من بين الأحاديث الشريفة للرسول الأكرمصلّى الله عليه وآله وسلّم هناك مجموعة منالوصايا يخاطب فيها النبي شخصاً معيناًوهي مثبتة على شكل بيانات طويلة ومفصلة؛فهناك حديث طويل له مع علي عليه السلاموآخر له صلّى الله عليه وآله وسلّم مع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وثالث مع أبيذر الغفاري رضوان الله عليه؛ ولعل السببفي ذلك يعود إلى أن النبي صلّى الله عليهوآله وسلّم أراد من وراء ذلك أن تكونمسؤولية المحافظة على تلك الوصاياالأخلاقية العامة على عاتق ذلك الشخصالمخاطب، فقد كان صلوات الله عليه يوصيأصحابه بحفظ ما يسمعونه منه وإبلاغ الجميعبذلك "وليبلغ االشاهد الغائب" بنص الحديث،وعلى أساس هذه التوصيات النبوية ظهر (علمالحديث) في الإسلام حيث تناقل المسلمونأحاديث النبي صلوات الله عليه وآله بكلدقة وأمانة جيلاً بعد آخر؛ وأعقب ذلك ظهورعلم آخر هو (علم الرجال) وهو يعنى بأحوالرواة الحديث ومدى ثقتهم وأمانتهم في نقلالأحاديث الشريفة.
في هذا اليوم أنقل لكم واحدة من وصاياالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للصحابيالجليل أبي ذر الغفاري. قال عليه السلام:"يا أبا ذر إياك والتسويف بأملك فإنك بيومكولست بما بعده، فإن يكن غد لك فكن في الغدكما كنت في اليوم، وإن لم يكن غد لك لم تندمعلى ما فرطت في اليوم".
"يا أبا ذر كن على عمرك أشح منك على درهمكودينارك(1)".
إن هذه الوصية العظيمة تدعو الإنسان إلىاغتنام العمر والاستفادة من فرصة الحياة.
ومع الأسف الشديد فإن هذا الوقت والزمنالطويل المتذبذب الذي يطلق عليه العمر هومن أدنى الأشياء قيمة لدى الناس.
إن دورة العمر بالنسبة لكل إنسان هي فيالواقع مدرسة، فكما أن الدقيقة والساعةواليوم لها أهميتها في المدرسة، وتلكالفرصة المعدودة بالدقائق عندما يدقالجرس بين كل درس وآخر وضعت من أجل تجديدالقوى والاستعداد للدرس المقبلوالاستفادة منه بأكثر ما يمكن فإن عمرالإنسان هو الآخر يجب أن ينظم على هذاالأساس بحيث لا تذهب فيه الساعات والدقائقهدراً دون فائدة ما.
يعتبر العلامة الحلي واحداً من أسطعالنجوم في سماء الإسلام، وكان إضافة إلىمؤلفاته العديدة في الفقه قد ألف في مختلفالعلوم الإسلامية العقلية منها والنقلية.
لقد كان هذا الرجل تلميذاً لدى الفيلسوفوالرياضي الكبير نصير الدين الطوسي، وكانيلازمه ليل نهار، وذكر عن أستاذه قائلاً:إنه لم يترك في حياته وفي المدة التيلازمته فيها مستحباً شرعياً إلا وقام به.لقد نظم حياته بحيث يؤدي العمل المناسب فيالوقت المناسب، فحتى تلك الفرصةللاستراحة والترفيه تأتي في وقتهاالمناسب وضمن الحدود الشرعية. فالطالبالذي يهتم بدرسه ويصغي إلى ما يقولالاستاذ تكون ساعة استراحته مفيدةوبمستوى الساعة التي قضاها في الدرس منحيث قيمتها الشرعية. إن من شروط النجاح أنيدرك الإنسان قيمة الوقت.
لو أن شاباً ورث عن أبيه ثروة ضخمة وكانسفيهاً فأسرف وبذّر فإن الجميع سيأسفونلذلك الشاب ويعجبون لشأنه ويرقون لحالهلعلمهم بما ستؤول إليه العاقبة من شقاءوندم.
لقد صادفنا جميعاً مثل هذه الحالةوتأسفنا لذلك، إلا أننا لم نعر أية أهميةإزاء التبذير والإسراف في ثروة هي أهمبكثير من المال الا وهي وقتنا وعمرنا؛وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنناندرك جيداً قيمة المال ولا ندرك أبداًقيمة الوقت والزمن.
إننا نشاهد الكثير من الناس ممن ربواأنفسهم لا يعتدون على أموال الآخرين فهميخافون الله في درهم يأكلونه بالباطل،وإذا ما حدث وتضرر أحد الناس سارعوا إلىجبران خسارته من أموالهم، ولكن هؤلاءالأشخاص أنفسهم لا يهتمون بوقت الآخرينولا يولونه أدنى حرمة، إذ نراهم يهدرونالوقت بأعذار شتى، كأن يخلفون الوعدمثلاً.
إن هذا يدل على أننا لم نهضم تماماً وصاياالنبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّمفي أن حرمة الوقت والعمر أسمى من حرمةالمال. فلو أنا أتلفنا مالاً لأحد الناساستطعنا أن نجبره من أموالنا، ولكن لوأتلفنا جزءًا من عمره فهل يمكننا أن نجبرهمن أعمارنا؟
قال الإمام علي عليه السلام: "فسابقوا ـرحمكم الله ـ إلى منازلكم التي أمرتم أنتعمروها والتي رغبتم فيها ودعيتم إليهاواستتموا نعم الله عليكم بالصبر على طاعتهوالمجانبة لمعصيته، فإن غداً من اليومقريب، ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرعالأيام في الشهر، واسرع الشهور في السنة،وأسرع السنين في العمر(2)".
ويشير القرآن الكريم إلى أولئك الذينضيعوا أعمارهم حتى إذا أدركوا ما آلت إليهعاقبتهم قالوا: (ربنا ارجعنا نعمل صالحا).(السجدة: 12) فيأتيهم الجواب: (كلا إنها كلمةهو قائلها).
يذكر عن أحد الأولياء أنه حفر قبراً له فيمنزله فكان ينام فيه بين حين وآخر، ويوحيإلى نفسه بأنه قد مات، ثم التمس من الله أنيعيده إلى الدنيا، فيجبر ما قام به من ذنوبويتوب إلى الله فيعمل صالحاً يرضاه. هكذاكان هذا الرجل يعظ نفسه ويربيها.
إن على الإنسان أن لا يغفل إلى هذا الحدّبحيث يحتاج إلى هذا القدر من العملياتالموحشة ليتذكر ويستيقظ. ينبغي عليه أنيكون أكثر فطنة من ذلك لأن الكون كله فيحركة مستمرة لا يتوقف حتى لحظة واحدة،كذلك إن الإنسان نفسه في حالة من التغيرالمستمر، فقد مر بعهد الطفولة ثم الشبابثم يتجه نحو الشيخوخة، وإنه في كل هذهالفترات في حالة زرع مستمر إلى أن يلقى مازرع في حياته.
إن من أكثر الأشياء التي ذمها الدين هيطول الأمل حيث ينعكس ذلك بتضييع الوقتوتسويف الإنسان لنفسه في أن يعمل صالحاًفي المستقبل دون أي ضمان في أنه سيعيش إلىساعة بل إلى لحظة أخرى. يقول الإمام عليعليه السلام: "أخوف ما أخافه عليكم، اتباعالهوى وطول الأمل".
نعود مرة أخرى إلى وصية الرسول الأكرمصلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي ذر (رض): "ياأبا ذر إذا اصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء،وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ منصحتك قبل سقمك وحياتك قبل موتك فإنك لاتدري ما اسمك غدا(3)".