فصل
[الحدود تدرء بالشبُهات]وممّا يدلّ على عدم صوابكم في تكفير من كفّرتموه ، وأنّ الدعاء والنذر ليسا بكفر ينقل عن الملّة .وذلك أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر في الحديث الصحيح(87) أن تُدْرءَ الحدودُ بالشبهات .وقد روى(88) الحاكم في صحيحه ، وأبو عوانة ، والبزّار ـ بسند صحيح ـ وابن السُنّي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إذا انفلتت دابّة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا ، ياعباد الله احبسوا ، ياعباد الله احبسوا ـ ثلاثاً ـ فإنّ لله حاضراً سيحبسه .وقد روى الطبرانيّ(89) : إن أراد عوناً فليقل : ياعباد الله أغيثوني .ذكر هذا الحديث الأئمّة في كتبهم ، ونقلوه ـ إشاعةً وحفظاً للأمّة ـ ولم ينكروه .منهم النوويّ في (الأذكار) وابن القيّم في كتابه (الكلم الطيّب) وابن مفلح في (الآداب) .قال في (الآداب) ـ بعد أن ذكر هذا الأثر ـ :قال عبدالله بن الإمام أحمد : سمعت أبي يقول : حججت خمس حجج ، فضللت الطريق في حجّة ـ وكنتُ ماشياً ـ فجعلتُ أقول : ياعباد الله دلّونا على الطريق ، فلم أزل أقول ذلك حتّى وقعتُ على الطريق ، إنتهى .أقول : حيث كفّرتم من سأل غائباً ، أو ميتاً ، بل زعمتم أنّ المشركين الكفّار الذين كذّبوا الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) أخفّ شركاً ممّن سأل غير الله في بَرّ أو بحر .واستدللتم على ذلك بمفهومكم الذي لا يجوز لكم ولا لغيركم الاعتماد عليه .هل جعلتم هذا الحديث وعَمَلَ العلماء بمضمونه ، شبهةً لمن فعل شيئاً ممّا تزعمون أنـّه شركٌ أكبر؟فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .قال في (مختصر الروضة) : الصحيح أنّ من كان من أهل الشهادتين ، فإنّه لا يكفر ببدعة على الإطلاق ، ما استند فيها إلى تأويل يلتبس به الأمر على مثله ، وهو الذي رجّحه شيخنا أبو العبّاس ابن تيميّة ، إنتهى .أتظنّ دعاء الغائب كفراً بالضرورة ، ولم يعرفه أئـمّة الإسلام ؟أتظنّ أنّ على تقدير أنّ قولكم صوابٌ ، تقوم الحجّة على الناس بكلامكم ؟ونحن نذكر كلام الشيخ تقيّ الدين الذي استدللتم بعبارته على تكفير المسلمين بالدعاء والنذر ، وإلاّ ففي ما تقدّم كفاية ، ولكنّ زيادته فائدة .قال الشيخ رحمه الله تعالى في (اقتضاء الصراط المستقيم)(90) :من قصد بقعةً يرجو الخير بقصدها ، ولم تستحبّه الشريعة ، فهو من المنكرات ، وبعضه أشد من بعض ، سواء كان شجرةً ، أو عيناً ، أو قناةً ، أو جبلا ، أو مغارة ، وأقبح أن ينذر لتلك البقعة ، ويقال : إنّها تقبل النذر ـ كما يقوله بعض الضالّين ـ فإنّ هذا النذر نذرُ معصية باتّفاق العلماء ، لا يجوز الوفاء به .ثمّ ذكر رحمه الله تعالى(91) ـ في مواضع كثيرة ـ موجودٌ في أكثر البلاد في الحجاز منها مواضع كثيرة .وقال في مواضع أُخَر من الكتاب المذكور(92) : والسائلون قد يدعون دعاءً محرّماً يحصل منه ذلك الغرض ، ويحصل لهم ضررٌ أعظم منه .ثمّ ذكر أنـّه تكون له حسناتٌ تربو على ذلك ، فيعفو الله بها عنه .قال(93) : وحُكي لنا أنّ بعض المجاورين بالمدينة إلى قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) اشتهى عليه نوعاً من الأطعمة ، فجاء بعض الهاشميّين إليه فقال : إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بعث لك هذا ، وقال : اخرج من عندنا ، فإنّ من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا .قال الشيخ(94) : وآخرون قُضيت حوائجهم ولم يقل لهم مثل ذلك ، لاجتهادهم ، أو تقليدهم ، أو قصورهم في العلم ، فإنّه يغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره ، ولهذا عامّة ما يُحكى في هذا الباب إنّما هو عن قاصري المعرفة ، ولو كان هذا شرعاً أو ديناً لكان أهل المعرفة أولى به .فَفَرْقٌ بين العفو عن الفاعل والمغفرة له ، وبين إباحة فعله .وقد علمتُ جماعةً ممّن سأل حاجته لبعض المقبورين من الأنبياء والصالحين ، فقُضيت حاجته .وهؤلاء يخرج ممّا ذكرته ، وليس ذلك بشرع فيُتّبع .وإنّما يثبت استحباب الأفعال واتخاذها ديناً بكتاب الله وسُنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وما كان عليه السابقون الأوّلون .وما سوى هذا من الأمور المحدثة فلا تستحبّ ، وإن اشتملت أحياناً على فوائد(95) .وقال أيضاً(96) : صارت النذور المحرّمة في الشرع مأكل السدنة ، والمجاورين العاكفين على بعض المشاهد وغيرها ، وأولئك الناذرون يقول أحدهم : مرضت فنذرت ، ويقول الآخر : خرج عليّ المحاربون فنذرت ، ويقول الآخر : ركبت البحر فنذرت ، ويقول الآخر : حُبسْت فنذرت .وقد قام في نفوسهم من هذه النذور [أنّها[ هي السبب في حصول مطلوبهم ، ودفع مرهوبهم .وقد أخبر الصادق المصدوق(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّ نذر طاعة الله ـ فضلا عن معصيته ـ ليس سبباً للخير .بل تجد كثيراً من الناس يقول : إنّ المشهد الفلانيّ ، والمكان الفلانيّ يقبل النذر ، بمعنى أنـّهم نذروا له نذوراً ـ إن قضيت حاجتهم ـ فقضيت(97) .إلى أن قال(98) : وما يُروى أنّ رجلا جاء إلى قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)فشكى إليه الجَدْب عام الرمادة ، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس .قال : مثل هذا يقع كثيراً لمن هو دون النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وأعرف من هذا وقائع.وكذلك سؤال بعضهم للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو غيره من أمّته حاجته ، فتُقضى له .فإنّ هذا وقع كثيراً .ولكن عليك أن تعلم أنّ إجابة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)أو غيره لهؤلاء السائلين لا يدلّ على استحباب السؤال .وأكثر هؤلاء السائلين الملحّين ـ لمِا هم فيه من الحال ـ لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم ، كما أنّ السائلين له في الحياة كانوا كذلك(99) .وقال(رحمه الله) أيضاً(100) : حتّى أنّ بعض القبور يجتمع عندها في اليوم من السنة ، ويُسافَر إليها من الأمصار في المحرّم ، أو في صفر ، أو عاشوراء ، أو غير ذلك ، تُقصد ويجتمع عندها فيه ، كما تقصد عرفة ومزدلفة في أيام معلومة من السنة ، وربّما كانالاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أشدّ منكراً ، حتّى أنّ بعضهم يقول : نريد الحجّ إلى قبر فلان وفلان .وبالجملة : هذا الذي يُفعل عند هذه القبور هو بعينه نهى عنه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذا هو الذي أنكره أحمد بن حنبل(رحمه الله) ، وقال(101) : قد أفرط الناس في هذا جدّاً وأكثروا ، وذكر الإمام أحمد ما يُفعل عند قبر الحسين(رضي الله عنه) .قال الشيخ(102) : ويدخل في هذا ما يُفعل بمصر عند قبر نفيسة وغيرها ، وما يُفعل بالعراق عند القبر الذي يقال إنّه قبر عليّ وقبر الحسين ، إلى قبور كثيرة في بلاد الإسلام لا يمكن حصرها ، إنتهى كلام الشيخ .[عبارة ابن تيميّة ومدلولها]فيا عباد الله ، تأمّلوا : كم في كلام الشيخ هذا من موضع يردّ مفهومكم من العبارة التي تستدلّون بها من كلامه؟ ويردّ تكفيركم للمسلمين؟ونحن نذكر بعض ما في ذلك تتميماً للفائدة :منها قوله ـ في قصد البقعة ، والنذر في العيون والشجر والمغارات وما ذكره ـ : إنّه من المنكرات ، ولم يجب الوفاء به .ولم يقل : إنّ فاعل ذلك كافر ، مرتدّ ، حلال المال والدم ـ كما قلتم ـ .