يظهر من تتبّع كلماتهم أنّ موقع قد اختلف مع مرور الأزمان .1 فالشافعي ( ت 204 ه ) يقول كان قول الرجل وقوله سواءٌ عندهم ، لا يحدِّث واحد منهم عمّن لقي إلاّ ما سمع منه ، ممّن عناه بهذه الطريق قبلنا منه (78) فلم يفرّق بين و في الأداء .2 قال أبو زُرْعة سألت أحمد بن حنبل ( ت 261 ه ) عن حديث أسباط الشيباني ، عن إبراهيم ، قال ? قال أحمد فقلتُ إنّ أسباطاً هكذا يقول ? فقال قد علمتُ ، لكنْ إذا قلتُ فقد خلّصتُهُ وخلّصتُ نفسي أو نحو هذا المعنى(79) .فقد أبدل أحمد بل يظهر منه أنّ عنده أحوط .ومن الواضح أنّ ما ذكره لا يتمّ إلاّ إذا كانت تؤدّي مؤدّى عنده .3 وقد مرّ في كلام مسلم في مقدّمة صحيحه أنّه حمل رواية العَنْعَنَة على السماع أبداً(80) . 4 وقال الدربنديّ عَنْعَنَة المعاصر محمولة على السماع(81) .5 وحملها بعضهم على السماع بشرطين(82) . فلو تحقّق الشرطان ولو بالأصل كان سماعاً .6 وجعلها العلائي من الألفاظ المحتملة للسماع ، وتطلق في التدليس(83) .فإذا انتفى التدليس ولو بالأصل ، كان سماعا .7 وصرّح الشهيد الثاني ( ت 965 ه ) بأنّ مشترك بين السماع والإجازة(84) .وغرضه بلا ريب ما هو المتعارف عند المتأخّرين ، لِما عرفت في الفقرة الخامسة من هذا البحث .8 ونقل الشهيد الثاني عن بعضهم أنّه استعمل في الإجازة الواقعة في رواية مَنْ فوقَ الشيخ المُسْمِع بكلمة فيقول أحدهم إذا سمع على شيخ بإجازته عن شيخه ليتميّز عن السماع الصريح ، وإن كان مشتركا بين السماع والإجازة(85) .وهذا جارٍ على عرف المتأخّرين ، كما سبق .9 وقال والد البهائي ( ت 984 ه ) إنّ يُستعمل في الأعمّ من الإجازة ومن القرائة والسماع(86) .وإطلاقُ هذا الكلام يقتضي كونه نقلا عن ما تعارف بين المتأخّرين .ويلاحظ أنّ في القديم كانت تُقرَن التي هي صيغة الأداء عن وهو أقوى الطرق وأعلاها بالإجماع ، وهذا يدلّ على مكانة ودلالتها اللغويّة والاصطلاحيّة بوضوح .وأمّا ما آل إليه أمر فهو مجرّد اصطلاح متأخِّر ، مع أنّه لا أثر له على الأسانيد لثبوت الحكم بالاتّصال فيها بإجماع المتقدّمين والمتأخّرين ، كما صرّح ابن الصلاح بذلك . وعبارة الشهيد الثاني ووالد البهائي ناظرتان إلى تعقّب ابن الصلاح ، كما عرفنا في الفقرة السابقة .ومن هنا نعرف أنّ من أفحش الأغلاط التشكيك في الأحاديث المُعَنْعَنَة ، لاحتمال أداء فيها لخصوص طريقة ، كما صنعه بعضُ المغفّلين في عصرنا ، وسيأتي نقل تشكيكه والردّ عليه في فصل .
8 أحوال في الأسانيد
قال الصنعاني إنّ للفظ ثلاثة أحوال الأوّل أنّها بمنزلة و .الثاني أنّها ليست بتلك المنزلة ، إذا صدرت من مدلّسٍ .وهاتان الحالتان ، مختصّتان بالمتقدّمين .وأمّا المتأخّرون وهم مَنْ بعدَ الخمسمائة وهَلُمَ جَرّا فاصطلحوا عليها للإجازة ، وهذه هي الحالة الثالثة .إلاّ أنّ الفرق بينها وبين الحالة الأُولى مبني على الفرق في ما بين السماع والإجازة ، لكون السماع أرجح .وبقي حالة أُخرى لهذه اللفظة ، وهي خفيّة جدّاً ، لم يُنبّه أحد عليها في علوم الحديث ، مع شدّة الحاجة إليها ، وهي أنّها ترد ، ولا يتعلّق بها حكم باتّصال ولا انقطاع ، بل يكون المراد بها سياق قصّة ، سواء أدركها الناقلُ أم لم يدركها ويكون هناك شيءٌ محذوف ، فيُقدّر(87) .أقول وقد صرّح بهذه الحالة أيضا ابن عبد البرّ في ( التمهيد ) والسخاوي في ( الفتح )(88) .فلو كان ذلك مذكورا في أثناء الإسناد فإنّ في عدّها حالةً مستقلّةً تأملاً ، وذلك لأنّ كلام الناقل المذكور لا يخلو إمّا أنْ يكون نقلاً مباشراً عمّن قاله ، فهو متّصل .وإمّا أنْ يكون بواسطة غير مذكورة ، فهو منقطع ، والناقل مدلّس .وإمّا أنْ يكون السند مذكوراً في محلّ آخر ، فهو معلَقٌ وإنْ لم يُذكَر أصلاً ، فهو مُرسَل .فليس ما ذكره خارجاً عن هذه الحالات .وإنْ لم يكن في الإسناد ، فلا ربطَ له بمباحث علوم الحديث .فاستشهاد المشكّكين في الحديث المُعَنْعَن بمثل هذه الحالة ، وهي من أهمّ أدلّتهم ، غير صحيح على قول العلائي لأنّ المفروض عدم تعلّق حكم الاتّصال ولا حكم الانقطاع بمثل سياق القصّة لأنّ الاتّصال والانقطاع من أحكام الإسناد ، وعلى فرضه لا إسناد هنا .
9 استعمال في البلاغات
وحالة أُخرى لاستعمال هي الرابعة ، لم يذكرها العلائيّ ولا غيره ، وهي المستعملة مع قول الراوي وقد وقع هذا في تراث العامّة بكثرة ، وورد في تراثنا قليلا جدّاً ، وموارده على قلّتها ظاهرة في الانقطاع .مثل ما أُسند إلى ابن سيّابة ، قال بلغنا عن أبي جعفر عليه السلام (89) .والراوي لم يلق أبا جعفر عليه السلام كما يظهر من كتب الرجال .وما نُقل عن نصر بن قابوس في قوله لأبي الحسن الماضي عليه السلام وهو الإمام الكاظم عليه السلام بلغني عن أبيك(90) .ويقصد بقوله جدّه الإمام الحسين عليه السلام ، فليلاحظ .ويمكن أن يُفهم عدم إرادة الاتّصال من أنّ الراويَيْن هنا بصدد الاحتجاج والاستدلال ، لا النقل والرواية .نعم ، ورد في بعض أحاديث الإمام الباقر أبي جعفر عليه السلام قوله (91) . أو (92) .وهمامن الحديث المؤنّن ، وليس بمعنعن ، وهو يفيد تحقيق بلوغ المرويّ إلى الراوي الذي هو الإمام عليه السلام .مع أنّ البحث عن روايات الأئمّة عليهم السلام يختلف ، لِما ثبت في حقّهم مِن كون ما يروونه كلّه متّصلا بالرسول عليه السلام وإن كان بظاهر الإرسال ، لِما ثبت عنهم من القاعدة العامّة في أنّ حديثهم حديث آبائهم عن جدّهم صلّى الله عليهم أجمعين ، وقد أثبتناه في موضع آخر(93) .