مادم أنَّ الاختلاف في الرزق يقتصر بالدنيا ، فلا ضير فيه ، لأنَّ الدنيا قوامها بذلك ،بل لولا الاختلاف، لما أطلق عليها الدنيا فهي دار بالبلاء محفوفة . قال سبحانه « أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ »[345].فربَّما يجعل الله سبحانه رزق جماعة في أيدي آخرين كما قال تعالى « وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ »[346].وهذا الرزق غير مسلوب عن الإنسان أو المجتمع إلا مع كفرانه كما قال«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ »[347]وهذا نوع من العذاب الجماعي الذي كان ينزل على ما سبق من الأمم..ثمَّ يبقى سؤال وهو هل يمكن لإنسان أن يكتسب مثل هذا الرزق من غير سعيٍ أصلا ؟.والجواب نعم، ولكن يتوقَّف على أمرٍ مهمّ قد بيِّن في الآية التالية حيث قال تعالى «...وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا »[348]وهذا أيضاً ضمن القدر الإلهي فهو الذي جعل لكلِّ شيء.
لتبتغوا فضلا
هناك مرحلة أخرى في الرزق وهي ما يطلق عليها الفضل . هذه المرحلة تفتقر إلى سعي أكبر و كسب مضاعف ولكن ينبغي أن يقترن بالشكر حتَّى ينطبق عليه عنوان الرزق ، والتعبير الرائج في القرآن في مثل هذه الموارد إبتغاء الفضل . قال تعالى « وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ *وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »[349]وهذا القسم من الفضل أسنده سبحانه إلى نفسه أيضاً حيث قال« وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ...»[350]وقال تعالى « وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ »[351].والآيات كثيرة لا مجال لذكرها هنا وكلُّها تعني الرزق المادي ، ولكن هناك آيات أخرى تذكر مفهوماً آخر مضافاً إلى الفضل وهو الرضوان ..
فضلا من الله و رضوانا
منها الآية التالية التِّي وردت في شأن أصحاب الرسول (ص) حيث قال « مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ...» [352]..وأيضاً قوله تعالى « لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ »[353].وقد مرَّ الحديث عن الرضوان.
النتيجة
الرزق ينبغي أن يكون من الله سبحانه وتعالى أي طبقاً للموازين والمعايير الصحيحة وعليه لا يطلق على الحرام أنَّه رزقٌ لأنه ممنوع منه بالنهي، ولأنه مدحهم بالإنفاق مما رزقهم والحرام يستحق الذم على إنفاقه لا المدح فلا يجوز أن يكون رزقا . و قد وردت كلمة حرمنا في قبال رزقنا ، قال سبحانه وتعالى « فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ »6 ثمّ تطرّق إلى المحرّمات من الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها فقال « وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »7 .هذا ولو كانت كلمة حلالاً و طيِّباً حال لـ ما رزقكم فذلك يعني أنَّه ما رزقكم الله حال كونه حلالاً يجوز أكله ..و لو كان بعض الرزق محرَّما لما ذمَّ الله المشركين بقوله « قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ أَ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ »[354].مضافاً إلى الحلِّية، تدل كلمة مما رزقناهم على أنَّ الرزق المادي و المعنوي من الله سبحانه ، ومادام هو منه فلا معنى للإمساك ، أصلاً لأنَّ الله الذي أعطى الآن سوف يعطي في المستقبل أيضاً « وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...»[355]ولو لم يشكر العبد ربَّه بالإنفاق ، لأخذ النعمة منه كما أنَّه لو شكر ، ليزيده . قال تعالى « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ »[356].وقال «... وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ »[357]وقال في بيان لطيف«يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ »[358]..
الأمر الخامس
وأما مفهوم الإنفاق فواضح وهو يتعلَّق بجميع ما رزق الإنسان من النعم المادية والمعنوية ، ومن أهمِّها بذل النفس و الولد في سبيل الله . ولكن الظاهر هنا هو بذل المال ، وهو أمر عظيم حيث يشتمل على الجهاد الأكبر بل هو الجهاد بعينه ، لأنَّ الإنسان يحب أمواله كما يحبُّ نفسه . قال تعالى « وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ »[359]وقد فسِّر بالمال كما أنَّ قوله تعالى«إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ*فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ »[360]فسِّر بمصداق مهم من مصاديق المال وهو الخيل وقال تعالى « وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا»[361]فالإنفاق يعني تزكية النفس من الشوائب التي تحجبها عن الله ، وهو الذي يوصل الإنسان إلى مستوى البرّ « لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ»