نظرة تحلیلیة فی التعددیة الدینیة

السید محمدرضا الحجازی

نسخه متنی -صفحه : 10/ 4
نمايش فراداده

المشاركة الدينية

المشاركة الدينية، بخلاف الظن السابق بها،تري أن الحقيقة واحدة، وأن الاديان جميعاً تمثل جوانب لنلك الحقيقة، وأن الكتب السماوية وتعاليم الأنبياء كل منها يفصح عن جانب من الحقيقة. وهي فضلا عن كونها لاتتعارض ولا تتنازع، فانها في الواقع شريكة ومساهمة في الكشف عن الحقيقة. وبناء علي ذلك فإن جميع الأديان تقصد وجهة واحدة، وكل منها طريق للوصول الي ذلك المقصود، مع حفظ الدرجات، بالطبع، من حيث قربها و بعدها عن الحقيقة ومن حيث قوتها وضعفها في كشف الحقيقة والوصول الي الواقع. و بقبول هذا النوع من التفكر لم يعد ينظر أصحاب كل دين الي الأديان الاخري نظرة سلبية، وعلي الرغم من أن كلا منهم كان يري أن دينه هو القائم علي الحق، فإنه اعتقد أن الأديان الأخري، كلا في نفسه، سبيل للوصول الي الحق والفلاح، وإن كان بدرجة أدني.

ولإثبات هذه الدعوي أورد حَمَلة هذا الرأي ثمة شواهد وأدلة من كل من الأديان الكبيرة الأخري. ففي كتاب المسلمين، القرآن الكريم، يدور كلام كثير علي «أهل الكتاب »، وهذا ماحمل بعضهم علي اعتبار دائرة الشمول و الاشتراك أوسع من الأديان الإبراهيمية، وجعل قبول المشاركة فيما بين الأديان تتسع لتضم جميع الأديان الكتابية. نقرأ في سورة المائدة:

إنَّ الّذينَ آمنوا وَالّذينَ هادُوأ والصابِئُونَ وَالنّصارَي مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيومِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ13.

والمسيحية تنازلت في السنوات 1962 ـ 1965 وبعدها عما كانت تدعيه من قبل من الانحصارية إلي حد بعيد واتجهت إلي القبول بنوع من المشاركة، وذلك علي اعتبار أن سعادة الانسان قد ضمنها دم المسيح (ع)، وعليه فإن جميع أبناء البشر، بصرف النظر عما يحملونه من رأي و عقيدة، شركاء في بلوغ السعادة والفلاح و الاستفادة من الرحمة التي تسبغها عليهم تضحية المسيح (ع)14. يقول (كارل رهنر) Karl Rahner : «إن الذين يبحثون حقاً عن الله، مهما تكن أديانهم وعقائدهم، فهم في الواقع مسيحيون وإن لم يحملوا صفة المسيحية.»15 في اليهودية أيضا ثمة عبارات أو اتجاهات تميل الي فكرة المشاركة. من ذلك مثلا، نجد في اليهودية الفكرة القائلة بأن «جميع الملل في العالم الآتي والفترة الموعودة تكون صالحة وتشترك في صياغة تلك الايام»16.

للأديان الشرقية أيضا دورها في تأييد هذا الاتجاه الفكري، ففي الهندوكية: إن الأديان الاخري طرق مختلفة للوصول إلي حقيقة إلهية واحدة، وتري الأديان، في الواقع، مراحل متنوعة من مراحل تكامل الروح. وتري البوذية الجوانب المختلفة لتعليمات (ضارما) dharma في نصوص الاديان الأخري17.

هذه الشواهد و الانطباعات عن الاديان الشرقية والغربية أدت إلي ظهور نوع من المشاركة الفكرية في القول بوحدة الحقيقة واشتراك جميع الأديان في البحث عن الحق، و في أنها جميعاً طرق مختلفة للوصول الي تلك الحقيقة الواحدة. ومن جهة أخري، يري هذا التفكر، بخلاف الانحصارية، أن ليس هناك أي تعارض أوتناقض بين الأديان، بل بالعكس، فأساس جميع الاديان قائم علي قاعدة واحدة، وكلها تشترك في تبيان طرق الوصول الي الحقيقة. و في الواقع يقول مهيدو هذه الفكرة إن أصحاب الأديان، وإن قال كل منهم بأن دينه هو المحور وأصر علي أن الحق معه، فإن مواقفهم إزاء الأديان الأخري مواقف إيجابية، ويرونها محقة ضمن مفاهيمها وتحملها الآخرين. وبعبارة أخري، يقوم أصحاب كل دين بتوسيع دائرة أحقيتهم وشموليتهم بحيث إنها تستوعب كل عقيدة مخالفة، وهذا الاستيعاب يشير بالطبع إلي نوع من الوحدة بين الأديان. إن تأثير فكرة الاشتراك هذه في المجتمعات المعاصرة التي تتميز بكثرة الأديان فيها والقائمة علي أسس حضارية متعددة، في قبال منافسة التفكر الانحصاري، يحظي بمزيد من التقبل من الناحية العملية. في هذا الطراز من التفكر يمكن ملاحظة أصول ومبادي‏ء ذات قرابة مع فكرة التعددية الدينية، علي الرغم من أنه يعد من منافسيها. وبقول آخر، يري بعض من مهيدي التعددية الدينية نوعاً من الإفراط في التفكير الاشتراكي، وأن تعدديتهم فكرة معدلة أكثر انسجاماً مع الفكرة الاشتراك. و في الحقيقة، إن اعتراف هذه الجماعة تحمل التعددية،التي تقبل بالمبادي‏ء الأولية لفكرة الاشتراك، علي القول بنوع من الوحدة أو الأحقية الجماعية، حيث يمكن لكل عقيدة أو دين أن يكون علي حق مستقلا ومنفصلا عن الأديان الأخري، وأن يهدي أتباعه الي الطريق. وعلي أساس ما تقدم بيانه يمكن القيام بدراسة فكرة التعددية الدينية و فهمها فيما يلي من الصفحات.

فكرة التعددية الدينية

حسبما سبق بيانه، يمكن فهم التعددية الدينية علي ضوء تمييزها عن رقيبتيها، الفكرة الانحصارية والفكرة الاشتراكية في الاديان. في «الانحصارية الدينية» يسعي المتدينون أن يهكدوا أن دينهم وحده علي حق، وبإنكارهم الأديان اخري يرون أن طريق السعادة والهداية لا يعرف إلا باعتناق دينهم وحده. و في الطرف الآخر،تري فكرة الاشتراكية الدينية أن أتباع الدين الذين يقولون بأحقية دينهم يعتقدون أن سائر الأديان الأخري يحق لها أن تشترك معهم في القول بهذه الأحقية، وهم، في الواقع، يرون أن عناصر الأديان الأخري تفرعات وأقسام من دينهم، وأنها لظروف خاصة برزت تحت اسماء وعناوين مختلفة، و عليه، فإن الأديان والمدارس الأخري، من حيث كونها علي حق في بيان حقائق هذا الدين، لها أن تسير علي طريق السعادة والهداية.

في التعددية الدينية، بعكس الفكرتين المذكورتين، وجهة النظر العامة هي أن كل دين ومذهب يعتبر، مستقلا، طريقاً إلي السعادة، وبما أن هدف الجميع واحد، وأن جميع الأديان تبحث عن الحقيقة وتتجه نحو مقصود واحد، فكل الأديان علي حق. و في الواقع، ماالأديان إلاّ طرق مختلفة وألسنة متباينة للوصول إلي الحقيقة18.