(جون هيك) John Hick، أحد رواد هذا المذهب، يشرح هذه المسألة بضرب مثل من علم الهيئة، فهو يقول إن الأرض بقيت سنوات طويلة تعتبر هي محور الكون، وإن العالم كان يدور حولها، في الوقت الذي لم تكن هذه هي الحقيقة، إنما ظن الناس هو الذي أظهرها علي هذه الصورة. ولكن بعد اتضاح الحقيقة، ظهر أن المحور شيء آخر، وأن الأرض جزء من منظومة تدور حول ذلك المحور. كذلك الحال في ميدان التفكر الديني، فقد حسب أصحاب الاديان لسنوات طويلة أن دينهم هو محور الحقيقة، وأن ذلك هو وحده الطريق للوصول الي الحقيقة، وأن الطرق الأخري والباحثين الآخرين عن الحقيقة يجب أن يدوروا حول دينهم. ولكننا اليوم نري أن المحور شيء آخر، وهو الحقيقة نفسها، إذ إن حقيقة العالم، مهما يكن الاسم الذي تتخذه، هي المحور وإن جميع الأديان والمذاهب والعقائد والمدارس تدور حولها، وهي في الواقع طرق للوصول إلي تلك الحقيقة19.
ومن منظور آخر، إن المجتمع الذي يهمن بالتعددية يمتاز علي المجتمع الذي لا يهمن بها بأن ديناً واحداً يعتبر الدين الرسمي للنظام الحاكم فيه، وإن أتباع ذلك الدين الذي يمثلون الاكثرية هم الذين يشكلون المجتمع الذي يسيطر عليه دين الأكثرية20. وعلي أساس من هذا التمايز بين المجتمعين المذكورين يمكن الاستنتاج أنه طبقاً لهذه الفكرة لا تكون التعددية مجرد ظاهرة أكاديمية، بل يمكن تفسيرها ضمن إطار سياسي أيضا.
علي الرغم من مضي بضعة عقود من الزمن علي ظهور فكرة التعددية الدينية، فإن شواخص هذه الفكرة وخصائصها ما زالت تتطلب التفسير والتحليل وفق المعايير الفلسفية والمنطقية21. وحسبما يري أصحاب الرأي في هذا الشأن إن الدوافع والآراء الأصلية لهذا الضرب من التفكير لم يتم شرحها وبيانها حتي علي أيدي واضعيه أو أتباعهم. و في الوقت نفسه يمكن توكيد الرأي القائل بأن الكتاب الدينيين والمتدينين المتأثرين بشكل ما بهذه الحركات الفكرية قد انبروا لتفسير ظاهرة الدين والعناصر الدينية بشكل ظاهرة انسانية أكثر من أن تكون حدثاً إلهياً. وبعبارة أخري،تري هذه المجموعة من المفكرين الدينين أن الدين، مثل سائر شهون الحياة الانسانية (كالاخلاق، والفلسفة، والعادات والرسوم الاجتماعية)، قد نجم عن الجوانب الانسانية، وينبغي أن لا ينسب منشهه وبدايته إلي الآلهة. وهذا يعني أنه يجب عدم ترجيح أحد الاديان علي الأديان الأخري، ولا أن تفضل عناصر دين علي دين آخر في مجال المقارنة. إن قيمة كل دين وأرجحيته إنما تكونان علي ضوء مبادئه و عناصره الأخلاقية، لا علي وفق المعايير المنطقية والميتافيزيقية22. وهذا ما يهدي في النهاية إلي ضرب من النسبية التي سوف نتناولها بالتفصيل.
تاريخ ظهور التعددية الدينية
يمكن العثور علي الجذور الفلسفية للتعددية الدينية ـ كما سبق القول ـ في التاريخ القديم للفلسفة والدين. بعض عناصر هذه الفكرة موجود في مختلف الأديان تحت اسماء وحركات هي غالباً من صنع آشخاص مخالفين لها او معترضين عليها إلا أن صياغتها بصورة فرضية أو مذهب فكري يرجع إلي القرن أو القرنين الاخيرين.يعتقد بعض الكتاب المعاصرين أن العوامل الاقتصادية والسياسية في القرن الأخير هي المسهولة عن ظهور فكرة التعددية ونموها. قبل القرن التاسع عشر لم يكن هناك ارتباط كبير بين الأديان، إذ إن الأديان الكبري في العالم لم تكن تبدي ميلاً للتواصل والتفاهم المتبادل. ولكن ابتداء من القرن التاسع عشر وبعده، وخاصة في القرن العشرين، وعلي أثر اتساع العلائق الاقتصادية والسياسية والثقافية و الاجتماعية، ظهرت الرغبة في معرفة المزيد عن الأديان المختلفة بين الطبقات المثقفة. ومنذ سنة 1950 وما بعدها أخذت تلح في الظهور أكثر فأكثر الفكرة القائلة بضرورة التفاهم والتلاقي بين الأديان، وعلي الأخص بين الاسلام والمسيحية واليهودية، لمعرفة المزيد والدقيق عنها. وقد أدت هذه الفكرة إلي ظهور حركات وتطورات في أطراف العالم وزواياه في محيط المثقفين، فكان أن عقدت المهتمرات و الاجتماعات العديدة، وكانت هذه الحركات و الارتباطات في الاطار المعرفي والوصفي، وأحياناً في اطار المحاورة والمناقشة dialogue23.