تفسیر سوره البقره

نسخه متنی -صفحه : 47/ 13
نمايش فراداده

غابت الشّمس إذا استترت عن العين ، يقال غاب عنّي كذا ثمَّ استعملت الكلمة في كلّ أمر يغيب عن الحاسة أو يغيب عن علم الإنسان. و يقال للشيء غيب و غائب باعتباره بالناس لا باللّه تعالى فإنه لا يغيب عنه شئ. قال تعالى « عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ »[198]فقوله تعالى «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ »[199]إشارة إلى ما يغيب عن الناس و ما يشهدونه ..

ما هو المقصود من الغيب في الآية ؟

الأقوال في هذا المجال كثيرة، فمنهم من خصَّص الغيب بـالـجنة والنار والبعث بعد الـموت وبـيوم القـيامة، ومنهم من أضاف إليه الإيمان بالملائكة والكتب ، ومنهم من عمَّم ، فقد حكي عن ابن عباس انه قال ما جاء من عند الله ..

وقال جماعة من الصحابة كابن مسعود وغيره إن الغيب ما غاب عن العباد علمه من أمر الجنة والنار والأرزاق والأعمال وغير ذلك ..

أقول الظاهر من الكلمة من دون الالتفات إلى القرائن المقالية الشمولية و الاستيعاب، قال الفيض الكاشاني (ره).

كلَّ ما غاب عن حواس الإنسان من توحيد الله ونبوَّة الأنبياء وقيام القائم والرجعة والبعث والحساب و الجنَّة و النار وسائر الأمور التِّي يلزمهم الإيمان بها مما لا يعرف بالمشاهدة وإنَّما يُعرف بدلائل نصبها الله عزَّ وجلّ عليه [200].

ولكن.

ما يوقع الإنسان في حيرة من مفهوم الغيب في الآية المباركة، وجود القرينة التِّي تؤكِّد على أنَّه لا يقصد بالغيب جميع ما ذكر، بل نطاق الغيب بخصوص هذه الآية محدود .والقرينة هي ما جاءت في الآية التِّي تليها حيث قال «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ»[201].

فالإيمان بما أنزل إلى الرسول (ص) وهو القرآن الكريم و الكتب الأخرى السماويَّة التِّي أنزلت على الأنبياء من قبل الرسول(ص) وأيضاً الاعتقاد الجازم بالآخرة قد صرِّح بها في الآية ، ومن المعلوم أنَّ الآخرة شاملة لجميع ما سوف يتحقَّق فيما بعد من البعث والنشور والجنَّة والنار وسائر الحوادث..

فما هو الحلّ إذاً ؟.

جواباً على الشبهة ، قال فخر الرازي في تفسيره أنَّ قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال ثمّ بعد ذلك قوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ يتناول الإيمان ببعض الغائبات، فكان هذا من باب عطف التفصيل على الجملة ، وهو جائز كما في قوله وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [202] [203].

وأنت تعلم أنَّ هناك فرقاً كبيراً بين المثال الذي ذكره وبين ما نحن فيه ، لأنَّ في ما نحن فيه قد توسطت إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بين الموردين، أعني الإيمان بالغيب والإيمان بالكتب واليقين بالآخرة ، مضافاً إلى تكرار الذين وأيضاً يؤمنون و يوقنون وهذا إن دلَّ على شيء، فإنّما يدلُّ على أنَّ كلاً منهما يتطلَّب إيماناً مستقلاً وليسا من باب الإجمال والتفصيل ..

وعليه.

لا يمكن التمسّك بإطلاق كلمة الغيب مع وجود هذه القرائن ، وفي مثل هذه الموارد ليس بإمكان غير المعصومين عليهم السلام ، أن يبدوا آراءهم تجاه القرآن لأنَّه سيكون ذلك من التفسير بالرأي الذي جاء في الحديث ((عن النبي صلى الله عليه وآله قال من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده من النار))[204].

أبرز مصاديق الغيب

من هنا يمكننا أن معرفة أهميَّة التمسك بالثقل الثاني وهم أهل البيت عليهم السلام كمفسِّرين للثقل الأكبر أعني القرآن الكريم . فهناك أحاديث تؤكِّد على أنَّ الغيب هو الحجّة (ع)، إليك نصُّها 1-((في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بإسناده إلى عمر بن عبد العزيز عن غير واحد عن داود بن كثير الرقى عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب قال من أقرّ بقيام القائم عليه السلام أنه حق))[205].

ولا يخفى أنَّ هذا غير مختص بعصر الغيبة بل شامل لجميع العصور، لأنَّ الاعتقاد بقيام القائم عليه السلام ، كان ولازال من جملة المعتقدات الرئيسيَّة حتَّى في الأديان السابقة، فهو من جملة المواثيق التِّي أخذت على النبيين، ففي الحديث ((...عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام .. ثم أخذ الميثاق على النبيِّين فقال ألست بربِّكم ثمَّ قال و إن هذا محمَّد رسول الله و إن هذا علي أمير المؤمنين قالوا بلى، فثبتت لهم النبوة و أخذ الميثاق على أولى العزم أني ربُّكم و محمَّدٌ رسول الله و عليٌّ أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري و خزّان علمي و أنَّ المهديَّ أنتصر به لديني و أظهر به دولتي و أنتقم به من أعدائي و أُعبدُ به طوعاً و كرهاً ... ))[206].

2-((وبإسناده إلى على ابن أبي حمزة عن يحيى بن أبي القاسم قال سألت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام عن قول الله عز وجل الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب فقال المتقون شيعة على عليه السلام والغيب هو حجة الغايب ، وشاهد ذلك قول الله عز وجل و يقولون لولا انزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأخبر عز وجل أن الآية هي الغيب ، والغيب هو الحجة وتصديق ذلك قول الله عز وجل وجعلنا ابن مريم وأمه آية يعنى حجة))[207].

وهذا الحديث يشتمل على تفسير القرآن بالقرآن حيث فسَّر عليه السلام الغيبَ بالحجَّة باعتبار أنَّه أمر مستقبليٌّ منتظر، كما تدلُّ عليه الآية الثانية المفسِّرة للآية الأولى ، والآية الثانية لاشتمالها على كلمة آية كانت تتطلَّب التفسير فانتقل عليه السلام إلى الآية الثالثة حيث ذكرت الكلمة وقد قصد منها عيسى بن مريم عليه السلام ..

قال فخر الرازي في تفسيره قال بعض الشيعة المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله تعالى به في القرآن و الخبر، أمّا القرآن فقوله وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ... [208] وأما الخبر فقوله عليه السلام لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يخرج رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً و قسطاً كما ملئت جوراً وظلما [209]ثمَّ علَّق على ذلك فقال واعلم أنّ تخصيص المطلق من غير الدليل باطلٌ [210]..

أقول إنّ كلامه غريبٌ ، فهل المطلق أعني الغيب باق على إطلاقه رغم القرائن التِّي ذكرناها ؟.

مفردات مترابطة

مضافاً إلى ما سبق، هناك مفردات في الآية السابقة وهذه الآية والتِّي بعدها، تشهد لما في الأحاديث من تفسير الغيب بالحجَّة عليه السلام ..

1-الهداية

قلنا إنَّها الدلالة وإراءة الغاية بإراءة الطريق لأجل الإيصال إلى المطلوب ، وعليه تتوقَّف الهداية على أمورٍ ثلاثة متلازمة 1-المبدأ2-الطريق 3- الغاية..

فالقرآن هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ، فهم الذين يهتدون بهدى القرآن، حيث يقصدون تلك الغاية ، وعلى ضوئها يقيمون الصلاة ومما رزقوا ينفقون وهو المستفاد من العطف على ما سيأتي ، وإلا لا معنى للهداية ..