لكن ما يُلاحظ أن الشواهد على (أنما) قليلة ، وحَوْلَ هذه الشواهد خلافٌ ، فبعضهم يتبعها القاعدة فيعربها كافة ومكفوفة ، وبعضهم لم يجوز هذا الوجه ، ومن لم يجوّزه كان أقرب إلى الصواب ! والسبب أنَّ (أنَّ) لا تبدأ بها الجملة ، والكافة والمكفوفة تبدأ بها الجملة . ثم إنَّ من يطلع على الشواهد التي وردت فيها (أنما) يجد أنها وقعت عاملة ، ويجد أنَّ (ما) زائدة فقط ، وليست زائدة كافة ، ويجوز حذفها ولا يتأثر المعنى.
كما يجد المطلع على تلك الشواهد أنَّ هذا الحرف (أنَّ) يُسبق بفعل يتعدى إلى مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر ، وهذا من الكثير الكثير الذي يمرّ مع الطالب في الشعر ، ويقول ـ عندئذ ـ أنَّ واسمها وخبرها سدّت مسدّ المفعولين .
ولنقرأ عدداً من الشواهد تحليلاً ، وكلُّها من الشعر المحتجّ به ..
قال الشاعر :
أصحابَها ثم تسري عنهم سَلَبا
ألا ترى أنما الدنيا معلّلة
ألا ترى أنَّك لو حذفت (ما) من (أنما) لتمَّ المعنى ؟!
بلى ، ولو حذفت (أنما) كلّها لما نقص المعنى ! وأنت تعلم أنَّ (أنَّ) تفيد التوكيد فقط ، فقولك : رأيت العلمَ مفيداً كقولك : رأيت أنَّ العلم مفيدٌ ، فالمعنى واحد .
وثمة شاهد أكثر توضيحاً لما نقول ، قال الشاعر :
فهل يجوز ف (أنَّما) أن تعرب كافة ومكفوفة ؟! والواو التي قبلها لا تعرب إلاَّ حرف عطف ، ثم لو كانت استئنافية لما جاز فتح همزة (إنَّ) لأنَّها في بداية الكلام ! لقد عطفت الواو (أنَّما) على (أن لا) فلماذا لا نعدّ (ما) زائدة ، ويكون المصدر المؤول من أنَّ واسمها وخبرها معطوفاً على المصدر السابق (أن لا) .
سؤال منطقي يقوم على القاعدة نضعه أمام أصحاب اللغة ، ولا سيما مجامع اللغة التي لها وحدها الحقّ في تقرير قاعدة نحوية !! .
ما قلناه على (أنما)يقال على (ليتما) بل إنَّ في (ليتما) ما هو بعيدٌ عن المنطق والتحليل ، فقد أجاز عددٌ من العلماء إعمال (ليتما) وإهمالها إذا دخلت (ما) الكافة على (ليت) مستشهدين بقول النابغة :
إلى حمامتنا أو نصفه فقد
قلت : ألا ليتما هذا الحمام لنا
على أنَّ هذا البيت روي بفتح الحمام وضمّه . والسؤال الذي يُطرح : من الذي ضبط بالرفع ، ومن ضبط بالنصب ؟ ألا يجوز أن يكون أحدهم قد لفظ بالنصب ثم غلط ، فلماذا لا نعتبر هذا اللفظ من بدل الغلط الذي هو نوعٌ من أنواع البدل في العربية ؟!! .
ثم لماذا النصّ على أنَّ للبيت روايتين ؟ هل ليكون عندنا قاعدة ؟ وأي قاعدة ؟! إنها تخالف أخواتها فشذّت وشذّت القاعدة وصعبت على الطالب ، ونحن نعلم أنَّ الأداة التي تكون أم الباب هي التي تتميز من غيرها من الأدوات!.
إننا أمام شاهد قد يعضده عددٌ قليل جداً لا يقاس عليها ، ولا نقيم قاعدة على السماع ؟! لأنَّ اللفظ هو الذي حدَّد لنا القاعدة ، ونحن نعلم أنَّ الضبط (وضع الحركات) لم يكن معتمداً . أي أننا سرنا وراء من سمع البيت بالنصب، وأوقعنا طلبنا في حيرة وأضفنا إليهم قاعدة خلافية جديدة يمكننا أن نلغيها ونوحّد القاعدة ، والسؤال الآخر الذي يطرح : أليس من مهمة التعليم أن تصوّب اللفظ الخطأ ، ألا يجوز أن يكون لفظ خطأ ؟! ثم هل نستعمل (ليتما) الآن ؟! بل إننا لم نقرأها إلا نادراً ، ولا نستعملها إلا نادراً ، فليكن تصويب الخطأ بقرار صغير يجعلها كأخواتها ! .
لا أظن أنَّ عدداً من قواعدنا يحتاج إلى لجان ومقررات وإصدار الأحكام ثم النتائج ، ولا شكّ أن هذا كلّه سيوقع الخلاف أو يُعمّ ، والذي يبدو أنه سيظلّ ما دمنا نقف موقف المتفرج أو الخائف والمتردد ، وننتظر الآخرين ليصححوا لنا لغتنا ، ثم نصدر أحكامنا مُعلنين الرفض ، وعدم القبو بما طُرح !! ومن هذا ألف (مئة) التي يبدو أنها ستظل نقطة خلاف بيننا وبين الطالب ، ونجعله يحفظ القاعدة التالية : تُكتب الألف ولا تلفظ ! فبأي حقّ لا نزال نقول للطالب هذا ؟ والأسوأ من هذا أن بعض كتبنا كان يضع الكسرة قبل الألف (مِائة) ثم نطلب من الطالب أن يقرأ الكلمة ، فبالله عليكم كيف سيقرأ الطالب هذا اللفظ ؟ وكيف سيفتل لسانه ويطوّعه ليلفظ كلمة نحن الذين بدأنا معه الخلاف حولها ثم التنفير . ونحن الذين جعلنا الطالب وغير الطالب يقرأ الكلمة خطأ (ماءة) وهي (مئة) فلو كانت (ماءة) لكتبت