« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ »[188].
والحصر في قوله إنَّما المؤمنون من أجل التفريق بين طائفتين من المؤمنين أ- من يمتلك ظاهر الإيمان وهم الذين يخاطبهم الله سبحانه في القرآن بقوله يا أيٌّها الذين آمنوا وربَّما نهاهم عن كبائر الذنوب ، كما في قوله تعالى « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ »[189].
والنهي دالٌّ على أنَّه من المحتمل أن يرتكبوا مثل تلك الذنوب ، وأيضاً ربَّما حرَّضهم على الإيمان .
كقوله « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ...»[190].
ب-من وصل إلى الإيمان الحقيقي وبتعبير الآية المباركة « أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ...»[191].
وهؤلاء هم الذين وصلوا إلى مقام المحسنين . والنسبة بين الإيمان والإحسان هو العموم المطلق ، فكلُّ محسن مؤمن وليس كلَّ مؤمن محسناً وإذا وصل المؤمن إلى مرحلة الإحسان أي كان يعبد الله كأنَّه يراه _ كما في الحديث الشريف فحينئذٍ سوف يمكنه اكتساب الرحمة الإلهيَّة فيستشفي بالقرآن كما .
قال « وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا »[192].
فالمؤمنون في الآية المباركة إنَّما هم الذين وصلوا إلى أعلى مستوى من الإيمان بحيث تمكَّنوا من الانسجام مع القرآن والاستشفاء به . ومن هنا يمكننا الجمع بين الآيتين ، أعني بين تلك الآية التِّي تقول« هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ »6 وبين هذه الآية ..
و هذا المستوى من الإيمان يتحِّد مع التقوى ، فالمتَّقون هم الذين يهتدون بهدى القرآن بنحو مطلق ، والجدير بالذكر أنَّه قد ورد بالنسبة إلى خصوص الطائفتين (المحسنين والمتَّقين) قوله تعالى « أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ »7 .
ومن هنا نستنتج أنَّه لا يطلق على الإنسان صفة الإحسان إلا بعد اجتماع الخصال الثلاثة التِّي اتَّصف بها المتَّقون وهي *الإيمان بالغيب.
*الإيمان بما أنزل على الرسول..
*الإيمان بما أنزل على سائر الأنبياء..
فلا فرق إذاً بين الآيات الواردة في شأنهم والآيات الواردة في شأن المتَّقين وأيضاً الواردة في شأن المؤمنين لا بنحو الإطلاق بل المؤمنين حقّاً كما مرّ..
ثمَّ عندما ننطلق من صفتي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، نصادف آيات أخرى تدلّنا على أمور لها أهميَّة في المعرفة والعمل ومنها الولاية.
الولاية
قال سبحانه في بيان مسئوليَّة المؤمنين بعضهم تجاه بعضٍ « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »[193].
ولكن هذه الولاية مع جميع شئونها تخضع لولاية أخرى هي كالأساس و المحور لجميع تصرُّفات المؤمنين على المستويين التشريعي والتكويني أمّاالتشريع فقوله تعالى« إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »[194].
وأمّاالتكوين فقوله « وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ »[195].
فالأمر يختلف في هذه الآية حيث أنَّ الكلام لا في الأمر والنهي بل هو الوحي بجميع ما له من لطافة و قدسيَّة ، فهم قد أوحي إليهم الأمرين الواجبين أعني إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وهذا النمط من الأمر والتكليف لا يتناسب إلا مع قوله تعالى وكانوا لنا عابدين فلا شائبة في عبادتهم أصلاً لأنها لله وحده، لا خوفاً من النار ولا طمعاً في الجنَّة وأنَّى لنا الوصول إلى هذا المستوى..
فمن هم هؤلاء ؟.
أقول قد صرَّحت الآية بأنَّهم الأئمَّة الهداة بالأمر ! شرح هذا المصطلح أعني الهداية بالأمر في محلِّه إلاّ أننا نشير إلى حديث واحدٍ من كتب العامَّة في هذا المجال ((كنز العمّال بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى و جعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا قال أبو جعفر عليه السلام يعني الأئمَّة من ولد فاطمة يوحى إليهم بالروح في صدورهم))[196].
هذا ومع ملاحظة كلمة كانوا في الآية المباركة ، يمكنك أن تعرف الزمان الذي عبدوا الله فيه ، إن صحَّ إطلاق الزمان حينئذٍ ! فالأمر مرتبط بعالم الأرواح و الأظلَّة قبل الأجساد والأشباح ..
«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»[197].
هناك نقاش حول ارتباط الآية مع الآية السابقة، والأصحَّ أن الموصول أعني الذين هو صفةٌ للمتقين وهو في موضع جرّ . .
مفهوم الإيمان
الإيمان في اللغة هو التصديق لشهادة قوله تعالى وَما أنْتَ بِـمُؤْمِنٍ لَنا ولَوْ كُنَّا صَادِقِـينَ وهو مشتق من الأمن أصل الأمن طمأنينة النفس و زوال الخوف ، والأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر... فالإيمان هو التصديق الذي معه أمن والمؤمن من يؤمن نفسه من عذاب الله والله المؤمن لأوليائه من عذابه. روي عن الإمام الرضا عليه السلام إن الإيمان هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان والقول باللسان . وقولهيؤمنون، فعل مضارع يدلُّ على استمرار الإيمان.
الإيمان و العشق
يختلف الإيمان عن العلم و اليقين فليس كلُّ من علم شيئاً قد آمن به ، لأنّ الإيمان يشتمل على العشق والحبّ و القدسيَّة و الانسجام . مضافاً إلى اشتماله على الأمن و الطمأنينة -كما مرّ - ومن هنا لا يتحقق الإيمان إلا في نطاق الأمور الخارجة عن المادة، لأنَّ التعلُّق بالأمور الجسمانيَّة الحسّية الزائلة و الفانية يزيد في الاضطراب و القلق ..
فما هو الحلّ إذاً ؟.
للوصول إلى السكينة والطمأنينة والهدوء والأمن ، ينبغي التخلُّص و التحرُّر عن كلِّ ما هو مرتبط بالمادة ومن ثمَّ سوف يتوجَّه القلب إلى الغيب
الغيب
فالغيب هو تلك الأمور الثابتة و المطلقة من الجمال و الكمال والقدرة التي قد انعكست في عالم الشهود ، وبعبارة أخرى الأشياء هي الآيات وهي كالبحر الصافي الذي انعكست فيه تلك الحقائق ، فالغافل يتعلَّق بتلك الصور ويترك الواقع فيعيش الاضطراب و القلق النفسي ..
فينبغي للإنسان أن يستخدم علمه وعقله كي يصعد إلى مستوى الغيب بالإيمان به، لا أن ينزِّل الغيب إلى مستوى العلم ويحاول أن يستدلَّ عليه بالدليل العقلي، لأنَّه حينئذٍقدَّ قيَّد الغيب الشفّاف بالعقل الجامد فذهبت شفّافيته ، فسوف يكون عالماً بالواقع غير مؤمن به ، وعندئذ مثله كمثل ذلك الطفل الذي يسمع تغريد الطير ويراه ينتقل من غصن إلى غصن، ولكي يصل إليه يأخذ حجراً فيرميه ثمَّ يقبضه بيده و يحاول أن يتلذّذ بالنظر إليه كما كان وهو على الغصن. فمن الواضح أنَّه لن يصل إلى تلك اللذَّة ؛ فينبغي إذاً تصعيد الروح إلى مستوى الغيب ومن خلاله الوصول إلى الإيمان..
مفهوم كلمة الغيب قال في المفردات بما ملخَّصه