بهذا العرض المفصّل تمكّ-نّا من العلم بأنّ محدّثينا الأعلام إنّما قصدوا إلى استعمال العنعنة ، مع العلم بمداليل الألفاظ واختلافاتها ، ومع وجودها في الأسانيد في مواضع أُخرى ، إلاّض أنّهم وجدوا العنعنة وافية بأغراضها بأكمل شكل وأحسنه ، ولذلك لم يجدوا في الإعراض عنها ، وفي الاكتفأ بالعنعنة حزازةً توجب منع ذلك ، بل قد يوجد في الالتزام بها مطلقا ، ودائما ، مزيد مؤونةٍ لا ملزِم لها .وإذا لاحظنا أنّ هؤلا الأعلام ، وهذه الأعمال ، تُعَدّ أهمّ مصادر الحديث ومنابعه ، وأُس-سه وأركانه ، فإنّ تصرّفاتهم باستعمال العنعنة بدل الألفاظ يكون دليله على اعتبارها ، وصحّة الاكتفأ بها ، وبطلان ما يوجّه إليها من الشُ-بَه ثمّ إنّ من المعلوم للمسلمين كافّة اعتبار الحديث الشريف كمصدر معتمَد للدين والشريعة ، وعلى ذلك تمّ اتّفاق المذاهب الإسلامية جمعأ ، وها نحن نجد أسانيدها كلّها محتوية على العنعنة مع بعض الرواة أو كلّهم ، فلو كانت الشبهة تحصل من العنعنة في هذا التراث الحديثي كلّه ، فإنّ مثل هذه الشبهة سوف تكون في مقابلة البديهة الحاصلة لأهمّ-يّة هذا التراث واعتباره وحجّ-يّته ، في حالته تلك ، وهو الواضح من عناية الأعلام به وحرصهم على صيانته وتناقله وحفظه وتوارثه .فالشبهة مرفوضة لأنّها في مقابلة البديهة .
9 مع تراث العامّة
وليُعلم أخيرا إنّ ما ذكرناه من العَرض لا يختصّ بالتراث الشيعي خاصّة ، بل التراث الحديثي عند العامّة كذلك يحتوي على العنعنة بشكل شائع ، كما نجد في كتبهم المهمّة فهذا موطّأ مالك يبدأ كتاب الصلاة فيه بباب وقوت الصلاة ، وفيه ق-ال حدّثني يحيى ، عن مالك بن أنس ، عن ابن ش-هاب ، أنّ عمر بن عب-د العزيز(90) .وفي الحديث الثالث وحدّثني يحيى ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطأ بن يسار ، أنّه قال جأ رجل(91) .والحديث الرابع وحدّثني يحيى ، عن مالك ، عن الحسن بن سعيد ، عن عمرو بن عب-د الرحمن ، عن عائشة(92) .بل لا يس-تعمل مالك غير العنعنة إلاّض قليلا .والبخاري يبدأ صحيحه في أوّل أبواب كتابه بباب والحديث الثاني منه حدّثنا عب-د الله بن يوسف ، قال أخبرنا مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة(93) .وقال في باب قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حدّثنا محمّ-د ابن سلام البيكندي ، قال أخبرنا عب-دة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت . .(94) .وهكذا سائر الأحاديث .وأمّا مسلم فقد عرفنا دفاعه عن العنعنة ، وأوّل حديث فيه حدّثنا أبو بكر ابن أبي ش-يبة ، ح-دّثن-ا وكي-ع ، ع-ن ش-عبة ، ع-ن الحك-م ، عن عب-د الرحمن بن أبي ليلى ، عن سمرة بن جندب ح وحدّثنا أبو بكر ابن أبي شيبة أيضا ، حدّثنا وكيع ، عن شعبة وسفيان ، عن حبيب ، عن ميمون ابن أبي شبيب ، عن المغيرة بن شعبة قالا . .(95) .وأبو داود بدأ كتابه بباب التخلّي عند قضأ الحاجة من الطهارة ، وأوّل حديث فيه ، قال حدّثنا عب-د الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ، ثنا عبدالعزيز يعني ابن محمّد ، عن محمّد يعني ابن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن المغيرة بن شعبة ، أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (96) .وبدأ ابن ماجة كتابه بباب اتّباع سُ-نّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوّل حديث فيه ، قال حدّثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، قال ثنا شريك ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال . . .(97) .وبدأ الترمذي جامعه بأبواب الطهارة ، باب ما جأ والحديث الأوّل فيه حدّثنا قتيبة بن سعيد ، حدّثنا أبو عوانة ، عن سِماك بن حرب ح وحدّثنا هنّاد ، حدّثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سِماك ، عن مصعب بن سعد ، عن ابن عمر(98) .وبدأ النسائي سننه ب- والحديث الأوّل فيه أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال حدّثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة(99) .وهكذا يجرون على هذا النسق في الأسانيد ، في بداياتها بالألفاظ ، وفي نهاياتها بالعنعنة .فلا فرق إذن في ما اس-تنتجناه من الاستعراض المذكور بين التراث الشيعي ، وبين التراث عند العامّة ، بل يمكن القول بأنّ-ا لا نجد في تراث المسلمين قاطبة من أهل القرون الأربعة الأُولى ما يخلو عن العنعنة بشكل شائع وذائع وفي طبقات الرواة الأُولى بالذات .وبعد عهد المتشدّدين من بعض علمأ الحديث في الالتزام بالألفاظ في القرون الخامس وحتّى السابع ، عاد العلمأ إلى التزام العنعنة بشكل شائع من دون نكير .ومع العلم ببطلان التشدّد ، وعدم كونه أصيلا ولا مستندا إلى دليل ملزم من الشرع ، بل كونه مجرّد اصطلاح قد زال بزوال أهله في تلك القرون ، فإنّ إجماع المحدّثين متحقّق من القدمأ والمتأخّرين على الاكتفأ بالعنعنة ، ووفائها بالمراد من الألفاظ بشكل تامٍّ .الفصل الثالثمشاكل العنعنة وحلولها ومع أنّ العنعنة تدلّ على الاتّصال لغة ، واصطلاحا ، وعلى هذا جرى عمل أعلام المسلمين من المحدّثين ، وعليه بُنيتْ أعمالهم العلميّة ، كما أثبتنا ذلك في الفصول الماضية ، فإنّ العنعنة قد تعرّضت لإشكالات وجّهها إليها بعضُ المعاصرين تبعا لبعض الاَرأ والنظريّات البائدة المخالفة لإجماع أهل الحديث في المذاهب الإسلامية كافّة ، وهي محكومة بالشذوذ قطعا .ولا بُدّ لاستكمال البحث من ذِكر ما أورده أُولئك وهؤلا ، لمعرفة أوجه الخلل فيه ، والخروج عن عهدة البحث ، فنقول جُوبه الحديث المعنعن بأنّه لا يقتضي الاتّصال بين الرواة الّذين نقلوا كلام الاَخرين بلفظة ، باعتبار كون لفظة تستعمل في الكلام المنقول ، أعمّ من كونه بلغ الراوي عن القائل بلا واسطة أحد ، كما لو سمعه منه مباشرةً ، أو بلغه بواسطة آخر ، ولم يذكر اسم الواسطة ، حيث يصحّ للراوي أن يقول ويقصد بذلك أنّ قائله زيد وهو منقول عنه ، من دون أنْ يكون الراوي قد سمعه منه .وقد استعمل بعض الرواة كلمة في الإسناد ، قاصدا هذا المعنى الثاني ، فكان ذلك منهم تمويها عُرف اصطلاحا ب- لإيهامه السماع المباشر من القائل ، بينما هو ينقله عنه مع الواسطة .