قال الفقيه الكبير و المتكلم النحرير الشيخ أبوالصلاح الحلبى رحمه الله:
«و قصدهم عليا (ع) بالاذى، لتخلفه عنهم، و الاغلاظ له فى الخطاب، و المبالغة فى الوعيد، و احضار الحطب لتحريق منزله، و الهجوم عليه، بالرجال من غير اذنه، و الاتيان به ملببا، و اضطرارهم بذلك زوجته و بناته، و نسائه، و حامته من بنات هاشم و غيرهم الى الخروج من بيوتهم، و تجريد السيوف من حوله، و توعده بالقتل ان امتنع من بيعتهم»
[ تقريب المعارف: ص 233.]
و قالر عبدالجليل القزوينى، فى كتابه الذى رد فيه على كتاب «بعض فضائح الروافض»، ما ترجمته:
«.. يقولون: ان عمر ضرب على بطن فاطمة، و قتل جنينا فى بطنها كان الرسول سماه محسنا...»
فجوابه: «.. ان هذا الخبر صحيح. و قد نقله الشيعة و أهل السنة فى كتبهم. ولكن قد روى عن المصطفى (ص) قوله: «انما الاعمال بالنيات»، فان كان قصد عمر هو أخذ على للبيعة، و لم يقصد اسقاط الجنين، و لعل عمر لم يكن يعلم ان فاطمة كانت خلف الباب، فيكون قتله للجنين خطأ لا عن عمد.
و حتى لو كان قد قتله عمدا، فانه لم يكن معصوما. والله هو الذى يحكم فيه، و ليس لنا نحن ذلك، و لا يمكن أن يقال، أكثر من ذلك هنا. والله أعلم بأعمال عباده و بضمائرهم، و سرائرهم».
و قال: «يقولون: ان عمر و عثمان منعا فاطمة الزهراء من البكاء على أبيها الخ...»
[ الفقرات المتقدمة مترجمة من كتاب النقض لعبد الجليل القزوينى: ص 298.]
و يقول فى موضع آخر:
«ان عمر مزق صحيفة فاطمة حول فدك، و ضربها على بطنها، ثم منعوها من البكاء على أبيها»
[ المصدر السابق: ص 302.]
و نقول:
ان الاعتذار المذكور عن قتل المحسن غريب و عجيب، أمام هذا السيل الهائل من الروايات المصرحة بمعرفته بوجودها خلف الباب، حتى لقد جاء فى بعضها أنه قد ضرب أصابعها حين أمسكت الباب لتمنعهم من فتحه، و أخبرته انها حاسرة حتى لا يدخل عليها بيتها.
ثم هو قد رفسها، و لطمها، و ضربها هو و قنفذ و غيرهما.
فما ندرى! كيف يمكن اعتبار قتل المحسن خطأ، الا أن يكون للخطأ مفهوم و معنى آخر، لا يدركه غير كاتب تلك الكلمات، و منشئها.
و مهما يكن من أمر، فاننا انما نقلنا عنه هذه الفقرات، لدلالتها بوضوح على أن ضربها، و اهانتها، و كسر الباب، و الدخول عليها فى
بيتها عنوة، و اسقاط جنينها كان أمرا مسلما، يحتج به فريق، و يتمحل له المبررات و التوجيهات مهما كانت تافهة و باردة فريق آخر.
و نحن لو أردنا أن نعتمد هذا النوع من التبريرات، فلن نعثر بعد هذا على وجه الارض على مجرم يدان بجريمته، و يستحق العقوبة.
و لربما تمكن البعض من ايجاد العذر لابليس، الذى حاول الغزالى التخفيف عنه، و صرف الناس عن لعنه، حين قال:
«و لا بأس بالسكوت عن لعنه»
[ احياء علوم الدين: ج 3 ص 125 (ط دار المعرفة).]
نعم، لقد قال ذلك، و هو يحاول تبرئة يزيد الخمور و الفجور من جريمة قتل الحسين (عليه السلام).
فاقرأ، واعجب، فما عشت أراك الدهر عجبا.
قال المعتزلى (المتوفى سنة 656 ه) نقلا عن أستاذه أبى جعفر يحيى بن محمد العلوى البصرى: «فان قلتم: ان بيت فاطمة انما دخل، و سترها انما كشف حفظا لنظام الاسلام، و كى لا ينتشر الامر، و يخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة، و لزوم الجماعة..
قيل لكم: و كذلك ستر عائشة انما كشف، و هودجها انما هتك لانها نشرت حبل الطاعة، و شقت عصا المسلمين، و أراقت دماء المسلمين... الى أن قال:
فكيف صار هتك عائشة من الكبائر، التى يجب معها التخليد فى النار، و البراءة من فاعله، من أوكد عرى الايمان. و صار كشف بيت فاطمة و الدخول عليها منزلها، و جمع حطب ببابها، و تهددها بالتحريق من أو كد عرى الدين، و أثبت دعائم الاسلام، و مما أعز الله به المسلمين، و أطفأ نار الفتنة، و الحرمتان واحدة، و الستران واحد؟.
و ما نحب أن نقول لكم: ان حرمة فاطمة أعظم، و مكانها أرفع، و صيانتها لاجل رسول الله (صلى الله عليه و آله) أولى، فانها بضعة منه، و جزء من لحمه و دمه، و ليست كالزوجة الاجنبية، التى لا نسب بينها و بين الزوج.
الى أن قال: و كيف تكون عائشة أو غيرها فى منزلة فاطمة، و قد أجمع المسلمون كلهم- من يحبها، و من لا يحبها منهم-: انها سيدة نساءالعالمين؟!
قال: و كيف يلزمنا اليوم حفظ رسول الله (ص) فى زوجته، و حفظ أم حبيبة فى أخيها، و لم تلزم الصحابة أنفسها حفظ رسول الله (ص) فى أهل بيته
[ شرح نهج البلاغة، لابن أبى الحديد المعتزلى الشافعى: ج 20 ص 16 و 17.]
و يحتج العالم العابد الزاهد صاحب الكرامات الباهرة السيد رضى الدين على بن طاووس على أهل المذاهب الاخرى بما جرى على الزهراء (عليهاالسلام)، و يروى لهم رواياتهم التى أثبتوها فى مصادرهم- حسبما أشرنا اليه فى مواضعه- فكان مما ألزمهم به قوله:
«و قد تقدم ذكر بعض ذلك من صحاحهم عند ذكر تأخرهم مع على (ع) عن بيعة أبى بكر، و عند ذكر اجتماعهم، لما أراد أبوبكر و عمر تحريق على و العباس بالنار»
[ الطرائف: ص 274.]
و يقول: و من طرائف الاحاديث المذكورة ما ذكره الطبرى، و الواقدى، و صاحب الغرر المقدم ذكرهم من القصد الى بيت فاطمة، و على، والحسن والحسين (ع) بالاحراق. أين هذه الافعال المنكرة من تلك الوصايا المتكررة من نبيهم محمد (ص)...»
[ الطرائف: ص 245.]
الى أن قال: و من أطرف الطرائف قصدهم لاحراق على و العباس بالنار فى قوله:
«فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهما، و قد كان فى البيت فاطمة».
و فى رواية أخرى: انه كان معهم فى البيت الزبير، والحسن والحسين (ع)، و جماعد من بنى هاشم، لأجل تأخرهم عن بيعة أبى بكر، و طعنهم فيها.
أما ينظر أهل العقول الصحيحة من المسلمين: ان محمدا (ص) كان أفضل الخلائق عندهم، و نبوته أهم النبوات، و مبايعته أوجب المبايعات. و مع هذا فانه بعث الى قوم يعبدون الاصنام و الاحجار، و غيرهم من أصناف الملحدين و الكفار، و ما سمعناه أنه استحل، و لا استجاز، و لا رضى أن يأمر باحراق من تأخر عن نبوته و بيعته.
فكيف بلغت العداوة لأهل بيته و الحسد لهم، و الاهمال لوصيته
بهم الى أن يواجهوا و يتهددوا أن يحرقوا بالنار؟
و قد شهدت العقول ان بيعته كانت على هذه الصفات، و أن اكراه الناس عليها بخلاف الشرائع و النبوات، و العادات».
ثم يذكر رواية ابن مسعود قال: «كنا مع رسول الله (ص) فمررنا بقرية نمل، فأحرقت، فقال النبى: لا ينبغى لبشر أن يعذب بعذاب الله تعالى.
«قال عبد المحمود»: و كيف كان أهل بيت النبوة أهون من النمل؟!
و كيف ذكروا: أنهم يعذبونهم بعذاب الله تعالى من الحريق بالنار؟!
والله، ان هذه الامور من أعظم عجائب الدهور»
[ الطرائف: ص 245 و 246.]
و قال رحمه الله: «.. فأما على (ع)، فقد عرفت ما جرى عليه من الدفع عن خلافته و منزلته. و ما بلغوا اليه من القصد لاحراقه بالنار، و كسر حرمته»
[ الطرائف: ص 195.]
و قال السيد ابن طاووس أيضا:
«أقول: و ما كفاه ذلك حتى بعث عمر الى باب أبيك على و أمك فاطمة و عندهما العباس و جماعد من بنى هاشم، و هم مشغولون بموت جدك محمد (ص) و المأتم، فأمر أن يحرقوا بالنار ان لم يخرجوا للبيعة على ما ذكره صاحب كتاب العقد فى الجزء الرابع منه و جماعة
ممن لا يتهم فى روايتهم. و هو شى ء لم يبلغه اليه أحد فيما أعلم قبله و لا بعده من الانبياء و الاوصياء، و لا الملوك المعروفين بالقسوة و الجفاء، و لا ملوك الكفار، انهم بعثوا من يحرقوا الذين تأخروا عن بيعتهم بحريق النار، مضافا الى تهديد القتل و الضرب.
أقول: و لا بلغنا أن أحدا من الملوك كان لهم نبى أو ملك، كان لهم سلطان قد أغناهم بعد الفقر و خلصهم من الذل و الضر، و دلهم على سعادة الدنيا و الآخرة، و فتح عليهم بنبوته بلاد الجبابرة، ثم مات و خلف فيهم بنتا واحدة من ظهره، و قال لهم: «انها سيدة نساءالعالمين» و طفلين معها منها لهما دون سبع سنين أو قريب من ذلك، فتكون مجازات ذلك النبى أو الملك من رعيته انهم ينفدون نارا ليحرقوا ولديه، و نفس ابنته، و هما فى مقام روحه و مهجته»
[ كشف المحجة: ص 120 و 121.]
و قال أيضا و هو يحتج على الآخرين:
«و ذكر الواقدى: أن عمر جاء الى على فى عصابة منهم أسيد بن الحصين (الصحيح: حضير)، و سلمة بن سلامة الاشهلى، فقال:
أخرجوا، أو لنحرقنها عليم..»
[ الطرائف: ص 238/ 239 و احقاق الحق للتسترى: ج 2 ص 370.]
قال الامام المحقق نصيرالدين الطوسى محمد بن محمد بن الحسن رحمه الله: «و بعث الى بيت أميرالمؤمنين لما امتنع عن البيعة، فأضرم فيه النار، و فيه فاطمة (ع)، و جماعة من بنى هاشم»
[ شرح تجريد الاعتقاد (مطبوع ضمن كشف المراد) ص 402، و نهج الحق ص 271 و 272.]
و زاد العلامة الحلى قوله: «و أخرجوا عليا عليه السلام كرها و كان معه الزبير فى البيت، فكسروا سيفه، و أخرجوا من الدار من أخرجوا، و ضربت فاطمة، و ألقت جنينا اسمه محسن»
[ كشف المراد: ص 402 و 403.]
و قال أيضا: و هو يعدد المؤاخذات على الخليفة الثانى: «.. قصد بيت النبوة بالاحراق»
[ نهج الحق: ص 275 و 276.]
و نلاحظ: ان شمس الدين الاسفرايينى فى كتابه تسديد العقائد فى شرح تجريد القواعد و يعرف بالشرح القديم، و القوشجى فى شرحه للتجريد لم ينكرا كلام المحقق الطوسى. و لا شككا فى صحة الرواية كما هو دأبهما فى الموارد الاخرى، بل اكتفى بتوجيه تأخر على عن بيعة أبى بكر، بدعوى طرو عذر و نحو ذلك، فراجع
[ شرح التجريد للقوشجى، ص 482 و 483 (ط حجرية).]
مع ان القوشجى مشهود له بالتعصب حتى وصفه بعض كبار علماء الامامية: «بالمتعصب العنود اللدود»
[ الرسائل الاعتقادية للخواجوئى، ص 409.]
و قال عنه فى مورد آخر: «و هذا منه مكابرة محضة، صرفة بحتة، لان تخلفهم عن جيشه
[ أى جيش أسامة.] و ولايته مشهور فى الطرفين، مذكور فى الطريقين، غير قابل للمنع، و الشريف لما كان منصفا فسلمه و أوله. و القوشجى لما كان مكابرا عنودا، لجوجا لدودا منعه. كما هو دأبه فى المواضع جلها، بل كلها، حيث يعجز عن الجواب»
[ الرسائل الاعتقادية للخواجوئى: ص 412.]
وثمة موارد أخرى يتحدث فيها عن خصوصية القوشجى هذه
[ راجع المصدر السابق ص 473 و 471.]
و قال الفقيه المتكلم المحقق الشيخ المقداد السيورى: «ان عليا (عليه السلام) و جماعة لما امتنعوا عن البيعة، و التجأوا الى بيت فاطمة (ع) منكرين بيعته بعث اليها عمر حتى ضربها على بطنها، و أسقطت سقطا اسمه محسن، و أضرم النار ليحرق عليهم البيت، و فيه فاطمة (ع)، و جماعه من بنى هاشم، فأخرجوا عليا (ع) قهرا بحمائل سيفه يقاد.
لا يقال: هذا الخبر يختص الشيعة بروايته، فيجوز أن يكون موضوعا للتشنيع.
لأنا نقول: ورد أيضا من طريق الخصم، رواه البلاذرى، و ابن عبدالبر، و غيرهما.
و يؤيده قوله عند موته: ليتنى تركت بيت فاطمة لم أكشفه»
[ اللوامع الالهية فى المباحث الكلامية: ص 302.]
و نقول:
ان اصرار كبار علماء المذهب و أساطينه حسبما ظهر مما نقلناه عنهم على الاستدلال فى علم الكلام على خصومهم بهذا الامر، و ارساله ارسال المسلمات. و عدم قدرة الآخرين على التخلص و التملص منه، يدل دلالة ظاهرة على أن انكار هذا الامر أو التشكيك فيه من البعض غير مقبول بل غير معقول. و لا سيما مع هذا الكم الهائل من النصوص و مع تواتر الروايات عن المعصومين، الامر الذى يقطع كل عذر، و يمنع أى تعلل أو تبرير.
و قال العلامة الفقيه، و المتكلم النبيه، الشيخ زين الدين البياضى:
و منها ما رواه البلاذرى، و اشتهر فى الشيعة: انه حصر فاطمة فى الباب، حتى أسقطت محسنا، مع علم كل أحد بقول أبيها لها: فاطمة بضعة منى من آذاها فقد آذانى
[ الصراط المستقيم: ج 3 ص 12، و المطبوع من كتاب البلاذرى يبدأ بما بعد الشورى، و لم يطبع كاملا.]
«قالوا: عائشة لم تكن ابنة محمد، و حين عقر جملها حمت