وأما المفارقات.فهي أيضاً كثيرة إلا أنَّ كلَّها ترجع إلى الشريعة فكلٌّ من الأنبياء أولي العزم كان صاحب شريعة مميَّزة « لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً»(المائدة48)رغم كونهم جميعاً على طريقة واحدة، فالشريعة هي التِّي تقبل النسخ دون الدين فهو ثابت على أيِّ حال، فمن الأمور التِّي كانت في عصر عيسى هي صوم الصمت قال تعالى مخاطباً مريم(ع)« فَإِمَّا تَرَيْنَّ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا»(مريم26).والظاهر أنَّ هذا الصوم كان متعارفاً و مسنوناً في ذلك العصر، فلذلك قبلوا عذرها..وهناك أمور كثيرة أخرى كانت محرَّمة في بعض الشرائع السابقة أو كلِّها وحلِّلت في شريعتنا السمحة. قال سبحانه «وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ»(الأنعام146).وتحريم هذه الأمور لا لآثار وضعيَّة سلبيَّة فيها بل هو نوع من التأديب والجزاء في قبال الظلم الذي كانوا يمارسونه، كما قال تعالى« فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا »(النساء160).وقد ورد في تفسير الآية الأولى ومعنى قوله جزيناهم ببغيهم أنَّه كان ملوك بني إسرائيل يمنعون فقراءهم من أكل اللحم والطير والشحوم فحرَّم الله ذلك عليهم ببغيهم على فقرائهم [375].وهناك حديث في الكافي الشريف ، نذكره بطوله إتماماً للفائدة ((علي بن إبراهيم ، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إبراهيم بن محمدالثقفي، عن محمد بن مروان جميعا عن أبان بن عثمان، عمن ذكره، عن أبي عبدالله عليه السلام قال إن الله تبارك وتعالى أعطى محمدا صلى الله عليه وآله شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام التوحيد والاخلاص وخلع الأنداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة، أحل فيها الطيبات وحرم فيها الخبائث ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ، ثم افترض عليهم فيها الصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحلال والحرام والمواريث والحدود والفرائضوالجهاد في سبيل الله . وزاده الوضوء وفضّله بفاتحة الكتاب وبخواتيم سورة البقرة والمفصل وأحلّ له المغنم والفيء ونصره بالرعب وجعل له الأرض مسجدا وطهور أو أرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والإنس وأعطاه الجزية وأسر المشركين وفداهم، ثم كلف مالم يكلف أحد من الأنبياء وأنزل عليه سيف من السماء، في غير غمد وقيل له قاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك))[376].وهذا هو مفاد من المنَّة الواردة في قوله تعالى «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ»(آل عمران164).ولذلك ورد حديث عن رسول الله (ص) يطلق عليه حديث الرفع ((الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أبي داود المسترق قال حدثني عمرو ابن مروان قال سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله رفع عن أمتي أربع خصال خطاؤها ونسيانها وما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وذلك قول الله عز وجل ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولاتحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحمّلنا ما لاطاقة لنا به))[377].وأيضاً ((الحسين بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، رفعه، عن أبي عبدالله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وضع عن أمتي تسع خصال الخطأ والنسيان ومالا يعلمونومالايطيقون وما اضطروا إليه ومااستكرهوا عليه والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق والحسد مالم يظهر بلسان أويد)) وهذا الحديث له دور مهم في استنباط الأحكام الشرعية . والآية التالية تشير إلى ذلك حيث عفى الله عن كثير من الأمور قال «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ»(المائدة15).الخاتميَّة.في تقديم القرآن ما أنزل إليك دلالة على أفضليته وجامعيته وكماله، وإنَّه بوجوده الحقيقي الروحاني، مقدَّم على سائر الكتب - كما هو ثابت في محلِّه - كما أنَّ النبي(ص) مقدَّم في الخلق على سائر الأنبياء، وأيضاً يستفاد من ذلك خاتمية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وانقطاع الوحي بعده لأنّ الآية لم تتحدَّث عن المستقبل أصلاً بل تتحدَّث عن الماضي وهذا يدل على عدم وجود كتاب مستقبلي ..بقي بحث عن ماهيَّة تلك الكتب والصحف سيأتي في محلِّه إن شاء الله تعالى..