لمّا عزم على لقاء القوم بصفين :
اللَّهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [2251] : وَالْجَوِّ الْمَكْفُوفِ [2252] ، الَّذِي جَعَلْتَهُ مَغِيضاً [2253] لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَمَجْرىً لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَمُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ السَّيَّارَةِ ; وَجَعَلْتَ سُكَّانَهُ سِبْطاً [2254] مِنْ مَلاَئِكَتِكَ ، لاَ يَسْأَمُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ ; وَرَبَّ هذِهِ الاَْرْضِ الَّتي جَعَلْتَهَا قَرَاراً لِلانامِ ، وَمَدْرَجاً لِلْهَوَامِّ وَالانعَامِ ، وَمَا لاَ يُحْصَى مِمَّا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى ; وَرَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتي جَعَلْتَهَا لِلاَْرْضِ أَوْتَاداً ، وَلِلْخَلْقِ اعْتَِماداً [2255] ، إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا ، فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ ; وَإِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا الشهَادَةَ ، وَاعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ .
أَيْنَ الْمَانِعُ لِلذِّمَارِ [2256] ، وَالْغَائِرُ [2257] عِنْدَ نُزُولِ الْحَقَائِقِ [2258] مِنْ أَهْلِ الحِفَاظِ [2259] ! العَارُ وَرَاءَكُمْ وَالْجَنَّةُ أَمَامَكُمْ !
الْحَمْدُ لله الَّذِي لاَ تُوَارِي [2260] عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً ، وَلاَ أَرْضٌ أَرْضاً .
وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ : إِنَّكَ عَلَى هذَا الاَْمْرِ يَابْنَ أَبي طَالِب لَحَرِيصٌ ; فَقُلْتُ : بَلْ أَنْتُمْ وَاللهِ لاََحْرَصُ وَأَبْعَدُ ، وَأَنَا أَخَصُّ وَأَقْرَبُ ، وَإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، وَتَضْرِبُونَ وَجْهِي [2261] دُونَهُ . فَلَمَّا قَرَعْتُهُ [2262] بِالْحُجَّةِ فِي الْمَلاَءِ الْحَاضِرِينَ هَبَّ [2263] كَأَنَّهُ بُهِتَ لاَ يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ !
اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْش وَمَنْ أَعَانَهُمْ ! فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي ، وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِي ، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي . ثُمَّ قَالُوا : أَلاَ إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ ، وَفِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ .
فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله كَمَا تُجَرُّ الاَْمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا ، مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ ، فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا ، وَأَبْرَزَا حَبِيسَ [2264] رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا ، فِي جَيْش مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وَقَدْ أَعْطَانِي الطَّاعَةَ ، وَسَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ ، طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَه ، فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا وَخُزَّانِ [2265] بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا ، فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً [2266] ، وَطَائِفَةً غَدْراً . فَوَاللهِ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ رَجُلاً وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ [2267] لِقَتْلِهِ ، بِلاَ جُرْم جَرَّهُ ، لَحَلَّ لِي قَتْلُ ذلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ ، إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا ، وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَان وَلاَ بِيَد . دَعْ مَا أ نّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِي دَخَلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ !
في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن هو جدير بأن يكون للخلافة وفي هوان الدنيا :
أَمِينُ وَحْيِهِ ، وَخَاتَمُ رُسُلِهِ ، وَبَشِيرُ رَحْمَتِهِ ، وَنَذِيرُ نِقْمَتِهِ .
أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهذَا الاَْمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللهِ فِيهِ . فَإِنْ شَغَبَ [2268] شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ [2269] ، فَإِنْ أَبَى قُوتِلَ وَلَعَمْرِي ، لَئِنْ كَانَتِ الامَامَةُ لاَ تَنْعَقِدُ حَتَّى يَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ ، فَمَا إِلَى ذلِكَ سَبِيلٌ ، وَلكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهَا ، ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ . أَلاَ وَإِنَّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ : رَجُلاً ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ ، وَآخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ .
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بَتَقْوَى اللهِ فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا تَوَاصَى الْعِبَادُ بِهِ ، وَخَيْرُ عَوَاقِبِ الاُْمُورِ عِنْدَ اللهِ . وَقَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ [2270] ، وَلاَيَحْمِلُ هذَا الْعَلَمَ إِلاَّ أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ وَالْعِلْمِ بمواقع )
بِمَوَاضِعِ( الْحَقِّ ، فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ ، وَقِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ; وَلاَ تَعْجَلُوا فِي أَمْر حَتَّى تَتَبَيَّنُوا ، فَإِنَّ لَنَا مَعَ كُلِّ أَمْر تُنْكِرُونَهُ غِيَراً [2271] .
أَلاَ وَإِنَّ هذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وَتَرْغَبُونَ فِيهَا ، وَأَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَتُرْضِيكُمْ ، لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ ، وَلاَ مَنْزِلِكُمُ الَّذِي خُلِقْتُمْ لَهُ وَلاَ الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ . أَلاَ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَاقِيَة لَكُمْ وَلاَ تَبْقَوْنَ عَلَيْهَا; وَهِيَ وَإِنْ غَرَّتْكُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا .فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا ، وَأَطْمَاعَهَا لِتَخْوِيفِهَا; وَسَابِقُوا فِيهَا إِلَى الدَّارِ الَّتي دُعِيتُمْ إِلَيْهَا ، وَانْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا; وَلاَ يَخِنَّنَّ أَحَدُكُمْ خَنِينَ [2272] الاَْمَةِ عَلَى مَا زُوِيَ [2273] عَنْهُ مِنْهَا ، وَاسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ . أَلاَ وَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّكُمْ تَضْيِيعُ شَيْء مِنْ دُنْيَاكُمْ بَعْدَ حِفْظِكُمْ قَائِمَةَ دِينِكُمْ . أَلاَ وَإِنَّهُ لاَ يَنْفَعُكُمْ بَعْدَ تَضْيِيعِ دِينِكُمْ شَيْءٌ حَافَظْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ . أَخَذَ اللهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ ، وَألهَمَنَا وَإِيَّاكُمُ الصَّبْرَ !
في معنى طلحة بن عبيد الله
وقد قاله عليه السلام حين بلغه خروج طلحة والزبير إلى البصرة لقتاله :
قَدْ كُنْتُ وَمَا اُهَدَّدُ بالْحَرْبِ ، وَلاَ اُرْهَبُ بِالضَّرْبِ ; وَأنَا عَلَى مَا قَدْ وَعَدَنِي رَبِّي مِنَ النَّصْرِ . وَاللهِ مَا اسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّداً [2274] لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثمانَ إِلاَّ خَوْفاً مِنْ أَنْ يُطَالَبَ بِدَمِهِ ، لانَّهُ مَظِنَّتُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ أَحْرَصُ عَلَيْهِ مِنْهُ ، فَأَرَادَ أَنْ يُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ فِيهِ لِيَلْتَبِسَ الاَْمْرُ [2275] وَيَقَعَ الشَّكُّ . وَوَاللهِ مَا صَنَعَ فِي أَمْرِ عُثَْمانَ وَاحِدَةً مِنْ ثَـلاَث : لَئِنْ كَانَ ابْنُ عَفَّانَ ظَالِماً ـ كَمَا كَانَ يَزْعُمُ ـ لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَازِرَ [2276] قَاتِلِيهِ ، وَأَنْ يُنَابِذَ [2277] نَاصِرِيهِ . وَلَئِنْ كَانَ مَظلوماً لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُنَهْنِهِينَ [2278] عَنْهُ ، وَالْمُعْذِرِينَ فِيهِ [2279] وَلَئِنْ كَانَ فِي شَكٍّ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ ، لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهُ وَيَرْكُدَ [2280] جَانِباً ، وَيَدَعَ النَّاسَ ، مَعَهُ ، فَمَا فَعَلَ وَاحِدَةً مِنَ الثَّـلاَثِ ، وَجَاءَ بِأَمْر لَمْ يُعْرَفْ بَابُهُ ، وَلَمْ تَسْلَمْ مَعَاذِيرُهُ .
في الموعظة وبيان قرباه من رسول الله صلى الله عليه وآله :
أَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ ، وَالتَّارِكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ . مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللهِ ذَاهِبِينَ ، وَإِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ ؟! كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ [2281] أَرَاحَ بِهَا [2282] سَائِمٌ [2283] إِلَى مَرْعىً وَبِيّ [2284] ، وَمَشْرَب دَوِىّ [2285] ، وَإِنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَى [2286] لاَ تَعْرِفُ مَاذَا يُرَادُ بِهَا ! إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا [2287] ، وَشِبَعَهَا أَمْرَهَا . وَاللهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُل مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَمَوْلِجِهِ [2288] وَجَمِيعِ شَأنِهِ لَفَعَلْتُ ، وَلكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فيَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله .
أَلاَ وَإِنِّي مُفْضِيهِ [2289] إلى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذلِكَ مِنْهُ . وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ ، وَاصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ ، مَا أَنْطِقُ إِلاَّ صَادِقاً ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذلِكَ كُلِّهِ ، وَبِمَهْلَكِ مَنْ يَهْلِكُ ، وَمَنْجَى مَنْ يَنْجُو ، وَمَآلِ هذَا الاَْمْرِ . وَمَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إِلاَّ أَفْرَغَهُ فِي أُذُنَيَّ وَأَفْضَى بِهِ إِلَيَّ .
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَاللهِ ، مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَة إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا ، وَلاَ أنهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَة إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا .
وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة :
انْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللهِ ، وَاتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللهِ ، وَاقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللهِ ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ [2290] ، وَأخَذَ )
اتَّخَذَ( عَلَيْكُمْ الْحُجَّةَ ، وَبَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الاَْعْمَالِ ، وَمَكَارِهَهُ مِنْهَا ، لِتَتَّبِعُوا هذِهِ ، وَتَجْتَنِبُوا هذِهِ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله كَانَ يَقُولُ : «إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ ، وَإِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ» .
وَاعْلَمُوا أنـّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللهِ شَيْءٌ إِلاَّ يَأتِي فِي كُرْه ، وَمَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ شَيْءٌ إِلاَّ يَأتِي فِي شَهْوَة . فَرَحِمَ اللهُ امْرَأً نَزَعَ [2291] عَنْ شَهْوَتِهِ ، وَقَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ ، فَإِنَّ هذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْء مَنْزِعاً [2292] ، وَإِنَّهَا لاَ تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَة فِي هَوىً . وَاعْلَمُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ أَنَّ الْمُؤمِنَ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إِلاَّ وَنَفْسُهُ ظَنُونٌ [2293] عِنْدَهُ ، فَـلاَ يَزَالُ زَارِياً [2294] عَلَيْهَا وَمُسْتَزِيْداً لَهَا . فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ ، وَالْمَاضِينَ أَمَامَكُمْ . قَوَّضُوا [2295] مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِل ، وَطَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازل .
وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ ، وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ . وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَة أَوْ نُقْصَان : زِيَادَة فِي هُدىً ، و )
أَوْ( نُقْصَان مِنْ عَمىً . وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَد بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَة [2296] ، وَلاَ لاَِحَد قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً ; فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لاَوَائِكُمْ [2297] ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ : وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ ، فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ ، وَلاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ ، إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ . وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ )
و( مُشَفَّعٌ ، وَقَائِلٌ )
و( مُصَدَّقٌ ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ [2298] فِيهِ ، وَمَنْ مَحَلَ [2299] بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْه ، فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَاد يَوْمَ الْقِيَامَةِ : «أَلاَ إِنَّ كُلَّ حَارِث مُبْتَلىً فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ ، غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ» . فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ ، وَاسْتَدلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ ، وَاسْتَغشُّوا [2300] فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ .
الْعَمَلَ الْعَمَلَ ، ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ ، وَالاسْتَقَامَةَ الاسْتِقَامَةَ ، ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ ، وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ ، إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلى نِهَايَتِكُمْ ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَماً [2301] فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ ، وَإِنَّ لِلاْسْلاَمِ غَايَةً فانْتَهُوا إِلى غَايَتِهِ . وَاخْرُجُوا إِلَى اللهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ [2302] ، وَبَيَّنَ لكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ [2303] . أنا شَاهِدٌ لَكُمْ ، وَحَجِيجٌ [2304] يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكُمْ .
أَلاَ وَإِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ ، وَالْقَضَاءَ الْمَاضِيَ قَدْ تَوَرَّدَ [2305] ; وَإِنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ [2306] اللهِ وَحُجَّتِهِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَنْ لاَ تَخَافُوا ، وَلاَ تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)
[2307] وَقَدْ قُلْتُمْ : رَبُّنَا اللّهُ ، فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ ، وَعَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ ، وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادتِهِ ثُمَّ لاَ تَمْرُقُوا مِنْهَا ، وَلاَ تَبْتَدِعُوا فِيهَا ، وَلاَ تُخَالِفُوا عَنْهَا .فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . ثُمَّ إِيَّاكُمْ وَتَهْزِيعَ [2308] الاَْخْلاَقِ وَتَصْرِيفَهَا [2309] ، وَاجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً ، وَلْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ [2310] ، فَإِنَّ هذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ [2311] . وَاللهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ . وَإِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ [2312] ، وَإِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ ، لاَِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَكَلاَم تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ ، وَإِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ . وَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ لاَ يَدْرِي مَاذَا لَهُ ، وَمَاذَا عَلَيْهِ . وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله : «لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْد حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ . وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» . فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللهَ سُبحانَهُ )
تَعَالَى( وَهُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ ، سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ ، فَلْيَفْعَلْ .
وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّ الْمُؤمِنَ يَسْتَحِلُّ الْعَامَ مَا اسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ ، وَيُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ; وَإنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لاَ يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ، وَلكِنَّ الْحَلاَلَ مَا أَحَلَّ اللهُ ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ . فَقَدْ جَرَّبْتُمُ الاَْمْورَ وَضَرَّ سْتُمُوهَا [2313] ، وَوُعِظْتُمْ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، وَضُرِبَتِ لَكُم الاَْمْثَالُ ، وَدُعِيتُمْ إِلَى الاَْمْرِ الْوَاضِحِ ; فَـلاَ يَصَمُّ عَنْ ذلِكَ إِلاَّ أَصَمُّ ، وَلاَ يَعْمَى عَنْ ذلِكَ إِلاَّ أَعْمَى . وَمَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللهُ بِالْبَلاَءِ وَالتَّجَارِبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْء مِنَ الْعِظَةِ ، وَأَتَاهُ الْتَّقْصِيرُ )
النقص( مِنْ أَمَامِهِ [2314] ، حَتَّى يَعْرِفَ مَا أَنْكَرَ ، وَيُنْكِرَ مَا عَرَفَ . فأنّ )
وَإِنَّمَا( النَّاسُ رَجُلاَنِ :مُتَّبِعٌ شِرْعَةً ، وَمُبْتَدِعٌ بِدْعَةً ، لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّة ، وَلاَ ضِياءُ حُجَّة .
وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ ، وَسَبَبُهُ الاَْمِينُ ، وَفِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ ، وَمَا لِلْقَلْبِ جِلاَءٌ غَيْرُهُ ، مَعَ أنـّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَكِّرُونَ ، وَبَقِيَ النَّاسُونَ أَوِ الْمُتَنَاسُونَ . فَإِذَا رَأَيْتُمْ خَيْراً فَأَعِينُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله كَانَ يَقُولُ : «يَابْنَ آدَمَ ، اعْمَلِ الْخَيْرَ وَدَعِ الشَّرَّ ، فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ [2315] » .
أَلاَ وَإنَّ الظُّلْمَ ثَلاَثَةٌ : فَظُلْمٌ لاَ يُغْفَرُ ، وَظُلْمٌ لاَ يُتْرَكُ ، وظُلْمٌ مَغْفُورٌ لاَ يُطْلَبُ . فَأَمَّا الظُّلمُ الَّذِي لاَ يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِالله ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)
[2316] . وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ [2317] . وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضُهُمْ بَعْضاً . الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِالْمُدَى [2318] وَلاَ ضَرْباً بِالسِّيَاطِ [2319] ، وَلكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذلِكَ مَعَهُ . فَإِيَّاكُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللهِ ، فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيَما تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ ، خَيْرٌ مِنْ فُرْقَة [2320] فِيَما تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ . وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَة خَيْراً مِمَّنْ مَضَى ، وَلاَ مِمَّنْ بَقِيَ .
يَا أيُّهَا النَّاسُ طُوبى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ ، وَطُوبى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ ، وَأَكَلَ قُوتَهُ ، وَاشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ ، فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُل ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَة !
في معنى الحكمين :
فأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَيْنِ ، فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا [2321] عِنْدَ الْقُرْآنِ ، وَلاَ يُجَاوِزَاهُ ، وَتَكُونَ أَلْسِنَتُهُما مَعَهُ وَقُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ ، فَتَاهَا عَنْهُ ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا ، وَالاِْعْوِجَاجُ رَأْيَهُمَا )
دأبَهُما( . وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا . وَالثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لاَِنْفُسِنَا ، حِينَ خَالَفَا سَبِيلَ الْحَقِّ ، وَأَتَيَا بِمَا لاَ يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ الْحُكْمِ .
قيل : إنّه خطبها بعد مقتل عثمان في أول خلافته
لاَ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ )
عن شأن( ، وَلاَ يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ ، وَلاَ يَحْوِيهِ مَكَانٌ ، وَلاَ يَصِفُهُ لِسَانٌ ، لاَ يَعْزُبُ [2322] عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ وَلاَ نُجُومِ السَّمَاءِ ، وَلاَ سَوَافِي الرِّيحِ [2323] فِي الْهَوَاءِ ، وَلاَ دَبِيبُ الَّنمْلِ عَلَى الصَّفَا [2324] ، وَلاَ مَقِيلُ الذَّرِّ [2325] فِي اللَّيْلَةِ الظَلمَاءِ . يَعْلَمُ مَسَاقِطَ الاَْوْرَاقِ ، وَخَفِيَّ طَرْفِ الاَْحْدَاقِ [2326] . وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهِ إِلاَّ اللهُ غَيْرَ مَعْدُول بِهِ [2327] ، وَلاَ مَشْكُوك فِيهِ ، وَلاَ مَكْفُور دِينُهُ ، وَلاَ مَجْحُود تَكْوِينُهُ [2328] ، شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ ، وَصَفَتْ دِخْلَتُهُ [2329] وَخَلَصَ يَقِينُهُ ، وَثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُجْتَبَى [2330] مِنْ خَلاَئِقِهِ ، وَالْمُعْتَامُ [2331] لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ ، وَالُْمخْتَصُّ بِعَقَائِلِ [2332] كَرَامَاتِهِ [2333] ، وَالْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالاَتِهِ ، وَالْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَى [2334] ، وَالْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ [2335] الْعَمَى .
أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا وَالْمُخْلِدَ إِلَيْهَا [2336] ، وَلاَ تَنْفَسُ [2337] بِمَنْ نَافَسَ فِيهَا ، وَتَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا . وَايْمُ اللهِ ، مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِي غَضِّ [2338] نِعْمَة مِنْ عَيْش فَزَالَ عَنْهُمْ إِلاَّ بِذُنُوب اجْتَرَحُوهَا [2339] ، لاَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَـلاَّم لِلْعَبِيدِ . وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ ، وَتَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ ، فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْق مِنْ نِيَّاتِهمْ ، وَوَلَه مِنْ قُلُوبِهمْ ، لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِد ، وَأَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِدِ . وَإِنِّي لاََخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَة [2340] . وَقَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِيهَا مَيْلَةً ، كُنْتُمْ فِيهَا عِنْدِي غَيْرَ مَحْمُودِينَ ، وَلَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ إِنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ . وَمَا عَلَيَّ إِلاَّ الْجُهْدُ ، وَلَوْ أَشاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ : عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَفَ !
وقد سأله ذعلب اليماني فقال : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام: أفأعبد ما لا أرى ؟ فقال : وكيف تراه ؟ فقال :
لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونَ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ ، وَلكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الاِْيمَانِ . قَرِيبٌ مِنَ الاَْشْيَاءِ غَيْرَ مُلاَمِسِ ، بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرَ مُبَايِن ، مُتَكَلِّمٌ لاَ بِرَوِيَّة [2341] ، مُرِيدٌ لاَ بِهِمَّة [2342] ، صَانِعٌ لاَ بِجَارِحَة [2343] . لَطِيفٌ لاَ يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ ، كَبِيرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْجَفَاءِ [2344] ، بَصِيرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ ، رَحِيمٌ لاَ يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ . تَعْنُو [2345] الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ ، وَتَجِبُ الْقُلُوبُ [2346] مِنْ مَخَافَتِهِ .
في ذم أصحابه :
أَحْمَدُ اللهَ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْر ، وَقَدَّرَ مِنْ فِعْل ، وَعَلَى ابْتِلاَئِي بِكُمْ أَيَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعُ ، وَإِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ . إِنْ أُمْهِلْتُمْ [2347] خُضْتُمْ ، وَإِنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ [2348] وَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَام طَعَنْتُمْ ، وَإِنْ أُجِئْتُمْ إِلَى مُشَاقَّة [2349] نَكَصْتُمْ [2350] . لاَ أَبَا لِغَيْرِكُمْ [2351] ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ وَالْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ ؟ الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ لَكُمْ ؟ فَوَاللهِ لَئِنْ جَاءَ يَوْمِي ـ وَلَيَأْتِيَنِّي ـ لَيُفَرِّقَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأَنَا لِصُحْبَتِكُمْ قَال [2352] ، وَبِكُمْ غَيْرُ كَثِير [2353] . لله أَنْتُمْ ! أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَلاَ حَمِيَّةٌ تَشْحَذُكُمْ [2354] ؟ أَوَلَيْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ [2355] الطَّغَامَ [2356] فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَعُونَة [2357] وَلاَ عَطَاء ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ ـ وَأَنْتُمْ تَرِيكَةُ الاِْسْلاَمِ [2358] ، وَبَقِيَّةُ النَّاسِ ـ إِلَى الْمَعُونَةِ وطَائِفَة مِنَ الْعَطَاءِ ، فَتتَفَرَّقُونَ عَنِّي وَتَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ ؟ إِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِي رِضىً فَتَرْضَوْنَهُ ، وَلاَ سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ; وَإِنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لاَق إِلَيَّ الْمَوْتُ ! قَدْ دَارَسْتُكُمُ الْكِتَابَ [2359] ، وَفَاتَحْتُكُمُ الْحِجَاجَ [2360] ، وَعَرَّفْتُكُمْ مَا أَنْكَرْتُمْ ، وَسَوَّغْتُكُمْ [2361] مَا مَجَجْتُمْ ، لَوْ كَانَ الاَْعْمَى يَلْحَظُ ، أَوِ النَّائِمُ يَسْتَيْقِظُ ! وَأَقْرِبْ بِقَوْم [2362] مِنَ الْجَهْلِ بِالله قَائِدُهُمْ مُعَاوِيَةٌ ! وَمُؤَدِّبـُهُمُ ابْنُ النَّابِغَةِ [2363] ! .
[2251] السقف المرفوع: السماء .
[2252] المكفوف اسم مفعول ، من كَفّه إذا جمعه وضم بعضه إلى بعض .
[2253] مَغِيضاً: من غاض الماءُ إذا نقص ، كأن هذا الجو منبع الضياء والظلام وهو مغيضها كما يغيض الماء في البئر .
[2254] السّبِطْ ـ بالكسر ـ: القبيلة .
[2255] اعتماداً: أي معتمداً ، أو ملجأ يعتصم به .
[2256] الذّمار ـ ككتاب ـ: مايلزم الرجل حفظه من أهله وعشيرته .
[2257] الغائر: من غار على أمرأته أو قريبته أن يمسها أجنبي .
[2258] الحَقائق: هنا وصف لا اسم ، يريد النوازل الثابتة التي لا تدفع بل لا تقلع إلاّ بعازمات الهمم .
[2259] الحِفاظ: الوفاء ورعاية الذمم .
[2260] لاتُوارِي: لا تَحْجُب .
[2261] ضَرْبَ الوجه: كناية عن الرد والمنع .
[2262] قرعته بالحجّة: من قرعه بالعصا ضربه بها .
[2263] هَبّ: من هبيب التيس أي صياحه أي كان يتكلم بالمهمل مع سرعة حمل عليها الغضب .
[2264] حَبيس : فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وأم المؤمنين كانت محبوسة لرسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم لا يجوز لاحد أن يمسها بعده كأنها في حياته .
[2265] خُزّان: جمع خازن .
[2266] القتل صبراً: أن تحبس الشخص ثم ترميه حتى يموت .
[2267] معتمدين: قاصدين .
[2268] الشغب: تهييج الفساد .
[2269] اسْتَعْتَبَ: طلب منه الرضى بالحق .
[2270] أهل القِبْلَة: من يعتقد بالله وصدق ما جاء به محمدصلى الله عليه وآله وسلم ويصلّي معنا إلى قبلة واحدة .
[2271] الغِيَر بكسر ففتح اسم للتغيير أو التغير .
[2272] الخَنِين ـ بالخاء المعجمة ـ: ضرب من البكاء يردد به الصوت في الانف .
[2273] زُوِيَ: أي قبض .
[2274] مُتَجَرّداً: كأنه سيف تجرد من غمده .
[2275] يَلْتَبِس: أي يشتبه .
[2276] يوازر: ينصر ويعين .
[2277] المنابذة: المراماة والمراد المعارضة والمدافعة .
[2278] نهنهه عن الامر: كفّه وزجره عن إتيانه .
[2279] المعذرين فيه: المعتذرين عنه فيما نقم منه .
[2280] يَرْكُد جانباً: يسكن في جانب عن القاتلين والناصرين .
[2281] النَعَم ـ محركة ـ: الابل أو هي الغنم .
[2282] أراح بها: ذهب بها . وأصل الاراحة الانطلاق في الريح فاستعمله في مطلق الانطلاق .
[2283] السائم: الراعي .
[2284] الوَبي: الردي يجلب الوباء .
[2285] الدوي: الوبيل يفسد الصحة ، أصله من الدوا بالقصر أي المرض .
[2286] المُدَى ـ جمع مُدْية ـ: السكين ، أي معلوفة للذبح .
[2287] تحسب يومها دهرها: أي لا تنظر إلى عواقب أمورها فلا تعد شيئاً لما بعد يومها ، ومتى شبعت ظنت أنه لا شأن لها بعد هذا الشبع .
[2288] مَوْلجه: من ولج يلج إذا دخل .
[2289] مفضيه: أصله من أفضى اليه : خلا به .
[2290] أعْذَرَ اليكم بالجليّة: أي بالاعذار الجلية . والعذر هنا مجاز عن سبب العقاب في المؤاخذة عند مخالفة الاوامر الالهية .
[2291] نزع عنه: انتهى وأقلع .
[2292] أبعد منزعاً: أي نزوعاً بمعنى الانتهاء والكف عن المعاصي .
[2293] ظَنون ـ كصَبور ـ الضعيف والقليل الحيلة .
[2294] زارياً عليها: أي عائباً .
[2295] التقويض: نزع أعمدة الخيمة وأطنابها ، والمراد أنهم ذهبوا بمساكنهم وطووا مدة الحياة كما يطوي المسافر منازل سفره أي مراحله ومسافاته .
[2296] فَاقَة: أي فقر وحاجة إلى هاد سواه .
[2297] اللاواء: الشدة .
[2298] شفاعة القرآن: نطق آياته بانطباقها على عمل العامل .
[2299] مَحَل بهِ: مثلث الحاء: كاده بتبيين سيئاته عند السلطان ، كناية عن مباينة أحكامه لما أتاه العبد من أعماله .
[2300] استغشّوا أهواءكم أي: ظنوا فيها الغش وارجعوا إلى القرآن .
[2301] العلَم : محركاً يريد به القرآن .
[2302] خرج إلى فلان من حقه: أداه ، فكأنه كان حبيساً في مؤاخذته فانطلق .
[2303] الوظائف : ما قدّر الله لنا من الاعمال المخصصة بالاوقات والاحوال كالصوم والصلاة والزكاة .
[2304] حَجيِج ـ من حج ـ: إذا أقنع بحجته .
[2305] تورَّدَ: هو تفعّل كتنزّل ، أي ورد شيئاً بعد شيء .
[2306] عِدَة الله - بكسر ففتح ـ وعده .
[2307] فصّلت: 30 .
[2308] تهزيع الشيء: تكسيره ، والصادق إذا كذب فقد انكسر صدقه ، والكريم إذا لؤم فقد انثلم كرمه .
[2309] تصريف الاخلاق: من صرفته إذا قلبته ، نهي عن النفاق والتلوّن في الاخلاق .
[2310] ليخزن ـ كينصر ـ أي ليحفظ لسانه .
[2311] الجَمُوح: من جمح الفرس إذا غلب فارسه فيوشك أن يطرح به في مهلكة فيرديه .
[2312] لسان المؤمن من وراء قلبه: لسان المؤمن تابع لاعتقاده ، لا يقول إلا ما يعتقد .
[2313] ضَرّسَتْه الحرب: جرّبته. أي جربتموها.
[2314] الاتيان من الامام: كناية عن الظهور كأن التقصير عدوّ قويّ يأتي مجاهرة لا يخدع ولا يفر .
[2315] جواد قاصد: أى مستقيم أو قريب من الله والسعادة .
[2316] نساء: 48 .
[2317] الهَنات: ـ بفتح الهاء ـ جمع هَنة محركة: الشيء اليسير والعمل الحقير . والمراد به صغائر الذنوب .
[2318] المُدَى: جمع مُدْية ، وهي السكّين .
[2319] السِياط: جمع سَوْط.
[2320] الفُرْقة - بضم الفاء - التفرّق والشقاق .
[2321] يُجَعْجِعَا: من جعجع البعير إذا برك ، ولزم الجَعْجاع أي الارض . أي أن يقيما عند القرآن . والتَبَع ـ محركاً ـ التابع ، للواحد والجمع . وتَاهَا: أي ضلاّ .
[2322] لايَعْزُب: لا يخفى .
[2323] سَوَافي الريح: جمع سافية ، من «سَفّت الرّيح الترابَ والورَّقَ» أي حَمَلتْهُ .
[2324] الصَفا ـ مقصُوراً - جمع صَفاة ـ: الحجر الاملس الضخم . ودبيب النمل أي حركته عليه في غاية الخفاء لا يسمع لها حس .
[2325] الذَرّ: صغار النمل . ومَقِيلها: محلّ استراحتها ومَبِيتها .
[2326] طَرْف الحَدَقَة: تحريك جَفْنَيْها ، والحَدَقة هنا العين .
[2327] عَدَلَ بالله: جعل له مِثْلاً وعَديلاً .
[2328] تكوينه: خَلْقه للناس جميعاً .
[2329] دِخْلَته ـ بالكسر والضم ـ: باطنه .
[2330] المجتبى: المصطفى .
[2331] العِيمَة ـ بكسر العين ـ: المختار من المال ، والمُعْتام: المختار لبيان حقائق توحيده وتنزيهه .
[2332] العقائل: الكرائم .
[2333] الكرامات: ما أكرم الله به نبيه من معجزات ومنازل في النفوس عاليات .
[2334] أشْراط الهدى: علاماته ودلائله .
[2335] غِرْبِيبُ الشيء ـ كعِفْريت ـ أشده سواداً ، فغربيب العمى أشد الضلال ظلمةً .
[2336] الُمخْلِد: الراكن المائل .
[2337] نَفِسَ ـ كفرح ـ: ضنّ ، أي لا تضن الدنيا بمن يباري غيره في اقتنائها وعدّها من نفائسه ، ولا تحرص عليه بل تهلكه .
[2338] الغض : الناضر .
[2339] اجترحَ الذنبَ: اكتسبه وارتكبه .
[2340] الفَتْرة: كناية عن جهالة الغرور .
[2341] الرويّة: التفكر .
[2342] الهمّة: الاهتمام بالامر بحيث لو لم يفعل لجر نقصاً وأوجب هماً .
[2343] الجارحة: العضو البدني .
[2344] الجفاء: الغِلَظ والخشونة .
[2345] تعنو: تذل .
[2346] وَجَبَ القلب يجب وَجِيباً وَوَجَباناً: خفق واضطرب .
[2347] أُمهِلْتم: أُخّرْتم ، ويروى «أهملتم» بمعنى خُلّيتم وتُرِكتم .
[2348] الخور: الضعف وخُرْتم: ضعفتم وجبنتم .
[2349] المشاقّة: المقاطعة والمصارمة .
[2350] نكصتم: رجعتم القهقرى وأحجمتم .
[2351] المعروف في التقريع: لا أبا لكم ، ولا أبا لك . وهو دعاء بفقد الاب أو تعيير بجهله ، فتلطف الامام بتوجيه الدعاء أو الذمّ لغيرهم .
[2352] قال: أي كاره .
[2353] غير كثير بكم: أي: إني أفارق الدنيا وأنا في قلة من الاعوان ، وإن كنتم حولي كثيرين .
[2354] من شحذ السكين: كمنع ، أي حددها .
[2355] الجُفاة ـ جمع جاف ـ: أي غليظ .
[2356] الطَغام ـ بالفتح ـ: أرذال الناس .
[2357] المعونة: يراد بها هنا ما يعطى للجند لاصلاح السلاح ، وعلف الدواب زائداً على العطاء المفروض ، والارزاق المعينة لكل منهم .
[2358] التريكة ـ كسفينة ـ بيضة النعامة بعد أن يخرج منها الفرخ تتركها في مجثمها ، والمراد: أنتم خلف الاسلام وعِوَض السلف .
[2359] دَارَسَتْكُمُ الكتابَ: أي قرأت عليكم القرآن تعليماً وتفهيماً .
[2360] فاتحتكم: مجرده فتح بمعنى قضى ، فهو بمعنى قاضيتكم أي حاكمتكم . والحِجاج : المحاجّة أي قاضيتكم عند الحجة حتى قضيت عليكم بالعجز عن الخصام .
[2361] سَوّغْتُكُمْ ما مجَجتـم: سوّغْت لاذواقكـم من مشرب الصدق ما كنتـم تمجّونـه وتطرحونه . فسوّغ الشيء: جعله سائغاً مقبولاً ، ومجّ الشيء من فيه: رمى به .
[2362] أقْرِبْ بهم: ما أقربَهم من الجهل .
[2363] ابن النابغة: عمرو بن العاص .