ومع هذه الأمور الهائلة ، والكفر الصريح الواضح ، وخروجهم عن المسلمين ، قال لهم عليّ(رضي الله عنه) : لا نبدؤكم بقتال ، ولا نمنعكم عن مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ، ولا نمنعكم من الفييء ما دامت أيديكم معنا(46) .
ثم إنّ الخوارج اعتزلوا ، وبدأوا المسلمين ـ الإمام ومن معه ـ بالقتال ، فسار إليهم عليّ(رضي الله عنه) .
وجرى على المسلمين منهم أمور هائلة يطول وصفها .
ومع هذا كلّه لم يكفّرهم الصحابة ، ولا التابعون ، ولا أئمّة الإسلام ، ولا قال لهم عليّ ولا غيره من الصحابة : قامت عليكم الحجّة ، وبيّنّا لكم الحقّ .
قال الشيخ تقيّ الدين : لم يكفّرهم عليّ ولا أحدٌ من الصحابة ، ولا أحدٌ من أئمّة الإسلام ، انتهى(47) .
فانظر ـ رحمك الله ـ إلى طريقة أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في الإحجام عن تكفير من يدّعي الإسلام .
هذا ، وهم الصحابة رضي الله عنهم الذين يروون الأحاديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم .
قال الإمام أحمد : صحّت الاحاديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من عشرة أوجه .
قال أهل العلم : كلّها خرّجها مسلم في (صحيحه) .
فانظر إلى هدي أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة المسلمين ، لعلّ الله يهديك إلى اتّباع سبيل المؤمنين ، وينبّهك من هذه البليّة التي تزعمون الآن أنـّها السُنّة ، وهي ـ والله ـ طريقة القوم ، لا طريقة عليّ ومن معه ، رزقنا الله اتّباع آثارهم .
فإن قلت : عليٌّ نفسه قتل الغالية ، بل حرّقهم بالنار ـ وهم مجتهدون ـ .
والصحابة قاتلوا أهل الردّة .
قلت : هذا كلّه حقٌّ ، فأمّا الغالية : فهم مشركون زنادقة ، أظهروا الإسلام تلبيساً ، حتّى أظهروا الكفر ظهوراً جليّاً لا لبس فيه على أحد .
وذلك أنّ عليّاً(رضي الله عنه) لمّا خرج عليهم من باب كِندة سجدوا له .
فقال لهم : ما هذا؟
قالوا له : أنت الله .
فقال لهم : أنا عبدٌ من عباد الله .
قالوا : بل أنت هو الله .
فاستتابهم وعرضهم على السيف ، وأبَوا أن يتوبوا ، فأمر بخدّ الأخاديد في الأرض ، وأضرم فيها النار ، وعرضهم عليها ، وقال لهم : إنْ لم تتوبوا قذفتكم فيها ، فأبَوا أن يتوبوا ، بل يقولون له: أنت الله .
فقذفهم بالنار ، فلمّا أحسّوا بالنار تحرقهم قالوا : الآن تحقّقنا أنّك أنت الله ، لأنـّه ما يعذّب بالنار إلاّ الله .
فهذه قصّة الزنادقة الذين حرّقهم عليّ(رضي الله عنه) ، ذكرها العلماء في كتبهم .
فإن رأيتم مَن يقول لمخلوق : هذا هو الله ، فحرّقوه ، وإلاّ فاتّقوا الله ، ولا تلبسوا الحقّ بالباطل ، وتقيسوا الكافرين على المسلمين بآرائكم الفاسدة ، ومفاهيمكم الواهية .
[أهل الردّة]
وأمّا قتال الصدّيق والصحابة رضي الله عنهم أهل الردّة :
فاعلم أنـّه لمّا توفّي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لم يبق على الإسلام إلاّ أهل المدينة ، وأهل مكّة ، والطائف ، وجُواثا ـ قرية من قرى البحرين ـ .
وأخبار الردّة طويلة تحتمل مجلّداً ، ولكن نذكر بعضاً من ذلك من كلام أهل العلم ، ليتبيّن لكم ما أنتم عليه ، وأنّ استدلالكم بقصّة أهل الردّة كاستدلالكم الأوّل .
قال الإمام أبو سليمان الخطّابي(رحمه الله) : ممّا يجب أن يُعلم أنّ أهل الردّة كانوا أصنافاً :
صنفٌ ارتدّوا عن الإسلام ، ونبذوا الملّة ، وعادوا إلى الكفر الذي كانوا عليه من عبادة الأوثان .
وصنفٌ ارتدّوا عن الإسلام ، وتابعوا مُسَيْلَمَة ـ وهم بنو حنيفة وقبائل غيرهم ـ صدّقوا مسيلمة ، ووافقوه على دعواه النبوّة .
وصنف ارتدّوا ووافقوا الأسود العنسيّ وما ادّعاه من النبوّة باليمن .
وصنفٌ صدّقوا طُليحة الأسديّ وما ادّعاه من النبوّة ، وهم غطفان وفَزَارة ومَن والاهم .
وصنفٌ صدّقوا سَجاح .
فهؤلاء مرتدّون ، منكرون لنبوّة نبيّنا(صلى الله عليه وآله وسلم) ، تاركون للزكاة ، والصلاة ، وسائر شرائع الإسلام ، ولم يبق مَن يسجد لله في بسيط الأرض ، إلاّ مسجد المدينة ، ومكّة ، وجواثا ـ قرية في البحرين ـ .
وصنفٌ آخر ، وهم الذين فرّقوا بين الصلاة والزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام .
وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي ، وإنّما لم يدعَوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصاً لدخولهم في غِمار أهل الردّة ، فأضيف الاسم إلى الردّة ، إذ كانت أعظم الأمرين وأهمّهما .
وأرّخ قتال أهل البغي من زمن عليّ بن أبي طالب(رضي الله عنه) ، إذ كانوا منفردين في زمانه ، لم يختلطوا بأهل الشرك .
وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ، ووقعت الشبهة لعمر(رضي الله عنه) حين راجع أبا بكر وناظره ، واحتجّ بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم)(48) : أُمرت أن أُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله ، فمن قال لا إله إلاّ الله عصم ماله ونفسَه ـ .
إلى أن قال(رحمه الله) ـ : وقد بيّنّا أنّ أهل الردّة كانوا أصنافاً .
منهم من ارتدّ عن الملّة ، ودعا إلى نبوّة مسيلمة وغيره .
ومنهم من أنكر الشرائع كلّها .
وهؤلاء الذين سمّـاهم الصحابة رضي الله عنهم كفّاراً ، وكذلك رأى أبو بكر سبي ذراريهم ، وساعده على ذلك أكثر الصحابة .
ثم لم ينقض عصر الصحابة حتّى أجمعوا أنّ المرتدّ لا يُسبى .
فأمّا مانع الزكاة منهم ، المقيمون على أصل الدين :
فإنّهم أهل بغي ، ولم يسمّوا أهل شرك ، أو فهُم كفّار ـ وإن كانت الردّة أضيفت إليهم ـ لمشاركتهم للمرتدّين في بعض ما منعوه من حقّ الدِّين .
وذلك أنّ الردّة اسم لغويّ ، وكلّ من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتدّ عنه .
وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ، ومنع الحقّ ، وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح ، وعلق عليهم الاسم القبيح ، لمشاركتهم القوم الذين كانوا ارتدوا حقاً .
ـ إلى أن قال ـ :
فإن قيل : وهل ، إذا أنكر طائفة في زماننا فرض الزكاة ، وامتنعوا من أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغي؟
قلنا : لا ، فإنّ من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين على وجوب الزكاة ، فقد عرفها الخاصّ والعامّ ، واشترك فيها العالم والجاهل ، فلا يُعذر منكره .
وكذلك الأمر في كلّ من أنكر شيئاً ممّا اجتمعت عليه الأمّة من أمور الدين ـ إذا كان عِلْمه منتشراً ـ كالصلوات الخمس ، وصوم شهر رمضان ، والاغتسال من الجنابة ، وتحريم الربا والخمر ونكاح المحارم ، ونحوها من الأحكام ، إلاّ أنْ يكون رجلا حديث عهد بالإسلام ، ولا يعرف حدوده ، فإنّه إنْ أنكر شيئاً منها جاهلا به لم يكفر ، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء الاسم عليه .
فأمّا ماكان الإجماع معلوماً فيه من طريق علم الخاصّة ، كتحريم نكاح المرأة على عمّتها وخالتها ، وأنّ القاتل عمداً لا يرث ، وأنّ للجدّ السدس ، وما أشبه ذلك من الأحكام ، فإنّ من أنكرها لا يكفر ، بل يُعذر فيها ، لعدم استفاضة علمها في العامّة ، إنتهى كلام الخطّابي .
وقال صاحب (المفهم) : قال أبو إسحاق : لـمّا قُبض رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ارتدّت العرب ، إلاّ أهل ثلاثة مساجد : مسجد المدينة : ومسجد مكّة : ومسجد جواثا ، إنتهى .
فهذا شيءٌ ممّا ذكره بعض أهل العلم في أخبار الردّة ، وتفاصيلها يطول .
ولكن قد تقدّم أنّ مِثْلَكم أو من هو أجلّ منكم لا يجوز له الاستنباط ، ولا القياس ، ولا يجوز لأحد أن يقلّده ، بل يجب على من لم يبلغ رتبة المجتهدين أن يقلّدهم ، وذلك بالإجماع .
ولكن ليكن عندكم معلوماً أنّ من خرج عن طاعة أبي بكر الصدّيق في زمانه فقد خرج عن الإجماع القطعيّ ، لأنّه ومن معه هم أهل العلم ، وأهل الإسلام ، وهم المهاجرون والانصار الذين اثنى الله عليهم في كتابه ، وإمامة أبي بكر إمامة حقّ ، جميع شروط الإمامة مجتمعة فيه!؟
فإن كان اليوم فيكم مثل أبي بكر والمهاجرين والانصار ، والأمّة مجتمعة على إمامة واحد منكم ، فقيسوا أنفسكم بهم .
وإلاّ ، فبالله عليكم! استحيوا من الله ، ومن خلقه ، واعرفوا قدر أنفسكم ، فرحم الله من عرف قدر نفسه ، وأنزلها منزلتها ، وكفّ شرّه عن المسلمين ، واتّبع سبيل المؤمنين .
قال الله تعالى { ومن يتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونُصْلِهِ جهنم وساءت مصيراً }(49) .
فصل
لما تقدم الكلام على الخوارج ـ وذكْر مذهب الصحابة وأهل السُنّة فيهم ، وأنـّهم لم يكفّروهم كفراً يخرج من الإسلام ، مع ما فيهم ـ بأنـّهم كلاب أهل النار ، وأنـّهم يمرقون من الإسلام ، ومع هذا كلّه لم يكفّرهم الصحابة ، لأنّهم منتسبون إلى الإسلام الظاهر ـ وإن كانوا مخلّين بكثير منه لنوع تأويل ـ .
وأنتم اليوم تكفّرون من ليس فيه خصلةٌ واحدةٌ ممّا في أولئك .
بل الذين تكفّرونهم اليوم وتستحلّون دماءهم وأموالهم عقائدهم عقائد أهل السُنّة والجماعة ـ الفرقة الناجية ، جعلنا الله منهم ـ .
[القدرية ومذاهبهم]
ثم خرجت بدعة القَدَريّة ، وذلك في آخر زمن الصحابة ، وذلك أنّ القَدَرية فرقتان :
فرقة أنكرت القَدَر رأساً ، وقالوا : إنّ الله لم يقدّر المعاصي على أهلها ، ولا هو يقدّر ذلك ، ولا يهدي الضالّ ، ولا هو يقدر على ذلك .
والمسلم عندهم هو الذي جعل نفسه مسلماً ، وهو الذي جعل نفسه مصلّياً ، وكذلك سائر الطاعات والمعاصي ، بل العبد هو الذي خلقها بنفسه ، وجعلوا العبد خالقاً مع الله ، والله سبحانه ـ عندهم ـ لا يقدر أن يهدي أحداً ، ولا يقدر [ أن ]يضلّ أحداً .
إلى غير ذلك من أقوالهم الكفريّة ، تعالى الله عمّـا يقول أشباه المجوس علوّاً كبيراً .
الفرقة الثانية من القَدَريّة : مَن قابَل هؤلاء ، وزعم أنّ الله جبر الخلق على ما عملوا ، وأنّ الكفر والمعاصي في الخلق كالبياض والسواد في خَلْق الآدميّ ، ما للمخلوق في ذلك صُنْعٌ ، بل جميع المعاصي عندهم تضاف لله ، وإمامهم في ذلك إبليس حيث قال : {فبما أغويتني}(50) وكذلك المشركون الذين قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا }(51) .
إلى غير ذلك من قبائحهم وكفريّاتهم التي ذكرها عنهم أهل العلم في كتبهم ، كالشيخ تقيّ الدين وابن القيّم .
ومع هذا الكفر العظيم والضلالة ، خرج أوائل هؤلاء في زمن الصحابة رضي الله عنهم كابن عمر ، وابن عبّاس ، وأجلاّء التابعين ، وقاموا في وجوه هؤلاء ، وبيّنوا ضلالهم من الكتاب والسُنّة ، وتبرّأ منهم مَن عندهم من الصحابة رضي الله عنهم ، وكذلك التابعون ، وصاحوا بهم من كلّ فجّ .
ومع هذا الكفر العظيم الهائل لم يكفّرهم الصحابة ، ولا مَن بعدهم من أئمّة أهل الإسلام ، ولا أوجبوا قتلهم ، ولا أجرَوا عليهم أحكام أهل الردّة ، ولا قالوا : قد كفرتم حيث خالفتمونا ، لأنّا لا نتكلّم إلاّ بالحقّ ، وقد قامت عليكم الحجّة ببياننا لكم :
كما قلتم أنتم هذا ؟!
ومِن الرادّ عليهم ، والمبيّن ضلالَهم ، الصحابةُ والتابعونَ الذين لا يقولون إلاّ حقّاً .