فصل
[نجاة الأمّة حسب نصوص الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)]وممّا يدلّ على بطلان قولكم هذا .ما روى مسلم في صحيحه(103) عن ثوبان ، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أنـّه قال : إنّ الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإنّ أمتّي سيبلغ مُلكها ما زُوي لي منها ، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، وإنّي سألت ربّي لأمّتي أن لا يُهلكها بسنة عامّة ، وأن لا يسلّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم ، يستبيح بيضتهم ، وإنّ ربّي قال : يا محمّد ، إذا قضيت قضاءاً إنّه لا يردّ ، إنّي أعطيتُك لأمّتك أن لا أُهلكهم بسنة عامّة ، وأن لا أسلّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم ، يستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من أقطارها ـ أو قال : من بين أقطارها ـ حتّى يكون بعضهم يُهلك بعضاً ، ويَسبي بعضُهم بعضاً ، إنتهى .وجه الدليل من هذا الحديث : أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر أنـّه لا يسلّط على هذه الأمّة عدوّاً من سوى أنفسهم ، بل يسلّط بعضهم على بعض .ومعلومٌ عند الخاصّ والعامّ ـ ممّن له معرفة بالأخبار ـ أنّ هذه الأمور التي تكفّرون بها مَلأت بلاد المسلمين من أكثر من سبعمائة عام ـ كما تقدّم ـ ولو كانت هذه عبادة الأصنام الكبرى ، وأنـّها الوسائط ـ كما زعمتم ـ لكان أهلها ، كفّاراً ومن لم يكفّرهم فهو كافر ـ كما قلتم أنتم الآن ـ .ومعلومٌ أنّ العلماء والأمراء لم يكفّروهم ، ولم يجروا عليهم أحكام الردّة ، مع أنّ هذه الأمور تُفعل في غالب بلاد الإسلام ، ظاهرة غير خفيّة .بل ـ كما قال الشيخ ـ : صارت مأكلا لكثير من الناس ، وأيضاً يسافرون إليها من جميع الأمصار أعظم ممّـا يسافرون إلى الحجّ .ومع هذا كلّه ، فأخبرونا برجل واحد من أهل العلم ، أو أهل السيف قال مقالتكم هذه!؟بل ، أجروا عليهم أحكام أهل الإسلام .فإذا كانوا كفّاراً ، عُبّاد أصنام بهذه الأفاعيل ، والعلماء والأمراء أجروا عليهم أحكام الإسلام فهم بهذا الصنيع ـ أي العلماء والأمراء ـ كفّار ـ لأنّ من لم يكفّر أهل الشرك الذين يجعلون مع الله الهاً آخر فهو كافر ـ فحينئذ ليسوا من هذه الأمّة ، بل كفّار سلّطهم الله على هذه الامّة ، فاستباحوا بيضتهم .وهذا يردّ هذا الحديث ، وهو ظاهرٌ من الحديث لمن تدبّره .والله الموفق لا ربّ غيره .فإن قلت : روى هذا الحديث بعينه البرقاني(104) ، وزاد فيه : إنّما أخاف على أمّتي الأئمّة المضلّين ، وإذا وضع عليهم السيف لم يُرفع إلى يوم القيامة ، ولا تقوم الساعة حتّى يلحق حيٌّ من أمّتي بالمشركين ، وحتّى تعبد فئامٌ من أمّتي الأوثان ، وأنـّه يكون في أمّتي كذّابون ثلاثون ، كلّهم يزعم أنـّه نبيٌّ ، وأنا خاتم النبيّين لا نبيَّ بعدي ، ولا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ منصورة ، لا يضرّهم من خذلهم حتّى يأتي أمر الله تعالى .قلت : وهذا أيضاً حُجّة عليكم ، يُوافق الكلام الأوّل أنّ قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّما أخاف على أمّتي الأئمّة المضلّين .فهذا يدلّ على أنـّه ما خاف عليهم الكفر والشرك الأكبر ، وإنّما يخاف عليهم الأئـمّة المضلّين ـ كما وقع ، وما هو الواقع ـ .ولو كانوا يكفرون بعده لودّ أن يسلّط عليهم من يهلكهم .وممّا خاف عليهم أيضاً : وضْع السيف ، وأخبر أنـّه إذا وضع لا يرفع ـ وكذلك وقع ـ .وهذا من آيات نبوّته(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإنـّه وقع كما أخبر .وقوله : لا تقوم الساعة حتّى يلحق حيٌّ من أمّتي بالمشركين ، وهذا أيضاً وقع .وقوله : وحتّى تَعبد فئام من أمّتي الأوثان ، فهذا حقّ .وقوله : لا تزال طائفةٌ من أمّتي على الحقّ منصورة . . . إلى آخره ، يدلّ على أنّ هذه الأمور التي ملأت بلاد الإسلام ليست بعبادة الأوثان .فلو كانت هذه الأمور عبادة الأصنام لقاتلتهم الطائفة المنصورة ، ولم يعهد ولم يذكر أنّ أحداً من هذه الأمّة قاتل على ذلك ، وكفّر من فعله ، واستحلّ ماله ودمه ، قبلكم!فإن وجدتم ذلك في قديم الدهر أو حديثه ، فبيّنوه ، وأنّى لكم بذلك!وهذا الذي ذكرناه واضح من أوّل الحديث وآخره ، والحمد لله ربّ العالمين .فصل
فصل
وممّا يدلّ على بطلان مذهبكم في تكفير من كفّرتموه :ما روى البخاريّ(105) في صحيحه عن معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه ، قال : سمعت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول : مَن يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين ، وإنّما أنا قاسمٌوالله معطي ، ولا يزال أمر هذه الأمّة مستقيماً حتّى تقوم الساعة ، أو يأتي أمرالله تعالى ، إنتهى .وجه الدليل منه : أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر أنّ أمر هذه الأمّة لا يزال مستقيماً إلى آخر الدهر .ومعلومٌ أنّ هذه الأمور التي تكفّرون بها مازالت ـ قديماً ـ ظاهرةً ، ملأت البلاد ـ كما تقدّم ـ .فلو كانت هي الأصنام الكبرى ، ومن فعل شيئاً من تلك الأفاعيل عابداً للأوثان ، لم يكن أمر هذه الأمّة مستقيماً ، بل منعكساً ، بلدهم بلد كفر ، تُعبد فيها الأصنام ظاهراً ، وتجري على عَبَدة الأصنام فيها أحكام الإسلام .فأين الاستقامة؟ وهذا واضح جليٌّ .فإن قلت : ورد عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في الأحاديث الصحيحة ما يعارض هذا .وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم)(106) : لتتّبعن سنن من كان من قبلكم ، وما في معناه .وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم)(107) : تفترق هذه الأمّة على ثلاث وسبعين ملّة ، كلّها في النار ، إلاّ ملّة واحدة .قلت : هذا حقٌّ ، ولا تعارض ـ والحمد لله ـ وقد بيّن العلماء ذلك ووضّحوه .وأنّ قوله تفترق هذه الأمّة ـ الحديث .فهؤلاء أهل الأهواء ـ كما تقدم ذِكرهم ـ ولم يكونوا كافرين .بل ، كلّهم مسلمون إلاّ من أسرّ تكذيب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو منافق ـ كما تقدّم في كلام الشيخ من حكاية مذهب أهل السُنّة في ذلك ـ .وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : كلّها في النار إلاّ واحدة .فهو وعدٌ ، مثل وعيد أهل الكبائر ، مثل قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وآكل الربا وغير ذلك .وأمّا الفرقة الناجية فهي السالمة من جميع البدع ، المتّبعة لهدْي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما بيّنه أهل العلم ـ وهذا إجماع من أهل العلم ـ كما تقدّم لك ـ .وأمّا قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : لتتّبعن سنن من كان قبلكم ـ الحديث .قال الشيخ(رحمه الله) : ليس هذا إخبارٌ عن جميع الأمّة ، فقد تواتر عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) : أنـّه لا تزال من أمّته طائفة على الحقّ حتّى تقوم الساعة ، وأخبر أنـّه لا تجتمع على ضلالة ، وأنـّه لا يزال يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم بطاعته .