تفسیر سورة (هل أتی)

السید جعفر مرتضی العاملی

نسخه متنی -صفحه : 164/ 31
نمايش فراداده

فأما الكافرة التي احتجبت عمداً أو غفلة وجهلاً عن الحق، أو حجبت الحق عن الحضور في مواقع الحركة في الحياة، فيحاول دفعها إلى إزالة ذلك الحجاب، للخروج عن حالة التحدي للسنن الإلهية، والتمرد على إرادة الله، والسعي لإفساد الحياة، والعبث بنواميسها.. وأما النفس المؤمنة المطمئنة التي تعيش السلام بكل معانيه، فيريد أن يزيدها يقظة، وحصانة، واندفاعاً، وتوثباً نحو العمل الجاد للرقي في مدارج الكمال، ونيل المعارف، والحصول على التوفيقات، والهدايات، والألطاف الإلهية، في كل موقع تكون فيه، للتحرك منه إلى مواقع تطمح لأن تصل إليها..

فهذا الخطاب الإلهي للمؤمن وللكافر، هو خطاب تربوي تدبيري، تعليمي، يهدف إلى فتح قلب الكافر ليستقبل إشراقة النور، ثم إلى تثبيت المؤمن، وتقويته، ليزداد إيماناً، ويقيناً، وإبعاده عن مواقع الخطر، وتحصينه في مواجهة كل التحديات الشيطانية.

على أن من الواضح: أن العلم وحده لن يكون كافياً لتحقيق الهداية، بل هو قد يكون سبباً في الضلال، والإضلال.. كذلك الذي (أَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ)[115]..

(الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا)[116]..

وذلك لأن الشيطان يأتيه عن طريق هذا العلم بالذات، فيضخم له نفسه، ويخرجه من حالة التوازن، ويدعوه إلى العجب، والزهو، والعلو، ويدفعه لأن يدعي ما ليس فيه، وما ليس له، ويتجاوز حدوده.. وإنما تمكن الشيطان منه، لأنه إنما أشغله ببدايات العلم، فبهرته أحجامه، وأقسامه، وطمس وعمّى عليه غاياته الكبرى والسامية والنبيلة.. كالذي يريد تفسير القرآن، فيشغل نفسه بعدِّ حروفه، وكلماته..

وخصوصيات النغم الصوتي حين أداء الكلمات، ويغفل عن المعاني، وعن الأوامر والزواجر، وعن القيم والمثل والمآثر التي يدعوه إليها القرآن.. وعن الغايات التي يدفعه إليها.. وقد جاءت هذه الآيات التي تحدثت عن خلق الإنسان من نطفة أمشاج الخ.., لإعادة هذا الإنسان إلى دائرة التوازن، وإلى حجمه الطبيعي، لكي يتأمل ويفكر، بعيداً عن أي خيلاء أو عجب مهلك، واستكبار مقيت.. وقد نصبت له الغايات والنهايات أمام عينيه، وجعلت الخيار والاختيار إليه..

وقالت له: هذه بدايتك، وهذه نشأتك، فلِمَ تستكبر[117]؟! ولِمَ تزهو؟

ولِمَ تطلب ما ليس لك بحق؟! وهل يجوز لك أن تستكبر وتتمرد على من أعطاك القوة، وخلقك، ورباك، ونشأك؟! أليس ذلك يعد خروجاً عن مقتضيات فطرتك؟!..

ثم وجه إليه التهديد بعيداً عن حالة التحدي، والمواجهة، وإنما بصورة ترتيب النتائج على مقدماتها، بعد كشف الواقع أمامه، وإعادته إلى التوازن، وإرجاعه إلى حجمه الطبيعي، وتنفيس الانتفاخات الكاذبة التي كان يرى نفسه فيها، من خلال إدخاله في حسابات دقيقة، وتفاصيل لابد له من وعيها، مع تعريفه بأن هذه المراحل ليس له هو أي تدخل فيها، ولم يبذل فيها أي جهد. ولأجل ذلك، فإنه يصبح بإمكانه أن يفهم بعمق معنى قوله له: إنه إن أساء الاختيار، فله السلاسل، والأغلال، والسعير.. وبشَّره، إن أحسن الاختيار، بما يبشر به المؤمنون الأخيار، والمتقون الأبرار..

وفي سياق هذه الآيات المباركة، نلاحظ: أن الله سبحانه قد أغرى هذا الإنسان بالرجوع إلى ربه، وإنشاء العلاقة معه، حيث عَّرفه بأنه لم يزل يرعاه، ويهتم به في كل لحظة وآن.. وأنه هو الذي يربيه وينميه، وينشؤه.. ويتفضل عليه بالنعم، من دون أن يقهره على شيء، بل هو يعطيه كل القدرات وكل الإمكانات، ثم يعطيه حق الاختيار، ويمكِّنه من أن يتصرف في كل شيء، وأن يحدد موقفه وموقعه.. حتى لو كان ما يختاره يتعارض مع ما يريده الله منه، وما يدعوه إليه..

وتلمس في هذه الآيات المباركة كيف أنه تعالى لا يبادر إلى التهديد والوعيد، في أسلوب قمعي، قاس، وصاعق.. بل هو يمهد إلى إخراج الإنسان من جهله وغفلته، واستكباره، وعجبه، وكفره، وضلاله، وانحرافه، بأسلوب رضي عطوف، يهيؤه لتلمس واقعه بنفسه، ممسكاً بيده برأفة، وبلطف، وعطف، مذكراً إياه بمحبة الله ورعايته له، مثيراً كوامن وجدانه، وبريء مشاعره وأحاسيسه، وصافي فطرته، بصورة السؤال، لا بصورة الخبر المفروض:

(هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)..

وآيات السؤال عن الخلق وكيفياته كثيرة

(هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)؟!

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى)[118]؟!

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ)[119]؟!

ألم.. ألم.. فلماذا الصدود منه إذن؟ ولماذا الاستكبار؟!.. ولماذا الكفر؟!.. ولماذا؟!.. ولماذا؟!..