1-أن ما أوتي الإنسان هي وسائل للوصول إلى الدار الآخرة ، فينبغي لها أن ينظر إليها بهذا المنظار فيجعلها جميعاً وسائل للوصول إلى الدار الآخرة..
2-أن لا ينسى نصيبه المقدَّر في الدنيا ، فلا يغفل عنه ، بل يبحث للوصل إليه ..
3-أن يحسن إلى المجتمع و الأفراد بل إلى كلّ شيء حتَّى الجمادات انعكاساً لإحسان الله إليه ، والإحسان لكلِّ شيء بحسبه ، وهذا هو حقيقة الشكر الذي يزيد النعم..
4-عدم الرغبة بالنسبة إلى الفساد في الأرض.
ومنهذا المنظار نعرف السرّ في حرمة كلٍّ منالإسراف و البخل والسر في التحريض على الإقتصاد ، لذلك ينبغي أن نتطرَّق إلى هذين المفهومين بنحو موجز فنقول الإسراف.
وهو التجاوز عن الحدّ ، و قد ورد هذا المصطلح في القرآن الكريم في موارد كثيرة وهي لا تعني الإسراف بالمعنى المتعارف في الأمور المادِّية إلا في الآية 141 من سورة الأنعام وأيضاً قوله تعالى «يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ *قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»2 .
والآية الكريمة مضافاً إلى أنَّها تنهى عن الإسراف ، تجوِّز الاستفادة من زينة الله والطيبات من الرزق وأنَّها للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، وبالفعل لا يحس بطيب الرزق إلا المؤمن الذي يحظى بجانب روحي وبعد معنوي..
البخل والشح
و هو أمرٌ مذموم جداًبل هو من أقبح الصفات . قال في مجمع البيان (( وفي الحديث لا يجتمع الشح والإيمان في قلب رجل مسلم، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف رجل مسلم))[322]..
الشح أشد قبحاً من البخل لأن البخيل يبخل بما في يده والشحيح يشح بما في أيدي الناس وعلى ما في يده، حتى لا يرى في أيدي الناس شيئا إلا تمنى أن يكون له بالحلّ والحرام، ولا يقنع بما رزقه الله عز وجل...وحرام على الجنة أن يدخلها شحيح. وقد هدَّد سبحانه البخلاء بقوله «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ »[323]إنتهى الأمر الأوَّل..
الأمر الثاني
إنَّ الآية المباركة لم تعيِّن الشيء الذي ينبغي أن ينفق ، بل قالت « وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ »[324]فاستخدمت ما الموصولة، الدالة على العموم من جميع النواحي فهي بعمومها تدلُّ على أمرين 1- إنَّ الإنفاق لا يشترط فيه أن يكون كثيراً أو قليلاً بل الميزان هو ما رزقناهم وقد صرَّح الله تبارك وتعالى بذلك في قوله « لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ... »[325].
فالآية وإن وردت في شأن المطلَّقة ذات حمل حيث يقول سبحانه في الآية التي قبلها «...وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ...»[326]إلاَّ أنَّها قد انتقلت إلى قاعدة عامَّة حيث قالت بعد فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ «لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا »[327]..
2-إن الإنفاق لا يختص بالمال بل يشمل كافة الأرزاق الإلهيَّة، و الجملة أعني رزقناهم هي صلة الموصول وهي بصدد تبييِن المقصود من ما الموصولة، وهذا شأن كلّ صلة. فما هو الرزق الإلهي ؟ هذا ما سنبيِّنه في الأمر الثالث و الرابع..
الأمر الثالث
الرزق عامٌ يشمل كافة الأمور ذات المنفعة وقد مرَّ أنَّه يشمل العطاء الجاري سواء كان دنيوياً أم أخرويا. ولهذا يقولون رزقه الله داراً و عقاراً وولداً و علماً، وإنفاق كلِّ شيء بحسبه فالمال يُنفق لمساعدة المحتاجين، والجاه لقضاء حوائج الناس والعلم لإخراج الجاهل من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة . وفي الحديث مما خصصناهم من أنوار المعرفة يفيضون [328].
الأمر الرابع
إن الضمير نا في رزقناهم يشير إلى أنَّ الرزق لا بدَّ وأن يكون من الله تعالى، وهو إشارة إلى الرزق في هذا العالم الذي هو موطن الإنفاق لا عالم الآخرة ، حيث لا مجال هناك للعمل بل هو دار الحساب . ولتوضيح المقصود ، ينبغي أن نبيِّن موارد استعمال الرزق في القرآن فنقول القرآن الكريمقد أطلق الرزق تارة على الرزق المعنوي وأخرى على الرزق المادي
الرزق المعنوي
وهذا الرزق لا يتناسب و جسم الإنسان بل مرتبط بروحه سواء في عالم المُلك أم البرزخ أم الآخرة ، ويشتمل على خصوصيّات غير متوفِّرة في
الرزق المادي
، وبما أنَّ هذه الدنيا دار الهبوط فليست هي محلاً للإرتزاق بمثل ذلك الرزق إلا للصفوة من الناس وذلك في حالات خاصة، فقد ورد قال تعالى في شان الصدِّيقة مريم (ع)
«...كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ »[329].
ومن المعلوم أنَّها كانت تُستطعم بموائد سماوية، وسوف تأتي في سورة البقرة كيفيَّة ارتزاق بني إسرائيل من هذا النمط من الرزق في تفسير قوله تعالى « وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا...»[330].
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله إنَّ الوصال في الصوم ، كان مباحا للنبي صلى الله عليه واله ، وحرام على أمته ، ومعناهأنه يطوي الليل بلا أكل وشرب مع صيام النهار ، لا أن يكون صائما ، لان الصوم في الليل لا ينعقد ، بل إذا دخل الليل صار الصائم مفطرا إجماعا ، فلما نهى النبي صلى الله عليه والهأمته عن الوصال قيل له إنك تواصل ، فقال (( إني لست كأحدكم ، إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني)) [331].
فهذا الرزق من الطعام والشراب ليس هو رزقاً ماديّاً بل هو رزق معنوي روحاني لا يعرفه إلاّ من حظي به..
((وقال أبو الحسن الاول عليه السلام قيلوا فان الله يطعم الصائم ويسقيه في منامه ))[332].
وهذا النوع من الرزق يمنح به المؤمن بغير حساب ، قال تعالى « لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ »[333].
فليس هو مقابل العمل بل أعلى منه ، مضافاً إلى أنَّه لا حدّ له ، فهذه طبيعة الأمور المعنوية المجرَّدة عن المادة، قال تعالى « مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ »[334].
وهوالرزق الحسن الذي ورد في قوله تعالى « وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ »[335].
ومن الواضح أنَّه رزق معنويٌّ للروح الإنسانيّة في عالم البرزخ والقيامة، ولو فرض تعلُّقه بالبدن ، فهو متعلِّق بالبدن البرزخي أو الأخروي ، وقد شرح سبحانه في الآية التِّي بعدها ماهية ذلك الرزق الحسن- حيث قال « لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ »[336].
وينبغي أن نتأمَّل في هذا المقام العظيم أعني الرضوان الإلهي فقد ركَّز عليه سبحانه في كثير من الآيات بتعبيرات وصيغ مختلفة مثل