قد بيَّنا سابقاً بعض مميَّزات القرآن الكريم وقلنا أنَّه لا اختلاف بين الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء عليهم السلام خصوصاً بين التوراة و الإنجيل و القرآن فكلُّها جاءت من أجل هداية الناس إلى الصراط المستقيم ، ولهذا نشاهد أنَّه تعالى كثيراً ما يذكر هما مع القرآن، كما قال «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ، مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ...»[142]والآثار المتوقَّعة سواء الظاهريَّة منها والباطنيَّة شاملة لها جميعاً ، فبخصوص الآثار الظاهريَّة والبركات الصوريَّة، قال تعالى«وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ »[143].وبالنسبة إلى النتائج الأخرويَّة و البركات المعنويَّة و الباطنيَّة، قال « إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ »[144].ولا يخفى أنَّ صفات أصحاب رسول الله (ص) مذكورة في التوراة والإنجيل كما قال تعالى« مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا »[145].
هدى للناس
ونضيف هنا أنَّه لو نظرنا إلى الكتب السماوية خصوصاً التوراة والإنجيل والقرآن، من زاوية الهداية، لرأينا بأنَّها جميعاً تهدي الناس إلى الصراط المستقيم فبخصوص القرآن الكريم، يقول سبحانه « هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ »[146]وبالنسبة إلى التوراة والإنجيل أيضاً يقول « وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ، مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ... »[147]..
كلام صدر المتألهين قدِّس سرُّه
قد بيَّن صدر المتألهين في هذا المجال كلاماً لا يخلو من فائدة ، قال اعلم إنَّه من جملة الأوصاف التِّي امتاز بها القرآن عن سائر الكتب النازلة على الأنبياء السابقين-صلوات الله على نبيِّنا و عليهم أجمعين-إنَّ القرآن نفسَه هدى و نور لأنَّ المراد منهما، الحاصل بالمصدر ، وسائر الكتب فيها هدىً ونور كما في قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [148]وقال في حقّ القرآن قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [149]وقال وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ... [150]. وأمّا قوله وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ، مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [151] فليس فيه نصوصيَّة على كونها هدى، لاحتمال أن يكون هدى حالاً من ضمير أنزل وكذا قوله ... قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ... [152] لاحتمال كونه حالاً من فاعل أنزل أو جاء [153].أقول قد ورد بالنسبة إلى التوراة قوله تعالى« وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ»[154]وإن كانت الهداية فيها قد حدِّدت بخصوص بني إسرائيل إلا أنَّها تشبه قوله « وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ »[155]ولا أظن أنَّ هناك فرقاً بينهما من الناحية التِّي ركَّز عليها صدر المتألهين رضوان الله تعالى عليه فتأمَّل..
هدى للمتقين
هناك آيات كثيرة تبيِّن أنَّ القرآن ليس هدى للمتقين فحسب بل هو « هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ »[156]و « هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ »[157]و «... وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ »[158]فكيف نوافق بين هذه الآيات ؟.الجواب 1-لا تضاد بين تلك الصفات بل الإسلام يجتمع مع الإيمان و الإحسان وإن كان بينها اختلاف من حيث المرتبة، وسوف نشرح الفرق بينها في محلِّه إن شاء الله..2-قد تقرَّر في علم الأصول أنَّ الوصف لا مفهوم له بمعنى أنَّه لا ينفي ما عداه ، وعليه لا يدل قوله تعالى«هُدًى لِلْمُتَّقِينَ »[159]على أنَّه ليس هدىً لغيره، فلا تضاد بين الآيات أصلاً .بل القرآن هدىً للناس بنحو عام أيضاً كما قال تعالى « هُدًى لِلنَّاسِ ... »[160]ولكن حيث أنَّ الهداية فيها إثارة للضمائر الحيَّة، فمن لا ضمير له فلا يهتدي بهدى القرآن ، قال تعالى« إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ[161] لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ»[162] بل الذين في قلوبهم مرض سوف يتضرَّرون عندما يعارضون القرآن «وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ »[163]..
مفهوم التقوى
قال الراغب في مفرداته ((الوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره يقال وقيت الشيء أقيه وقاية و وقاء ...التقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف هذا تحقيقه ، ثم يسمي الخوف تارة تقوى والتقوى خوفا حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه والمقتضي بمقتضاه وصار التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم وذلك بترك المحظور )).فالتقوى هي في الواقع حالة إيجابيَّة لا سلبيَّة وهي التِّي تحافظ الإنسان من السقوط في الموبقات وهو أشبه شيء بالترس الذي يستخدم في الحروب و المظلَّة التي تقي المطر و الشمس والاسطوانة التي تحافظ على استقرار البناء وتقيه من السقوط والسدّ الذي يمنع الماء من الفيضان والتخريب..وللتقوى درجات كثيرة تدلُّ عليها الآيات القرآنية وتؤكدها الأحاديث، نذكر ثلاثة منها وإن كانت كلّ درجة لها مراتب كثيرة. قال العلامة المجلسي رضوان الله تعالى عليه التقوى على مراتب ثلاث أولها التنزه عن الشرك وعليه قوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى قال المفسرون هي قول لا إله إلا الله وثانيها التجنب عن المعاصي ، وثالثها التنزه عما يشغل عن الحق جل وعلا [164]..