فصل
[أهل الردّة]وأمّا قتال الصدّيق والصحابة رضي الله عنهم أهل الردّة :فاعلم أنـّه لمّا توفّي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لم يبق على الإسلام إلاّ أهل المدينة ، وأهل مكّة ، والطائف ، وجُواثا ـ قرية من قرى البحرين ـ .وأخبار الردّة طويلة تحتمل مجلّداً ، ولكن نذكر بعضاً من ذلك من كلام أهل العلم ، ليتبيّن لكم ما أنتم عليه ، وأنّ استدلالكم بقصّة أهل الردّة كاستدلالكم الأوّل .قال الإمام أبو سليمان الخطّابي(رحمه الله) : ممّا يجب أن يُعلم أنّ أهل الردّة كانوا أصنافاً :صنفٌ ارتدّوا عن الإسلام ، ونبذوا الملّة ، وعادوا إلى الكفر الذي كانوا عليه من عبادة الأوثان .وصنفٌ ارتدّوا عن الإسلام ، وتابعوا مُسَيْلَمَة ـ وهم بنو حنيفة وقبائل غيرهم ـ صدّقوا مسيلمة ، ووافقوه على دعواه النبوّة .وصنف ارتدّوا ووافقوا الأسود العنسيّ وما ادّعاه من النبوّة باليمن .وصنفٌ صدّقوا طُليحة الأسديّ وما ادّعاه من النبوّة ، وهم غطفان وفَزَارة ومَن والاهم .وصنفٌ صدّقوا سَجاح .فهؤلاء مرتدّون ، منكرون لنبوّة نبيّنا(صلى الله عليه وآله وسلم) ، تاركون للزكاة ، والصلاة ، وسائر شرائع الإسلام ، ولم يبق مَن يسجد لله في بسيط الأرض ، إلاّ مسجد المدينة ، ومكّة ، وجواثا ـ قرية في البحرين ـ .وصنفٌ آخر ، وهم الذين فرّقوا بين الصلاة والزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام .وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي ، وإنّما لم يدعَوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصاً لدخولهم في غِمار أهل الردّة ، فأضيف الاسم إلى الردّة ، إذ كانت أعظم الأمرين وأهمّهما .وأرّخ قتال أهل البغي من زمن عليّ بن أبي طالب(رضي الله عنه) ، إذ كانوا منفردين في زمانه ، لم يختلطوا بأهل الشرك .وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ، ووقعت الشبهة لعمر(رضي الله عنه) حين راجع أبا بكر وناظره ، واحتجّ بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم)(48) : أُمرت أن أُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله ، فمن قال لا إله إلاّ الله عصم ماله ونفسَه ـ .إلى أن قال(رحمه الله) ـ : وقد بيّنّا أنّ أهل الردّة كانوا أصنافاً .منهم من ارتدّ عن الملّة ، ودعا إلى نبوّة مسيلمة وغيره .ومنهم من أنكر الشرائع كلّها .وهؤلاء الذين سمّـاهم الصحابة رضي الله عنهم كفّاراً ، وكذلك رأى أبو بكر سبي ذراريهم ، وساعده على ذلك أكثر الصحابة .ثم لم ينقض عصر الصحابة حتّى أجمعوا أنّ المرتدّ لا يُسبى .فأمّا مانع الزكاة منهم ، المقيمون على أصل الدين :فإنّهم أهل بغي ، ولم يسمّوا أهل شرك ، أو فهُم كفّار ـ وإن كانت الردّة أضيفت إليهم ـ لمشاركتهم للمرتدّين في بعض ما منعوه من حقّ الدِّين .وذلك أنّ الردّة اسم لغويّ ، وكلّ من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتدّ عنه .وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ، ومنع الحقّ ، وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح ، وعلق عليهم الاسم القبيح ، لمشاركتهم القوم الذين كانوا ارتدوا حقاً .ـ إلى أن قال ـ :فإن قيل : وهل ، إذا أنكر طائفة في زماننا فرض الزكاة ، وامتنعوا من أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغي؟قلنا : لا ، فإنّ من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين على وجوب الزكاة ، فقد عرفها الخاصّ والعامّ ، واشترك فيها العالم والجاهل ، فلا يُعذر منكره .وكذلك الأمر في كلّ من أنكر شيئاً ممّا اجتمعت عليه الأمّة من أمور الدين ـ إذا كان عِلْمه منتشراً ـ كالصلوات الخمس ، وصوم شهر رمضان ، والاغتسال من الجنابة ، وتحريم الربا والخمر ونكاح المحارم ، ونحوها من الأحكام ، إلاّ أنْ يكون رجلا حديث عهد بالإسلام ، ولا يعرف حدوده ، فإنّه إنْ أنكر شيئاً منها جاهلا به لم يكفر ، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء الاسم عليه .فأمّا ماكان الإجماع معلوماً فيه من طريق علم الخاصّة ، كتحريم نكاح المرأة على عمّتها وخالتها ، وأنّ القاتل عمداً لا يرث ، وأنّ للجدّ السدس ، وما أشبه ذلك من الأحكام ، فإنّ من أنكرها لا يكفر ، بل يُعذر فيها ، لعدم استفاضة علمها في العامّة ، إنتهى كلام الخطّابي .وقال صاحب (المفهم) : قال أبو إسحاق : لـمّا قُبض رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ارتدّت العرب ، إلاّ أهل ثلاثة مساجد : مسجد المدينة : ومسجد مكّة : ومسجد جواثا ، إنتهى .فهذا شيءٌ ممّا ذكره بعض أهل العلم في أخبار الردّة ، وتفاصيلها يطول .ولكن قد تقدّم أنّ مِثْلَكم أو من هو أجلّ منكم لا يجوز له الاستنباط ، ولا القياس ، ولا يجوز لأحد أن يقلّده ، بل يجب على من لم يبلغ رتبة المجتهدين أن يقلّدهم ، وذلك بالإجماع .ولكن ليكن عندكم معلوماً أنّ من خرج عن طاعة أبي بكر الصدّيق في زمانه فقد خرج عن الإجماع القطعيّ ، لأنّه ومن معه هم أهل العلم ، وأهل الإسلام ، وهم المهاجرون والانصار الذين اثنى الله عليهم في كتابه ، وإمامة أبي بكر إمامة حقّ ، جميع شروط الإمامة مجتمعة فيه!؟فإن كان اليوم فيكم مثل أبي بكر والمهاجرين والانصار ، والأمّة مجتمعة على إمامة واحد منكم ، فقيسوا أنفسكم بهم .وإلاّ ، فبالله عليكم! استحيوا من الله ، ومن خلقه ، واعرفوا قدر أنفسكم ، فرحم الله من عرف قدر نفسه ، وأنزلها منزلتها ، وكفّ شرّه عن المسلمين ، واتّبع سبيل المؤمنين .قال الله تعالى { ومن يتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونُصْلِهِ جهنم وساءت مصيراً }(49) .فصل
فصل
لما تقدم الكلام على الخوارج ـ وذكْر مذهب الصحابة وأهل السُنّة فيهم ، وأنـّهم لم يكفّروهم كفراً يخرج من الإسلام ، مع ما فيهم ـ بأنـّهم كلاب أهل النار ، وأنـّهم يمرقون من الإسلام ، ومع هذا كلّه لم يكفّرهم الصحابة ، لأنّهم منتسبون إلى الإسلام الظاهر ـ وإن كانوا مخلّين بكثير منه لنوع تأويل ـ .وأنتم اليوم تكفّرون من ليس فيه خصلةٌ واحدةٌ ممّا في أولئك .بل الذين تكفّرونهم اليوم وتستحلّون دماءهم وأموالهم عقائدهم عقائد أهل السُنّة والجماعة ـ الفرقة الناجية ، جعلنا الله منهم ـ .
فصل
[القدرية ومذاهبهم]ثم خرجت بدعة القَدَريّة ، وذلك في آخر زمن الصحابة ، وذلك أنّ القَدَرية فرقتان :فرقة أنكرت القَدَر رأساً ، وقالوا : إنّ الله لم يقدّر المعاصي على أهلها ، ولا هو يقدّر ذلك ، ولا يهدي الضالّ ، ولا هو يقدر على ذلك .والمسلم عندهم هو الذي جعل نفسه مسلماً ، وهو الذي جعل نفسه مصلّياً ، وكذلك سائر الطاعات والمعاصي ، بل العبد هو الذي خلقها بنفسه ، وجعلوا العبد خالقاً مع الله ، والله سبحانه ـ عندهم ـ لا يقدر أن يهدي أحداً ، ولا يقدر [ أن ]يضلّ أحداً .إلى غير ذلك من أقوالهم الكفريّة ، تعالى الله عمّـا يقول أشباه المجوس علوّاً كبيراً .الفرقة الثانية من القَدَريّة : مَن قابَل هؤلاء ، وزعم أنّ الله جبر الخلق على ما عملوا ، وأنّ الكفر والمعاصي في الخلق كالبياض والسواد في خَلْق الآدميّ ، ما للمخلوق في ذلك صُنْعٌ ، بل جميع المعاصي عندهم تضاف لله ، وإمامهم في ذلك إبليس حيث قال : {فبما أغويتني}(50) وكذلك المشركون الذين قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا }(51) .إلى غير ذلك من قبائحهم وكفريّاتهم التي ذكرها عنهم أهل العلم في كتبهم ، كالشيخ تقيّ الدين وابن القيّم .ومع هذا الكفر العظيم والضلالة ، خرج أوائل هؤلاء في زمن الصحابة رضي الله عنهم كابن عمر ، وابن عبّاس ، وأجلاّء التابعين ، وقاموا في وجوه هؤلاء ، وبيّنوا ضلالهم من الكتاب والسُنّة ، وتبرّأ منهم مَن عندهم من الصحابة رضي الله عنهم ، وكذلك التابعون ، وصاحوا بهم من كلّ فجّ .ومع هذا الكفر العظيم الهائل لم يكفّرهم الصحابة ، ولا مَن بعدهم من أئمّة أهل الإسلام ، ولا أوجبوا قتلهم ، ولا أجرَوا عليهم أحكام أهل الردّة ، ولا قالوا : قد كفرتم حيث خالفتمونا ، لأنّا لا نتكلّم إلاّ بالحقّ ، وقد قامت عليكم الحجّة ببياننا لكم :كما قلتم أنتم هذا ؟!ومِن الرادّ عليهم ، والمبيّن ضلالَهم ، الصحابةُ والتابعونَ الذين لا يقولون إلاّ حقّاً .