وما يوافق الاعتبار أكثر من غيره هو أنها إشارات ورموز تستعمل بين المحب والحبيب ولا يستطيع أحد أن يعرف شيئا عنها . وما ذكره بعض المفسرين حول تلك الحروف حسب حرصهم وحدسهم، فهو حدس موهون لا مستند له غالبا . وفي حديث أبي سفيان الثوري أيضاً إشارة إلى أنها رموز . ولا يستبعد أن تكون أموراً فوق القدرة الاستيعابية للإنسان ، وقد خص الله سبحانه فهمها بالمخاطبين المخصوصين من أوليائه . [10].
أقول رأي الإمام قدِّس سرّه موافق لما ذكره الطبرسي- رضوان الله تعالى عليه- في مجمع البيان في الرأي الأوَّل وهو أنها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها ولا يعلم تأويلها إلا هو، ثمّ قال
((وهذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام وروى العامة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال لكلّ كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي))[11].
ملاحظات
قال العلاّمة الطباطبائي في الميزان
و الذي لا ينبغي أن يغفل عنه أن هذه الحروف تكررت في سور شتى و هي تسع و عشرون سورة افتتح بعضها بحرف واحد و هي ص و ق و ن ، و بعضها بحرفين و هي سور طه و طس و يس و حم ، و بعضها بثلاثة أحرف كما في سورتي الم و الر و طسم و بعضها بأربعة أحرف كما في سورتي المص و المر و بعضها بخمسة أحرف كما في سورتي كهيعص و حمعسق ..
و تختلف هذه الحروف أيضاً من حيث إن بعضها لم يقع إلا في موضع واحد مثل ن و بعضها واقعة في مفتتح عدة من السور مثل الم و الر و طس و حم ..
ثم إنك إن تدبرت بعض التدبر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات و الراءات و الطواسين و الحواميم، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين و تناسب السياقات ما ليس بينها و بين غيرها من السور. و يؤكد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ كما في مفتتح الحواميم من قوله تنزيل الكتاب من الله أو ما هو في معناه، و ما في مفتتح الراءات من قوله تلك آيات الكتاب أو ما هو في معناه، و نظير ذلك واقع في مفتتح الطواسين، و ما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه. [12].
« ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ »[13].
ذلك الكتاب
إنَّ كلمة ذلك جاءت للإشارة إلى البعيد والحال أنَّ هذا الكتاب قريب بين أيدينا فماذا يراد من ذلك ؟ الظاهر أنَّ الكتاب إشارة إلى ذلك الكتاب الذي أنزله الله في ليلة مباركة حيث يقول سبحانه
« حم ، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ »[14]وتلك الليلة هي ليلة القدر حيث أنزل فيه القرآن «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ » [15]وذلك الكتاب هو الذي يطلق عليه القرآن «الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ»[16]والقرآن هو نفس ذلك الكتاب كما قال تعالى «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِين»ٍ[17]وذلك باعتبار مقام الجمع المشار إليه في قوله تعالى « إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ »[18]فهو مكنون غير ظاهر إلا لمن خوطب به وهم المطهَّرون « لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ »[19].
ولعل
مجيء الحروف المقطَّعة في البداية، إشارة إلى هذه الحقيقة وأنَّه سبحانه أراد بذلك أن يبيِّن بعض الرموز التي لا يمكن لأمثالنا معرفتها أصلاً ، وهي التي تنبئ عن اللوح المحفوظ الذي لا يعلمه إلا الراسخون في العلم كما مرَّ في كلام الإمام قدِّس سرّه الشريف ..
والجدير بالذكر ما ورد بعد ذلك « تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ »[20]والوصف مشعر بالعليَّة ، فرب العالمين حيث أنَّه ربّ للعالمين نزَّل هذا الكتاب على العالمين كما أكَّد ذلك بقوله« الم»[21] « تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ »[22] فالذي لا ريب فيه بمعنى الكلمة هو واقع الكتاب الذي هو في اللوح المحفوظ « بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فيِ لَوْحٍ مَحْفُوظٍ »[23]وباعتبار التفريق سمي فرقاناً ، قال تعالى « تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا »[24].
الفرق بين القرآن والفرقان هو من حيث الاعتبار، فلو نظرت إلى الكتاب كوجود جمعي فهو قرآن وأما لو نظرت إليه كوجود تفريقي فهو فرقان ..
و في مفردات الراغب الأصفهانى قال ابن عباس إذا جمعناه واثبتناه في صدرك فاعمل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه أي جمعناه فاتبع قرآنه أي اعمل به . .
قال تعالى« لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ »[25].
والحاصل
إنذلك اسم إشارة مركَّب من اسم وحرفين فالاسم هو ذا
و أحد الحرفين
اللام ، والآخر هو الكاف .
أمّاذا فهو اسم إشارة للمذكَّر الواحد فهو إشارة إلى أمر واحد لوحظ فيه أحديَّة الجمع وهو إشارة إلى الكتاب الذي مرَّ ذكره وقد تطرَّق إليه سبحانه في قوله
«وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ »[26].
ومعنى الكتاب هو المجموع ومنه كتيبة الجيش ويطلق الكتاب على المعقولات أيضاً باعتبار اجتماعها لأنَّ الكتاب لا ينحصر في التدويني.
جميع الحقائق الموجودة في الكتاب التكويني موجودة في الكتاب التدويني الذي هو كتاب اللّه وهو الكتاب الوحيد الذي يمثل جميع ما في عالم التكوين، فالحقائق الموجودة في الخارج أصبحت حروفاً و كلمات..
وأمّااللام فهو الواسطة بين اسم الإشارة وبين المخاطب ومنه نعرف أنَّ المشار إليه بعيد عن المخاطب وهذا يدل على المكانة السامية و العمق الكبير الموجود في الكتاب ..
وأمّا الكاف فهو ضمير مذكَّر مخاطب، خوطب به النبي صلي الله عليه وآله باعتبار أنَّه أبٌ روحيٌّ للأمّة بل للناس كافة يمثِّلهم جميعاً ..
الكتاب الجامع
عند استقراء الآيات التِّي بيَّنت الكتاب نستنتج ما يلي
إنَّ الكتاب الذي أشير إليه في الآية المباركة في سورة البقرة، هو الكتاب الذي يمثِّل جميع الحقائق التكوينيَّة ، فهو مظهر للكتاب التكويني ، وأما سائر الكتب السماوية فلا تمثِّل كل التكوين وبالنسبة للمدوَّنات البشرية فهي مهما توسَّعت لن تستوعب كلَّ الكتاب التكويني ، بل ينعكس فيها كمٌّ ضئيلٌ جدّاً من الكتاب التكويني . وهذا الكتاب النازل على قلب الرسول الأكرم صلوات الله عليه وآله له أوصاف خاصَّة وهي
1-أحكمت آياته
قال تعالى
«الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ »[27]فالآيات المحكمة هي الآيات التِّي يكون موطنها اللوح المحفوظ والكتاب المكنون وبعد مدَّة مديدة فصِّلت وصارت فرقاناً لأنَّها تفرَّقت في سور وآيات « الم ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ »[28] « الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ »[29].
هذا
ويمكن أن يقال بأنَّ ذلك الكتاب الذي أحكمت آياته، قد تمثَّل في أم الكتاب الذي هو فاتحة الكتاب حيث يقول