النتيجة المستخلصة
عند استخلاص النتيجة الكلية من هذا البحث ينبغي القول إن في كل تحكيم علمي في التعددية الدينية يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار مجموعة الأصول القائمة عليها، إذ لا يمكن بالتعامل مع بعض المباديء المقبولة الحكم علي مجموع ذلك النظام الفكري بكونه إيجابياً او مقبولاً. إن إحدي النقاط التي يجب أخذها بنظر الاعتبار فيما يتعلق بفكرة التعددية الدينية وعلاقة الاسلام بها، هي أنه علي الرغم من إمكان العثور في الاسلام علي بعض العناصر وحتي بعض الأصول الموضوعة للبحث في هذه النظرية، بل حتي اعتبار الاسلام علي رأس الدعاة اليها، فإن ذلك لايعني أن هذا اللون من التفكير مع أصوله وتبعاته يحظي بالقبول من جانب الاسلام. وبعبارة أخري من الملاحظ أن ثمة مغالطات تصدر من بعض الكتاب أو الذين يدعون معرفة الاسلام، بل ومن بعض المستشرقين، يسعون فيها إلي أن ينسبوا هذه الفرضية و هذا الاسلوب الفكري إلي الاسلام. فهم يقولون: بما أن الاسلام يترك اختيار الدين للانسان نفسه31، أو أنه ينظر، في مواضع اخري، بعين الاحترام إلي الأديان الاخري، وأنه أحياناً يصدّق عقائدها، أو أنه يطرح فكرة قبول مباديء الأديان الاخري جميعاً32، داعياً الجميع الي التحلق حولها، فهذا و غيره من أمثاله يشهد علي أن فكرة التعددية الدينية تحظي بتأييد الاسلام ايضا، وانه قد تكلم في ذلك حتي أنه يفتخر بكونه من واضعي هذه الفكرة والرائدين فيها. عند نقد أمثال هذه التفسيرات وتقويمها ينبغي القول إنه إذا كانت أهداف فرضية التعددية الدينية وآراهها تنحصر فيما قيل فحسب، فإن أقوالهم تعتبر صحيحة، وكذلك اعتبار الاسلام من رواد هذه الحركة. غير أنه سبق القول هنا، إن هدف دعاة هذه النظرية (أو في الأقل مهسسي هذه الحركة خلال القرنين الأخيرين) لا ينحصر في هذه الأمور، إذهم في النهاية يطرحون القول بأنه، علي أساس هذه النظرية، تكون جميع الأديان، التي تحكي بشكل ما عن أصول الاعتقادات البشرية، علي جانب من الحق في الوقت نفسه، وأنها جميعاً تفسح الطريق للسعادة وتدل علي طريق الخير والفلاح.فهل يمكن أن ننسب للاسلام نظرية التعددية الدينية علي مالها من هدف نهائي جوهري؟ في الواقع إن ما جاء في الاسلام بشأن الأديان الأخري وكونها علي حق، إنما يقع في الطول لا في العرض زمنياً، أي إن تشريع الشارع المقدس ديناً جديداً ربانياً، علي اعتبار أنه أكمل من الدين السابق أو انه مكمل له، قول لامكان له، إذ كيف يكون دينان أو عدة أديان كل بازاء الآخر وكل في عرض الآخر وتحظي بالمشروعية بالفعل؟ إذا كانت حقيقة كل هذه الأديان واحدة وأنها جميعاً تنبع من عين واحدة هي مصدر الفيض المطلق ومنشأ تشريع عالم الوجود وتكوينه، وأنه بارساله ديناً أكمل، يضع ختم النهاية علي شرعية الدين السابق، ويدعوا أتباع ذلك الدين (فيما اذا كانوا اتباعاً صادقين، لامعاندين مقلدين تقليداً اعمي في البحث عن الحقيقة) الي هذا الدين الجديد، معلناً للجميع أن طريق الفلاح والسعادة يجب البحث عنه في هذا الدين. و في النهاية، بارسال خاتم الرسل مع آخر الرسالات، وبإكمال الدين وإتمام النعمة، يدعو الشارع المقدس ـ و هو نفسه مشرع الأديان السابقة و مرسل آدم و نوح و ابراهيم و موسي و عيسي (ع) ـ الناس جميعاً دعوة عامة، ويعلن أنه لا ريب في أن هذا الدين هو الذي اختير للناس قاطبة:
«وَمَنْ يَّبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ». إن هذا التفسير او هذا الانطباع الذي كان من المباديء الأولي لقبول الدين الاسلامي ذي الجذور في القرآن والسيرة النبوية، لا ينسجم مطلقاً مع الأصل البنيوي لظاهرة التعددية الدينية، والقبول بأي منهما يعني طرد الآخر وانكاره.
خلاصة القول إننا إذا نظرنا إلي ظاهرة التعددية الدينية نظرة تفاهل، وتغاضينا عن الدوافع السياسية الكامنة وراءها، لوجدنا هذه النظرية في إطار حركة أكاديمية في محاولة لاعطاء المشروعية للاديان الابراهيمية (بل في شعاع أوسع، لجميع الأديان والمدارس الفكرية والعقائدية بحيث يقع كل منها في عرض الآخر، وهي صادقة في تزامن واحد، وكل منها يبحث عن السعادة والفلاح بشكل ما. و في الوقت نفسه، وبالتغاضي عن الاغراض السياسية الظاهرة والخفية فيها إلي حدما والتي كانت الدافع وراء الحركات التعددية (خاصة في مجال الأديان) وأدت إلي بعض النتائج في هذا الباب، نستطيع، بتفهم هذه الحركة الفكرية، أن نستنتج أن هذه النظرية، منذ ظهورها حتي الآن، لم تستطيع أن تنير الطريق أمام رجال الدين والباحثين الواقعيين عن الحقيقة، وأن المبدأ المحوري الذي عرضته واعتبرته أساساً لفكرة لم يكن مما يمكن أن تنكره الأديان أو تتغاضي عنه، وأن ما ادعت بلوغه لم يلبس لبوس الواقع المتحقق، و علي الأخص من حيث وجهة نظر المسلم. وبقبول أن الاسلام خاتم الأديان، وأنه إكمال الدين الاسلامي المبين33، بالاضافة الي التصديق بأن الدين المقبول لدي صاحب الشريعة هو الاسلام وحده، لم يعد ثمة مجال لطرح فكرة التعددية وقبولها.