ومتى حكم بحكم على موضوع فلم يعلم هل ذلكالحكم صادق على ذلك الموضوع أم لا، فإن أحدما يوقع لنا التصديق به أن نتصفح جزئياتذلك الموضوع إما كلها وإما أكثرها، فإذاوجدنا ذلك الحكم صادقا على جزئياته وقعلنا التصديق بأن الذي حكم به على هذاالموضوع هو ما حكم. فتصفح جزئيات موضوع مالنتبين به صدق حكم حكم به على ذلك الموضعيسمى الاستقراء. ومتى أخذ من جزئياتالموضوع شيء واحد أو أقل جزئياته، لم يسمذلك استقراء، لكن يسمى أخذ المثال. فعلىهذه الجهة ينفع المثال والاستقراء فيإيقاع التصديق بالشيء. وقد ينفعان أيضا فيتفهيم الشيء. فإنه ربما عسر تصور الكليوأخذه مجردا، فيؤخذ ذلك الكلي في بعضجزئياته فيخيل فيه فيسهل تصوره، وكلما خيلالكلي في جزئيات أكثر كان المتعلم له أقوى.وينفعان أيضا في سهولة الحفظ. فإن جزئياتالشيء وأشخاصه المحسوسه لا يكاد يعسر علىالإنسان أن يحصرها ذهن، فيسهل لذلك علىالذهن أن يتذكر بها الأمر الذي قصده،فيسهل بذلك حفظ الشيء، وكلما كثرتالجزئيات كان أبلغ في المعونة على حفظالشيء وفي المعونة على استذكاره.
والوضع نصب العين مما يستعمل في التعليم،وهو إيقاع الشيء تحت البصر بالجهةالممكنة. وهذا النحو هو أحد أنحاء التعليمالذي يستعمله أصحاب التعاليم، وهو أن يجعلبحذاء البصر إما المحسوس من الشيء بالبصروإما المحسوس من شبيهه. والنحو الذيتستعمل فيه الحروف هو جزء من نصب العين.والتصوير واستعمال الأشكال واستعمالالترتيب بالأشياء التي تدرك بالبصر هيأجزاء من نصب حذاء العين. وأما سائرأجزائها فليس يستعمل في الفلسفة وله مدخليسير في التصديق.
وهذا المقدار من القول في انحاء التعليمقانع في هذا الموضع.
وبعد هذا ينبغي أن نعدد الأمور التي ينبغيأن يعرفها المتعلم في افتتاح كل كتاب. وتلكفليس يعسر عليك معرفتها من تعديد المفسرينالحدث لها. وهي غرض الكتاب ومنفعته وقسمتهونسبته ومرتبته وعنوانه واسم واضعه ونحوالتعليم الذي استعمل فيه. ويعنى بالغرضالأمور التي قصد تعريفها في الكتاب.ومنفعته هي منفعة ما عرف من الكتاب في شيءآخر خارج عن ذلك الكتاب. ويعنى بقسمته عددأجزاء الكتاب مقالات كانت أو فصولا أو غيرذلك مما يليق أن يؤخذ ألقابا لأجزاءالكتاب من فنون أو أبواب أو ما أشبه ذلكوتعريف ما في كل جزء منه. ونسبة الكتابيعنى بها تعريف الكتاب من أي صناعة هو.والمرتبة يعنى بها مرتبة الكتاب من تلكالصناعة أي مرتبة هي، هل هو جزء أول في تلكالصناعة أو أوسط أو أخير أو في مرتبة منهاأخرى. وعنوانه هو معنى اسم الكتاب. وأمااسم واضع الكتاب فمعناه بين. فأما نحوالتعليم فقد بينا نحن معناه آنفا. وكل واحدمن هذه متى عرف كان له غناء في تعليم ما فيالكتاب ومعرفة غنائها فليس تعدمها فيتفاسير الحدث، فإن عناية أكثرهم مصروفةإلى التكثير بأمثال هذه الأشياء. ونحن فقدخلينا أمثال هذه الأشياء لهم. وأرسطاطاليسوالقدماء من شيعته يستعملون من هذهالأشياء في افتتاح كل كتاب مقدار الحاجة،وربما لم يستعملوا منها شيئا أصلا. وفيأكثر الكتب فلا يكاد أرسطاطاليس يخل بمعظمما يحتاج إليه من هذه، وذلك هو الغرضوالمنفعة. وكثيرا ما يذكر النسبةوالمرتبة، وربما ذكر معها نحو التعليمالذي يستعمله في الكتاب.
وقد قيل في الكتاب الذي قدم على هذاالكتاب أي قوة يفيدها صناعة المنطق وأيكمال يكسبه الإنسان بها. وهذه القوة وهذاالكمال إنما يحصل بالوقوف على جميع الجهاتوالأمور التي بها ينقاد الذهن إلى أنالشيء هو ذا أو ليس هو كذا، أو بالوقوف علىأصناف انقيادات الذهن كم هي وعلى كم جهة هيوبالوقوف على أصناف الجهات وأصناف الأمورالتي صنف صنف منها سبب لصنف صنف من أصنافانقيادات الذهن. وأصناف انقيادات الذهنكثيرة. منها انقياد الذهن الشيء عن طريق ماينقاد عن الأشياء الشعرية. ومنها انقيادهللشيء على جهة انقياده عن الأقاويلالمشورية والأقاويل التي تؤخذ فيها مايمدح به ا?لإنسان أو يهجى، وعلى مثال ماينقاد عن الأقاويل الخصومية والمعاتباتوالشكاية والإعتذار وما جانس هذا، الصنفهو الإنقياد الخطبي. ومنها انقياد الذهنللمغالطات الواردة عليه. ومنها انقيادهللشيء على طريق الجدل. ومنها انقياده لماهو حق يقين.