بل كبير هؤلاء من أئمّة دُعاتهم قتلوه الأُمراء .
وذكر أهل العلم أنـّه قُتل حدّاً ، كدفع الصائل خوفاً من ضرره ، وبعد قتله غُسّل وصُلّي عليه ، ودُفن في مقابر المسلمين ـ كما يأتي أن شاء الله ذِكره في كلام الشيخ تقيّ الدين ـ .
فصل في
فصل
[المعتزلة وآراؤهم]
الفرقة الثالثة من أهل البدع : المعتزلة الذين خرجوا في زمن التابعين ، وأَتَوا من الأقوال والأفعال الكفرّيات ما هو مشهور .
منها : القول بخلق القرآن .
ومنها : القول بخلود أهل المعاصي في النار ، إلى غير ذلك من قبائحهم وفضائحهم التي نقلها أهل العلم عنهم .
ومع هذا فقد خرجوا في زمن التابعين ، ودَعوا إلى مذهبهم ، وقام في وجوههم العلماء من التابعين ومن بعدهم ، وردّوا عليهم ، وبيّنوا باطلهم من الكتاب ، والسُنّة ، وإجماع علماء الأمّة ، وناظروهم أتمّ المناظرة .
ومع هذا أصرّوا على باطلهم ودَعَوا إليه ، وفارقوا الجماعة .
فبدّعهم العلماء ، وصاحوا بهم ، ولكن ما كفّروهم ، ولا أجرَوا عليهم أحكام أهل الردّة ، بل أجرَوا عليهم ـ هم وأهل البدع قبلهم ـ أحكام الإسلام من التوارث ، والتناكح ، والصلاة عليهم ، ودفْنهم في مقابر المسلمين .
ولم يقولوا لهم أهل العلم من أهل السُنّة : قامت عليكم الحجّة ، حيث بيّنّا لكم ، لأنّا لا نقول إلاّ حقّاً ، فحيث خالفتمونا كفرتم ، وحلّ مالكم ودمائكم ، وصارت بلادكم بلاد حرب .
كما هو الآن مذهبكم .
أفلايكون لكم في هؤلاء الأئمّة عبرة؟ فترتدعون عن الباطل؟! وتفيئون إلى الحقّ!
فصل
[المرجئة وأقوالهم]
ثمّ خرج بعد هؤلاء ، المرجئة الذين يقولون : الإيمان قولٌ بلا عمل .
فمن أقرّ عندهم بالشهادتين فهو مؤمنٌ كامل الإيمان ، وإن لم يصلّ لله ركعةً طول عمره ، ولا صام يوماً من رمضان ، ولا أدّى زكاة ماله ، ولا عمل شيئاً من أعمال الخير ، بل من أقرّ بالشهادتين فهو عندهم مؤمن ، كامل الإيمان ، إيمانه كإيمان جبريل ، وميكائيل ، والأنبياء .
إلى غير ذلك من أقوالهم القبيحة التي أبتدعوها في الإسلام .
ومع أنـّه صاح بهم أئمّة أهل الإسلام ، وبدّعوهم ، وضلّلوهم ، وبيّنوا لهم الحقّ من الكتاب والسُنّة وإجماع أهل العلم من أهل السُنّة من الصحابة فمن بعدهم .
وأبَوا إلاّ التمادي على ضلالهم ، ومعاندتهم لأهل السُنّة متمسّكين ـ هم ومن قبلهم من أهل البدع ـ بمتشابه من الكتاب والسُنّة .
ومع هذه الأمور الهائلة فيهم لم يكفّروهم أهل السُنّة ، ولا سلكوا مسلككم فيمن خالفكم ، ولا شهدوا عليهم بالكفر ، ولا جعلوا بلادهم بلاد حرب ، بل جعلوا الأخوّة الإيمانيّة ثابتة لهم ولمن قبلهم من أهل البدع .
ولا قالوا لهم : كفرتم بالله ورسوله ، لأنّا بيّنّا لكم الحقّ ، فيجب عليكم اتّباعنا ، لأنّا بمنزلة الرسول ، مَن خَطَّأَنا فهو عدو الله ورسوله .
كما هو قولكم اليوم ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
فصل
[الجهميّة ودعاواهم]
ثمّ حدث بعد هؤلاء ، الجهميّة الفرعونيّة الذين يقولون : ليس على العرش إلهٌ يُعبد ، ولا لله في الأرض من كلام ، ولا عُرج بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لربّه ، وينكرون صفات الله سبحانه التي أثبتها لنفسه في كتابه ، وأثبتها رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأجمع على القول بها الصحابة فمن بعدهم ، وينكرون رؤية الله سبحانه في الآخرة ، ومن وصف الله سبحانه بما وصف به نفسه ، ووصف به رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو عندهم كافر ، إلى غير ذلك من أقوالهم وأفعالهم التي هي غاية الكفر ، حتّى أنّ أهل العلم سمّوهم الفرعونيّة ، تشبيهاً لهم بفرعون ، حيث أنكر الله سبحانه .
ومع ذا ، فردّ عليهم الأئمّة ، وبيّنوا بدعتهم ، وضلالهم ، وبدّعوهم ، وفسّقوهم ، وجعلوهم أكفر ممّن قبلهم من أهل البدع ، وأقلّ تشبّثاً بالشرعيّات ، وقالوا عنهم : إنهم قدّموا عقولهم على الشرعيّات ، وأمر أهل العلم بقتل بعض دعاتهم ، كالجعد ابن درهم ، وجَهْم بن صفوان .
وبعد أن قُتلوا غسّلوهم ، وصلّوا عليهم ، ودفنوهم مع المسلمين ـ كما ذكر ذلك
الشيخ تقيّ الدين ـ ولم يجروا عليهم أحكام أهل الردّة ـ .
كما أجريتم أحكام أهل الردّة على من لم يقل أو يفعل عُشْر معشار ما قالوا هؤلاء ، أو فعلوا .
بل ، والله كفّرتم من قال الحقّ الصِّرف ، حيث خالف أهواءكم .
وإنّما لم أذكر فرقة الرافضة ، لأنهم معروفون عند الخاصّ والعامّ ، وقبائحهم مشهورة .
ومن هؤلاء الفرق الذين ذكرنا تشعّبت الثنتان والسبعون فرقة ـ أهل الضلالة ـ المذكورون في السُنّة في قوله عليه الصلاة والسلام : تفترق هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة(52) .
وما سوى الثنتين والسبعين ـ وهي الثالثة والسبعون ـ هم الفرقة الناجية ، أهل السُنّة والجماعة من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى آخر الدهر ، وهي التي لا تزال قائمة على الحقّ ، رزقنا الله اتّباعهم ـ بحوله وقوّته ـ .
وكلُّ ما ذكرت من أخبار هذه الفرق ، فإنّما أخذته من كتب أهل العلم ، وأكثر ما أنقل عن ابن تيميّة ، وابن القيّم .
فصل
[مذهب السلف عدم تكفير الفرق]
وها أنا أذكر لك شيئاً ممّا ذكر أهل العلم من أنّ مذهب السلف عدم القول بتكفير هؤلاء الفِرَق الذين تقدّم ذكرهم .
قال الشيخ تقيّ الدين في (كتاب الإيمان) : لم يكفّر الإمام أحمد الخوارج ، ولا المرجئة ، ولا القَدَريّة ، وإنّما المنقول عنه وعن أمثاله تكفير الجهميّة .
مع أنّ أحمد لم يكفّر أعيان الجهميّة ولا من قال : « أنا جهميّ » كفّره ، بل ، صلّى خلف الجهميّة الذين دَعَوا إلى قولهم ، وامتحنوا الناس ، وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة ، ولم يكفّرهم أحمد وأمثاله .
بل ، كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ، ويدعو لهم ، ويرى لهم الائتمام بالصلاة خلفهم ، والحجّ والغزو معهم ، والمنع من الخروج عليهم ، بما يراه لأمثالهم من الأئمّة .
وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفرٌ عظيم ـ وإن لم يعلموا هم أنـّه كفر ـ كان ينكره ، ويجاهدهم على ردّه ـ بحسب الإمكان ـ .
فيجمع بين طاعة الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) في إظهار السُنّة والدين ، وإنكار بدع الجهميّة والملحدين ، وبين رعاية حقوق المؤمنين ، من الأئمّة والأمّة ـ وإن كانوا جُهّالا مبتدعين ، وظلمةً فاسقين ـ إنتهى كلام الشيخ .
فتأمّله تأمّلا خالياً عن الميل والحيف .
وقال الشيخ تقيّ الدين أيضاً : مَن كان في قلبه الإيمان بالرسول ، وبما جاء به ، وقد غلط في بعض ما تأوّله من البدع ـ ولو دعا إليها ـ فهذا ليس بكافر أصلاً .
والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعةً ، وقتالا للأمّة ، وتكفيراً لها ، ولم يكن في الصحابة من يكفّرهم لا عليٌّ ولا غيره ، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين ـ كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع ـ .
وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة ; مَن كان منهم منافقاً ، فهو كافر في الباطن ، ومن كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافراً في الباطن ـ وإن كان أخطأ في التأويل ـ كائناً مَن كان خطؤه .
وقد يكون في بعضهم شعبةٌ من النفاق ، ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدَّرْك الأسفل من النار .
ومن قال إنّ الثنتين والسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملّة فقد خالف الكتاب ، والسُنّة ، وإجماع الصحابة ، بل إجماع الأئمّة الأربعة ، وغير الأربعة .
فليس فيهم من كفّر كلَّ واحد من الثنتين والسبعين فرقة ، إنتهى كلامه .
فتأمّله وتأمّل حكاية الإجماع من الصحابة وغيرهم من أهل السُنّة ، مع ما تقدّم لك ممّا في مذاهبهم من الكفر العظيم ، لعلّك تنتبه من هذه الهُوّة التي وقعتَ فيها أنت وأصحابك .
وقال ابن القيّم في طُرُق أهل البدع الموافقين على أصل الإسلام ، ولكنّهم مختلفون في بعض الأصول ، كالخوارج ، والمعتزلة ، والقَدَريّة ، والرافضة ، والجهميّة ، وغُلاة المرجئة ، فهؤلاء أقسام :
أحدها : الجاهل المقلِّد الذي لا بصيرة له ، فهذا لا يكفّر ، ولا يفسَّق ، ولا تردّ شهادته ، إذا لم يكن قادراً على تعلّم الهدى ، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان .
القسم الثاني : متمكّن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحقّ ، ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ، ورئاسته ، ولذّاته ، ومعاشه ، فهذا مفرِّط مستحقّ للوعيد ، آثم بترك ما أُوجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته .
فهذا إن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السُنّة والهدى رُدّت شهادته ، وإن غلب ما فيه من السُنّة والهُدى على ما فيه من البدعة والهوى قُبلت شهادته .
الثالث : أن يسأل ويطلب ويتبيّن له الهدى ، ويترك تعصّباً أو معاداةً لأصحابه ، فهذا أقلّ درجاته أن يكون فاسقاً ، وتكفيره محلّ اجتهاد(53) ، إنتهى كلامه .
فانظره وتأمّله ، فقد ذكر هذا التفصيل في غالب كتبه ، وذكر أن الأئمّة وأهل السُنّة لا يكفّرونهم .
هذا مع ما وصفهم به من الشرك الأكبر ، والكفر الأكبر ، وبيّن في غالب كتبه مخازيهم ، ولنذكر من كلامه طرفاً ، تصديقاً لما ذكرناه عنه .
وقال رحمه الله تعالى في (المدارج)(54) : المثبتون للصانع نوعان :
أحدهما : أهل الإشراك به في ربوبيّته وإلهيّته ، كالمجوس ومن ضاهاهم من القَدَريّة ، فإنّهم يثبتون مع الله إلهاً آخر .
والقَدَريّة المجوسيّة تثبت مع الله خالقين للأفعال ، ليست أفعالهم مخلوقةً لله ، ولا مقدورةً له ، وهي صادرةٌ بغير مشيئته تعالى وقدرته ، ولا قدرة له عليها ، بل هم الذين جعلوا أنفسهم فاعلين ، مريدين ، شيّائين .
وحقيقة قول هؤلاء : أنّ الله ليس ربّاً خالقاً لأفعال الحيوان ، إنتهى كلامه .
وقد ذكرهم بهذا الشرك في سائر كتبه ، وشبّههم بالمجوس الذين يقولون : إنّ للعالَم خالقَيْن .
وانظر لمّا تكلّم على التكفير هو وشيخه ، كيف حَكَوا عدم تكفيرهم عن جميع أهل السُنّة ، حتّى مع معرفة الحقّ والمعاندة ، قال : كُفْرُه محلّ اجتهاد! ـ كما تقدم كلامه قريباً ـ .
وأيضاً الجهميّة ، ذكرهم بأقبح الأوصاف ، وذكر أنّ شركهم شرك فرعون ، وأنـّهم مُعَطِّلة ، وأنّ المشركين أقلّ شركاً منهم ، وضرب لهم مَثَلا في (النونيّة) وغيرها من كتبه ، كالصواعق وغيرها .
وكذلك المعتزلة ، كيف وصفهم بأكبر القبائح ، وأقسم أنّ قولهم وأحزابهم من أهل البدع لا تُبقي من الإيمان حبّة خَرْدَل ، فلمّا تكلّم على تكفيرهم في (النونيّة) لم يكفّرهم ، بل فصّل في موضع منها ، كما فصّل في الطرق ـ كما مرّ ـ .
وموضع آخر فيه عن أهل السُنّة ـ مخاطبةً لهؤلاء المبتدعة الذين أقسم أنّ قولهم لا يُبقي من الإيمان حبّة خَرْدَل ـ يقال : واشهدوا علينا بأنّا لا نكفّركم بما معكم من الكفران ، إذ أنتم ـ أهل الجهالة ـ عندنا لستم أولي كفر ولا إيمان .
ويأتي إن شاء الله تعالى لهذا مزيدٌ من كلام الشيخ تقيّ الدين ، وحكاية إجماع السلف ، وأنّ التكفير هو قول أهل البدع من الخوارج ، والمعتزلة ، والرافضة!!
وقال أبو العبّاس بن تيميّة(رحمه الله) ـ في كلام له ـ في (الفرقان) : ودخل أهل الكلام المنتسبين إلى الإسلام من المعتزلة ونحوهم في بعض مقالة الصابئة ، والمشركين ممّن لم يهتدِ بهدْي الله الذي أرسل به رسله من أهل الكلام والجدل ، صاروا يريدون أن يأخذوا مأخذهم ـ كما أخبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله : لتأخذنّ مأخذ من كان قبلكم ـ الحديث الصحيح .
إلى أنْ قال : إنّ هؤلاء المتكلّمين أكثر حقّاً ، وأتبع للأدلّة ، لِما تنوّرت به قلوبهم من نور القرآن والإسلام ، وإن كانوا قد ضلّوا في كثير ممّا جاء به الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فوافقوا أولئك على أنّ الله لا يتكلّم ولا تكلّم ، كما وافقوهم على أنـّه لا علم له ، ولا قدرة ، ولا صفةً من الصفات .
إلى أن قال : فلمّا رأو أنّ الرسل متفقةٌ على أنّ الله متكلّم ، والقرآن من أثبات قوله وكلامه ، صاروا تارةً يقولون : ليس بمتكلّم حقيقةً ، بل مجازاً .
وهذا قولهم الأوّل لمّا كانوا في بدعتهم وكفرهم على الفطرة قبل أن يدخلوا في العناد والجحود .
إلى أن قال : وهذا قول من يقول : القرآن مخلوق .