قال الإمام عليه السلام ((فأما ماذكرتم من إخبارالله عز وجل إيانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحسن فعالهم ، فقد كان مباحا جائزا ولم يكونوا نهوا عنه و ثوابهم منه على الله عزّ وجلّ ))[310].أقول مضافاً إلى أنَّ الوصول إلى تلك المقامات من الصبر ليس في وسعنا نحن ، ومن هنا أكَّد سبحانه على صبرهم المنقطع النظير حيث قال « وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا »[311] وهذا النمط من الصبر هو الذي كان له دور في ولايتهم التكوينية على الكون «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ »[312].
لاضررولاضرار
ثمَّ إنَّ الإمام الصادق عليه السلام قد بيَّن تكليف سائر الناس في قبال النعم الإلهيَّة وشرح فلسفة ذلك ،حيث قال ((وكان نهي الله تبارك وتعالى رحمة منه للمؤمنين ونظرا لكيلا يضروا بأنفسهم وعيالاتهم منهم الضعفة الصغار والولدان والشيخ الفاني والعجوز الكبيرة الذين لايصبرون على الجوع ، فإن تصدقت برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعا ))[313].وأنت تلاحظ أنَّه عليه السلام يركِّز على الإضرار بأنفسهم و عدم صبرهم على الجوع وهذه العلَّة متى وُجدت ، وجد الحكم ومتى فقدت ، زال الحكم..فالمجاهد نفسه الذي يعبِّر عنه تعالى « وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ...»[314]قد أوصل نفسه إلى مرتبة سامية من الروحانيَّة بحيث يسهل عليه تحمُّل الجوع و العطش من غير أن يضرَّ بنفسه.ثمّ إنَّ الإمام عليه السلام قد اعتمد على أحاديث عن رسول الله (ص) تعزيزاً لما بيَّنه 1-(( قال رسول الله صلى الله عليه واله خمس تمرات أو خمس قرص أودنانير أودراهم يملكها الانسان وهويريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقه الإنسان على والديه ، ثم الثانية على نفسه وعياله ، ثم الثالثة على قرابته الفقراء ، ثم الرابعة على جيرانه الفقراء ، ثم الخامسة في سبيل الله وهو أخسها أجرا)) [315].2-((قال رسول الله صلى الله عليه واله للانصاري حين أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق ولم يكن يملك غيرهم وله أولاد صغار لو أعلمتموني أمره ، ماتركتكم تدفنوه مع المسلمين ، يترك صبية صغارا يتكففون4 الناس ))5 .ثمَّ ذكر حديثاً عنه (ص) يبيِّن فيه أصناف الناس الذين لا يستجاب دعاؤهم وهم ستَّة رابعهم ((رجل يقعد في بيته ويقول رب ارزقني ولايخرج ولا يطلب الرزق ، فيقول الله عزو جل له عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة فتكون قد اعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري ولكيلا تكون كلّاً على أهلك ، فإن شئت رزقتك وإن شئت قترت عليك وأنت غير معذور عندي)) 6.وخامسهم ((ورجل رزقه الله مالا كثيرا فأنفقه ثم أقبل يدعو يا رب ارزقني ، فيقول الله عزوجل ألم أرزقك رزقا واسعا فهلا اقتصدت فيه كما أمرتك ولم تسرف وقد نهيتك عن الإسراف)) [316].ثمَّ جعل عليه السلام يفسِّر الآية التالية « وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا »[317].(( إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال ، كنت قد حسرت من المال )).فالإنفاق بجميع ما لدى الإنسان سوف يمنع من الإنفاق ، فالإستمرارية في الإنفاق تقتضي أن لا ينفق جميع ما لديه.ثمَّ أشار عليه السلام إلى زهد سلمان وأبي ذر قال ((وأمّا سلمان فكان إذا أخذ عطاه رفع منه قوته لسنته )) [318].
الزهد
المعتبر في الزهد وعدمه ليست امتلاك المال و عدم امتلاكه بل هو أمر قلبي ، فمن لم يكن متعلِّقاً بالمال فهو الزاهد وإن كان يمتلك شرق الأرض و غربها ، ومن هذا المنطلق نشاهد أنَّه عليه السلام يخاطب هؤلاء النفر فيقول ((واعلموا أيها النفر أني سمعت أبي يروي عن آبائه عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه واله قال يوما ما عجبت من شيء كعجبي من المؤمن أنه إن قُرض جسدُه في دار الدنيا بالمقاريض كان خيراً له وإن ملك ما بين مشارق الارض ومغاربها ، كان خيرا له وكل ما يصنع الله عز و جل به، فهو خير له )) [319].ثمَّ ذكر سيرة بعض الأنبياء فقال ((أخبروني أين أنتم عن سليمان بن داود عليه السلام حيث سأل الله مُلكاً لاينبغي لأحد من بعده فأعطاه الله جل اسمه ذلك وكان يقول الحق ويعمل به ، ثم لم نجد الله عز وجل عاب عليه ذلك ولا أحدا من المؤمنين ، وداود النبي عليه السلام قبله في ملكه وشدة سلطانه ثم يوسف النبي عليه السلام حيث قال لملك مصر اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ))[320].انتهى توضيح الحديث.
الموقف المثالي
هناك معيار دقيق قد بيَّنه سبحانه في الآية التالية حيث تشتمل على أمور أربعة هي أساس الاقتصاد ، قال تعالى « وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»[321].الآية بيَّنت أهم الأسس التِّي ينبغي مراعاتها في هذه الدار وهي