الاصول العامة للفقه المقارن - صفحه 487 الي 520 البابُ الثالث
القسم الثالث
التخيير الشرعي تحديده : ويراد به جعل الشارع وظيفة اختيار إحدى الامارتين للمكلف عند تعارضهما وعدم إمكان الجمع بينهما ، أو ترجيح إحداهما على الاخرى بإحدى المرجحات التي عرضناها سابقاً .
التخيير الشرعي وظيفة : وكون التخيير الذي نتحدث عنه وظيفة شرعية لا حكماً شرعياً ، يتضح أمره اذا علمنا ان جعل التخيير ، عند تعارض الامارتين ، لا يكشف عن وجود مصلحة في متعلق الجعل ليكون من سنخ الاحكام ، وإنما جعل لرفع الحيرة فقط ، واختيار المكلف لاحداهما لا يسري الى الواقع فيغيره عما هو عليه .
التخيير والواجب المخير : وهذا التخيير غير الواجب المخير الذي سبق التحدث عنه في بحوث التمهيد ، لان ذلك من الاحكام لبداهة ان كلاً من فردي التخيير هناك ـ وهو الذي وجه اليه التكليف على سبيل البدل ـ فيه مصلحة توجب جعل الحكم على وفقها بخلافه هنا ، فإن كلاً من فردي التخيير لا يعلم وجود المصلحة فيه ، وإنما المصلحة في متعلق إحدى الامارتين فحسب ، لافتراض التناقض بينهما ، وصدور واحدة منهما دون الاخرى ، والمصلحة إنما هي في نفس الجعل لا في المتعلق ، وهي لا تتجاوز مصلحة التيسير .
التخيير ومقتضى الاصل : وجعل التخيير هنا على خلاف مقتضى الاصل ، لاقتضائه التساقط في المتعارضين . لان دليل الحجية بالنسبة للخبرين المتعارضين لا يخرج عن أحد ثلاثة فروض :
1 ـ ان يفترض شموله لهما معاً ، وهذا مستحيل بالبداهة ، لاستحالة ان يتعبدنا الشارع بالمتناقضين .
2 ـ ان يفترض شموله لاحدهما دون الاخر ، وتعيينه بالذات ترجيح لاحد المتساويين على الاخر من دون مرجح .
3 ـ ان يقال بعدم شموله لهما معاً ، وهذا هو الذي يتعين الاخذ به .
وادعاء أن أحدهما حجة واقعاً لحكايته عن الواقع لا يخلو من مغالطة ، لان المدار في الحجية على العلم بها ، لان العلم مقوم للحجية ، كما سبق بيانه ، لا على وجودها الواقعي .
ومع فرض جهالتنا به من بينهما لا يكون حجة علينا حتماً ، وقد تخيل بعض الاصوليين : " ان مقتضى الاصل عند التعارض هو التخيير ، لان كلاً من المتعارضين محتمل الاصابة للواقع ، وليس المانع من شمول دليل الاعتبار لكل منهما إلا لزوم التعبد بالمتناقضين .
وهذا المحذور يندفع برفع اليد عن اطلاق دليل الاعتبار بالنسبة الى كل منهما بتقييده بترك الاخذ بالاخر " (1) .
وأجيب على هذا بأن الاخذ بكل منهما عند ترك الاخر لا يرفع محذور التعبد بالمتناقضين ، لان لازم جعل الحجية لكل منهما عند ترك الاخر هو جعل الحجية
لهما عند ترك الاخذ بهما معاً لصدق القيدين ، ومقتضاه هو التعبد بهما بما ينطويان عليه من التناقض .
وهناك توجيه آخر للتخيير فحواه دعوى امكان تقييد الحجية في كل منهما بالاخذ به ، ونتيجة ذلك هو التخيير لتمكنه من الاخذ بأيهما شاء .
ولكن لازم هذا التوجيه ان لا يكون كل منهما حجة عند عدم الاخذ بهما ، وهو ما لا يلتزم به الموجه حتماً .
على ان علمنا بكذب احدى الامارتين بحكم ان الواقع الواحد لا يتحمل صدق حكايتين متناقضتين يحول التخيير الى تخيير بين حجة ولا حجة ، لو صح صدق التعبير بالحجة في هذا المجال .
أدلة التخيير ومناقشتها : ولكن القائل بالتخيير استند الى روايات عدة جلها أجنبي عن مقام التعارض المصطلح ، على ان قسماً منها مناقش فيه سنداً ، نذكر نماذج منها :
1 ـ ما رواه أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي ، عن الحسن بن الجهم ، " عن الرضا(عليه السلام) قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيهما الحق . قال(عليه السلام) : فاذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت " (2) .
ودلالة هذه الرواية وافية جداً إلا أنها مرمية بالضعف لارسالها .
2 ـ ومثلها مرسلة الكافي " بأيهما اخذت من باب التسليم وسعك " (3) استدلالاً وجواباً .
3 ـ ما رواه الشيخ باسناده عن احمد بن محمد ، عن العباس بن معروف ، عن علي بن مهزيار قال : " قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد الى أبي الحسن(عليه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن ابي عبدالله(عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر ، فروى
بعضهم : صلهما في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلهما إلا على الارض ، فوقّع(عليه السلام) : موسع عليك بأية عملت " (4) .
وهذه الرواية لا دلالة لها على أكثر من التخيير في افراد الكلي ، لان كلاً من الصلاتين صحيحة ومحققة للغرض ، والتخيير بين أفراد الكلي سواء كان عقلياً أم شرعياً لا محذور فيه ، والمطلقات كلها من هذا القبيل .
وإن شئت أن تقول ان هذه الانواع من الروايات ليست متعارضة في واقعها ، وإن تخيلها الرواي كذلك ، والامام لم يصنع اكثر من تنبيهه على إمكان الجمع بينها بمفاد ( أو ) ، والكلام إنما هو في الروايات المتعارضة .
4 ـ ما رواه الكليني بسنده عن سماعة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : " سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، احدهما يأمر بالاخذ والاخر ينهاه ، كيف يصنع ؟ قال(عليه السلام) : يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه " (5) .
وهذه الواقعة المسؤول عنها من قبيل دوران الامر بين المحذورين ( يأمر وينهى ) والمكلف بواقعه لابد ان يصدر عن أحدهما ، فالتخيير بينهما تخيير تكويني ، والتعبير بالسعة مساوق للتعبير بإسقاطهما ، والصدور عن أحدهما بحكم ما يقتضيه واقعه التكويني ، وربما سمي هذا النوع من التخيير بالتخيير العقلي ، فتكون الرواية إرشاداً له ، وسيأتي الحديث عنها .
خلاصة البحث : والخلاصة ان أدلة التخيير ـ وهي لا تخرج عن الطوائف التي عرضنا نماذج منها ـ بين صحيح لا يدل بمضمونه ، ودال لا يصح سنداً ، فهي لا تنهض بإثبات ما سيقت له .
على أن الحق يقتضينا ان نسجل ان القائلين بالتخيير لم نعرف لاحد منهم فتوى فقهية مستندها ذلك ، وربما وجدت في الموسوعات وضيعها علينا نقص الفحص .
ثم ان هذه الادلة ـ لو تمت دلالتها ـ فهي لا تتعرض الى اكثر من التعارض بين الاخبار ، ولا صلاحية فيها لاستيعاب أبواب التعارض كلها ، فالدليل إذن أضيق من المدعى .
ولذا لم نعرف من عمم أدلة التخيير الى جميع الابواب ، فالقاعدة تبقى محكمة ، ومقتضاها التساقط إلا في الاخبار ، بناء على تمامية هذه الادلة .
القسم الاول
البراءة العقليّة تحديدها : ويراد بها الوظيفة المؤمّنة من قبل العقل عند عجز المكلف عن بلوغ حكم الشارع أو وظيفته .
دليلها : وقد استدل لها بالقاعدة العقلية المعروفة بقاعدة :
" قبح العقاب بلا بيان واصل من الشارع " .
بدعوى أن العقل يدرك قبح عقاب الشارع لعبيده إذا لم يؤذنهم بتكاليفه وخالفوها ، أو آذنهم بها ولم تصل اليهم مع فحصهم عنها واختفائها عنهم مهما كانت أسباب الاختفاء ويأسهم عن بلوغها .
وهذه القاعدة مما تطابق عليها العقلاء على اختلاف مللهم ومذاهبهم وتباين أذواقهم ومستوياتهم وتشعب أزمانهم وبيئاتهم .
وقد عبر عنها بعض المشرعين المحدثين بقوله : " لا عقاب بغير قانون " . وبالطبع ان مراده بالقانون هو خصوص القانون المبلغ بوسائل التبليغ المتعارفة ، وإلا فإن التشريع وحده لا يكفي في إيقاع المواطنين تحت طائلة العقاب .
وربما كان غرض القائلين بأن " الاصل براءة الذمة " هو الاشارة الى هذه القاعدة العقلية .
مناقشة القاعدة : وقد نوقشت هذه القاعدة بألسنة قسم من الفقهاء ، بكونها غير تامة لمعارضتها بقاعدة عقلية أخرى ، تفرض الالزام بالمحتمل والقاعدة هي " وجوب دفع الضرر المحتمل " :
وجوب دفع الضرر المحتمل ومعارضتها لها : وهي كسابقتها مما تطابق عليها العقلاء بتقريب ان العقل متى احتمل الضرر في شيء مّا ألزم بتجنبه ، واستحق صاحبه اللائمة لو أقدم عليه وصادف وقوعه فيه .
وموقع التعارض بينهما ان القاعدة الاولى مع احتمال التكليف وعدم تنجّزه بالوصول تنفي العقاب من الشارع وتمنعه ، والاخرى لا تمنعه بل تصحح صدوره منه وتلقي التبعة على المكلف ان قصر في امتثاله ، فالاولى مؤمّنة من الضرر ، والثانية غير مؤمنة وموضوعهما واحد .
وأشكل على هذه المناقشة ان التعارض في الاحكام العقلية مستحيل ، لان العقل لا يتناقض على نفسه بإصدار حكمين متناقضين على موضوع واحد ، فلا بد من التماس محاولاتهم لرفع هذا التناقض .
التوارد بين القاعدتين : وقد ذهب بعضهم الى أنهما ـ أعني القاعدتين ـ مختلفتان في الرتبة ، وقيام احداهما يكون مزيلاً لموضوع الاخرى ، وبهذا جعلوا " قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل " واردة على " قاعدة قبح العقاب بلا بيان " لادعائهم ان هذه القاعدة تصلح ان تكون بياناً يمكن للشارع ان يعتمد عليه ، ومع فرض كونها بياناً من قبله ، فقاعدة " قبح العقاب بلا بيان " لا يبقى لها موضوع .
والجواب على هذه الدعوى :
1 ـ ان الالتزام لها مساوق لانكار قاعدة " قبح العقاب بلا بيان " إذ لا يبقى لها موضوع دائماً ، لان العقل إنما اعتبرها عند الشك في التكليف ، ومع الشك فيه فإن احتمال الضرر قائم حتماً ، ومع قيامه تقوم القاعدة المرتكزة عليه فيزول موضوع تلك القاعدة ، وقد افترضنا في القاعدة انها مما تطابق عليها العقلاء ، فهل تطابق العقلاء على قاعدة من دون موضوع ؟!
2 ـ إمكان عكس الدعوى عليهم ، والنقض بورود القاعدة الاولى على الثانية .
بتقريب : ان قاعدة " قبح العقاب بلا بيان واصل " بنفسها مؤمّنة ورافعة لاحتمال الضرر ، فمع قيامها لا احتمال للضرر ليلجأ الى القاعدة الثانية ، وبهذا يتضح ان قيام القاعدة الاولى يكون رافعاً لموضوع القاعدة الاخرى ووارداً عليها . فالقاعدتان اذن متواردتان ، والاشكال يبقى قائماً ينتظر .
الرأي الاخير : والرأي الذي نراه أقرب الى حل المشكلة هو الرأي الذي تبناه بعض مشايخنا العظام على غموض نسبي في أداء بعض مقرري بحثه .
والظاهر انه يريد هذا المضمون في دفع الاشكال ـ فإن لم يكنه فهو قريب منه في أكثر خطوطه ـ وهو اعتبار القاعدتين منفصلتين عن بعضهما مورداً ، ولكل منهما مجال .
وفي هذه الحدود لا التقاء بينهما ليلزم التعارض ، وبشيء من التحديد للمراد من كلمة الضرر يتضح هذا المعنى .
يطلق الضرر ويراد به النقص الذي يدخل على الانسان بسبب عمل أو ترك
شيء مّا سواء كان روحياً أم مادياً ، وهو على قسمين : دنيوي وأخروي ، ولكل من هذين القسمين حساب بالنسبة الى موضع بحثنا .
1 ـ احتمال الضرر الدنيوي .
وهذا الاحتمال اذا كان على درجة من الاهمية كبيرة ، وكان الضرر مما لا يتسامح فيه عادة ، يمكن ان يدرك العقل لزوم الاحتياط على وفقه ، ومنه يدرك رأي الشارع بإلزامه به ـ أعني الاحتياط ـ ابعاداً للمكلف عن الوقوع فيما يبغضه .
وقد سبق ان قلنا ان للشارع ان يجعل الاحتياط للمحافظة على بعض التكاليف التي يعلم مبغوضية فعلها من قبل المكلف على درجة لا يريد وقوعها في الخارج بأية كيفية كانت ، كما هو الشأن في الدماء والفروج والاموال على قول .
وفي مثل هذا الحال صححنا جعل الاحتياط الشرعي من قبله ، وقلنا ان العقاب إذ ذاك ـ على تقدير مخالفة الاحتياط وعدم مصادفة الواقع ـ انما هو على التجرّي أو ما يعود إليه ـ بناء على حرمته ـ لا على مخالفة التكليف لعدم مصادفته الواقع كما هو الفرض .
وعلى هذا ، فقاعدة " وجوب دفع الضرر المحتمل " قائمة هنا ، ومنها يكتشف البيان الشرعي ، فتكون واردة على قاعدة " قبح العقاب بلا بيان واصل " إذ لا تبقي لها موضوعاً ليرد الحكم العقلي عليه .
2 ـ احتمال الضرر الاخروي ـ أي العقاب ـ .
وهذا الاحتمال لا يستتبع جعلاً شرعياً للاحتياط على وفقه ، لبداهة أن كل ما يتصل بشؤون الاطاعة والعصيان مما هو في طول التكاليف لا تكون أوامره ـ لو وجدت ـ من قبيل الاوامر المولوية ، لاستحالة صدور هذا النوع من الاوامر عنه .
وقد سبق أن تحدثنا في مبحث " دليل العقل " (6) عن أن بعض الاحكام العقلية لا تستتبع أوامر شرعية لوجود موانع عقلية عن ذلك ، وضربنا المثل بأوامر الاطاعة .
وما قلناه هناك نقوله هنا ، لان احتمال العقاب ـ بل القطع به ـ لا يستطيع أن يوجه الشارع نهياً عن الوقوع فيه فضلاً عن جعل الاحتياط ، كأن يقول لك : لا تقع في العقاب للزوم التسلسل الواضح ، بداهة ان مخالفة هذا النهي إما ان توجب عقاباً فهي مردوع عنها ، وهذا الردع إن أوجبت مخالفته العقاب فهو مردوع عنه ، وهكذا الى غير نهاية .
فإذا كان احتمال الضرر الاخروي لا يستتبع جعل الاحتياط الشرعي على وفقه ، فمن الواضح أن قاعدة " وجوب دفع الضرر المحتمل " لا تكشف عنه ـ أعني الاحتياط ـ لعدم امكان جعله من قبله ، فهي لا تصلح ان تكون بياناً شرعياً له ، فقاعدة " قبح العقاب بلا بيان " تبقى قائمة ومع قيامها يقطع بعدم الضرر الاخروي ، فلا يبقى مجال لوجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ لا احتمال للضرر حتى يجب دفعه .
وإذن فالقاعدتان لا تعارض بينهما ولا تناقض في حكم العقل .
وعلى هذا فقاعدة " وجوب دفع الضرر المحتمل " إنما تختص في المواقع التي يمكن للشارع ان يجعل تكاليفه عليها ، ولو كانت التكاليف احتياطية .
وهي لا تشمل غير قسم من الاحتمالات لاضرار دنيوية بالغة ، يعلم من الشارع بغض وقوعها من العبد ، وما عداها فقاعدة " قبح العقاب بلا بيان " تبقى قائمة ، وهي هادمة بقيامها للقاعدة الاخرى لتحصيلها القطع بالمؤمّن الرافع لاحتمال العقاب .
نعم في الموارد التي لا تصلح للمؤمّنية فيها ، كما في موارد الشبهات البدوية قبل الفحص ـ بالتقريب الذي ذكرناه سابقاً ـ تجري هذه القاعدة ـ أعني قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ـ لعدم المؤمّن العقلي ، كما هو واضح .
البراءة العقلية وظيفة عقلية لا حكم : وكونها وظيفة لا يحتاج الى حديث لبداهة افتراضها عند اختفاء الاحكام الشرعية ، وليس فيها جنبة نظر للواقع ولا حكاية عنه ، بل ليس فيها ما يكشف عن رأي الشارع حتى في هذا الحال لاستحالة ذلك ، ومن هنا قلنا : إنها وظيفة عقلية لا شرعية .
القسم الثاني
الاحتياط العقليّ تحديد الاحتياط العقلي : وهو حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المنجز اذا كان ممكناً .
وغرضنا من ذكر قيد الامكان إخراج بعض صور العلم بالتكليف ، كما في بعض صور دوران الامر بين المحذورين مما لا يمكن الجمع بينهما بحال ، وسيأتي الحديث عنها .
ويدخل ضمن هذا التحديد أقسام ثلاثة :
1 ـ الشبهة البدوية قبل الفحص .
2 ـ العلم الاجمالي بتكاليف إلزامية اذا كان الاحتياط ممكناً ولو بالاتيان بجميع المحتملات أو تركها .
3 ـ العلم التفصيلي بتكليف مّا ، والشك في الخروج عن عهدته بالامتثال لبعض الجهات .
دليله : ودليله هو القاعدة التي تطابق عليها العقلاء من ان شغل الذمة اليقيني يستدعي فراغاً يقينياً .
ولبيان استيعاب الدليل لجميع ما انتظم في هذا التعريف ، ثم لتحديد صغريات ما يمكن ان تنتظم في الكبرى الكلية المستفادة منه . يقتضينا ان نقف عند كل واحدة منها فنتحدث عنها بشيء من الايجاز ، ونحيل في استيعابها حديثاً وصوراً الى الموسوعات الشيعية (7) لتوفرها على بحث هذه المواضيع .
1 ـ الشبهة البدوية قبل الفحص : ووجوب الاحتياط في الشبهات البدوية قبل الفحص سبق أن ذكرنا أدلته في مبحث " الاستصحاب " ، ولعل أهمها العلم الاجمالي المنجز بوجود تكاليف إلزامية ، وبهذا المعنى فإنها تكون من صغريات مسألة العلم الاجمالي القادمة والحديث فيه يأتي .
أما اذا فرض أن هذا الدليل غير تام وأخذنا بالادلة الباقية ، فإن قاعدة " شغل الذمة اليقيني " لا تكون دليلاً على وجوب الاحتياط فيها ، لبداهة عدم اليقين فيها إذ ذاك بالشغل لتكون نتيجة للقاعدة المذكورة ، ولا بد من الاستدلال عليها بأدلة أخرى أهمها القاعدة السابقة " وجوب دفع الضرر المحتمل " لا لاكتشاف الجعل الشرعي له من هذه الطريق لانحصار الاكتشاف باحتمال الاضرار الدنيوية البالغة منها ، والشبهات البدوية ليست مختصة بهذه الاحتمالات دائماً ، بل لعدم وجود المؤمّن ، وذلك لعدم جريان البراءة الشرعية فيها لقصور أدلتها عن شمولها لكونها مقيدة عرفاً بما بعد الفحص ، كما سبق تقريبه ، ولان البيان الواصل المأخوذ في موضوع البراءة العقلية ـ اعني قاعدة قبح العقاب بلا بيان واصل ـ لا يراد به فعلية الوصول بداهة ، بل يراد به معرضية الوصول لما مر شرحه من أن الشارع غير مسؤول عن إيصال التكاليف الى كل واحد من المكلفين ، وانما عليه أن يبلغ بالطرق المتعارفة وعليهم السعي الى معرفتها .
فدليل الاحتياط العقلي فيها هو هذه القاعدة ، إذ لا دافع هنا لاحتمال الضرر ليلجأ اليه .
2 ـ العلم الاجمالي : والحديث حوله يقع في جهات متعددة أهمها جهتان :
1 ـ قابليته لتنجيز ما تعلق به ، وما يتفرع من بحوث عليها .
2 ـ حل العلم الاجمالي .
قابليته لتنجيز متعلقه : والمراد بالقابلية هنا صلوحه لان يكون بياناً يتكل عليه الشارع في إيصال تكاليفه ـ من دون حاجة الى جعل منه ـ وحاله حال العلم التفصيلي في تنجيز متعلقه .
والذي يبدو ان القول بقابليته موضع اتفاق الجميع ، وإن ذكرت بعض الوجوه لنفي القابلية ، إلا انه لا قائل بها ; وغاية ما قرب به نفي القابلية من أنه " ربما يقال انه يعتبر في موضوع حكم العقل بقبح مخالفة المولى ان يكون المكلف حين العمل عالماً بالمخالفة تفصيلاً ، وأما الاتيان بأمور لا يعلم حين الاتيان بكل واحد منها بمخالفته للمولى ، ولكن بعد الاتيان بالجميع يعلم بتحقق المخالفة في الخارج ، فلا يحكم العقل بقبحه .
وبعبارة اخرى : القبيح مخالفة التكليف الواصل، لاتحصيل العلم بالمخالفة " (8) .
وأُجيب على هذا التقريب بأن فيه " مغالطة ناشئة من الخلط بين الوصول والتمييز ، فإن وصول التكليف الفعلي هو الموضوع لحكم العقل بقبح المخالفة ، ولا ربط لهذا بتمييز المكلف به أصلاً ، ولذلك لا ريب في حكم العقل بقبح ارتكاب جميع أطراف العلم الاجمالي دفعياً كالنظر الى امرأتين يعلم بحرمة النظر الى إحداهما كما في ارتكاب المحرم تفصيلاً ، مع ان موضوع التكليف الواقعي غير مميز فلا يعتبر في القبح إلا وصول التكليف الفعلي ، وهو متحقق في محل الكلام " (9) .
فالشبهة في قابليته للتنجيز شبهة في مقابل البديهة ، وهي لا تستند ـ كما يقول استاذنا الخوئي(قدس سره) ـ على غير المغالطة ، ولذا لا نجد عاقلاً من العقلاء يقدم على شرب إناءين يعلم إجمالاً بوجود السم في أحدهما بدعوى عدم تمييزه للاناء الذي وجد فيه السم من بينهما .
ولكن ـ بعد ثبوت القول بالقابلية ـ يقع الكلام في منشأ المنجزية فيه ، فقيل : ان منشأها ذاتي في كل ما يتصل به ، وحاله حال العلم التفصيلي في كونه علة تامة لتنجيز متعلقه ; وقيل : ان العلم الاجمالي ليس فيه اكثر من اقتضاء التنجيز ، وتنجيزه موقوف على عدم جعل المرخص في أطرافه ، وعلى كلا القولين فقد وقع الكلام في إمكان جعل المرخص على خلافه كلاً او بعضاً وعدمه ، وعلى تقدير الامكان فقد اختلفوا في الوقوع وعدمه ايضاً .
فالكلام إذن يقع في مسائل ثلاث :
أ ـ منشأ تنجيزه .
ب ـ إمكان جعل المرخص على خلافه وعدمه .
ج ـ وقوع مثل ذلك الجعل وعدمه على تقدير إمكانه .
أ ـ منشأ تنجيزه : وقد ذكرنا أن في المسألة قولين : قولاً بالعلية وقولاً بالاقتضاء ، ولعل وجهة نظر القائلين بالعلية هو ان العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي في كشفه عن الواقع ، فإراءته له إراءة كاملة لا قصور فيها ، بل هو في الحقيقة علم تفصيلي بوجود التكليف ، ولما كان العلم التفصيلي علة تامة لتنجيز متعلقه لما سبق في بحوث التمهيد ، كان العلم الاجمالي كذلك ، ولا فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً .
والتردد في مقام تطبيق الحكم على كل من الاطراف لا يسري الى التردد في
أصل الحكم ، فأصل الحكم واصل على كل حال .
أما القائلون بالاقتضاء ; فوجهة نظرهم مبنية على ان هذا التردد في مجال التطبيق يضعف تأثير العلم الاجمالي ، وينزل رتبته عن العلم التفصيلي ، فهو لا يزيد على ان يكون فيه اقتضاء التأثير ، وتأثير المقتضي فيه موقوف على عدم وجود المانع ، أي عدم وجود المرخص من قبل الشارع في ارتكاب الاطراف .
وعلى هذا فالتنجيز عند هؤلاء الاعلام يتضح من وجهة نظرهم في المسألة التالية من إنكار امكان جعل المرخص في الاطراف كلا أو بعضاً .
ب ـ إمكان جعل المرخص وعدمه : أما على مبنى من يذهب الى علية العلم الاجمالي للتنجيز ، فاستحالته واضحة للزوم الترخيص في مقطوع المعصية اذا جعل في تمام الاطراف أو الترخيص في محتملها اذا جعل في بعضها دون بعض ، ويستحيل على الشارع المقدس ان يرخص في مقطوع المعصية أو محتملها مع تنجز التكليف بالعلم لقبح ان يصرح بجواز معصيته بالضرورة ، وان جاز له ان يعفو بعد صدور المعصية من العبد ، على ان شؤون الاطاعة والعصيان راجعة الى العقل كما سبق بيانه ، وليس للشارع دخل في وضعهما أو رفعهما بداهة .
وأما على مبنى من يقول بأن فيه اقتضاء التنجيز في كل من الاطراف ، فكذلك فيما يلزم منه المخالفة القطعية ، ولكن بملاك آخر غير ذلك الملاك .
والملاك الذي ينتظم جميع أنواع ما يقع به الترخيص سواء كان أمارة أم أصلاً ، هو ان جعل الشارع الترخيص في تمام الاطراف يلزم منه الترخيص في مقطوع المعصية لانتهائه الى جواز المخالفة القطعية ، وقد سبق ان قلنا أن التصريح بجواز المعصية من قبله قبيح ينزه عنه سبحانه ، وجعله في بعض الاطراف دون بعض
ترجيح بلا مرجح .
وذهب بعضهم الى إمكان جعله في الجميع على أن يقيد كل مرخص منها بصورة عدم ارتكاب الطرف الاخر فينتج التخيير بينهما . وهذا النوع من التقييد مستحيل أيضاً ، لانتهائه الى التعبد بهما معاً عند ارتكابهما ـ أي الى الترخيص في مقطوع المعصية ـ لتوفر الشرط في كل منهما ، وهو عدم الارتكاب .
بالاضافة الى أن الاطلاق والتقييد إنما هما من قبيل الملكة والعدم ، فالمحل الذي لا يكون قابلاً لاحدهما لا يكون قابلاً للاخر ، وحيث افترضنا استحالة الاطلاق في مقام الثبوت فلا بد أن يكون التقييد مستحيلاً فيه ايضاً ، فالترخيص على هذا في جميع صوره لا يمكن جعله في مقام الثبوت .
هذا إذا كانت نسبة المرخص الى الجميع نسبة واحدة ، أما اذا اختلفت النسبة في الاطراف بأن كان بعضها موضعاً لامارة او اصل دون الباقي ، أمكن جعلها والتعبد بها بالنسبة الى ذلك الطرف ، ولا محذور في ذلك ، وسيأتي ان هذا القسم من جملة ما يحل به العلم الاجمالي .
هذا كله في مقام الثبوت ، أما في مقام الاثبات فهو متفرّع بالبداهة على مقام الثبوت ، فإذا افترض استحالة الجعل والتعبد بالمرخص فيه ، فإن الادلة المعبرة عنه لا يمكن أن تكون شاملة لهذه الاقسام بداهة ، لان التمسك بظهورها في شمول هذه الاقسام إنما يلجأ اليه عند الشك ، ومع العلم بعدم الشمول لا مجال لحجية مثل هذا الظهور .
وإذا كان ولا بد من التغاضي عن مقام الثبوت والتماس ما تقتضيه الادلة بنفسها .
3 ـ في وقوع مثل ذلك الجعل وعدمه : ثم مدى ما تدل عليه أدلة الترخيص ـ أمارة او أصلاً ـ فالظاهر ان الحال يختلف فيها باختلاف ما تفيده ألسنة جعلها ، واعتبارها من قبل الشارع .
الامارة والعلم الاجمالي : أما الامارة فالظاهر ان أدلتها غير وافية بالشمول لجميع الاطراف لانتهائها الى التكاذب ، لان ما دل على وجود الحكم في كل من الاطراف يدل بالدلالة الالتزامية على نفيه في الاخر للعلم بوحدة الواقعة ، كما هو الفرض ، ومقتضى ذلك تكاذبهما .
فالخمرية المرددة بين إناءين اذا قامت البينة على وجودهما في الاناء الاول فقد دلت بالالتزام على عدم وجودها في الاناء الثاني وتكذيب من يدعي وجودها فيه ، واذا قامت الثانية على وجودها في الاناء الثاني فقد دلت على عدم وجودها في الاناء الاول بالالتزام ، كما دلت على تكذيب من يدعي وجودها فيه ، ونتيجة ذلك هي التكاذب بينهما ، بالاضافة الى عدم إمكان الاخذ بهما معاً لانتهائهما الى جمع النقيضين في الاناء الواحد ، أعني وجود الخمر وعدمه .
واعتبار الحجية في إحدى الامارتين دون الاخرى ترجيح بلا مرجح ، واعتبارها لاحداهما غير المعينة لا تجدي ، لعدم الاستفادة منها في مجالنا الخاص ، وتقييد احداهما بعدم ارتكاب الطرف الثاني مما ينتج التخيير ، غير معقول ، لعدم معقولية الاطلاق ، وهما من قبيل الملكة والعدم ، مع ان لازم ذلك هو جعل الحجية لهما معاً عند عدم ارتكاب الطرفين ، كما قدمنا .
وأما الاصول ، فالحال فيها يختلف أيضاً ، فإن كانت على وفق المعلوم بالاجمال فلا محذور لدى الاكثر في جريانها في تمام الاطراف ، وترتيب الاثار عليها ثبوتاً ،
والادلة شاملة لها .
وإن كانت على خلاف المعلوم بالاجمال وكان الحكم المعلوم إلزامياً ، فإن لزم من جريانها مخالفة عملية لم يكن الجريان للزوم الترخيص بالمعصية ، وهو ممتنع عقلاً ، والادلة لا بد من ان تتقيد في غير هذه الصورة في إطلاقاتها العامة ، فلا تكون شاملة لها ، كما لا تكون شاملة لاحدها المعين للزوم الترجيح بلا مرجح ، ولا غير المعين لعدم ترتب ثمرة عملية عليه ، والتخيير غير ممكن لما مر في الامارة من امتناع التقييد لامتناع الاطلاق .
وأما اذا لم تلزم مخالفة عملية كما في صورة دوران الامر بين محذورين ، فالظاهر لدى البعض أنه لا مانع من الجريان لعدم تحقق الترخيص في المعصية ، ما دام المكلف ملزماً في واقعه بالصدور عن أحدهما والمخالفة الالتزامية التي تكون بسبب جريان الاصلين معاً ، والايمان بالاباحة الظاهرية استناداً اليها وهي مخالفة للمعلوم بالاجمال لا محذور فيها ولا دليل على حرمتها إذا لم تنته الى عالم تكذيب المعصومين ، فالادلة تكون شاملة لهذه الصورة .
هذا اذا كان المعلوم بالاجمال حكماً إلزامياً ، وأما اذا لم يكن حكماً إلزامياً . وكانت الاصول الجارية أصولاً مثبتة لحكم إلزامي ، فالظاهر أنه لا محذور من جريانها لعدم لزوم الترخيص في المعصية وليس ما يمنع من أن يجعل الشارع الاحتياط مثلاً في محتمل الالزام ، كما هو الشأن في كل من الطرفين .
والمقياس الذي ذكرناه في الجريان وعدمه جار في جميع الاصول ، اذا كانت نسبتها الى الاطراف نسبة واحدة من حيث النفي والاثبات ، ومن حيث عدم وجود خصوصية تستوجب الجريان في أحد الاطراف دون بقيتها .
أما اذا اختلفت في النفي والاثبات ، فإن كان في أحد الاطراف خصوصية تستوجب اختصاصه بجريان الاصل ، فالظاهر أنه لا مانع من الجريان وحل
العلم الاجمالي به كما يأتي الحديث في ذلك .
نعم ، ان هناك تفرقة بين الاصول الاحرازية وغيرها ، ذكرها شيخنا النائيني(رحمه الله) ، وفحواها ان الاصول الاحرازية لا تجري في أطراف العلم الاجمالي على كل حال ، اذا كانت قائمة على خلاف المعلوم بالاجمال حتى لو قلنا بجريان غيرها من الاصول سواء استلزم جريانها المخالفة القطعية أم لم يستلزم .
وكأن وجهة نظره ما استفاده من لسان جعل الاصول التنزيلية من اعتبار البناء العملي والاخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع .
وهذا النوع من البناء يستحيل اعتباره في مجموع الاطراف لانتهائه الى التنزيل على خلاف الواقع مع العلم به .
والظاهر أن ما انتهى اليه متين جداً ، وليس المنشأ فيه هو إثبات لوازمه ليلزم التكاذب في نظره ليقال في رده : ان الاصل إنما يثبت مؤداه في مورده بلا نظر الى النفي عن غيره ، وغاية ما يترتب على ضم بعض الاصول الى البعض هو العلم بمخالفة بعضها للواقع ، ولا ضير فيه بناء على عدم وجوب الموافقة الالتزامية .
وإنما المنشأ لديه ـ فيما يبدو ـ هو امتناع جعل الشارع في مقام الثبوت حجية الاصول التنزيلية لجميع الاطراف مع انتهائها الى طلب اعتبار غير الواقع واقعاً ، مع حضور الواقع لدى المكلف بالوجدان .
فكما يستحيل على الشارع أن يقول للمكلف اعتبر غير الواقع واقعاً في المعلوم تفصيلاً ، كذلك يستحيل في حقه ذلك في كل ما ينتهي اليه .
فالمحذور إنما هو صدور الجعل المستوعب لجميع الاطراف منه وهو عالم بانتهائها الى طلب اعتبار غير الواقع واقعاً حتماً لا في إباء الادلة عن شمولها جميعاً للتكاذب .
فالاشكال عليه بعدم إثبات لوازمها ـ أعني الاصول التنزيلية ـ لم يتضح لي
وجهه ، والظاهر أن فيه خلطاً بين مقامي الثبوت والاثبات ، فالشيخ النائيني(رحمه الله)ناظر الى مقام الثبوت ، والايراد ناظر الى مقام الاثبات .
والخلاصة التي انتهينا اليها :
ان الامارات لا تجري في أطراف العلم الاجمالي لتكاذبها ، والاصول الاحرازية لا تجري للمانع الثبوتي ، وبقية الاصول لا تجري إذا لزمت منها المخالفة العملية لتكليف إلزامي معلوم ، وتجري اذا كانت موافقة للمعلوم بالاجمال ، أو لم يلزم فيها إلا المخالفة الالتزامية .
ومن هذا يتضح وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية للحكم الالزامي المعلوم بالاجمال على المبنيين معاً .
أما على القول بأن العلم الاجمالي علة تامة في تنجيز متعلقه ، فلان مقتضى عليته وجوب موافقته وحرمة مخالفته ، إذ ليس وراء وصول الحكم لدى العقل إلا لزوم الاطاعة وعدم العصيان .
وأما على المبنى الثاني ـ أعني دعوى وجود اقتضاء التنجيز فيه ـ فلان العقل لا يسوغ الخروج على هذا المقتضي إلا بوجود مؤمّن وهو مفقود هنا ، ومع عدمه فالعقل يلزم بالاتيان به ولا يسوغ مخالفته ، فوجوب الموافقة وحرمة المخالفة حكمان عقليان يجريان في رتبة واحدة ، وهما من آثار منجزية العلم الاجمالي ، فما ذهب اليه بعض المشايخ العظام من ترتب وجوب الموافقة على حرمة المخالفة لا ملزم به .
حل العلم الاجمالي : ومما ذكرناه تبين ان المقياس في تأثير العلم الاجمالي هو احتمال انطباق التكليف المعلوم على كل واحد من الاطراف ، على نحو لو انطبق عليه لكان مولداً
للتكليف فيه .
ولذا لو قدر انطباق المعلوم على بعض الاطراف التي لا يتولد فيها تكليف ، انحل العلم الاجمالي وفقد تأثيره ، ولم ينجز مدلوله على من قام لديه .
والسر في ذلك هو : ان العلم الاجمالي لا يزيد في منجزيته على العلم التفصيلي ، فلو قدر توجه شك الى ذلك العلم التفصيلي على نحو يسري اليه لفقد ذلك العلم تنجيزه لمتعلقه وايصاله الى المكلف بداهة .
وعليه فمع عدم وصول التكليف بالعلم أو العلمي هنا لا مانع من جريان الاصول في بقية الاطراف ، إذ العلم بالتكليف على هذا التقدير غير واصل لاحتمال انطباقه على ذلك الطرف الذي لو قدّر له الانطباق عليه لما ولد تكليفاً فيه .
ونظراً لهذا ، فقد اعتبر العلماء الامور التالية من موجبات حل العلم الاجمالي وهي :
1 ـ خروج بعض الاطراف عن محل الابتلاء كما لو فرض العلم بتوجه تكليف إلزامي باستعمال دواء ما ـ مثلاً ـ مردد بين دواء متداول في السوق وآخر موجود في دولة أخرى لا يمكن وصول المكلف اليه ، فمثل هذا المعلوم لو انطبق على ذلك الخارج عن محل الابتلاء لما ولد تكليفاً باستعماله لعبثية مثل هذا التكليف بعد فرض تعذر وصول المكلف اليه ، والدواء الاخر غير معلوم الانطباق عليه ، واذن فلا علم بتكليف ملزم للمكلف على كل حال ، وحيث لا علم ، فان جريان الاصول في الشبهات التي لا تكون طرفاً له لا محذور فيها ولا معارض لها .
2 ـ الاضطرار الى ارتكاب بعض الاطراف أو الاكراه عليه أو خروجه عن القدرة ، وبما ان هذه الامور رافعة للتكليف لو كان موجوداً ، فانطباق المعلوم على ذلك الطرف لا يولد تكليفاً على وفقه فيذهب العلم بتوجه التكليف به ، ويتحول الى شك بالنسبة للطرف الاخر بالضرورة ، وعندها تجري الاصول بلا معارض
أو محذور .
3 ـ ان لا يكون بعضها محكوماً قبل مجيء العلم الاجمالي ، او عند مجيئه بحكم على وفقه ، إذ لا يولد تكليفاً في ذلك الطرف لو قدر له الانطباق عليه فيفقد تنجيزه ، وهكذا .
هذا كله في طروّ هذه الامور عند مجيء العلم الاجمالي او قبله ، أما لو طرأت بعد تنجز العلم الاجمالي ووصول التكليف به ، كأن يكون قد طرأ على أحدها ما يخرجه عن محل الابتلاء او تولد اضطرار للمكلف اليه ، فمثل ذلك لا يوجب انحلال العلم الاجمالي لعدم المؤمّن في ارتكاب الاطراف الاخرى ; أما على مبنى علّية التنجيز فواضح ، إذ لا مجرى للاصل في تلكم الاطراف بعد تنجز التكاليف بالعلم ، وأما على المبنى الاخر فلسقوط الاصول بالتعارض ، ومع سقوطها فلا مؤمّن للمكلف في جواز الارتكاب .
بينما لا يتأتى هذا المعنى قبل تنجز العلم ، لان وجود أحدها مانع من تنجز التكليف ابتداء ، فلا مسقط لجريان الاصول في الاطراف المشكوكة .
وعلى هذا المقياس من حل العلم الاجمالي ركز بعض الاعلام تحديده للشبهات غير المحصورة ، ولاهمية البحث فيها نتحدث عنهابشيء من الكلام .
الشبهة محصورة وغير محصورة : وقد اختلفوا في تحديد كل منهما ، ومن استعراض أقوالهم في الشبهة غير المحصورة يتضح تحديد المحصورة ايضاً بحكم المقابلة .
الشبهة غير المحصورة وحكمها : وأهم ما ذكروا لها من تحديدات ثلاثة ، وربما رجعت بقية التحديدات اليها :
1 ـ ان تكثر أطرافها كثرة يعسر معها العد ، ومثل له في العروة الوثقى بنسبة الواحد الى الالف (10) ، وربما رجع الى هذا المعنى ما ذهب اليه الشيخ الانصاري(قدس سره)من ضعف انطباق الاحتمال على كل واحد منها لكثرة الاطراف (11) .
2 ـ ما اختاره المحقق النائيني(رحمه الله) : " من ان الميزان في كون الشبهة غير محصورة ، عدم تمكن المكلف عادة من المخالفة القطعية بارتكاب جميع الاطراف ، ولو فرض قدرته على ارتكاب كل واحد منها " (12) .
ومن هنا تختص الشبهة غير المحصورة لديه بخصوص الشبهات التحريمية أما الوجوبية منها فإن الاطراف ، وإن بلغت كثرتها ما بلغت ، فإن المكلف يتمكن من مخالفتها بتركها جميعاً .
3 ـ أن يكون بعض الاطراف خارجاً عن محل الابتلاء ، أو تكون الاطراف مما يعسر مخالفتها جميعاً ، او يكون المكلف مضطراً الى بعضها ، الى غير ذلك مما يوجب انحلال العلم الاجمالي .
وقد تبنّى صاحب الكفاية(رحمه الله) (13) هذا الرأي وجلاه واكد عليه بعض اساتذتنا الاعلام .
وهذا الرأي ، وإن انطوى على إنكار الشبهة غير المحصورة لشموله حتى للشبهة ذات الطرفين ، إذا كان واحداً منهما خارجاً عن محل الابتلاء أو كان مضطراً الى ارتكابه ، إلا ان التعبير بالشبهة غير المحصورة ليس من التعبيرات الشرعية الواردة على لسان المعصوم حتى يتقيد بمدلوله .
والظاهر أن غرض اساتذتنا الذين تبنّوا هذا الرأي بيان أن العلم الاجمالي إذا كان متوفراً على عوامل تنجزه فإنه يؤثر اثره ، سواء كانت الاطراف قليلة أم
كثيرة ، وان لم يتوفر عليها فهو منحل قلّت اطرافه او كثرت ، والمقياس هو التنجيز وعدمه .
وإلا فإن ضعف الاحتمال ـ وهو الذي تبناه التحديد الاول ـ لكثرة أطرافه لا يصلح لرفع اليد عن العلم الاجمالي المنجز ، ما دمنا نحتاج الى المؤمّن في ارتكاب أي طرف وان كان موهوماً ، وكون العقلاء لا يعتنون بالاحتمالات الضعيفة لا نعرف له مأخذاً ، على انه محتاج الى إقرار من الشارع لو كان مثل هذا البناء موجوداً لما قدمناه من أن البناء وحده لا يصلح للدليليّة .
والمؤمّن هنا غير متوفر لما سبق بيانه من عدم جريان الاصول في أطراف العلم أو جريانها وتساقطها .
ومبنى شيخنا النائيني(رحمه الله) هو الاخر غير واضح لابتنائه على ان يكون وجوب الموافقة القطعية وليد حرمة المخالفة القطعية ، فاذا لم تحرم المخالفة القطعية لعدم تمكن المكلف منها لم تجب الموافقة القطعية لعدم ما يوجبها ويلزم بها ، وقد سبق ان قلنا ان العلم الاجمالي بالنسبة اليهما لا يختلف حاله ; فكما يمنع من المخالفة القطعية فانه يوجب الموافقة القطعية وكلاهما بالنسبة اليه في رتبة واحدة ، كما تقتضيه علّية تنجيزه أو اقتضاؤه مع فقد المؤمّن بالنسبة الى جميع الاطراف .
على ان ارتكاب بعض الاطراف لو كان ممكناً لاحتاج الى مرخّص من أصل أو غيره ، وإجراء الاصول أو غيرها بالنسبة الى بعض الاطراف دون بعض ترجيح بلا مرجح ، فالقول بعدم وجوب الموافقة القطعية فيه لا يعرف له وجه .
وعلى هذا فتقسيم الشبهة الى محصورة وغير محصورة لا اساس له ما دام المقياس في تنجيز العلم الاجمالي متوفراً فيهما معاً ، ومع عدم توفره فالعلم الاجمالي منحل كثرت أطرافه أو قلت ، وتسميته بالعلم اذ ذاك لا تخلو من تجوز ومسامحة .
ولقد اثيرت حول توفر هذا المقياس من التنجيز وعدمه أحاديث في قسم من مسائل العلم الاجمالي ، لعل أهم ما يتصل منها بأحاديثنا المقبلة مسألة :
دوران الامر بين التعيين والتخيير : وذلك فيما اذا علم اجمالاً بتوجه تكليف وشك في كونه معيناً او مخيراً بينه وبين غيره
وصور هذه المسألة ثلاثة :
أولاها : ما اذا دار الامر بين التعيين والتخيير في أصل الشريعة ومرحلة الجعل في الاحكام الواقعية ، كأن يفرض صدور تشريع من الشارع ويجهل أمره في أنه كان معيناً على المكلف او كان مخيراً بينه وبين غيره .
ثانيتها : دوران الامر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل والتشريع في الاحكام الظاهرية ، أي دوران الامر في ان تكون الحجة المجعولة معينة او مرددة ، كالشك في ان حجية جواز الرجوع الى المجتهد هل هي مختصة بخصوص الاعلم من المجتهدين ، او هي عامة له ولغيره على نحو يكون المكلف مخيراً بين الرجوع اليه والى غيره من المجتهدين ممن يفضلهم في الخبرة بأصول الاستنباط ؟
ثالثتها : دوران الامر بين التعيين والتخيير في مجالات الامتثال كما في صور باب التزاحم المأموري ، وهو ما لو كان كل من المتزاحمين مصداقاً لتكليف فعلي ، واحتمل وجود الاهمية في أحدهما .
وقد وقع الخلاف بين الاعلام في بعض هذه الصور ، وذكرت لها تشقيقات كثيرة ربما يعود تحقيق أكثرها الى صميم البحوث الفقهية ، ومجالات الاستفادة من الادلة في مواقعها المخصوصة ; والذي يرتبط ببحوثنا هذه هو خصوص القسم الثاني ، أعني ما اذا دار الامر بين التعيين والتخيير في جعل الحجية لبعض الاحكام
الظاهرية .
والظاهر هو الاتفاق على ان المرجع فيه هو الاحتياط ، أي الاخذ بمحتمل التعيين ، وذلك لما مرَّ تأكيده اكثر من مرة من أن الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها .
ولما كان محتمل التعيين مقطوع الحجية ـ اما لانه هو الحجة المعينة وحدها ، أو لانه طرف في التخيير ، والطرف الاخر مشكوك الحجية لاحتمال ان تكون الحجة هي خصوص المعين ، أعني تقليد الاعلم في المثال ـ فانه يتعين الاخذ بمقطوعها ، وترتيب الاثار عليه ، وترك ما كان مشكوك الحجية لعدم قاطعية العذر فيه ، وعدم إحراز كونه مبرئاً للذمة ، وشغل الذمة اليقيني يستدعي فراغاً يقينياً ، كما مر الحديث فيه .
3 ـ الخروج من عهدة التكليف المعلوم : وهذا أظهر موارد الاحتياط ، فمن علم تفصيلاً بتوجه تكليف اليه ، وشك في تحقق الامتثال بما أتى به ، وليس لديه محرز لتماميته من أمارة او أصل ، فالعقل يحكم بضرورة الاتيان به من باب الاحتياط لقاعدة الشغل ، وإلا فلا معذورية له لو أقدم على مخالفة الاحتياط وأخطأ الواقع وكان مستحقاً للعقاب بنظر العقل .
الاحتياط العقلي وظيفة عقلية : وبهذا يتضح ان الاحتياط هنا لا يتجاوز عن كونه وظيفة جعلت من قبل العقل تحرزاً من مخالفة أحكام المولى المنجزة ، وليس فيه حكاية عن واقع شرعي ، ولا وظيفة مجعولة من قبله لتكون حكماً او وظيفة شرعية ; إذ المصدر فيها " قاعدة الشغل " او " قاعدة دفع الضرر " وهما قاعدتان ناظرتان الى عوالم استحقاق
العقاب وانهما لا يستتبعان حكماً شرعياً ولا يكشفان عنه ، لما قلناه غير مرة من أن شؤون الثواب والعقاب لا يمكن ان يتعلق بها حكم شرعي للزوم التسلسل ، فهي إذن وظيفة عقلية لا غير .
( 1 ) مصباح الاصول : ص366 .
( 2 ) التحفة السنية : ص14 ، وراجع : مصباح الاصول : ص423 .
( 3 ) الكافي : 1 / 66 ، باب اختلاف الحديث ، ح7 .
( 4 ) تهذيب الاحكام : 3 / 228 ، ح92 . مصباح الاصول : ص424 .
( 5 ) الكافي : 1 / 66 ، ح7 . وراجع : مصباح الاصول : 224 ، ويحسن الرجوع اليه للتوسع في هذا البحث .
( 6 ) راجع : ص263 وما بعدها من هذا الكتاب .
( 7 ) راجع : حقائق الاصول : 2 / 238 وما بعدها ، وفوائد الاصول 3 / 239 وما بعدها ، والدراسات ، وغيرها ، ( مباحث الاحتياط ) .
( 8 ) الدراسات : 3/52 .
( 9 ) الدراسات : 3/53 .
(10) العروة الوثقى : 1 / 41 ( فصل : الماء المشكوك نجاسته المسألة 2 ) .
(11) فرائد الاصول : 1 / 434 .
(12) الدراسات : ص242 .
(13) كفاية الاصول : ص 408 ط . جامعة المدرسين ـ قم .