خطبه

السید جعفر الحسینی

نسخه متنی -صفحه : 35/ 20
نمايش فراداده

ومن خطبة له عليه السلام

ذكر فيها ملك الموت وتوفّيه الانفس

هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً ؟ أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً ؟ بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ؟! أَيَلِجُ [1602] عَلَيْهِ مِنْ بَعْض جَوَارِحِهَا ؟ أَمِ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا ؟ أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا ؟ كَيْفَ يَصِفُ إِلهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوق مِثْلِهِ !

(113)

ومن خطبة له عليه السلام في ذم الدنيا

وَأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَة [1603] ، وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَة [1604] . قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا ، وَغَرَّتْ بِزِينَتِهَا . دَارٌ هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا ، فَخَلَطَ حَلاَلَهَا بِحَرَامِهَا ، وَخَيْرَهَا بِشَرِّهَا ، وَحَيَاتَهَا بِمَوتِهَا ، وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا . لَمْ يُصْفِهَا اللهُ تَعَالَى لاَِوْلِيَائِهِ ، وَلَمْ يَضِنَّ بِهَا عَلَى أَعْدَائِهِ . خَيْرُهَا زَهِيدٌ وَشَرُّهَا عَتِيدٌ [1605] . وَجَمْعُهَا يَنْفَدُ ، وَمُلْكُهَا يُسْلَبُ ، وَعَامِرُهَا يَخْرَبُ . فَمَا خَيْرُ دَار تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءِ ، وَعُمُر يَفْنَى فِيهَا فَنَاءَ الزَّادِ ، وَمُدَّة تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّيْرِ ! اجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِكُمْ ، وَاسْأَلُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ مَا سَأَلَكُمْ .

وَأَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ آذَانَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى بِكُمْ . إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَإِنْ ضَحِكُوا ، وَيَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَإِنْ فَرِحُوا ، وَيَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنِ اغْتُبِطُوا [1606] بِمَا رُزِقُوا . قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ الاْجَالِ ، وَحَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ الامَالِ ، فَصَارَتِ الدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنْ الاْخِرَةِ ، وَالْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ الاجِلَةِ ، وَإِنَّمَا أَنْتُم ؟ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللهِ ، مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلاَّ خُبْثُ السَّرَائِرِ ، وَسُوءُ الضَّمَائِرِ . فَلاَ تَوَازَرُونَ وَلاَ تَنَاصَحُونَ ، وَلاَ تَبَاذَلُونَ وَلاَ تَوَادُّونَ . مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ )

تملكونه( وَلاَ يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الاخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ ! وَيُقْلِقُكُمُ الْيَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ ، وَقِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ [1607] مِنْهَا عَنْكُمْ !!! كَأَ نَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ ، وَكَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاق عَلَيْكُمْ !! وَمَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ ، إِلاَّ مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ . قَدْ تَصَافَيْتُمْ عَلَى رَفْضِ الاجِلِ وَحُبِّ الْعَاجِلِ ، وَصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً [1608] عَلَى لِسَانِهِ ، صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَأَحْرَزَ رِضَى سَيِّدِهِ .

ومن خطبة له عليه السلام

وفيها مواعظ للناس

الْحَمْدُ لله الوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ وَالنِّعَمَ بِالشُّكْرِ . نَحْمَدُهُ عَلَى آلاَئِهِ ، كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلاَئِهِ . وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى هذِهِ النُّفُوس الْبِطَاءِ [1609] عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ ، السِّرَاعِ [1610] إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ . وَنَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ ، وَأَحْصَاهُ كِتَابُهُ : عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِر ، وَكِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِر [1611] . وَنُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ ، وَوَقَفَ عَلَى الْمَوْعُودِ ، إِيماناً نَفَى إِخْلاَصُهُ الشِّرْكَ ، وَيَقِينُهُ الشَّكَ . وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَه ، وَأَنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ ، وَتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ . لاَيَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ ، وَلاَ يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ عَنْهُ .

أُوصِيكُمْ ، عِبَادَ اللهِ ، بِتَقْوَى اللهِ الَّتي هِيَ الزَّادُ وَبِهَا الْمَعَاذُ : زَادٌ مُبْلِغٌ وَمَعَاذٌ مُنْجِحٌ . دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاع ، وَوَعَاهَا [1612] خَيْرُ وَاع . فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا ، وَفَازَ وَاعِيهَا .

عِبَادَ اللهِ ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ حَمَتْ [1613] أَوْلِيَاءَ اللهِ مَحَارِمَهُ ، وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ ، حَتَّى أَسهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ ، وَأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ [1614] ; فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ [1615] ، وَالرِّيَّ بِالظَّمَأ ، وَاسْتَقْرَبُوا الاجَلَ ، فَبَادَرُوا الْعَمَلَ ، وَكَذَّبُوا الاَْمَلَ فَـلاَحَظُوا الاجَلَ . ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاء وَعَنَاء ، وَغِيَر وَعِبَر; فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ [1616] ، لاَ تُخْطِىءُ سِهَامُهُ ، وَلاَ تُؤْسَى [1617] جِرَاحُهُ . يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ ، وَالصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ ، وَالنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ . آكِلٌ لاَ يَشْبَعُ ، وَشَارِبٌ لاَ يَنْقَعُ [1618] . وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ مَا لاَ يَأْكُلُ وَيَبْنِي مَا لاَ يَسْكُنُ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اللهِ تَعَالَى لاَ مَالاً حَمَلَ ، وَلاَ بِنَاءً نَقَلَ ! وَمِنْ غِيَرِهَا [1619] أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً ، والْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً; لَيْسَ ذلِكَ إِلاَّ نَعِيماً زَلَّ [1620] ، وَبُؤْساً نَزَلَ . وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ المَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ )

فيقطعه (حُضُورُ أَجَلِهِ . فَـلاَ أَمَلٌ يُدْرَكُ ، وَلاَ مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ . فَسُبْحَانَ اللهِ مَا أَعَزَّ )

أغَرَّ (سُرُورَهَا ! وَأَظْمَأَ رِيَّهَا ! وَأَضْحَى فَيْئَهَا [1621] ! لاَ جَاء يُرَدُّ [1622] ، وَلاَ مَاض يَرْتَدُّ . فَسُبْحَانَ اللهِ ، مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ لِلِحَاقِهِ بِهِ ، وَأَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُ !

إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلاَّ عِقَابُهُ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ بِخَيْر مِنَ الْخَيْرِ إِلاَّ ثَوَابُهُ . وَكُلُّ شَيْء مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ ، وَكُلُّ شَيْء مِنَ الاخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ . فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ ، وَمِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ . وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَزَادَ في الاخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الاخِرَةِ وَزَادَ فِي الدُّنْيَا . فَكَمْ مِنْ مَنْقُوص رَابِح وَمَزِيد خَاسِر ! إِنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ . وَمَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ . فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ ، وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ .قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ وَأُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ; فَـلاَ يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ ، مَعَ أنّهُ واللهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ ، وَدَخِلَ الْيَقِينُ [1623] ، حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ ، وَكَأَنَّ الَّذِي قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْكُمْ . فَبَادِرُوا الْعَمَلَ ، وَخَافُوا بَغْتَةَ الاَْجَلِ ، فَإِنَّهُ لاَ يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ العُمرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ . مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ ، وَمَا فَاتَ أَمْس مِنَ العُمرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ . الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي ، وَالْيَأسُ مَعَ الْمَاضِي . فَـ (اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

[1624] .

ومن خطبة له عليه السلام

في الاستسقاء

اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ [1625] جِبَالُنَا ، وَاغْبَرَّتْ أَرْضُنَا ، وَهَامَتْ [1626] دَوَابُّنَا ، وَتَحَيَّرَتْ فِي مَرَابِضِهَا [1627] ، وَعَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى [1628] عَلَى أَوْلاَدِهَا ، وَمَلَّتِ التَّرَدُّدَ في مَرَاتِعِهَا ، وَالْحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا ! اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ الانّةِ [1629] ، وَحَنِينَ الْحَانَّةِ [1630] ! اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا وَأَنِينَهَا فِي مَوَالِجِهَا [1631] ! اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِينَ اعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ ، وَأَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْجُودِ [1632] ; فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَـئِس ، وَالْبَلاَغَ لِلْمُلْتَمِس [1633] . نَدْعُوكَ حِينَ قَنَطَ الانَامُ ، وَمُنِعَ الْغَمَامُ ، وَهَلَكَ الْسَّوَامُ [1634] أن لاّ تُؤَاخِذَنَا بَأَعْمَالِنَا ، وَلاَ تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا . وَانْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ الْمُنْبَعِقِ [1635] ، وَالرَّبِيعِ الْمُغْدِقِ [1636] ، وَالنَّبَاتِ الْمُونِقِ [1637] ، سَحّاً وَابِلاً [1638] تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ وَتَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ . اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً ، تَامَّةً عَامَّةً ، طَيِّبَةً مُبَارَكَةً ، هَنِيئَةً مَرِيعَةً [1639] ، زَاكِياً [1640] نَبْتُهَا ، ثَامِراً [1641] فَرْعُهَا ، نَاضِراً وَرَقُهَا ، تُنْعِشُ بِهَا الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ ، وَتُحْيِي بِهَا الْمَيِّتَ مِنْ بِلاَدِكَ ! اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا [1642] ، وَتَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا [1643] ، وَيُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا [1644] وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا وَتَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا ، وَتَنْدَى بِهَا أَقَاصِينَا [1645] ، وَتَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا [1646] ، مِنْ بَرَكَاتِكَ الْوَاسِعَةِ ، وَعَطَايَاكَ الْجَزِيلَةِ ، عَلَى بَرِيَّتِكَ الْمُرْمِلَةِ [1647] ، وَوَحْشِكَ الْمُهْمَلَةِ . وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً [1648] ، مِدْرَاراً هَاطِلَةً ، يُدَافِعُ الْوَدْقُ [1649] مِنْهَا الْوَدْقَ ، وَيَحْفِزُ [1650] الْقَطْرُ مِنْهَا الْقَطْرَ ، غَيْرَ خُلَّب بَرْقُهَا [1651] ، وَلاَ جَهَام عَارِضُهَا [1652] ، وَلاَ قَزَع رَبَابُهَا [1653] ، وَلاَ شَفَّان ذِهَابُهَا [1654] ، حَتَّى يُخْصِبَ لاِِمْرَاعِهَا الُْمجْدِبُونَ ، وَيَحْيَا بِبَرَكَتِهَا المُسْنِتُونَ [1655] ، فَإِنَّكَ تُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ، وَتَنْشُرُ رَحْمَتَكَ وَأَنْتَ الْوَلِيُّ الْحَميدُ .

تفسير ما في هذه الخطبة من الغريب

قال السيد الشريف الرضي2 : قوله عليه السلام : «انْصَاحَتْ جِبَالُنَا» أي تَشَقّقَتْ مِنَ المحُولِ ، يُقَالُ : انْصَاحَ الثّوْبُ إذَا انْشَقّ . وَيُقَالُ أيْضاً : انْصَاحَ النّبْتُ وَصَاحَ وَصَوّحَ إذَا جَفّ وَيَبِسَ ; كُلّهُ بمَعْنىً . وَقَوْلُهُ : «وَهَامَتْ دَوَابّنَا» أيْ عَطِشَتْ ، وَالهُيَامُ : الْعَطَشُ . وَقَوْلُهُ : «حَدَابِيرُ السّنِينَ» جمع حِدبار ، وهي الناقَة التي أنضاها السّيرُ ، فشبّه بها السنة التي فشا فِيهَا الجَدْبُ ، قَالَ ذو الرّمّةِ :

حَدَابِيـرُ مَـا تَنْفَـكُّ إلاّ مُنَاخَـةً عَلى الْخَسْفِ أوْ نَرْمِي بِهَا بَلَداً قَفْرَا

وَقَوْلُهُ «وَلاَ قَزَع رَبَابهَا» ، الْقَزَعُ : الْقِطَعُ الصّغَارُ الْمُتَفَرّقَةُ مِنَ السَّحَابِ . وَقَوْلُهُ : «وَلاَ شَفّان ذِهَابهَا» فَإنّ تَقْديرَهُ : وَلاَ ذَاتَ شَفّان ذِهَابهَا . وَالشّفّانُ : الرّيحُ البَارِدَةُ ، وَالذِّهَابُ : الامْطَارُ اللّيّنَةُ . فَحَذَفَ (ذَاتَ)

لِعِلْمِ السّامِعِ بِهِ .

ومن خطبة له عليه السلام

أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى الْحَقِّ وَشَاهِداً عَلَى الْخَلْقِ ، فَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ غَيْرَ وَان [1656] وَلاَ مُقَصِّر ، وَجَاهَدَ فِي اللّهِ أَعْدَاءَهُ غَيْرَ وَاهِن [1657] وَلاَ مُعَذِّر [1658] . إِمَامُ مَنِ اتَّقَى ، وَبَصَرُ مَنِ اهْتَدَى .

ومنها :

وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُهُ ، إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ [1659] تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ ، وَتَلْتَدِمُونَ [1660] عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلَتَرَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ لاَ حَارِسَ لَهَا وَلاَ خَالِفَ [1661] عَلَيْهَا ، وَلَهَمَّتْ [1662] كُلَّ امْرِىء مِنْكُمْ نَفْسُهُ ، لاَ يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا; وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ مَا ذُكِّرْتُمْ ، وَأَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ ، فَتَاهَ عَنْكُمْ رَأْيُكُمْ ، وَتَشَتَّتَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ . وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللهَ فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَأَلْحَقَنِي بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِي مِنْكُمْ .قَوْمٌ وَاللهِ مَيَامِينُ [1663] الرَّأْيِ ، مَرَاجِيحُ [1664] الْحِلْمِ ، مَقَاوِيلُ [1665] بِالْحَقِّ ، مَتَارِيكُ [1666] لِلْبَغْيِ . مَضَوْا قُدُماً [1667] عَلَى الطَّرِيقَةِ ، وَأَوْجَفُوا عَلَى [1668] الْمَحَجَّةِ [1669] ، فَظَفِرُوا بِالْعُقْبَى الْدَّائِمَةِ ، وَالْكَرَامَةِ الْبَارِدَةِ [1670] . أَمَا وَاللهِ ، لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ غُـلاَمُ ثَقِيف الذَّيَّالُ [1671] الْمَيَّالُ; يَأْكُلُ خَضِرَتَكُمْ ، وَيُذِيبُ شَحْمَتَكُمْ ، إِيه أَبَا وَذَحَةَ !

قال السيد الشريف الرضي2 : الْوَذَحَةُ : الخُنْفَسَاءُ . وهذا القول يومىءُ به الى الحجاج ، وله مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره .

ومن كلام له عليه السلام

يوبخ البخلاء بالمال والنفس

فَـلاَ أَمْوَالَ بَذَلتمُوهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا ، وَلاَ أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا . تَكْرُمُونَ [1672] بِالله عَلَى عِبَادِهِ ، وَلاَ تُكْرِمُونَ اللهَ فِي عِبَادِهِ ! فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِكُمْ مَنَازِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، وَانْقِطَاعِكُمْ عَنْ أَوْصَلِ إِخْوَانِكُمْ !

ومن كلام له عليه السلام

في الصالحين من أصحابه

أَنْتُمُ الاَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّ ، وَالاِخْوَانُ فِي الدِّينِ ، وَالْجُنَنُ [1673] يَوْمَ الْبَأس [1674] ، وَالْبِطَانَةُ [1675] دُونَ النَّاس . بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ ، وَأَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ . فَأَعِينُوني بِمُنَاصَحَة خَلِيَّة مِنَ الْغِشِّ ، سَلِيمَة مِنَ الرَّيْبِ ; فَوَ اللهِ إِنِّي لاََوْلَى النَّاس بِالنَّاس !

ومن كلام له عليه السلام

وقد جمع الناس وحضهم على الجهاد فسكتوا ملياً :

فقال عليه السلام : مَا بَالُكُمْ أَمُخْرَسُونَ أَنْتُمْ ؟ فقال قوم منهم : يا أمير المؤمنين ، إن سرت سرنا معك .

فقال عليه السلام : مَا بَالُكُمْ ! لاَ سُدِّدْتُمْ [1676] لِرُشْد ! وَلاَ هُدِيتُمْ لِقَصْد ! أَفِي مِثْلِ هذَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْرُجَ ؟ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ فِي مِثْلِ هذَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِكُمْ وَذَوِي بَأْسِكُمْ ، وَلاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَعَ الْجُنْدَ وَالْمِصْرَ وَبَيْتَ الْمَالِ وَجِبَايَةَ الاَْرْض ، وَالْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالنَّظَرَ فِي حُقُوقِ الْمُطَالِبِينَ ، ثُمَّ أخْرُجَ فِي كَتِيبَة أَتْبَعُ أُخْرَى ، أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ الْقِدْحِ [1677] فِي الْجَفِيرِ [1678] الْفَارِغِ ، وَإِنَّمَا أَنَا قُطْبُ الرَّحَا ، تَدُورُ عَلَيَّ وَأَنَا بِمَكَانِي ، فَإِذَا فَارَقْتُهُ اسْتَحَارَ [1679] مَدَارُهَا ، وَاضْطَرَبَ ثِفَالُهَا [1680] . هذَا لَعَمْرُ اللهِ الرَّأْيُ السُّوءُ . وَاللهِ لَوْلاَ رَجَائِي الشَّهَادَةَ عِنْدَ لِقَائِي الْعَدُوَّ ـ وَلَوْ قَدْ حُمَّ [1681] لِي لِقَاؤُهُ ـ لَقَرَّبْتُ رِكَابِي [1682] ثُمَّ شَخَصْتُ [1683] عَنْكُمْ فَـلاَ أَطْلُبُكُمْ مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَشَمَالٌ; طَعَّانِينَ عَيَّابِينَ ، حَيَّادِينَ رَوَّاغِينَ . إِنَّهُ لاَ غَنَاءَ [1684] فِي كَثْرَةِ عَدَدِكُمْ مَعَ قِلَّةِ اجْتَِماعِ قُلُوبِكُمْ . لَقَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ الَّتي لاَ يَهْلِكُ عَلَيْهَا إِلاَّ هَالِكٌ [1685] ، مَنِ اسْتَقَامَ فَإِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَنْ زَلَّ فَإِلَى النَّارِ !

[1602] يَلِجُ : يدخل .

[1603] القُلْعة ـ بضم القاف وسكون اللام - : ليست بمُسْتَوْطَنة .

[1604] النُجْعة - بضم النون - طلب الكَلا في موضعه ، أي ليست محطّ الرحال ولا مبلغ الامال .

[1605] عَتِيد : حاضر .

[1606] اغْتُبِطُوا : بالبناء للمجهول ، غبطهم غيرُهم بما آتاهم الله من الرزق .

[1607] زُوّيَ : من «زَوّاه» : إذا نحّاه.

[1608] عبّر «باللّعْقة» عن الاقرار باللسان مع ركون القلب إلى مخالفته .

[1609] البِطاء - بكسر الباء - جمع بطيئة .

[1610] السِّرَاع : جمع سريعة .

[1611] غير مُغَادِر : غير تارك شيئاً إلا أحاط به .

[1612] وَعَاها : حَفِظها وفهمها .

[1613] حَمَى الشيء : منعه ، أي منعتهم ارتكاب محرّماته .

[1614] الهَوَاجر : جمع هاجرة ، شدة حرّ النار ، وقد أُظْمِئَتْ هذه الهواجرُ بالصيام .

[1615] النّصَب : التعب .

[1616] «الدّهْر مُوتِرٌ قوْسَهُ» : شَبّهه بمن أوْتَرَ قوسَهُ ليرمي بها أبناءه .

[1617] تُؤسي : تُداوِي ، من «أسَوْتُ الجراح» . داويته .

[1618] لا يَنْقَع : لا يَشْتَفِي من العطش بالشرب .

[1619] غِيَرِها - بكسر الغين وفتح الياء - تقلّباتها .

[1620] «ليس ذلك إلاّ نعيماً زَلّ» : من «زَلّ فلان زَليلاً وزُلُولاً» إذا مرّ سريعاً . والمراد : انتقل .

[1621] أضْحى : برز للشمس ، والفَيْء : الظلّ بعد الزوال ، أو مطلقاً .

[1622] «لا جاء يُرَدّ» : الجائي يريد به الموتَ .

[1623] دَخِلَ : - كفرح - خالطَه فسادُ الاوهام .

[1624] البقرة : 132 ، آل عمران : 102 .

[1625] انصاحَتْ : جَفّتْ أعالي بُقُولها ويَبست من الجَدْب .

[1626] هامَت : نَدّت وذهبَتْ على وجوهها من شدة المَحْل .

[1627] مَرَابِض : جمع مَرْبِض ، بكسر الباء ، وهو مَبْرَك الغنم .

[1628] عَجّتْ عَجِيجَ الثّكَالى : صاحت بأعلى صوتها .

[1629] الانـّة : الشاة .

[1630] الحانّة : الناقة .

[1631] مَوَالجها : مداخلها في المرابض .

[1632] مَخَايل : جمع مُخيلة - كمُصِيبة - هي السحابة تظهر كأنّها ماطرة ثم لا تمطر . والجَوْد - بفتح الجيم المطر .

[1633] المُبْتَئِس : الذي مسّتْهُ البأساءُ والضرّاء ، والبلاغ الكفاية .

[1634] السّوامُ : جمع سائمة ، وهي البهيمة الراعية من الابل ونحوه .

[1635] انْبَعَقَ المُزْن : انفرج عن المطر كأنما هو حيّ ، انشقت بطنه فنزل ما فيها .

[1636] أغْدَقَ المطُر : كثر ماؤه .

[1637] المُونِقُ : من «آنَقَني» إذا أعجبني ، أو من «آنَقَهُ» إذا سرّه وأفرَحَه .

[1638] سَحّاً : صَبّاَ ، والوابل : الشديد من المطر الضخم القِطْر .

[1639] المَرِيعَة - بفتح الميم - الخصيبة .

[1640] زاكياً : نامياً .

[1641] ثامِراً : مُثمِراً ، آتياً بالثمر .

[1642] النّجاد - جمع النجد - ما ارتفع من الارض .

[1643] الوِهاد - جمع الوَهْدة - ما انخفض من الارض .

[1644] الجَناب : الناحية .

[1645] القاصية : البعيدة عنا من أطراف بلادنا في مقابلة جنابنا .

[1646] ضاحية الماء : التي تشرب ضُحىً والضّوَاحي : جمعها .

[1647] المُرْمِلة : بصيغة الفاعل : الفقيرة .

[1648] مُخْضِلة : من «أخْضَلَهُ» إذا بَلّهُ .

[1649] الوَدْق : المطر .

[1650] يَحْفِز : يدفع .

[1651] البرق الخُلّب : ما يُطْمِعُكَ في المطر ولا مطرَ معه .

[1652] الجَهَام : بفتح الجيم - السّحاب الذي لا مطر فيه . والعارض : ما يَعْرِضُ في الافُق من السحاب .

[1653] الرّباب : السحاب الابيض . والقَزَع من الرّباب القطع الصغيرة المتفرقة من السحاب .

[1654] الذِّهاب - بكسر الذال - جمع ذِهْبَة - بكسر الذال أيضاً : الامطار القليلة أو الليّنة .

[1655] المُسْنِتُون : المُقْحِطُون .

[1656] وان : متباطىء متثاقل .

[1657] واهِن : ضعيف .

[1658] المُعَذِّر : من يعتذر ولا يثبت له عذر .

[1659] الصُّعُدات - بضمتين - جمع صَعيد بمعنى الطريق ، أي : لتركتم منازلكم وهِمْتُم في الطرق من شدة الخوف .

[1660] الالتِدام : ضرب النساء صدورهن أو وجوههن للنياحة .

[1661] الخالِف : من تتركه في أهلك ومالك ، إذا خرجت لسفر أو حرب .

[1662] هَمّتْهُ : حَزَنَتْهُ وشَغَلَتْهُ .

[1663] ميامين - جمع مَيْموُن - مُبارك .

[1664] مَراجيح : أي حُلَماء ، من «رجح» إذا ثَقُلَ ومال بغيره والمراد الرّزانة .

[1665] مَقاوِيل : جمع مِقْوَال ، من يُحْسِنُ القول .

[1666] مَتَارِيك : جمع مِتْرَاك - المبالغ في الترك .

[1667] القُدُم - بضمتين - المُضِيّ أمام ، أي سابقين .

[1668] الوَجِيف : ضرب من سير الخيل والابل . وأوْجَفَ خيلَه : سيّرها بهذا النوع ، والمراد السرعة .

[1669] الَمحَجّة : الطريق المستقيمة .

[1670] «الكرامة الباردة» : من قولهم «عيش بارد» : أي هنيء .

[1671] الذّيّال: الطويل القَدّ ، الطويل الذّيل ، المتبختر في مشيه .

[1672] كَرُمَ الشيء - كَحَسُنَ يَحْسُنُ أي عَزّ ونَفُسَ .

[1673] الجُنَن - بضم ففتح - جمع جُنّة بالضم ، وهي الوقاية .

[1674] البأس : الشدة .

[1675] بطانة الرجل : خواصّه وأصحاب سرّه .

[1676] سَدّده : وفّقه للسداد .

[1677] القِدْح - بكسر القاف - السهم قبل أن يُرَاشَ ويُنْصَلَ .

[1678] الجَفِير : الكنانة توضع فيها السهام .

[1679] اسْتَحَارَ : تَرَدّدَ واضطرب .

[1680] الثِّفال - بكسر الثاء - جلد يُبْسَطُ ويوضع الرّحا فوقه فيطحن باليد ليسقط عليه الدقيق .

[1681] حُمّ : قُدّر .

[1682] قَرّبت ركابي : حزمت إبلي وأحضرتها للركوب .

[1683] شَخَصْتُ : بعدتُ عنكم وتخليت عن أمر الخلافة .

[1684] الغَنَاء ـ بالفتح والمد - النفع .

[1685] «الهالك» هنا : الذي حُتّم هلاكه لتمكن الفساد من طبعه وجبلّته .