ما هو السرّ في اعتماد القدمأ من مشايخ الحديث على بصورة واسعة ، وإهمالهم للألفاظ الأُخرى ? لا ريب أنّ واضعي الألفاظ ، لم يلتزموا بحرفيّتها ، حتّى المتشدّد منهم ، بل عمدوا إلى اختصارها ، لثقلها بالتكرّر ، خصوصا مع التنوّع ، وقد شرحنا ذلك في بحث .وأمّا أعلام المحدّثين عندنا فقد عمدوا إلى استبدالها كلّها بكلمة التي هي كاملة الدلالة وبالاستقلال على تمام المقصود من تلك الألف-اظ ، مع وج-ازة لفظه-ا ، فاكت-فوا بها ، من دون إش-عار بالاخت-ص-ار ، ولا ريب أنّ هذا أَوْلى ممّا عمله غيرهم من الحذف تارة ، أو اختصارها بالرموز .فإذا كان الهدف الأساسي من الألفاظ هو التعبير عن اللقأ وتحمّل الحديث ووصول الرواية من الشيخ إلى الراوي ، وبلوغ الحديث ، وكان كلّ هذا يتأدّى بكلمة من دون اختصار ، فهو أَوْلى بلا ريب من حذف اللفظ مطلقا من دون رمز ، أو تبديله برمز .مع أنّ الغرض من إيراد الطرق في كتب الحديث وكتب الاستدلال هو الاعتماد على ما تُوصله من المتون وتؤدّيه من المعاني ، فالانشغال بالمصطلحات المس-تجدّة يبعد المسافة على طلاّضب العلم ، الّذين يريدون فقه الحديث للتوصّل إلى العمل به .وأمّا خصوصيّات الألفاظ وفوائدها ، فقد قدّروا لها مجالا للاستعمال بقدرها ، وفي مواضع خاصّة ، كما في الكتب الموضوعة لبيان الطرق فقط ، كالفهارس والمعاجم ، حيث التزموا فيها بالألفاظ بمزيد من العناية لأنّ الغرض استيفاؤها من دون ذِكر المتون ، كما هو واضح .وأخيرا فإنّ الصدر الأوّل من المحدّثين والرواة وكذلك القدمأ لم يلتزموا بهذهالألفاظ المصطلحة، ولم يستعملوا في القرنين الأوّلَين سوى لفظة كما عرفنا.فالأمانة العلمية تقتضي الاحتفاظ بما جأ في نصوصهم، والتبعيّة لهم فيذلك .وأمّا ما أُحدث في النصف الثاني من القرن الثاني، من وضع هذه الألفاظلمقاصد معيّنة، فهو وإنْ كان حسنا، إلاّض أنّه ليس واجب الالتزام، كما عرفت.ولا يوجب حزازة على ما سبق وروده في الأحاديث من استعمال العنعنة.كما إنّ في كثير من تطبيقاته تكلّفا واضحا، مثل ما ورد عن سفيان ابنعُيَ-يْنة ، قال يريد فلمّا قيل له قل قال لا أقول، لأنّي لم أسمع من قوله ثلاثة أحرفوهي لكثرة الزحام، فأقتصرُ على النون والألف(163).فهو يصرّح بعدم إرادته الاختصار، وإنّما يتقيّد بلفظ ما سمع، مع علمهبأنّ المراد هو وأنّه هو الواقع من الشيخ.فهذا بلا ريب وَرَع مُظْلِم، لا يطلبه أهل الفضل والعلم والفقه، وليسيليق إلاّض بمن يتمشدق بهذه الزخارف.ولو كان أهل التشدّد في الاصطلاح يس-تحسنون هذا ويجوّزونه باعتبارهاختصارا غير مضرٍّ، فأَوْلى لهم أن يجوّزوا التلفّظ بكلمة التي تؤدّي الرواية بكامل معناها، من دون اختصار مع ما فيه من الاتّباع للصدر الأوّل.ولنختم هذا البحث، بكلامٍ فَصْلٍ من الخطيب البغدادي، حيث قال صحيحمعمول به، إذا كان شيخة يعرف أنّه قد أدرك الذي حدّث عنه ولقيه [اسما]وسمع منه، ولم يكن هذا المحدّث ممّن يدلّس، ولا يس-تجيز أن يُسقط ويروي الحديث عاليا.لأنّ الظاهر من الحديث السالم راويه ممّا وصفنا الاتّصالُ، وإنْ كانتالعنعنة هي الغالبة على إسناده(164).
خلاصة البحث
1 مصدر جَ-عْلي مأخوذ من استعمال كلمة في الإسناد،وهي في اللغة تأتي بمعانٍ عديدة، أشهرها المجاوزة، ولكنّها إذا وقعتْفي الأسانيد وما هو بمعنى النقل المعلوم فاعله، فإنّها لا بُدّ أنْ تكون بمعنى وقد اصطلح أهل الحديث على ذلك.كما قد دارت حولها بحوث اصطلاحيّة أُخرى.وقد جمعنا كلّ ما يرتبط بها لغةً واصطلاحا، في الفصل الأوّل.2 وتتبّعنا في الفصل الثاني فوجدنا أنّها متوغّلة في القِدَم، فالتراث الحديثي، والشيعي منه بخاصّة، يدور على استعمالها بما لها منالمعنى اللغوي أعني وقد وقع الاصطلاح على ذلك أيضا عندالمحدّثين شيعة وعامّة.وبما أنّ الأصل في معاني المجاوزة، فقد استعملت لغةً في معنىصدور الكلام من قائله، ولو كان بعيدا زمانا عن الناقل له، كما يُفهم منقولهم عندما يكون فاعل الرواية المباشرة مجهولا -مثلا فهذا لا يعني الاتّصال بين الناقل والقائل.وكذا بما أنّ المتأخّرين من المحدّثين خصّصوا لكلّ طريق من طرق التحمّل والأدأ لفظا من الصيغ الموضوعة لذلك، فخصّصوا لفظة لِما يُنقل بطريقة الإجازة.وبما أنّ طريقة الإجازة تحوّرت على أثر الإهمال والتماهل والتساهل -كما هو الحال في سائر أدوات المعرفة الإسلاميّة فإنّ الإجازةَ مُنيت بهجومعنيف من قبل بعضهم، وبالتزييف والتسخيف من بعضٍ آخر.من كلّ هذه الأُمور، واجتماعها في الحديث صدرت نغماتالهجوم على العنعنة وحديثها.وأعلام المحدّثين ضمن جمهورهم تصدّوا لِما قيل فيها من الإشكالات منذ القدم، حيث تصدّى مسلم بن الحجّاج القشيري صاحب الصحيح للردّ على مَنْ شكّك في حجّ-يّتها في مقدّمة كتابه المعروف بالصحيح.3 ولكنّ متّبعي الشُبهات أثاروا بعض ذلك في الاَونة الأخيرة على أثرتشكيك أعدأ الإسلام من أمثال المستشرق فرنز روزنتال إذ قال ولأسبابعملية مهمّة كان الوضع أرحب مجالا في الحديث، إذ وجد الواضعون عملهم سهلا ميسورا لأنّ فكرة أو الرواية الشفوية، تفتحالباب على مصراعيه لكلّ نوعٍ من التزوير(165).فمع أنّه لم يفهم فكرة العنعنة بالضبط، ففسّرها بالرواية الشفوية، فهو لايُريد إلاّض الهجوم على جميع الحديث المرويّ بطريقة شفوية سوأ بالعنعنة أوباللفظ الصريح مثل و .ومع أنّه يُوحي من طرفٍ خفيّ إلى أنّ الحديث الشريف لم يعتمد الكتابة والتدوين، وإنّما ظلّ مستندا إلى الرواية الشفوية(166).إلاّض أنّه أخفق في ربط العنعنة بمسألة الوضع في الحديث، إذ غاية ما يردعلى العنعنة إنّما هو الذي قد تُصدّي له بكلّ قوّة، وكُشف عنعواره بكلّ شدّة، ومُحِّص عن الحقّ ضدّه بكلّ صلابة، حتّى عُرِفَ المدلّسون وكيفيّة عملهم.بل إنّ الإشكال على العنعنة مبنيّ على الاحتياط من فعل المدلّسين.لكنّ هذا المستشرق يثيرها في اتّجاهٍ معاكس للغرض، وهذا إنْ أحس-نّ-ا الظنّ بالمستشرقين ناشى عن عدم فهمهم للغة العلم عند المس-لمين.ولكنّ المؤسفَ أنْ يتصدّى للحديث المعنعن، مَنْ يتمشيَخ ويعدّ نفسهأُس-تاذا مدرّسا، يجول في حلقات درسه، بأمان، ويطلق لس-انه بحرّيّةتامّة ، فيطرح الإشكال على الأحاديث المعنعنة في تراثنا الحديثيّ بأنّهاتُنبى عن الإجازة، وهي باطلة محاولا بذلك الالتفاف على أهمّ مصادر الحديث الشريف، وإخراجها عن حيّز الاستدلال بها لاعتمادها بشكل رئيسي على الحديث المعنعن.وقد عقدنا الفصل الثالث بطوله، للإجابة عن ترّهاته تلك وسفسطاته المزخرفة.