إن من أمعن في الكتاب و السنة يقف على أن التشريع الإسلامي تابع لملاكات، فلا واجب إلا لمصلحة في فعله و لا حرام إلا لمفسدة في اقترافه و يشهد بذلك كتاب الله في موارد: يقول سبحانه: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلاة فهل أنتم منتهون (المائدة/91) فالآية تعلل حرمة الخبيثين باستتباعهما العداوة و البغضاء و صدهما عن ذكر الله، يقول سبحانه: و أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر (العنكبوت/45).
إلى غير ذلك من الآيات التي تصرح بملاكات الأحكام.
و قد تضافرت النصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام على أن الأحكام الشرعية تخضع لملاكات، قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا عليه السلام: «إن الله تبارك و تعالى لم يبح أكلا و لا شربا إلا لما فيه المنفعة و الصلاح، و لم يحرم إلا ما فيه الضرر و التلف و الفساد» (1).
و قال عليه السلام في الدم: «إنه يسي ء الخلق و يورث القسوة للقلب و قلة الرأفة و الرحمة و لا يؤمن أن يقتل ولده و والده» (2).
و هذا باقر العلوم و إمامها عليه السلام يقول: «إن مدمن الخمر كعابد وثن، و يورثه الارتعاش، و يهدم مروته و يحمله إلى التجسر على المحارم من سفك الدماء و ركوب الزنا» (3).
و غيرها من النصوص المتضافرة عن أئمة الدين (4).
فإذا كانت الأحكام تابعة لمصالح و مفاسد في الموضوع، فالغاية المتوخاة من تشريعها إنما هي الوصول إليها، أو التحرز عنها، و بما أن المصالح و المفاسد ليست على وزان واحد، بل رب واجب يسوغ في طريق إحرازه اقتراف بعض المحارم، لاشتماله على مصلحة كبيرة لا يجوز تركها أصلا، و رب حرام ذي مفسدة كبيرة، لا يجوز اقترافه، و إن استلزم ترك الواجب أو الواجبات.
و لأجل ذلك فقد عقد الفقهاء بابا خاصا لتزاحم الأحكام و تصادمها في بعض الموارد، فيقدمون الأهم على المهم و الأكثر مصلحة على الأقل منها، و الأعظم مفسدة على الأحقر منها، و هكذا و يتوصلون في تمييز الأهم عن المهم، بالطرق و الامارات التي تورث الاطمئنان، و باب التزاحم في علم الأصول غير التعارض فيه، و لكل أحكام.
و قد أعان فتح هذا الباب على حل كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربما يتوهم الجاهل أنها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة، و أنها من المعضلات التي لا تنحل أبدا، و لنأت على ذلك بمثال و هو: إنه قد أصبح تشريح بدن الإنسان في المختبرات من الضروريات الحيوية التي يتوقف عليه نظام الطب الحديث، فلا يتسنى تعلم الطب إلا بالتشريح و الاطلاع على خفايا الأمراض و الأدوية.
غير أن هذه المصلحة، تصادمها مسألة احترام الإنسان حيه و ميته، إلى حد أوجب الشارع الإسراع في تغسيله و تكفينه و تجهيزه للدفن، و لا يجوز نبش قبره إذا دفن، و لا يجوز التمثيل به و تقطيع أعضائه، بل هو من المحرمات الكبيرة التي لم يجوزها الشارع حتى بالنسبة إلى الكلب العقور، غير أن عناية الشارع بالصحة العامة و تقدم العلوم جعلته يسوغ اقتراف هذا العمل لتلك الغاية، مقدما بدن الكافر على المسلم و المسلم غير المعروف على المعروف منه، و هكذا