ما تبيِّن مصاديق لعلم الله تعالى وهي كثيرة، نشير إلى ثلاثة موارد منها 1-« وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ »[234]فالذي يخطر في القلب يعلمه الله تعالى سواء كان سراً أو نجوى (وكلاهما من الغيب)« أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ »[235]والسر هو الحديث المكتم في النفس وهو غير ظاهر كما أنَّ النجوى أيضاً لم يظهر ولكن ربَّمايظهر ولهذا يقول « وَأَسَرُّوا النَّجْوَى»[236]وأعظم من ذلك قوله تعالى « وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى »[237]..فما هو الذي هو أخفى من السرّ؟!.وقال تعالى « وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا »[238]فرغم كونه عليماً ولكن بحلمه يستر المساوئ القلبيَّة ، ولا يفضح عباده ولكن الخطورة إنّما تواجه الإنسان إذ انعكست تلك الأمراض في تصرُّفاته، قال تعالى « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ »[239]ولا تفوتنَّك اللطافة المتواجدة في بيان وَاعْلَمُوا وتكرارها فالأولى تشتمل على تحذير وتهديدوهو الخوف والثانية تشير إلى الغفران والحلم وهما يورثان الرجاء،فالعبد يعيش بين الخوف والرجاء، وهذه الحالة هي أفضل حالة للعبد في قبال ربِّه حيث تتوازن قواه ولا يشذّ عن الصراط السوي ، منحنا الله هذه النعمة، بلطفه ومنّه..2-« اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ»[240].في الكافي عنه عن أحمد عن الحسين بن سعيد عن حماد بن عيسى عن حريز عمن ذكره عن أحدهما عليهما السلام في قول الله عز وجل يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد قال (( الغيض كل حمل دون تسعة أشهر ، وما تزداد كل شئ يزداد على تسعة اشهر ، وكلما رأت المرأة الدم الخالص في حملها، فإنها تزداد بعدد الأيام التي زاد فيها في حملها من الدم )) [241].تشاهد اختلاف ذيل هذه الآية عن الآيات السابقة « وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ»[242]فالقدر راجع إلى عالم الشهادة لا الغيب، والمثال من عالم الشهادة ولكنَّها قريبة من الغيب .3-قال تعالى « عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِين»ٍ[243]والسر في ذلك أنَّه تعالى « بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ »[244]. والإحاطة هذه تسمَّى الإحاطة القيّومية وهي الإحاطة الحقيقيَّة .4-قال تعالى « وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ »[245]فهل يمكن أن يعطى بعض تلك المفاتيح لبعض أوليائه في حين من الزمان ؟! هذا ما سنجيب عنه إن شاء الله تعالى .
الثالث
الآيات النافية لعلم الغيب عن غير الله تعالى بصورة صريحة ، ولكنَّنا عندما نتدبَّر فيها، نشاهد أنَّها جميعاً قد أستثني فيها جماعةٌ وهم الذين يمكنهم معرفة الغيب ولكن بشرط واحد وهو بإذن الله تعالى وكلُّ ما في الأمر هو هذا الشرط ولو تجاهلناه لوقعنا في الورطة و الهلاك ، والذين في قلوبهم مرض من المنافقين، نراهم يتَّهموننا بأننا نعتقد أنَّ أئمتنا عليهم السلام يعلمون الغيب وهم يتغافلون عن هذا الشرط حقداً و جهلاً، فكيف يمكن لمن هو عارف بالقرآن ولو على مستوى بسيط، أن ينكر ذلك ، ونحن نشير إلى بعض الآيات الدالة على ذلك 1-قال تعالى « عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا »[246]فقد استثنى سبحانه من ارتضى عن سائر الناس وبيَّن السر في تعليم الرسل الغيب، وفي هذا المجال وردت أحاديث سوف نتطرَّق إليها عند تفسيرنا للآية إن شاء الله تعالى .2-قوله تعالى « تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ »[247]فعلم رسول الله بالغيب إنما يكون بالوحي ولا بأس في ذلك. وقال تعالى « ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ »[248].3-قال تعالى مخاطباً نبيَّه « قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ»[249].فهو(ص) ينفي عن نفسه علم الغيب لولا الوحي، لأنَّ الجاهليَّة كانوا يتوقَّعون منه أن يحقِّق ما يريدون كما تشهد لذلك الآيات الكثيرة وكانوا يقولون « مَالِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا »[250]فهو(ص) كان يجيبهم بقوله « قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»[251]ولذلك كان يقول سبحانه وتعالى « قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ...»[252]وكلّ شيءٍ يكمن في الوحي إليه صلوات الله عليه وآله المعصومين الذين جعلهم الله استمراراً لرسالته وحجَّةً على خلقه .3-هذا عيسى بن مريم عليه السلام يقول« أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ »[253]ولا شك أنّ هذا الإنباء من الغيب كما قال تعالى في شأن يوسف (ع)« لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي »[254]ومادام الله هو الذي علَّمه فلا إشكال في ذلك ..هذا وسوف نتحدَّث عن كلِّ آية من هذه الآيات تفصيلاً عند تفسيرها إن شاء الله . ندعو الله التوفيق والسداد والمعرفة والإستنارة بنور القرآن إنَّه كريم مجيب . .
مواصفات المؤمنين
الآية قد بيَّنت أهم الأعمال الباطنيَّة والظاهرية للإنسان تجاه ربِّه وهي
الإيمان و الصلاة و الصدقة
.ولهذه الأمور الثلاثة أهميَّة خاصة بين سائر العبادات بل هي (رغم انصبابها جميعاً في أمرٍ واحد وهو كمال الروح ) أمُّهات الأفعال النفسانية و العبادات الجسمانيَّة و الماليَّة ..فالصلاة أساس جميع الحسنات والطاعات والتجنُّب عن المعاصي و الموبقات « وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ »