وفي حديث ابن عمر ـ الذي في الصحيحين(20) ـ : بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله . . . الحديث .
وفي حديث وفد عبدالقيس : آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟
شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله . . . الحديث ، وهو في الصحيحين(21) .
وغير ذلك من الأحاديث وصف الإسلام بالشهادتين ، وما معهما من الأركان ، وهذا إجماع من الأمّة ، بل أجمعوا أنّ من نطق بالشهادتين أُجريت عليه أحكام الإسلام ، لحديث : أُمرت أن أقاتل النّاس ، ولحديث الجارية : أين الله؟ قالت : في السماء ، قال : مَن أنا؟ قالت : رسول الله ، قال : أعتقها ، فإنّها مؤمنة .
وكلّ ذلك في الصحيحين(22) .
ولحديث : كفّوا عن أهل لا إله إلاّ الله(23) ، وغير ذلك .
قال ابن القيّم : أجمع المسلمون على أنّ الكافر إذا قال : لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، فقد دخل في الإسلام ، إنتهى .
وكذلك أجمع المسلمون أنّ المرتدّ إذا كانت رِدّته بالشرك ، فإنّ توبته بالشهادتين .
وأمّا القتال : إن كان ثَمَّ إمام قاتَل الناس حتّى يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة .
وكلّ هذا مسطورٌ ، مبيَّن في كتب أهل العلم ، من طلبه وجده ، فالحمد لله على تمام الإسلام .
فصل في
[تكفير المسلمين]
إذا فهمتم ما تقدّم .
فإنّكم الآن تكفّرون مَن شهد أن لا إله إلاّ الله وحده ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، وحجّ البيت مؤمناً بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، ملتزماً لجميع شعائر الإسلام ، وتجعلونهم كفّاراً ، وبلادَهم بلادَ حرب .
فنحن نسألكم مَن إمامكم في ذلك؟ وممّن أخذتم هذا المذهب عنه؟
فإن قلتم : كفّرناهم لأنّهم مشركون بالله ، والذي منهم ما أشرك بالله لم يكفّر من أشرك بالله ، لأنّ الله سبحانه قال : { إنّ الله لا يغفر أن يشرك به }(24) . . . الآية ، وما في معناها من الآيات ، وأنّ أهل العلم قد عدّوا في المكفّرات مَن أشرك بالله .
قلنا : حقٌّ ، الآيات حقٌّ ، وكلام أهل العلم حقٌّ .
إلى غير ذلك ممّا ذكره الله في كتابه ، ورسوله ، وأهل العلم .
[آراء وأهواء مخالفة لإجماع الاُمّة]
ولكنّ هذه التفاصيل التي تفصّلون من عندكم أنّ من فعل كذا فهو مشرك ، وتخرجونه من الإسلام .
من أين لكم هذا التفصيل؟
ءأستنبطتم ذلك بمفاهيمكم؟
فقد تقدّم لكم من إجماع الأمّة أنّه لا يجوز لمثلكم الاستنباط ! !
ألكم في ذلك قدوةٌ من إجماع ؟ أو تقليد مَن يجوز تقليده؟
مع أنّه لا يجوز للمقلّد أن يكفّر إن لم تُجمع الأمّة على قول متبوعه .
فبيّنوا لنا : من أين أخذتم مذهبكم هذا؟
ولكم علينا عهد الله وميثاقه إن بيّنتم لنا حتماً يجب المصير إليه ، لنتّبع الحقّ إن شاء الله .
فإن كان المراد مفاهيمكم .
فقد تقدّم أنـّه لا يجوز لنا ولا لكم ولا لمن يؤمن بالله واليوم الآخر الأخذ بها ، ولا نكفّر من معه الإسلام الذي أجمعت الأمّة على [أنّ[ من أتى به فهو مسلم .
فأمّا الشرك ففيه أكبر وأصغر ، وفيه كبير وأكبر ، وفيه ما يُخرج من الإسلام ، وفيه ما لا يُخرج من الإسلام ، وهذا كلّه بإجماع .
وتفاصيل ما يُخرج ممّا لا يُخرج يحتاج إلى تبيين أئمّة أهل الإسلام الذين اجتمعت فيهم شروط الاجتهاد ، فإن أجمعوا على أمر لم يسع أحداً الخروج عنه ، وإن اختلفوا فالأمر واسع .
فإن كان عندكم عن أهل العلم بيانٌ واضحٌ فبيّنوا لنا ـ وسمعاً وطاعةً ـ .
وإلاّ ، فالواجب علينا وعليكم الأخذ بالأصل المجمع عليه ، واتّباع سبيل المؤمنين .
وأنتم تحتجّون أيضاً بقوله عزّوجلّ { لئن أشركت ليحبطنّ عملك }(29) .
وبقوله عزّوجلّ في حقّ الأنبياء : { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون }(30) .
وبقوله تعالى : { ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً }(31) .
فنقول : نعم ، كلّ هذا حقّ يجب الإيمان به .
ولكن ، من أين لكم أنّ المسلم الذي يشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، إذا دعا غائباً أو ميّتاً ، أو نذر له أو ذبح لغير الله أو تمسّح بقبر ، أو أخذ من ترابه أنّ هذا هو الشرك الأكبر الذي من فَعَلَه حبط عمله ، وحلّ ماله ودمه ، وأنـّه الذي أراد الله سبحانه من الآية وغيرها في القرآن؟
[لا عبرة بفهم أولئك لقصورهم]
فإن قلتم : فهمنا ذلك من الكتاب والسُنّة .
قلنا : لا عبرة بمفهومكم ، ولا يجوز لكم ولا لمسلم الأخذ بمفهومكم .
فإنّ الأمّة مجمعةٌ ـ كما تقدّم ـ [ على [ أنّ الاستنباط مرتبةُ أهل الاجتهاد المطلق .
ومع هذا لو اجتمعت شروط الاجتهاد في رجل لم يجب على أحد الأخذ بقوله دون نظر .
قال الشيخ تقيّ الدين : من أوجب تقليد الإمام بعينه دون نظر إنـّه يستتاب ، فإن تاب وإلاّ قتل ، إنتهى .
[مخالفة حتى لابن تيميّة]
وإن قلتم : أخذنا ذلك من كلام بعض أهل العلم كابن تيميّة وابن القيّم ، لأنّهم سمّوا ذلك شركاً .
قلنا : هذا حقٌّ ، ونوافقكم على تقليد الشيخين أنّ هذا شركٌ ، ولكنّهم لم يقولوا ـ كما قلتم ـ إنّ هذا شرك أكبر يُخرج من الاسلام ، وتجري على كلّ بلد هذا فيها أحكام أهل الردّة ، بل من لم يكفّرهم عندكم فهو كافر تجري عليه أحكام أهل الردّة .
ولكنّهم رحمهم الله ذكروا أن هذا شرك ، وشدّدوا فيه ، ونهوا عنه .
ولكنْ ما قالوا كما قلتم ولا عُشْر معشاره .
ولكنّكم أخذتم من قولهم ما جاز لكم ، دون غيره .
بل في كلامهم رحمهم الله ما يدلّ على أنّ هذه الأفاعيل شركٌ أصغر .
وعلى تقدير أنّ في بعض افراده ما هو شركٌ أكبر ـ على حسب حال قائله ونيّته ـ فهم ذكروا في بعض مواضع من كلامهم :
أنّ هذا لا يكفّر ، حتّى تقوم عليه الحجّة التي يكفر تاركها ـ كما يأتي ـ في كلامهم إن شاء الله مفصّلا .
ولكنّ المطلوب منكم هو الرجوع إلى كلام أهل العلم ، والوقوف عند الحدود التي حدّوا .
فإنّ أهل العلم ذكروا في كلّ مذهب من المذاهب الأقوال والافعال التي يكون بها المسلم مرتدّاً .
ولم يقولوا : مَن طلب من غير الله فهو مرتدٌّ .
ولم يقولوا من ذبح لغير الله فهو مرتدٌّ .
ولم يقولوا من تمسّح بالقبور وأخذ من ترابها فهو مرتدٌّ .
ـ كما قلتم أنتم ـ .
فإن كان عندكم شيءٌ فبيّنوه ، فإنّه لا يجوز كَتْم العلم .
ولكنّكم أخذتم هذا بمفاهيمكم ، وفارقتم الإجماع ، وكفّرتم أمّة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)كلّهم ، حيث قلتم : مَن فعل هذه الأفاعيل فهو كافر ، ومن لم يكفّره فهو كافر .
ومعلومٌ عند الخاصّ والعامّ أنّ هذه الامور ملأت بلاد المسلمين ، وعند أهل العلم منهم أنـّها ملأت بلاد المسلمين من أكثر من سبعمائة عام .
وأنّ من لم يفعل هذه الأفاعيل من أهل العلم لم يكفّروا أهل هذه الأفاعيل ، ولم يجروا عليهم أحكام المرتدّين .
بل أجروا عليهم أحكام المسلمين .
بخلاف قولكم ، حيث أجريتم الكفر والردّة على أمصار المسلمين ، وغيرها من بلاد المسلمين ، وجعلتم بلادهم بلاد حرب ، حتّى الحرمين الشريفين اللذَين أخبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)في الاحاديث الصحيحة الصريحة أنّهما لا يزالا بلاد إسلام ، وأنهما لا تعبد فيهما الأصنام ، وحتّى أنّ الدجّال في آخر الزمان يطيء البلاد كلّها إلاّ الحرمين(32) ـ كما تقف على ذلك إن شاء الله في هذه الرسالة ـ .
فكلّ هذه البلاد عندكم بلاد حرب ، كُفّارٌ أهلها ، لأنّهم عبدوا الأصنام ـ على قولكم ـ .
وكلّهم ـ عندكم ـ مشركون شركاً مخرجاً عن الملّة .
فإنا لله وإنّا إليه راجعون .
فوالله ، إنّ هذا عين المحادّة لله ولرسوله ، ولعلماء المسلمين قاطبةً .
[آراء ابن تيمية وابن القيم]
فأعظم مَن رأينا مشدّداً في هذه الامور التي تكفّرون بها الأمّة ـ النذور وما معها ـ ابن تيميّة وابن القيّم .
وهما رحمهما الله قد صرّحا في كلامهما تصريحاً واضحاً أنّ هذا ليس من الشرك الذي ينقل عن الملّة .
بل قد صرّحوا في كلامهم : أنّ من الشرك ما هو أكبر من هذا بكثير كثير ، وأنّ من هذه الأمّة مَن فَعَله وعاند فيه ، ومع هذا لم يكفّروه ـ كما يأتي كلامهم في ذلك إن شاء الله تعالى ـ .
[في النذور لغير الله]
فأمّا النذور :
فنذكر كلام الشيخ تقيّ الدين فيه ، وابن القيّم ، وهما من أعظم مَن شدّد فيه ، وسمّـاه شركاً ، فنقول :
قال الشيخ تقيّ الدين : النذر للقبور ولأهل القبور ، كالنذر لإبراهيم الخليل (عليه السلام)أو الشيخ فلان نذر معصية لا يجوز الوفاء به ، وإنْ تصدّق بما نذر من ذلك على من يستحقّه من الفقراء أو الصالحين كان خيراً له عند الله وأنفع ، انتهى .
فلو كان الناذر كافراً عنده لم يأمره بالصدقة ، لأنّ الصدقة لا تُقبل من الكافر ، بل يأمره بتجديد إسلامه ، ويقول له : خرجتَ من الإسلام بالنذر لغير الله .