات الحسين عن أبي غالب الزراري بطريقة القرأة لجميع الكتب والروايات ، ولعدّة دفعات ، فإنّ الشيخ الطوسي عبّر في طريقه بكلمة مطلقا ، ولم يُقيّدها بقوله ولا ريب أنّ هذا يدلّ على استعمال مع التحمّل بطريقة القرأة على الشيخ .
وقد ساوى الأوزاعيّ بين و (151) .
مع أنّ لا تُستعمل في الإجازة ، ولا يجري فيها ما ذكره المستش-كِل المتش-يّخ .
ونعود فنقول في تلخيص هذا الردّ عليه إنّ العنعنة لم تختصّ بالإجازة ، ولا الإجازة تختصّ بالعنعنة .
ف-إذا كان-ت العن-عنة صحيح-ة في غير الإج-ازة من ط-رق التحمّ-ل ، ولا إشكال في السند من حيث كونه معنعنا فهي كذلك مع الإجازة .
وإذا كانت الإجازة معتبرة إذا لم تكن معنعنة ، فلا إشكال فيها لو اقترنت بالعنعنة .
فإنّ كلاّضً منهما لوحده لا إشكال فيه ، فاجتماعهما لا يولّد إشكالا ، كما م-رّ .
وأظنّ أنّ المتش-يّخ المذكور لقط ما سمعه من الإشكال على العنعنة من جهة ، والإشكال على الإجازة من جهة أُخرى ، وخلط بين الإشكالين ، فصبَ جام جهله على كما عرفت ، وعرفت الجواب والردّ عليه مفصّ-لا .
ونقول لهذا المخلّط أخيرا إنّا نجد مستعملة حتّى مع أسمأ المعصومين عليهم السلام كلاًّض عن الاَخر ، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، عن الملائكة وأحيانا عن اللوح ، عن القلم ، وفي كث-ير من الرواي-ات .
وم-ن الواض-ح لك-لّ ذي عي-ن ول-و واح-دة أنّ العن-عن-ة حينئذٍ لا يمكن حملها على الإجازة أصلا ، فضلا عن الإجازة الباطلة ، بل لا بُدّ من حملها على الطرق المعتبرة الأُخرى ، وبوحدة السياق والنسق يُحكم على العنعنات المتأخّرة ، بمثل ذلك .
ولو فرض أنّ هذا المتطفّل حاول حملها على الإجازة مع الأسمأ الكريمة ، فهذا أدلّ دليلٍ على اعتبار الإجازة وكونها من الطرق المقدّسة ، وبوحدة النسق يُحكم بحكمها هذا على العنعنات الأُخرى .
هذا إذا كانت العنعنات المذكورة من استعمال المعصومين عليهم السلام أنفس-هم .
وأمّا إذا كانت العنعنة من استعمال الرواة ، فنفس هذا دليل على شيوع تداولها واعتبارها منذ الصدر الأوّل ، ومن دون مُعارض ، وبوحدة النسق تث-بت حجّ-يّتها فيما بعد ذلك أيضا .
فأينَ ما لفّقه ذلك المخلّ-ط ? وكيف يجرؤ على تصوّره في العنعنات المن-ت-ثرة في التراث الحديثي ? ومع الأسمأ الكريمة ? الخاتمةملاحظات حول العنعنة
قال الدكتور عتر قد يُس-تش-كل بما وقع في الحديث على شرط الاتّصال ثمّ تبيّن أنّه ليس بمتّصل ، كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدرك عمر بن الخطّاب ، وهو يسير في ركبٍ ، يحلف بأبيه ، فقال وفي رواية أُخرى عن سالم ، قال قال ابن عمر سمعتُ عمر يقول قال لي رس-ول الله صلى الله عليه وآله وسلم (154) .
قال عتر ظاهر الرواية الأُولى يوجب أن يكون من مسند ابن عمر ، فهذا الحديث مشترك متردّد لتعلّقه بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعمر ، فقد أدركهما ابن عمر وصحبهما ، فصلحت للرواية عنهما . ولو كان الإدراك قاصرا على أحدهما لتعيّن الاتّصال عن طريقه .
وهذا ملحظ دقيق جدّا ينبغي التنبّه له ، والحذر من الغلط بسببه(155) .
أقول ومثله يجري في العنعنة لو عُلِمَ توسّطُ راوٍ بين الشيخ والراوي المتحمّل عنه ، كما في المثال التالي