« وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ »[30].
« الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ »[31] والمقصود من الكتاب هو ما بيَّناه سابقاً، أعني في مرحلة الجمع ولذلك فقد صرَّح سبحانه وتعالى بأنَّه القرآن في قوله «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ »[32]وقال تعالى « طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ »[33]و قد بيَّنا المقصود من القرآن وأنَّه إشارة إلى مقام الوحدة لا الكثرة ومن هنا عبَّر عنه سبحانه بقوله « وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ »[34]والإلقاء في الآية إشارة إلى أنَّ الكتاب ينسجم مع قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم كما قال « إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً »[35]والذي نزَّله هو روح الأمين جبريل حيث قال تعالى« قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ...»[36].
والحاصل أنَّ المبين صفة لذلك الكتاب باعتبار أنَّه واضح لا غموض فيه ، وهناك تعبير آخر يعطى نفس معنى المبين وهو المنير حيث قال تعالى « فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ »[37]أي المنوَّر بذاته و المنوِّر لغيره من الأشياء بل هو النور حقيقةً « قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ »[38]وقال تعالى « يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا »[39] والسرّ في وضوحه يكمن في أمرٍ واحد وهو كونه من لدن الله سبحانه «الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ »[40]والله سبحانه هو نور السماوات والأرض الظاهر بنفسه والمظهر لغيره « اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ »[41]وهو تعالى الحق المبين. قال« ...أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ»[42] «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»[43].
وعليه سوف ننتقل إلى الصفة الثالثة للكتاب المبين وهي
إنها صفة لذلك الكتاب لأنَّه مظهر من مظاهر الله تعالى وهو كلامه سبحانه « المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ »[44]فلا مجال للاختلاف فيه أصلاً « ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ »[45].
فلا خلاف بين الكتاب الذي أنزل على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم وبين سائر الكتب السماوية كما أنَّه لا خلاف بين الإنجيل و التوراة « نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ »[46]وعشرات من الآيات وردت لتأكيد هذه الحقيقة إلا أنّ هناك من كان يكتم كثيراً من الحقائق التي تتطابق مع القرآن الكريم، وذلك في قبال مطامع دنيوية. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ...»[47]وقد وعظهم الله سبحانه حيث قال « وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِي »[48].
هذا .
والقرآن الكريم يشتمل على حقائق كثيرة غير متواجدة في سائر الكتب، مضافاً إلى الجانب الإعجازي الخاص به. قال تعالى « قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ »[49]فهو الهدى وهو البشرى للمؤمنين.
ولكونه كذلك صار هو أيضاً المهيمن على جميع الكتب السماوية .
« وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ »[50].
في أصول الكافي عن على بن إبراهيم عن صالح بن السندي عن جعفر بنبشير عن سعد الإسكاف قال ((قال رسول الله صلى الله عليه وآله أعطيت السور الطوال مكان التوراة وأعطيت المئين مكان الإنجيل وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وفضِّلت بالمفصل ثمان وستون سورة وهو مهيمن على ساير الكتب ، فالتوراة لموسى والإنجيل لعيسىوالزبور لداود عليهم السلام وإنّ الله عز وجل جعل كتابي المهيمن على كتبهم الناسخ لها))[51].
ومن هنا نستكشف الفرق الكبير بين كتاب الله هذا- أعني القرآن الكريم- وبين سائر الكتب، فأصحابها لم يؤتوا إلا نصيباً من الكتاب قال تعالى « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ »[52].
لا ريب فيه.
فلا مجال إذاً للاختلاف في هذا الكتاب أصلاً ولا يحقّ لأحدٍ أن يناقشه لأنَّه حقّ من ربِّ العالمين فلا مجال لتسرُّب الريب إليه « وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ »[53]«وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ »[54]وذلك لأنَّ وجود الريب في الكتاب يعني أنَّ الله قد ظلم العالمين ، قال تعالى « تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ »[55].والمنفي هو مطلق الريب في كافة أبعاده لا ريب فيه فهي قد نفت الماهيَّة و جنس الريب عن الكتاب فهو متقن من كافة الزوايا و الأبعاد وهذا شأن كتاب الهداية ..
وهذه الصفة - أي عدم الريب مطلقاً - تؤكِّد على أنَّ المقصود من الكتاب هو ما أوضحنا، أعني ما هو موجود في اللوح المحفوظ ، فلا منافاة بين هذا وبين قوله تعالى « وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُون ِاللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ »[56]لأنَّهم ترددوا في ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وآله رغم سطوع نوره ووضوح دلالته ، وربما كان السبب تفرّقه ليصبح فرقاناً و انتشاره في سوَرٍ ومواقع مختلفة ولهذا تردد فيه البعض ومنشأ هذا الشك والترديد إنَّما هو البغي والعدوان كما تدل عليه آيات كثيرة ..
الريب لا يعني مجرَّد الشك العادي، فإنَّ الشك هو مقدَّمة العلم ولا مانع منه ، بل يراد منه الشك المذموم الذي يلازم التّهمَة والإثم. ويمكن لنا الاستشهاد بالآية المباركة حيث قال تعالى « مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ »[57]وقال « مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ »[58]وأراب أي صار ذا رِيبة فهو مُرِيب ورابني أمره ..
والكتاب الذي لا ريب فيه أصلاً يكون بالطبع هدىً للمتقين....
« ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ »