فصل
[حقيقة الشرك وأسبابه]ولنذكر شيئاً ممّا ذكره بعض أهل العلم في صفة مذهب المشركين الذين كذّبوا الرُسُل صلوات الله وسلامه عليهم.قال ابن القيّم: كان الناس على الهُدى ودين الحقّ ، فكان أوّل من كادهم الشيطان بعبادة الأصنام ، وإنكار البعث .وكان أوّل من كادَهم من جهة العكوف على القبور وتصوير أهلها ، كما قصّه الله عنهم في كتابه بقوله: {لا تَذَرُنَّ آلهتكم ولا تذَرُنّ وَدّاً ولا سُوَاعاً ولا يَغُوثَ ويَعُوق ونَسْراً}(145).قال ابن عبّاس: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلمّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم ـ التي كانوا عليها يجلسون ـ أنصاباً ، وسمّوها بأسمائهم .ففعلوا ، فلم تعبد حتّى [إذا ]هلك أولئك ، ونُسخ العلم عُبِدَت ، إنتهى.فأرسل الله لهم نوحاً بعبادة الله وحده ، فكذّبوه .واستخرج أصنام قوم نوح من شاطيء البحر ، ودعا العربَ إلى عبادتها ، ففعلوا.ثم إنّ العرب ـ بعد ذلك بمدّة ـ عبدوا ما استحسنوا ، ونسوا ما كانوا عليه ، واستبدلوا بدين إبراهيم عبادة الأوثان ، وبقي فيهم من دين إبراهيم تعظيم البيت ، والحجّ ، وكانت نزار تقول في تلبيتها: لبيّك لا شريك لك ، إلاّ شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك.إلى أن قال: وكان لأهل كلّ واد صنم يعبدونه .ثم بعث الله محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)بالتوحيد ، قالت قريش: {أجَعَل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيءٌ عُجاب}(146).وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار ، فنظر أحسنها فاتّخذه ربّاً ، وجعل الثلاثة أثافي لقِدْره ، فإذا ارتحل تركه ، فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك.وروى حنبل عن رجاء العطارديّ ، قال: كُنّا نعبد الحجر في الجاهليّة ، فإذا وجدنا حجراً هو أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه ، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حفنةً من تراب ، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ، ثمّ طفنا به.وعن أبي عثمان النهديّ ، قال: ، كُنّا في الجاهلية نعبد حجراً ، فسمعنا منادياً ينادي: يا أهل الرحال ; إنّ ربّكم هلك فالتمسوا ربّاً ، فخرجنا على كل صعب وذلول ، فبينما نحن كذلك نطلب إذا نحن بمناد ينادي: إنّا قد وجدنا ربّكم ـ أو شبهه ـ فإذا حَجَرٌ ، فنحرنا عليه الجُزُر.ولمّا فتح رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مكّة وجد حول البيت ثلاثمائة وستّين صنماً ، فجعل يطعن بقوسه في وجوهها وعيونها ، ويقول: {جاء الحقّ وزَهَق الباطل}(147) وهي تتساقط على وجوهها ، ثم أمر بها فأُخرجت من المسجد وحرّقت.قال: تلاعُب الشيطان بالمشركين له أسبابٌ عديدة:فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوّروا تلك الأصنام على صورهم ـ كما تقدّم عن قوم نوح ـ .وبعضهم اتّخذوها بزعمهم على صور الكواكب المؤثّرة في العالم عندهم ، وجعلوا لها بيوتاً وسَدَنَةً ، وحُجّاباً ، وحَجّاً ، وقُرباناً.ومن عبادة الأصنام : عبادة الشمس ، زعموا أنّها مَلَكٌ من الملائكة ، لها نَفْس وعقل ، وهي أصل نور القمر والكواكب ، وتكون الموجودات السُفليّة كلّها عندهم منها ، وهي عندهم مَلَك الفَلَك ، فتستحقّ التعظيم والسجود.ومن شريعتهم في عبادتها أنّهم اتخذوا لها صنماً ، وله بيتٌ خاصّ يأتون ذلك البيت ، ويصلّون فيه لها ثلاث مرّات في اليوم ، ويأتيه أصحاب العاهات فيصلّون له ، ويصومون له ، ويرعونه ، وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلّهم لها ، وإذا غربت ، وإذا توسّطت الفلك.وطائفة أخرى اتّخذوا للقمر صنماً ، وزعموا أنّه يستحق التعظيم والعبادة ، وإليه تدبير هذا العالم السفليّ ، ويعبدونه ويصلّون له ويسجدون ، ويصومون لهأيّاماً معلومة من كلّ شهر ، ثمّ يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح .ومنهم من يعبد أصناماً اتُّخذوا على صور الكواكب ، وبَنَوا لها هياكل ومتعبّدات ، لكلّ كوكب منها هيكلٌ يخصّه ، وصنمٌ يخصّه ، وعبادةٌ تخصّه .وكلّ هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام ، لأنّهم لا تستمرّ لهم طريقة إلى شخص خاصّ على كلّ شكل ينظرون إليه ، ويعكفون عليه.إلى أن قال: ومنهم من يعبد النار حتّى اتّخذوها إلهاً معبودة ، وبَنَوا لها بيوتاً كثيرةً ، وجعلوا لها الحُجّاب والخَزَنة حتّى لا يَدَعوها تخمد لحظةً .ومن عبادتهم أنّهم يطوفون بها ، ومنهم من يلقي بنفسه فيها تقرّباً إليها ، ومنهم من يلقي ولده فيها متقرّباً إليها ، ومنهم عُبّاد زُهّاد عاكفين صائمين لها ، ولهم في عبادتها أوضاعٌ لا يخلّون بها.ومن الناس طائفة تعبد الماء ، وتزعم أنّه أصل كلّ شيء ولهم في عبادته أمور ذَكَرَها ، منها تسبيحه ، وتحميده ، والسجود له.ومن الناس طائفة عبدت الحيوان ، منهم مَن عَبَد البقر ، ومنهم من عَبَد الخيل ، ومنهم من عَبَد البشر ، ومنهم من عَبَد الشجر ، ومنهم من عَبَد الشيطان ، قال تعالى: {ألَمْ أَعْهَدْ إليكُم يا بَني آدمَ أنْ لا تَعْبُدوا الشيطانَ} . . . الآيتين(148).قال: ومنهم مَن يُقرّ أنّ للعالَم صانعاً ، فاضلا ، حكيماً ، مقدَّساً عن العيوب والنقائص ، قالوا: ولا سبيل لنا إلى الوصول إليه إلاّ بالوسائط ، فالواجب علينا أن نتقرّب بهم إليه ، فهم أربابنا ، وآلهتنا ، وشفعاؤنا عند ربّ الأرباب ، وإله الآلهة ، فما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فحينئذ نسأل حاجاتنا منهم ، ونعرض أحوالناعليهم ، ونَصْبوا في جميع أمورنا [إليهم[ ، فيشفعون إلى إلهنا وإلههم ، وذلك لا يحصل إلاّ باستمداد من جهة الروحانيّات ، وذلك بالتضرّع والابتهال من الصلوات لهم ، والزكاة ، وذبح القرابين ، والبخورات.وهؤلاء كفروا بالأَصْلَيْن الذَين جاءت بهما جميع الرسل :أحدهما: عبادة الله تصديقاً وإقراراً وانقياداً ، وهذا مذهب المشركين من سائر الأمم.قال : والقرآن والكتب الإلهيّة مصرّحة ببطلان هذا الدين وكفر أهله.قال: فإن الله سبحانه ينهى أن يُجعل غيرُه مثلا له ، ونِدّاً له وشِبْهاً ، فإنّ أهل الشرك شبّهوا ـ من يعظّمونه ويعبدونه ـ بالخالق ، وأعطوه خصائص الإلهيّة ، وصرّحوا أنّه إلهٌ ، وأنكروا جَعْل الآلهة إلهاً واحداً ، وقالوا: اصبروا على آلهتكم ، وصرّحوا بأنّه : إلهٌ معبود ، يُرجى ويُخاف ويعظّم ، ويُسجَد له ، وتُقرَّب له القرابين ، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلاّ لله تعالى .قال الله تعالى: {فلا تجعلوا لله أنداداً}(149) وقال: {ومن الناس مَن يتّخذُ من دون الله أنداداً}(150) . . . الآية.فهؤلاء جعلوا المخلوقين مِثْلا للخالق.و (الندّ) الشبه ، يقال فلانٌ نِدّ فلان ، وندنده : أي مثله وشبهه.قال أبو زيد: الآلهة التي جعلوها معه .وقال الزجّاج: أي لا تجعلوا لله أمثالا ونُظَراء .ومنه قوله عزّ وجلّ: {الحمد لله الذي خلق السمواتِ والأرضَ وجَعَل الظلُماتِ والنور ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلون}(151) أي : يعدلون به غيره ، فيجعلون له منخلقه عدْلا وشبهاً.قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: يريد يعدلوا بي مِن خلقي الأصنام والحجارة بعد أن أقرّوا بنعمتي وربوبيّتي.قال الزجّاج: اعلم أنّه خالق ما ذكره في هذه الآية ، وأنّ خالقها لا شيء مثله ، واعلم أنّ الكفّار يجعلون له عدلا ، والعَدْل: التسوية ، يقال عَدَل الشيء بالشيء إذا ساواه .قال تعالى: {هل تعلم له سَمِيّاً}(152).قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: شبهاً ومِثْلا هو ومن يساميه ، وذلك نفيٌ للمخلوق أن يكون مشابهاً للخالق ، ومماثلا له بحيث يستحقّ العبادة والتعظيم .ومن هذا قوله: {ولم يكن له كفواً أحَدٌ}(153) .وقوله: {ليس كمثلهِ شيءٌ}(154) . . . الآية .إنّما قصد به نفي أن يكون له شريكٌ أو معبودٌ يستحقّ العبادة والتعظيم ، وهذا الشبيه ـ هو الذي أُبطل نفياً ونهياً ـ هو أصل شِرك العالم ، إنتهى كلام ابن القيّم ملخّصاً.وإنّما نقلنا هذا لتعلموا صفة شرك المشركين .ولتعلموا أنّ هذه الأمور التي تكفّرون بها ،وتخرجون المسلم بها من الإسلام ليست ـ كما زعمتم ـ أنّه الشرك الأكبر ـ شرك المشركين الذين كذّبوا جميع الرسلفي الأصلَيْن ـ .وإنّما هذه الأفعال التي تكفّرون بها ـ من فروع الشرك الأصغر .ومنهم مَن لم يسمّها شركاً ، وذكرها في المحرّمات .ومنهم مَن عدّ بعضها في المكروهات ـ .كما هو مذكورٌ في مواضعه من كتب أهل العلم ، مَن طَلَبه وجدَه ـ .والله سبحانه يجنّبنا وجميع المسلمين جميع ما يغضبه ، آمين ، والحمد لله ربّ العالمين.