للعيش في هذه الدنيا يفتقر كل حي إلى رزق يتناسب معه وهو أقلّ القليل من الرزق، وقد تكفَّل سبحانه بذلك حيث قال « وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ »8 .والتعبير بقوله على الله يدلُّ على أنَّه تعالى قد تكفَّل بذلك وضَمِن، وقال « وَكَأَيّن مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ »[342].وبالنسبة إلى الإنسان خاصة قد ورد تعبيرٌ محكمٌ للغاية ، حيث قال « وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ* فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ »2 والآية تؤكِّد على أنَّ هذا الرزق لا يتخلَّف أصلاً ، بل هو حقٌّ يجب الإذعان به مثل ما يجب الإذعان بالنطق الذي ينطق به الإنسان.
الأسباب
هناك موازين إلهيَّة لهذا الرزق الربّاني اقتضت نزول الرزق بقدر معلوم يرتبط بمشيئته تعالى ولذلك سرٌّ بيَّنه سبحانه في قوله « وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ »3 وهذا الرزق ـ رغم كونه مقدَّراًـ إلاّ أنَّ الله سبحانه لا يوجده من غير سبب، ومن هنا قال « وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ »4 .وقال « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ »5 ..فهذا الرزق رغم كونه مضموناً إلا أنَّ الوصول إليه يفتقر إلى أقل القليل من السعي « هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ »6 فينبغي للإنسان أن يمشي في مناكب الأرض فيأكل، وهذا لا يعدُّ سعياً حقيقةً لأنَّه أمر لا بدَّ منه لمن أراد أن يأكل فلا سعي في البين أصلاً..كما أنَّ الآية السابقة أعني« وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ »7 تشير إلى أنَّ الرزق ينبغي أن يستنزل. .
حقيقة الرزق في الدنيا
بعد ما بيَّنا كلاً من الرزق الأخروي والرزق الدنيوي حان لنا أن نتحدَّث عن حقيقة الرزق من المنظار الإلهي بل الإنساني ..الرزق هو النفع الذي يصل إليه الإنسان ويتمكَّن من الإنتفاع به من غير أن يخلَّ بسائر زوايا حياته فيكون سهلاً ممتنعاً ، ومن هذا المنطلق لا يرى الإسلام ما في أيدي الكفّار رزقاً، ما دام أنَّهم لا يعبدون الله تعالى ، نعم هو رزق حيواني ، ولا قيمة له حينئذٍ ..فالذي يعين الإنسان ويدفعه إلى الله هو الرزق حقيقة وما يمنعه عن ذلك ، ليس برزق مهما كثر ، فمن يسعى نهاره وليله ليجمع المال فليس لسعيه نتاج لا في الدنيا ولا في الآخرة ، أمّا الدنيا فلأنَّه قد صرف أوقاته في طلب المال ولم يسنح له مجال للإستفادة منه في ذلك اليوم ، فضاع عمره في ذلك اليوم لأنَّه لم ينتفع منه . ففي الحديث (( عن أبي ذر رحمه الله قال قال رسول الله (ص) على العاقل أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه عزوجل ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتفكر فيما صنع الله عزوجل إليه ، وساعة يخلو فيها يحظ نفسه من الحلال ، فإن هذه الساعة عون لتلك الساعات ، واستجمام للقلوب وتوزيع لها))[343].فهو قد صرف جميع ساعاته في الطلب ، وأمَّا لو أراد أن يستفيد منها في أيامه الآتية ، فلن يتمكَّن من ذلك إلا بمقدارٍ محدود والزائد ينتقل إلى غيره ، فهو إذاً قد جمع لغيره لا لنفسه ـ . .ومن هنا تعرف أهميَّة دعاء الرزق الذي ورد في تعقيبات صلاة العشاء ففي كتاب فلاح السائل ومن الدعوات بعد العشاء الاخرة لطلب سعة الأرزاق ما رواه أبو المفضل - ره - عن أبي القاسم جعفر بن محمدبن عبدالله العلوي ، عن عبيد اللهابن أحمد بن نهيك ، عن محمد بن أبي عمير ، عن عبيد بن زرارة قال حضرت أبا عبدالله عليه السلام وشكا إليه رجل من شيعته الفقر وضيق المعيشة وأنه يجول في طلب الرزقالبلدان ، فلا يزداد إلا فقرا ، فقال له أبو عبدالله إذاصليت العشاء الاخرة فقل وأنتمتأن (( اللهم إنه ليس لي علم بموضع رزقي ، وإنما أطلبه بخطرات تخطر على قلبي فأجولفي طلبهالبلدان ، فأنا فيما أنا طالب كالحيران ، لا أدري أفي سهل هو أم في جبل أم في أرض ، أم في سماء أم في بر أم في بحر ، وعلى يدي من ومن قبل من ؟ وقد علمت أنعلمه عندك وأسبابه بيدك ، وأنت تقسمه بلطفك وتسببه برحمتك ، اللهم فصل على محمدوآله ،واجعل يارب رزقك لي واسعا ، ومطلبه سهلا ، ومأخذه قريبا ، ولاتعنتني بطلب مالم تقدر لي فيه رزقا ، فانك غني عن عذابي ، وأنافقير إلى رحمتك ، فصلعلى محمد وآل محمد ، وجد على عبدك بفضلك ، إنك ذو فضل عظيم ))[344]..قال عبيد بن زرارة فما مضتبالرجل مديدة حتى زال عنه الفقر ، وحسنتأحواله2 .