ولكي يشرح أصحاب فكرة التعددية الدينية من الناحية الفلسفية هذه الازد واجية في مفهوم الواقعية أو الحقيقة، يلجأون إلي مبدأ المعرفة الذي وضعه (كانت)، والذي يقول إن المعرفة التي يحصل عليها الانسان مما يحيط به من الأشياء، والكائنات الخارجة عن وجوده هو، تتألف مما يتلقاه من الخارج ومما يدور في ذهنه من الصور. إن كل أنواع المعرفة والتجربة التي لدينا عن العالم الخارجي و واقعيات ماوراء الذات في إطار هذا التفاعل الذهني نجدها كما تظهر لنا ونجربها (لا كما هي) وبناء علي هذا المبدأ يتم رسم صورتين للواقع، الأولي تمثل الواقع بذاته وكما هو، وهذا الجانب خارج عن متناول أيدينا، وليس ثمة وسيلة توصلنا إليه. والثانية تمثل الواقع كما يبدو لنا ويقع تحت أنظارنا. في هذه التفاعلات المعرفية والتجريبية الشهودية، لا يكون الذهن منفعلا كليا، ولكنه يعمد إلي المتلقيات فيصبّها في قوالب ذهنية ويضيف اليها التفاسير من عنده (وبعضها من طبيعة تركيب الذهن نفسه) فيصوغ صورة من الواقع العيني، يختلف عن الواقع كما هو ويعرضه علي الانسان. في هذه التفاعلات الذهنية ويكون لمكتشفات المرء ومخزونه الفكري وأحكامه السابقة، الدور المهم في صياغة مكتشفاته وتفسيراته وأحكامه اللاحقة24.
بالقبول بهذا المبدأ في المعرفة، تعرض التعددية الدينية تفسيرها العقلاني في ميدان المعرفة وانطباعها عن الواقعية والحقيقة المطلقة في كل من الأديان الإلهية. و عليه فان ما كان ضمن حدود معرفة أصحاب الأديان وتجاربهم، وظهر علي امتداد تاريخ الأديان في قوالب متنوعة من المفاهيم واللغات، لم يكن سوي الواقعية المشهودة والمفسَّرة، لا الواقعية الأصيلة. وليس ثمة شك في أن لثقافة كل قوم وعاداتهم ورسومهم وتعليماتهم القديمة تأثيراتها العميقة في حصول هذا الانطباع وهذه المعرفة، وما زالت لها تلك التأثيرات ايضاً، مما يهدي بالطبع الي حصول اختلافات، أو تعارضات أحياناً، إن ما ظهر بين الأديان من اختلافات و من تكفيرات إنما كانت بسبب هذه الازدواجية أو التعدد في فهم الحقيقة و الانطباع عنها. إن الجهود التي يبذلها أصحاب فرضية التعددية الدينية تهدف إثبات أن الأديان تبحث عن حقيقة واحدة، وجعلها مقبولة لدي أصحاب الأديان، وإن كلاً منها يسعي، بما يملك من معايير ومباديء واسعة، للوصول إليها. إن الواقع او الحقيقة المطلقة موجودة في كل الأديان، دون أن يستطيع أحد فهمها والوصول اليها. ان مايسمي بالحقيقة الالهية والتي تهلف جانباً من مجموعة كل دين من الاديان وكانت علي امتداد تاريخ ذلك الدين جزءاً لا يتجزأ منه، هي تلك الحقيقة الخاصة المتعينة في ذلك الإطار الديني نفسه. وعلي أساس هذا المبدأ تكون الأديان كلها علي حق، وكل منها قادر علي إضاءة جانب من الطريق، طريق السعادة والفلاح25.
علي فرض القبول بهذا التفسير العقلاني لموقع الحقيقة في معتقدات كل دين من الأديان، والقبول بأن جميع الأديان تبحث عن حقيقة واحدة، وأن مابينها من اختلاف وتباين إنما يرجع إلي الاختلافات اللغوية أو لسوء الفهم، فإن هذا التفسير لا يستطيع أن يفعل شيئاً في القول بأحقية جميع الأديان وتساويها في القيمة. إن تعليل التعددية لتساوي الأديان إنما يمكن أن يكون مقبولاً فيما إذا جعلنا حقيقة الدين تنحصر في العنصر المعرفي و في مبدأ بحثه عن الحقيقة، وأغفلنا الجوانب والأصول والفروع الأخري التي تلعب دورها في بنية كل دين. وبكلام آخر، الدين عبارة عن مجموعة من الأصول المعرفية والقيم التي تتبعها سلسلة من المعتقدات والواجبات العملية التي تضم في جانب منها طلب الحقيقة والتمحور حول الحقيقة، وهما جزء أصلي وأولي. إننا إذا ما قمنا بالمقارنة بين دينين متزامنين، وقلنا إن أحدهما أكمل من الآخر، أو إن أحدهما يكمل الآخر بشكل ما، فإن ذلك لا يعني أننا إنما نصدر حكمنا من الموقع المعرفي والوصفي فحسب حتي يمكن الإجابة عن طريق التحليل المذكور وإنهاء الموضوع بذلك، بل إن مالا تشمله المقارنة إلا قليلا، أو قل إن تساويه بين الاديان يعتبر مفروغاً منه بنحو من الأنحاء، بل إنه علي وجود اختلافات لغوية وثقافية لا يصعب فهمه علي الجميع، هو هذا المبدأ المحوري نفسه. و في باب المقارنة والتصدي للأمر،سوف نتكلم علي أحدالأديان من حيث بدايته وأصوله و فروعه مما يأتي في مرتبة متأخرة. ويبدو أن إغفال هذه النكتة والتغاضي عنها هما اللذان جعلا فكرة التعددية لا تحظي بنجاح كبير في التساوي بين الأديان وتوجيهها وجهة واحدة في جميع الجوانب المعرفية والقيمية.