يجري مجرى الخطبة وفيه يذكر فضائله ـ عليه السلام ـ قاله بعد وقعة النهروان
فَقُمْتُ بِالاَْمْرِ حِينَ فَشِلُوا [518] ، وَتَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا [519] ، وَنَطَقْتُ حِينَ تَعْتَعُوا [520] )
تمنعوا( ، وَمَضَيْتُ بِنُورِ اللهِ حِينَ وَقَفُوا . وَكُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً ، وَأَعْلاَهُمْ فَوْتاً [521] ، فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا [522] ، وَاسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا [523] . كَالْجَبَلِ لاَ تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ ، وَلاَ تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ . لَمْ يَكُنْ لاَِحَد فيَّ مَهْمَزٌ وَلاَ لِقَائِل فيَّ مَغْمَزٌ [524] . الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ ، وَالْقَوِىُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ . رَضِينَا عَنِ اللهِ قَضَاءَهُ ، وَسَلَّمْنَا للهِ أَمْرَهُ . أَتَرَانِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه واله ؟ وَاللهِ لاََنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ ، فَلاَ أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ . فَنَظَرْتُ في أَمْرِي ، فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَتِي ، وَإِذَا الْمِيثَاقُ في عُنُقِي لِغَيْرِي .
وفيها علة تسمية الشبهة شبهة ثم بيان حال الناس فيها
وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لاَِنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ : فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ ، وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى [525] وَأَمَّا أَعْدَاءُ اللهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا الضَّلالُ ، وَدَلِيلُهُمُ الْعَمَى ، فَمَا يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ مَنْ خَافَهُ ، وَلاَ يُعْطَى الْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّهُ .
خطبها عند علمه بغزوة النعمان بن بشير صاحب معاوية لعين التمر ، وفيها يبدي عذره ، ويستنهض الناس لنصرته
مُنِيتُ بِمَنْ لاَ يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ [526] وَلاَ يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ ، لاَ أَبَا لَكُمْ ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ ؟ أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ ، وَلاَ حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ [527] ! أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً [528] ، وَأُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً [529] ، فَلاَ تَسْمَعُونَ لِي قَوْلاً ، وَلاَ تُطِيعُونَ لِي أَمْراً ، حَتَّى تَكَشَّفَ الاُْمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَساءَةِ ، فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ ، وَلاَ يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ [530] جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الاَْسَرِّ [531] ، وَتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ الْنِّضْوِ الاْدْبـَرِ [532] ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَىَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)
[533] .
قال السيد الشريف الرضي رضي الله عنه : أقول : قوله عليه السلام : «مُتَذَائِبٌ» أي مضطرب ، من قولهم: تذاءبت الريح ، أي اضطرب هبوبها ، ومنه سمي الذئب ذئباً ، لاضطراب مشيته .
في الخوارج لما سمع قولهم : « لا حكم إلا لله »
قال عليه السلام : كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ ! نَعَمْ إِنَّهُ لاَ حُكْمَ إِلاَّ للهِ ، وَلكِنَّ هؤُلاَءِ يَقُولُونَ : لاَ إِمْرَةَ إِلاَّ للهِ ، وَإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرٍّ أَوْ فَاجِر يَعْمَلُ في إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الاَْجَلَ ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيْءُ ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ ; حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ ، وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر .
وفي رواية أُخرى أنه عليه السلام لما سمع تحكيمهم قال : حُكْمَ اللهِ أَنْتَظِرُ فِيكُمْ .
وقال : أَمَّا الاِْمْرَةُ الْبَرَّةُ فَيَعْمَلُ فِيهَا التَّقِيُّ ; وَأَمَّا الاِْمْرَةُ الْفَاجِرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا الشَّقِىُّ ; إِلى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ ، وَتُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ .
وفيها ينهى عن الغدر ويحذر منه
أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ [534] ، وَلاَ أَعْلَمُ جُنَّةً [535] أَوْقى [536] مِنْهُ ، وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ . وَلَقَدْ أَصْبَحْنَا في زَمَان قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً [537] ، وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلى حُسْنِ الْحِيلَةِ . مَا لَهُمْ ! قَاتَلَهُمُ اللهُ ! قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ [538] وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْن بَعْدَ الْقَدْرَةِ عَلَيْهَا ، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ [539] .
وفيه يحذر من اتباع الهوى وطول الامل في الدنيا
أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ : اتِّبَاعُ الْهَوَى ، وَطُولُ الاَْمَلِ [540] ; فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ ، وَأَمَّا طُولُ الاَْمَلِ فَيُنْسِي الاخِرَةَ . أَلاَ وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ [541] )
جذَّاء( ; فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ [542] كَصُبَابَةِ الانَاءِ اصْطَبَّهَا صَابُّهَا [543] . أَلاَ وَإِنَّ الاخِرَةِ قَدْ أَقْبَلَتْ ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الاخِرَةِ ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ كُلَّ وَلَد سَيُلْحَقُ بأُمِّهِ )
بِأَبِيهِ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ ، وَغَداً حِسَابٌ ، وَلاَ عَمَلَ . قال السيد الشريف الرضي رضي الله عنه : أقول : الحذاء ، السريعة ، ومن الناس من يرويه «جذّاء» [544] .
وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية ولم ينزل معاوية على بيعته
إِنَّ اسْتِعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَجَرِيرٌ عِنْدَهُمْ ، إِغْلاَقٌ لِلشَّامِ وَصَرْفٌ لاَِهْلِهِ عَنْ خَيْر إِنْ أَرَادُوهُ . وَلكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِير وَقْتاً لاَ يُقِيم بَعْدَهُ إِلاَّ مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً . وَالرَّأْيُ عِنْدِي مَعَ الاْنـَاةِ [545] فَأَرْوِدُوا [546] ، وَلاَ أَكْرَهُ لَكُمُ الاِْعْدَادَ [547] .
وَلَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هـذَا الاَْمْرِ وَعَيْنَهُ [548] ، وَقَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطْنَهُ ، فَلَمْ أَرَ لِي فِيهِ إِلاَّ الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ بِمَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه واله . إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى الاُْمَّةِ وَال أَحْدَثَ أَحْدَاثاً ، وَأَوْجَدَ لِلنَّاسِ )
النَّاسَ( مَقَالاً [549] ، فَقَالُوا ، ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّرُوا .
لما هرب مَصْقَلة بنُ هبيرة الشيباني إلى معاوية ، وكان قد ابتاع سَبْيَ بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام وأعتقهم ، فلما طالبه بالمال خاس به [550] وهرب إلى الشام
قَبَّحَ اللهُ [551] مَصْقَلَةَ ! فَعَلَ فِعْلَ السَّادَةِ )
السادات( ، وَفَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ ! فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ ، وَلاَ صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ [552] ، وَلَوْ أَقَامَ لاََخَذْنَا مَيْسُورَهُ [553] ، وَانْتَظَرْنَا بِمَالِهِ وُفُورَهُ [554] .
وهو بعض خطبة طويلة خطبها يوم الفطر ، وفيها يحمد الله ويذم الدنيا
الْحَمْدُ للهِ غَيْرَ مَقْنُوط [555] مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَلاَ مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ ، وَلاَ مَأْيُوس مِنْ مَغْفِرَتِهِ ، وَلاَ مُسْتَنْكَف [556] عَنْ عِبَادَتِهِ ، الَّذِي لاَ تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ ، وَلاَ تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ .
وَالدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ [557] لَهَا الْفَنَاءُ ، وَلاَِهْلِهَا مِنْهَا الْجَلاَءُ [558] ، وَهِيَ حُلْوَةٌ خَضْرَاءُ ، وَقَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ ، وَالْتَبَسَتْ [559] بِقَلْبِ النَّاظِرِ ; فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ ، وَلاَ تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ [560] ، وَلاَ تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلاَغِ [561] .
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ [562] ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ [563] ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الاَْهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ . اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ ، وَأَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الاَْهْلِ ، وَلاَ يَجْمَعُهُما غَيْرُكَ ; لاَِنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لاَ يَكُونُ مُسْتَصْحَباً ، وَالْمُسْتَصْحَبُ لاَ يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً .
قال السيد الشريف الرضي رضي الله عنه : وابتداء هذا الكلام مرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد قفّاه أمير المؤمنين عليه السلام بأبلغ كلام وتممه بأحسن تمام ; من قوله : « وَلاَ يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ » إلى آخر الفصل .
في ذكر الكوفة
كَأَنِّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الاَْدِيمِ [564] الْعُكَاظِي [565] ، تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ [566] ، وَتُرْكَبِينَ بِالزَّلاَزِلِ ، وَإِنِّي لاََعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلاَّ ابْتَلاَهُ اللهُ بِشَاغِل ، وَ )
أو( رَمَاهُ بِقَاتِل !
الْحَمْدُ للهِ كُلَّمَا وَقَبَ [567] لَيْلٌ وَغَسَقَ [568] ، وَالْحَمْدُ للهِ كُلَّمَا لاَحَ نَجْمٌ وَخَفَقَ [569] ، وَالْحَمْدُ للهِ غَيْرَ مَفْقُودِ الاِْنْعَامِ ، وَلاَ مُكَافَإِ الاِْفْضَالِ .
أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ بَعَثْتُ مُقَدَّمَتِي [570] ، وَأَمَرْتُهُمْ بِلُزُومِ هـذَا الْمِلْطَاطِ [571] ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرِي ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَقْطَعَ هـذِهِ النُّقْطَةَ إِلَى شِرْذِمَة [572] مِنْكُمْ ، مُوَطِّنِينَ أَكْنَافَ [573] دَجْلَةَ ، فَأُنْهِضَهُمْ مَعَكُمْ إِلَى عَدُوِّكُمْ ، وَأَجْعَلَهُمْ مِنْ أَمْدَادِ [574] الْقُوَّةِ لَكُمْ .
قال السيد الشريف الرضي رضي الله عنه : أقول : يعني ـ عليه السلام ـ بالملطاط ها هنا السّمْتَ الذي أمرهم بلزومه ، وهو شاطئ الفرات ، ويقال ذلك أيضاً لشاطئ البحر ، وأصله ما استوى من الارض . ويعني بالنطفة ماء الفرات ، وهو من غريب العبارات وعجيبها .
وفيه جملة من صفات الربوبية والعلم الالهي
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي بَطَنَ [575] خَفِيَّاتِ الاُْمُورِ ، وَدَلَّتْ )
ذلّت( عَلَيْهِ أَعْلاَمُ [576] الظُّهُورِ ، وَامْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ ; فَلاَ عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ ، وَلاَ قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ : سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلاَ شَيْءَ أَعْلَى مِنْهُ ، وَقَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلاَ شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ . فَلاَ اسْتعْلاَؤٌهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْء مِنْ خَلْقِهِ ، وَلاَ قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ فِي الْمَكَانِ بِهِ . لم يَطلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ ، وَلَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفَتِهِ ، فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلاَمُ الْوُجُودِ ، عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهُونَ )
المشتبهون( بِهِ وَالْجَاحِدُونَ لَهُ عُلُوّاً كَبِيراً !
وفيه بيان لما يخرب العالم به من الفتن وبيان هذه الفتن
إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتابُ اللهِ ، وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً ، عَلَى غَيْرِ دِينِ اللهِ . فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ [577] ; وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ ، انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ ; وَلكِن يُؤْخَذُ مِنْ هـذَا
ضِغْثٌ [578] ، وَمِنْ هـذَا ضِغْثٌ ، فَيُمْزَجَانِ )
فيخرجان( فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ ، وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى .
لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السلام على شريعة [579] الفرات بصفين ومنعوهم الماء
قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ [580] ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّة ، وَتَأْخِيرِ مَحَلَّة ; أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاء ; فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ ، وَالْحَيَاةُ في مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ . أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً [581] مِنَ الْغُوَاةِ ، وَعَمَّسَ [582] عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ [583] الْمَنِيَّةِ .
وهي في التزهيد في الدنيا ، وثواب الله للزاهد ، ونعم الله على الخالق
أَلاَ وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ ، وَآذَنَتْ بِانْقِضَاء ، وَتَنَكَّرَ مَعْرُوفُها [584] وَأَدبـَرَتْ حَذَّاءَ [585] ، فَهِيَ تَحْفِزُ [586] بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا )
ساكنيها( ، وَتَحْدُو [587] بِالْمَوْتِ جِيرَانَهَا ، وَقَدْ أَمَرَّ [588] فِيهَا مَا كَانَ حُلْواً [589] ، وَكَدِرَ مِنْهَا مَا كَانَ صَفْواً ، فَلَمْ يَبقَ )
تَبق( مِنْهَا إِلاَّ سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الاْدَاوَةِ [590] أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ الْمَقْلَةِ [591] ، لَوْ تَمَزَّزَهَا [592] الصَّدْيَانُ لَمْ يَنْقَعْ [593] . فَأَزْمِعُوا [594] عِبَادَ اللهِ الرَّحِيلَ عَنْ هـذِهِ الدَّارِ الْمَقْدُور [595] عَلَى أَهْلِهَا الزَّوَالُ ; وَلاَ يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا الاَْمَلُ ، وَلاَ يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ فِيهَا الاَْمَدُ .
فَوَاللهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ [596] ، وَدَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ [597] ، وَجَأَرْتُمْ جُؤَارَ [598] مُتَبَتِّلِي [599] الرُّهْبَانِ ، وَخَرَجْتُمْ إِلَى اللهِ مِنَ الاَْمْوَالِ وَالاَْوْلاَدِ ، الْتِمَاسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَة عِنْدَهُ ، أَوْ غُفْرَان سَيِّئَة أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ ، وَحَفِظَتْهَا رُسُلُهُ ، لَكَانَ قَلِيلاً فِيمَا أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوَابِهِ ، وَأَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ .
وَتَاللهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُكُمْ انْمِيَاثاً [600] ، وَسَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَة إِلَيْهِ أَوْ رَهْبَة مِنْهُ دَماً ، ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا ، مَا الدُّنْيَا بَاقِيَةٌ ، مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ عَنْكُمْ ـ وَلَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُمْ ـ أَنْعُمَهُ عَلَيْكُمُ الْعِظَامَ ، وَهُدَاهُ إِيَّاكُمْ لِلايمَانِ .
[518] فَشِلُوا : خاروا وجَبُنوا، وليس معناها أخفقوا كما نستعملها الان.
[519] تَقَبّعُوا : اختبأوا، وأصله تَقَبّع القنفذ إذا أدخل رأسه في جلده.
[520] تَعْتَعُوا : ترددوا في كلامهم من عَيٍّ أو حَصْر.
[521] الفَوْت : السبق.
[522] طِرْتُ بعِنَانِها : العنان للفرس معروف، وطار به : سبق به.
[523] اسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِها : الرهان : الجعل الذي وقع التراهن عليه . واستبددت به : انفردت به .
[524] لم يكن فِيّ مَهْمَزٌ ولا مَغْمَزٌ : لم يكن فِيّ عيبٌ أُعاب به، وهو من الهمز : الوقيعة. والغمز : الطعن.
[525] سَمْتُ الهُدَى : طريقته.
[526] مُنِيتُ : بُلِيتُ.
[527] تُحْمِشُكُم : تُغْضِبُكم على أعدائكم.
[528] اُلمسْتَصرِخ : المستنصر المستجلب من ينصره بصوته.
[529] مُتَغَوّثاً : أي قائلا «وَأغَوْثاه».
[530] جَرْجَرْتُمْ : الجرجرة : صوت يردده البعير في حنجرته عند عَسْفِهِ .
[531] الاسَرّ : المصاب بداء السّرَر، وهو مرض في كَرْكَرَة البعير، أي زَوْرِهِ، ينشأ من الدّبَرَةِ و القرحة.
[532] النّضْوِ : المهزول من الابل، والادْبـَرَ : المدبور، أي : المجروح المصاب بالدّبـَرة - بالتحريك - وهي العَقْر والجرح من القَتَبِ ونحوه.
[533] الانفال : 6 .
[534] التَّوْأمُ : الذي يولد مع الاخر في حمل واحد.
[535] الجُنّة - بالضم - : الوقاية، وأصلها ما استترت به من درع ونحوه.
[536] أوقى منه : أشدّ وقاية وحفظاً.
[537] الكَيْس - بالفتح - الفطنة والذكاء .
[538] الحُوّلُ القُلَّب - بضم الاول وتشديد الثاني من اللفظين هو : البصير بتحويل الامور وتقليبها.
[539] الحَرِيجَة : التحرج والتحرز من الاثام.
[540] طُولُ الامَلِ : هو استفساح الاجل، والتسويف بالعمل.
[541] الحَذّاء - بالتشديد - : الماضية السريعة.
[542] الصُبابة - بالضم -: البقية من الماء واللبن في الاناء .
[543] اصْطَبّها صَابُّها : كقولك : أبقاها مبقيها، أو تركها تاركها.
[544] جَذّاء - بالجيم - أي : مقطوع خيرها ودَرّها.
[545] الاناة : التثَبّتُ والتأني.
[546] أرْوِدُوا : إرفقُوا، أصله من أرْوَدَ في السير إرواداً، إذا سار برفق.
[547] الاعْداد : التهيئة.
[548] وَلَقَدْ ضرَبْتُ أنْفَ هذا الامْرِ وعَيْنَهُ : مَثَلٌ تقول العرب في الاستقصاء في البحث والتأمل والفكر.
[549] أوْجَدَ الناسَ مَقالاً : جعلهم واجدين له.
[550] خاسَ به : خان وغدر.
[551] قَبّحَهُ الله : أي نحّاه عن الخير.
[552] بَكّتَهُ : َقرّعَهُ وَعَنّفَهُ.
[553] مَيْسُورُه : ما تَيَسرَ له.
[554] الوُفور : مصدر وَفَرَ المالُ، أي تم.
[555] مَقْنُوط : ميؤوس، من القنوط وهو اليأس.
[556] مُسْتَنْكف : الاستنكاف : الاستكبار.
[557] مُنيَ لها الفَنَاءُ - ببناء الفعل للمجهول أي : قُدّرَ لها.
[558] الجلاء : الخروج من الاوطان.
[559] التَبَسَتْ بِقَلْبِ الناظِرِ : أختلطت به محبةً.
[560] الكَفاف : ما يَكُفّكَ أي : يمنعك عن سؤال غيرك، وهو مقدار القوت.
[561] البَلاغ : ما يُتَبَلّغ به، أي : يُقْتَات به مدةَ الحياة.
[562] الوَعْثَاء : المشقة ، وأصله المكان اُلمتْعِب لكثرة رمله وغوص الارجل فيه.
[563] اُلمنْقَلَب : مصدر بمعنى الرجوع.
[564] الاديم : الجلد المدبوغ.
[565] العُكاظِيّ : نسبة إلى عُكاظ - كغراب - وهي سوق كانت تقيمها العرب في صحراء بيت نخلة والطائف يجتمعون إليه ليتعاكظوا - أي يتفاخروا .
[566] النّوَازِل : الشدائد.
[567] وَقَبَ : دخلَ.
[568] غَسَقَ : اشتدت ظلمته.
[569] خَفَقَ النجم : غاب.
[570] اُلمقَدِّمِّة - بكسر الدال - صدر الجيش، ومقدّمة الانسان - بفتح الدال : صدره.
[571] المِلْطاط : حافة الوادي وشفيرُهُ وساحل البحر.
[572] الشّـِرْذِمة : النفر القليلون.
[573] الاكناف : الجوانب و «موطّنين الاكْنَافَ» أي : جعلوها وطَناً .
[574] الامْداد : جمع مَدَد، وهو ما يُمَدّ به الجيش لتقويته .
[575] بَطَنَ الخفيّات : عَلِمَها من باطنها.
[576] الاعْلام : جمع عَلَم - بالتحريك - وهو المنار يهتدى به، ثم عمّ في كل ما دل على شيء، وأعلام الظهور: الادلة الظاهرة.
[577] اُلمرْتادِين : الطالبين للحقيقة.
[578] الضِغْث - بالكسر - : قبضة من حشيش مختلط فيها الرطب باليابس .
[579] الشريعة : مورد الشاربة من النهر.
[580] اسْتَطْعَمُوكُمُ القِتَال : طلبوا منكم أن تطعموهم القتال، كما يقال «فلان يستطعمني الحديث» أي : يستدعيه مني.
[581] اللُّمَةُ - بالتخفيف - : الجماعة القليلة .
[582] عَمَسَ عَلَيْهِم الخَبَرَ : أبهمه عليهم وجعله مظلماً .
[583] الاغراض : جمع غرض، وهوالهدف .
[584] تَنَكّرَ مَعْرُوفُها : خفي وجهها .
[585] حَذّاء : ماضية، سريعة، وقد سبق تفسيرها، وفي رواية «جذاء» - بالجيم - أي مقطوعة الدّرِّ والخير .
[586] تَحْفِزُهم : تدفعهم وتسوقهم .
[587] تَحْدُو : بالواو بعد الدال: تسوقهم بالموت إلى الهلاك .
[588] أمَرّ الشيء : صار مُرّاً .
[589] كدِر كدَراً - كفرح فَرَحاً - وكدُر - بالضم - كظُرف، كُدُورةً : تعكّرَ وتغير لونه واختلط بما لا يستساغ هو معه .
[590] السَمَلَة : - محركة - بقية الماء في الحوض والاداوة ، اَلمطْهَرَةُ . وهي إناء الماء الذي يُتَطَهّرُ به .
[591] اَلمقْلَة : - بالفتح - حَصاة يضعها المسافرون في إناء، ثم يصبون الماء فيه ليغمرها، فيتناول كل منهم مقدار ما غمره . يفعلون ذلك إذا قل الماء، وأرادوا قسمته بالسوية .
[592] التمزّزُ : الامتصاص قليلاً قليلاً، والصّدْيَانُ : العطشانُ .
[593] لم يَنْقَعْ : لم يُرْوَ .
[594] أزْمِعُوا الرحيلَ : أي اعزموا عليه، يقال : أزمع الامرَ، ولا يقال أزمع عليه .
[595] المقدور : المكتوب .
[596] الوُلّه العِجَال : الوُلّه : جمع وَالهة وهي كلّ أُنثى فَقَدَتْ ولدها، وأصل الوَلَهِ ذهابُ العقل، والعِجال من النّوق - جمع عَجُول : وهي التي فقدت ولدها .
[597] هَدِيلُ الحمام : صوته في بكائه لفقد إلفه .
[598] جَأرْتُمْ : رفعتم أصواتكم والجُوْار : الصوت المرتفع .
[599] المتَبَتّل : المنقطع للعبادة .
[600] انماثت انمياثاً : ذَابَتْ ذَوَباناً .